اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/nohakatergi/54.htm?print_it=1

هكذا كنا ..... هكذا أصبحنا

د. نهى قاطرجي

 
إذا كانت قراءة تاريخ الأمم والشعوب مفيدة من أجل الاطلاع على أخبارهم وأخذ العبر منها، على اعتبار المثل المعروف "التاريخ يعيد نفسه"، فإن قراءة التاريخ الإسلامي تفيد في استرجاع أسباب القوة المطلوبة لقيادة العالم من جديد، وهذا يتطلب كما هو معروف امتلاك الشروط الموضوعية التي وضعها الله عز وجل في اطار سنن ونواميس ثابتة لا تتغير .

ومما يؤكد على أن الإسلام هو المؤهل لهذه المهمة أمران: الأول صراع الحضارات التي ركّزت عليه الدول الغربية مدركة من خلاله أن الإسلام بما يمثله من تكامل ورقي هو العدو الوحيد لها، والثاني الفساد والعدوان على الناس وعلى الأموال والأعراض التي انتهجته تلك الدول مطبقة بذلك لسُنة الأفول التي جعلها الله عقاباً للمخالفين ، قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" .
هذا وقد أكّد كثير من المفكرين القدامى والمحدثين على حقيقة هذه السنن، فقال ابن خلدون في هذا المجال: "العدوان على الناس في أموالهم وحَرُمِهِم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم ... يفضي إلى الخلل والفساد دفعة واحدة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتفاض" .
وقال المفكر الغربي "برتراند رسل" : إن بقاء السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون .

من هنا فإن إجراء مقارنة بسيطة بين ماضي المسلمين وحاضرهم أمر ضروري من أجل ادراك سنن الله عز وجل في النصر، والخلاص من الثقافة الانهزامية التي تتهم الإسلام بالنقص والتخلف، بينما الحقيقة كما قال المفكر "محمد أسد" أن الإسلام كان وسيبقى كاملاً بنفسه، إلا أن ما نحتاج إليه فعلاً، "هو إصلاح موقفنا من الدين، لمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا وبكلمة واحدة، معالجة مساوئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام، ولكي نصل إلى احياء أسلامي فإننا لا نحتاج إلى أن نبحث عن مبادئ جديدة في السلوك نأتي بها من الخارج، إننا نحتاج فقط إلى أن نرجع إلى تلك المبادئ القديمة المهجورة فنطبقها من جديد" .

ومن الاختلافات التي يمكن تسجيلها بين مسلمو اليوم ومسلمو الأمس ما يلي :
1- التمسك بالوحي الإلهي: الذي عنى به المسلمون الأوائل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي، إن كان ما ورد في القرآن الكريم أو في سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، والتي بذل المسلمون من أجل حفظها من التحريف والتدليس الغالي والرخيص من المال والوقت والجهد، وأوجدوا لأجلها العلوم الشرعية مثل علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، كل هذا تطبيقاً لشرع الله عز وجل الذي أورد في محكم تنزيله : " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ".
وهذه الوحدة في مصادر الشريعة لم تعجب بعض المستغربين من أبناء المسلمين اليوم الذين دعوا إلى الفصل بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فتقبلوا الأول على أن يتعاملوا مع نصوصه معاملة تاريخية، ورفضوا الآخر بحجة ضعف الأحاديث والتشكيك بالرجال، يقول "جمال البنا" في هذا المجال: إن النهوض بالإسلام يكون بالعودة "إلى القرآن الكريم مباشرة، دون تقيّد بتفسيرات المفسِّرين، وضبط السُنة بمعايير من القرآن إذ ثبت أن السند لا يمكن أن يكون معياراً لأنه جزء من عملية الوضع التى فشت فى الحديث فلم يبق إلا الاحتكام إلى القرآن. ولما كانت السُنة مبينة للقرآن، فمن البديهى أنها تلتزم
بالقرآن. وأخيراً عدم الالتزام بالأحكام الفقهية التى وضعها أئمة المذاهب الأربعة أو غيرهم" .
من هنا كانت الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد الذي أرادوا من وراءه إعادة قراءة النصوص القرآنية قراءة جديدة بعيدة عن أدوات الاجتهاد وهي العلم بالكتاب والسنة واللغة العربية والإجماع الذي يمثل هوية الإسلام والمقاصد الشرعية من حفظ للنفس والعقل والدين والعرض والمال .
وكان من أهم الاجتهادات المعاصرة التي خرجوا بها: إشاعة الفكر العلماني الذي لا يتعارض مع الدين ،بزعمهم، بل يتعارض مع تسييس الدين، لأن الإسلام لم يرد للأنبياء أن يكونوا ملوكاً أو مؤسسي دول وإنما أرادوهم دعاة، دورهم التبليغ ، وجردهم من كل سلطة .
وكان منها أيضاً اعطاء المرأة حريتها المزعومة، ومنع التعدد الزوجات، ورفض الحجاب، وإباحة الربا، ووقف عقوبات الجلد والصلب وقطع الأيدين .
2- الاعتزاز بالتاريخ القيادي: الذي يشهد على تفوق المسلمين عسكرياً، ويشهد على ذلك انتصاراتهم وفتوحاتهم التي وصلت إلى الحدود الفرنسية، وكان من أبرز هذه الانتصارات، انتصارهم على البريطانيين في الشام وعلى القوط النصارى في الأندلس، وعلى الصليبيين في فلسطين والتي انتهت باستعادة الأقصى على يد صلاح الدين .
أما اليوم فلقد كان من نتائج اتفاق الأمم كلها على تقسيم التركة العثمانية وتفتيت المسلمين إلى دويلات صغيرة مستعمرة، أن نسي المسلمون تاريخهم ورجالهم، وافتخروا بدور المستعمرين وبطولاتهم، حتى أن أحدهم أشاد بالمستعمر الفرنسي "نابليون" لمصر والحملة الفرنسية عليها التي أيقظتها وجعلتها ترى نفسها في مرآة الغرب .
وكان من نتائجه أيضاً وجود جيل من المسلمين المشككين بصلاحية الإسلام للحكم، فاعتبر أحدهم أن "صلاحية الغرب للحكم والقيادة، وتوجيه ركب الحضارة حقيقة لا ينبغي أن نكابر فيها، أو نتجاهلها، وأن انتصار الغرب على الشرق حكم القدر، وناموس الكون، وتدرج التاريخ، لا فائدة من مواجهته ومقاومته،أو مقارعته بالحجة والبرهان ، أو بالسيف والسنان، ولا بد لنا من الخضوع أمامه وقبوله على علاته، إذا كان له علات " .
كما نصح الآخر بعدم مقاومة الاستعمار الأمريكي، ووصف هذه المقاومة بأفضل وصفة للانتحار الجماعي وغير ذلك من الطروحات الانهزامية .
3- بناء الحضارة الإسلامية: التي قدّمت للمجتمع البشري المآثر والانجازات والعلوم، وهذا باعتراف كثير من المفكرين والعلماء الغربيين المنصفين أمثال المستشرقة "زنعريد هونكه" التي ألّفت كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب"، و"جوستاف لوبون" مؤلف كتاب "حضارة العرب" و"ول ديورت" مؤلف "قصة الحضارة" الذي قال: "إن "روجر بيكون" و"وينلو"
وغيرهما من الأوروبيين بعد ثلاثماية عام يعتمدون بحوث ابن الهيثم لاختراع المجهر المراقب"، وقال أيضاً:"وأكبر ظننا أننا لولا ابن الهيثم لما سمع الناس قط بروجر بيكون" .
هذه الحضارة العريقة التي حاول الأوروبيون طمسها وسرقوا منها مئات الكتب العلمية العربية من العصور الوسطى بعد ترجمتها إلى لغاتهم، ونسبوها إلى علمائهم أو المترجمين منهم، كشف حقيقتها" الدكتور فؤاد سزكين خبير التراث العربي والإسلامي المعروف عن أكثر من مئة سرقة كتاب علمي عربي مهم وأرجعها إلى المؤلفين الحقيقيين من المسلمين".
وفي العودة للأسباب التي ساهمت في نجاح المسلمين قديماً في بناء الحضارة الإسلامية  نجدها في كونهم ربطوها بالعقيدة الإسلامية، فإذا دققنا النظر وتعمقنا في دراسة هذه الحضارة وجدنا شيئاً واحداً يهيمن عليها الوصول إلى الله ونيل رضاه، وما وظيفة الإنسان الأولى والأخيرة في هذه الحياة إلا تحقيق هذا الهدف .
بينما نجد مسلمو اليوم، إلا من رُحِم، يربطون أسباب الحضارة بناطحات السحاب وبالاختراعات التكنولجية والأقمار الصناعية ويروها أيضاً في حرية مزعومة، وفي أجساد عارية وثروات طائلة .
إن الاختلاف بين نظرة القدامى والمحدثين إلى الحضارة تعود لاختلافهم في مقاييس هذه الحضارة، فمقياسها في الإسلام "روح وقلب ومقياسها في الغرب حديد وصلب، ومقياسها في الإسلام مدى ايمان الفرد والجماعة وكيفية جهادها للرسالة التي تحملها، والدعوة التي تحضنها، ومقياسها في الغرب مدى مادية الفرد والجماعة ومستوى غناها ومنطقة نفوذها وسيطرتها وصلاحية اختلالها واستغلالها، مقياسها في الإسلام الإيثار وإنكار الذات ومقاييسها في الغرب الإثرة وتعبد الذات، ومقايسها ف الإسلام البر والمساواة ومقياسها في الغرب الأنانية واللامبالاة".
أخيراً كثيرة جداً هي الفروقات بين مسلمو اليوم ومسلمو الأمس ولا يمكن لأحد الادعاء بأنه يمكن حصرها في عجالة، إلا أن من أبرز هذه الفروقات وأهمها :
- تمسك المسلمون القدامى بفضيلة الجهاد التي عرفوا فيها عزهم وعز أمتهم بينما صار الجهاد اليوم فريضة غائبة أو ممنوعة أو مؤقتة إلى حين تحقيق المكاسب السياسية والمادية .
- تكاتف المسلمين وتعاونهم حتى كانوا كالبنيان المرصوص، وكان ما يجمعهم هو أخوة الإسلام التي دعمها الرسول صلى الله عليه وسلم وفضّلها على أخوة الدم وكان يقول " إنما المؤمنون اخوة" ، بينما نجد أن الرابط بين كثير من المسلمين اليوم هو أخوة الوطن والقومية والمذهبية .
- أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر الذي فهمه المسلمون الأوائل قوام الدين، والذي تركه مسلمو اليوم تحت حجة الحرية الشخصية وترك التدخل بشؤون الآخرين حتى حدث ما حذر منه الإمام الغزالي عندما قال: إن قوام الدين بقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو طوى بساط الدين واهمل علمه لتعطلت النبوة ، ولاضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت
الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد" .
إن ما ينقص المسلم اليوم من أجل الاستفادة من تجارب الماضي وإحياء الإسلام من جديد أن يرفع رأسه عالياً كما قال "محمد أسد"، وعليه أن "يتحقق أنه متميز، وأنه مختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك ، ويجب عليه أن يكدّ ليحتفظ بهذا الفارق، على أنه صفة غالية، وأن يعلم هذا الفارق على الناس بشجاعة بدلاً من أن يعتذر منه، بينما هو يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أخرى" .

 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط