اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/lubna/40.htm?print_it=1

أفضل و أضمن وثيقة تأمين و ضمان اجتماعي على الإطلاق ...

 لبنى شرف / الأردن

 
قرأت فيما قرأت أن التأمين بمفهومه الحقيقي المتداول الآن عقد حديث النشاة ، فهو لم يظهر إلا في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا على صورة التأمين البحري ، ثم انتشر و تنوع حتى شمل جميع نواحي الحياة . و هذا العقد لم يتطرق له الفقهاء القدماء لأنه لم يكن متداولاً في تلك العصور ، و إنما ذكره الفقهاء المعاصرون ، و كان أولهم الفقيه ابن عابدين ـ يرحمه الله ـ ، و قد ذكره في حاشيته المعروفة بحاشية ابن عابدين ، و كان ذلك في القرن التاسع عشر الميلادي .

فلماذا يا ترى انتشرت و راجت فكرة إنشاء شركات التأمين في بلاد المسلمين ؟ و لماذا يحرص كثير من المسلمين على التأمين عند هذه الشركات ؟ و هل ينم هذا عن ضعف في الإيمان و اليقين ؟!!! .

و كذلك ما يتعلق بالضمان الاجتماعي بالصور التي يوجد عليها الآن ، فهل كان المسلمون سيحتاجون إلى مثل هذا الضمان لو كان نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام مُتحققاً في بلاد المسلمين ؟!! ، هل كانوا سيحتاجونه لو كان هناك تكافلاً في الأسرة الواحدة ، أو لو كان هناك بيتاً لمال المسلمين يُنْفَقُ منه على المسكين و المحتاج و الأرملة و العجوز و العاجز... ؟!! ، هل كانت يا ترى ستُضطَرُّ المرأة إلى أن تعمل لتضمن لنفسها حياة كريمة إن لم يكن لها زوج يرعى شؤؤنها ، أو أخ يهتم بأمرها ، أو ذو رحم يصل رحمه معها ... ؟!! . أمثلة كثيرة يمكن أن تُضرب في هذا السياق ، مما يوحي بضعف الشبكة الاجتماعية في المجتمع المسلم ، و لا حول و لا قوة إلا بالله !! .

لا أريد أن أطيل في التنظير ، و لكنني سأنتقل سريعاً الآن إلى ذكر بعض النصوص التي توضح وثيقة التأمين و نظام الضمان الاجتماعي الذي قصدته في كلامي السابق .

قال تعالى : ﴿ .. و ما تُنْفِقوا من خيرٍ فلأنفُسِكُمْ و ما تُنفقونَ إلا ابْتِغاءَ وجْهِ اللهِ و ما تنفقوا من خيرٍٍ يُوَفَّ إليكُم و أنتُم لا تُظْلَمون ﴾ .. { البقرة : 272 } . يقول سيد قطب ـ يرحمه الله ـ : (( إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه .. لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله ، خالصاً مُتجرداً لله .. و من ثم يطمئن لقبول الله لصدقته ؛ و يطمئن لبركة الله في ماله ؛ و يطمئن لثواب الله و عطائه ؛ و يطمئن إلى الخير و الإحسان من الله جزاء الخير و الإحسان لعباد الله . و يرتفع و يتطهر و يزكو بما أعطى و هو بعد في هذه الأرض )) .

و قال تعالى : ﴿ .. و إِنّىِ أُعيذُها بِكَ و ذُرِّيَّتَها من الشيطـٰن الرجيـمـ ﴾ .. { آل عمـران : 36 } . و قال : ﴿ .. ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القلوبُ ﴾ .. { الرعد : 28 } ، أي تسكن و تستأنس بالذكر . يقول سيد قطب : (( تطمئن بالإحساس بالصلة بالله ، و الأمن في جانبه و في حماه ، و تطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء و من كل ضرر و من كل شر إلا بما يشاء ، مع الرضى بالابتلاء و الصبر على البلاء ، و تطمئن برحمته في الهــداية و الرزق و الستر في الدنيا و الآخـرة . ذلك الاطمئنان في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم ، فاتصلت بالله )) .

و قال تعالى : ﴿ و أمّا الجدارُ فكانَ لِغُلـٰمَيْنِ يتيمَيْنِ في المدينةِ و كان تحتهُ كَنْزٌ لّهُما و كان أبوهُما صـٰـلِحاً فأرادَ رَبُّكَ أن يَبْلُغآ أشُدَّهُما و يسْتَخْرِجا كنْزَهُما رَحمَةً مِّن رَّبِّكَ .. ﴾ .. { الكهف : 82 } ، كان هذا التدبير من الله تعالى رحمة للغلامين بصلاح أبيهما . قال ابن المنكدر : (( إن الله يحفظ بصلاح العبد ولدَه و ولد ولده )) .

و قال تعالى : ﴿ و الَّذينَ هُمْ للزَّكوٰةِ فـٰعِلون ﴾..{ المؤمنون : 4 } ، يقول سيد قطب : (( الزكاة تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً ، و هي ضمان اجتماعي للعاجزين ، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك و الانحلال )) .

و من أقوال الحبيب المصطفى ـ عليه و آله الصلاة و السلام ـ : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته " [ صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 6338 ] ، أي في عهده أو أمانه أو ضمانه ، فلا تتعرضوا له بالأذى . و قال : " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ، و مساء كل ليلة ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ، ثلاث مرات ، لم يضره شيء " [ صحيح الألباني ـ صحيح ابن ماجه : 3134 ] .

و من أقواله أيضاً ـ عليه الصلاة و السلام ـ : " داووا مرضاكم بالصدقة " [ حسن ، الألباني ـ صحيح الجامع : 3358 ] ، و : " ما نقص مال قط من صدقة .." [ صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 3025 ] ، و : " من قرأ الآيتين من آخــر سورة البقرة في ليلة كفتاه " [ صحيح ، الألباني ـ صحيح ابن ماجه : 1135 ] ، و : " أنفق بلال ! و لا تخش من ذي العرش إقلالاً " [ صحيح ، الألباني ـ مشكاة المصابيح : 1826 ] .

هذه النصوص و غيرها الكثير بمثابة تامين شامل على الحياة و الأموال و الأولاد ... . و أما ما يتعلق بنظام الضمان أو التكافل الاجتماعي في الإسلام فالنصوص فيه كثيرة أيضاً ، و لكنني سأذكر بعضاً منها فقط .

قال تعالى : ﴿ .. فسوف يَأتىِ الله ُبقَوْمـٍ يُحِبُّهُم و يُحبونهُ أَذِلَّةٍ على المؤمنينَ أَعِزَّةٍ على الكافرينَ .. ﴾ .. { المائدة : 54 } . يقول سيد قطب : (( و هي صفة مأخوذة من الطواعية و اليسر و اللين .. فالمؤمن ذلول للمؤمن .. غير عصيٍّ عليه و لا صعب .. هين لين .. ميسر مستجيب .. سمح ودود .. و ما في الذلة للمؤمنين من مذلة و لا مهانة ، إنما هي الأخوة ، ترفع الحواجز ، و تزيل التكلف و تخلط النفس بالنفس ، فلا يبقى فيها ما يستعصي و ما يحتجز دون الآخرين . إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموساً عصيّاً شحيحاً على أخيه ، فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه ، فلن يجد فيها ما يمنعه و ما يستعصي به .. و ماذا يبقى له في نفسه دونهم ، و قد اجتمعوا في الله إخواناً ؛ يحبهم و يحبونه ، و يشيع هذا الحب العلوي بينهم و يتقاسمونه ؟! )) .

و قال تعالى : ﴿ و المؤمنونَ و المؤمنـٰتُ بعضُهُمـ أوليآءُ بعضٍ .. ﴾ .. { التوبة : 71 } . يقول سيد قطب ك (( إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة ، طبيعة الوحدة و طبيعة التكافـل ، و طبيعة التضامن ، و لكنه التضامن في تحقيق الخير و دفع الشر )) .

و قال تعالى : ﴿ محمدٌ رسولُ اللهِ والَّذين معَهُ أَشِدّآءُ على الكفــارِ رُحمـآءُ بينهـُمْ .. ﴾ .. { الفتح : 29 } . و هذه من الحالات الثابتة و نقاط الارتكاز الأصيلة في حياة المؤمنين . و قال : ﴿ و الذينَ تَبَوَّءو الدّارَ و الإيمانَ مِن قبلِهِمْ يُحِبُّونَ مَن هاجرَ إليْهِمْ و لا يجِدونَ في صدورِهِمـ حاجَةً مِّمّآ أُوتوا و يُؤْثِرونَ على أنفُسِهِمـْ و لوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ .. ﴾ .. { الحشر : 9 } . يقول سيد قطب : (( صورة وضيئة صادقة ، و صورة نظيفة رضية واعية ، تنجلي من ورائها طبيعة هذه الأمة المسلمة ، و تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها ، و آخرها بأولها ، في تضامن و تكافل و تواد و تعاطف .. إنها صورة باهرة ، تمثل حقيقة قائمة ؛ كما تمثل أرفع و أكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريـم )) .

و من الأحاديث النبوية في هذا السياق ، قوله ـ عليه الصلاة و السلام ـ : " أنا و كافل اليتيم له أو لغيره في الجنة ، و الســاعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل الله " [ صحيــح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 1476 ] ، و قوله : " من أنظر مُعسراً ، أو وضع له ، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه ، يوم لا ظل إلا ظله " [ صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 6107 ] ، و قوله : " اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم .." [ صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 1051 ] ، و قوله : " أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطعمه خبزاً " [ صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 1096 ] .

و قال كذلك ـ عليه و آله الصلاة و السلام ـ : " ألا أدلك على صدقة يحب الله موضعها ؟ تصلح بين الناس .." [ حسن ، الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 2644 ] ، و قال : " إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، ثم يوصيكم بآبائكم ، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب " [ صحيح ، الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 1666 ] ، و قال : " ليس المؤمن الذي يشبع و جاره جائع إلى جنبـه " [ صحيح ، الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 149 ] ، و قال : " ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه فيبخل عليه ؛ إلا أُخرجَ له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها : شجاعٌ يتلمَّظُ ؛ فيُطوَّقُ به " [ حسن ، الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 2548 ] ، و قال : " من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، أو ابنتان ، أو أختان ، فأحسن صحبتهن ، و اتقى الله فيهن ، فله الجنة " [ صحيح لغيره ، الألباني ـ صحيح الترغيب : 1973 ] .

و أما قصة عتق سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ ففيها رقي ما بعده رقي في التضامن و التكافل فيما بين المؤمنين : " .. ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحيبها له بالفقير وبأربعين أوقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة والرجل بعشر يعنى الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة فأديت النخل وبقي علي المال فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي فقال : ما فعل الفارسي المكاتب قال : فدعيت له فقال : خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان فقلت : وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله عز وجل سيؤدى بها عنك قال : فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد " .. [ حسن ، الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 2/556 ] .

و عن مُطرِّف بن عبد الله أنه قال لبعض إخوانه : (( يا أبا فلان ، إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني و اكتبها في رُقعة ، فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال )) . فهل نحن اليوم نتعامل بهذا الرقي الخُلُقي و بهذه الأحاسيس المرهفة ، أم أن هناك من يذل أخاه ليقضي له حاجته ثم على الأغلب لا يقضيها له ؟!! .

إن المجتمع المسلم مجتمع متواد متحاب مترابط و متضامن و متكافل .. (( يكفل لكل قادر عملاً ، و رزقاً ، و لكل عاجز ضمانة للعيش الكريم ، و لكل راغب في العفة و الحصانة زوجة صالحة ، و يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع ، حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية )) .

أيها المسلمون ، من أراد منكم أن يؤمِّن ، فليؤمن مع الله ، و من أراد ضماناً له و لإهله ، فليطبق شرع الله ، يفز في الدنيا و الآخرة .

اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، و من الركون إلا إليك ، و من التوكل إلا عليك ، و من السؤال إلا منك ، و من الاستعانة إلا بك ، أنت ولينا ، نعم المولى و نعم الوكيل ، و الحمد لله رب العالمين .

... بقلم : لبنى شرف ـ الأردن .

 

لبنى شرف
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط