اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/nourjandali/53.htm?print_it=1

حُمّى التّميُّز والإبداع

نُـور مؤيد الجندلي

 
بكت وانتحبت طويلاً، ثم غضبت وثارت واعتزلت رؤية الأهل والصّديقات لفترة، كانت تتألم في أعماقها كثيراً لوقوع تلك الكارثة، وقد عذرها جميع من حولها، فابنتها الغالية التي سهرت على دراستها ليل نهار، وتفرغت من أجلها الأوقات الطوال، فحرمت نفسها لذة التمتع بالحياة.. قد نقصت نصف درجة في مجموعها النهائي لمادّة الرياضيات ..
علمتُ بالأمر فعذرتها، وقلتُ في نفسي .. ليس تدريس الصغار بالأمر الهيّن، فهو يستهلك الطاقة والوقت والجهد، ولكنني صدمتُ وقد علمت أن الفتاة في المرحلة التحضيرية، أي تلك التي تسبق مرحلة الدراسة الرسميّة !

هذا المشهد العجيب قد بات يتكرر كثيراً في الآونة الأخيرة، وخاصّة في الأوساط النسائيّة، باعتبار أن الأم هي المربيّة والمعلمة والمشرفة على أوضاع أبنائها، وهي المسئولة عن أحوالهم أمام الزوج والمجتمع ككل .. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد بدأ يتطور أكثر ليصبح مرضاً معدياً، أو داءً مهلكاً، والضحايا بالآلاف!

حين نفتش عن مصدر المرض وأسبابه، يتبين لنا أنه ولد نتيجة مخاوف كثيرة، تولدت لدى الأم منذ اللحظة الأولى التي صافحت بها عيناها عيني وليدها، حين عقدت آمالاً عظيمة عليه، فهو البطل الذي سيقدّم لها وساماً من المجد والتألق على طبق من ذهب، وهو الذي سيمنحها التقدير من المجتمع إن هي اعتنت به واستطاعت أن توصله إلى درب النجاح، فالمسألة مسألة تحدّ بين الأم والمجتمع، وأداة النجاح أو الفشل هم الأطفال بلا منازع ..

وقد كان الناس في الماضي ينجبون الأولاد ويتفاءلون بهم، بأن يكونوا أشخاصاً ناجحين صالحين، دون قيود أو شروط، فلم يكن للنجاح سمة أو علامة، لكنهم أصبحوا اليوم يشترطون بأن يكون الأبناء على وجه الخصوص أطباء أو مهندسين، ليتفاخروا بهم، ويتميزوا عن غيرهم، وتصبح لهم المكانة الأسمى، والمرتبة العليا، ومن هنا نشأت الكارثة ..
تلاشى التفاؤل من حياتهم ليولد القلق والتوتر، وليُزرع الخوف في قلوبهم، وتنبت شجرته قويّة، ضاربة الجذور، لا تُقتلع مدى الحياة .. فأصبح النجاح – في إطاره المعين – هو شغلهم الشاغل، وأصبحت له ملامح ومواصفات ومقاييس معيّنة، لا تنازل عنها، ولا مساومة فيها، والويل كل الويل لمن يحاول زعزعتها، أو من يحاول تأسيس ثوابت مختلفة، فلا نجاح إلا عبر هذا الطريق، ولا تفوق إلا بإفناء النفس من أجل تحصيل العلامات العالية .
وقد عجبتُ وضحكتُ كثيراً وأنا أسمع عن إحدى الأمهات، وقد زارت مجلس الأولياء لابنتها التي لم تتجاوز الرابعة من العمر، في الشهر الدراسي الأول، حيث تكون المناهج عبارة عن ألعاب ترفيهية متنوعة، كي يألف الطفل المدرسة ويحبها، فبادرت بسؤال قلق جاد للمعلمة : كيف هو مستوى ابنتي الدراسي لديكم هذه الفترة ؟! إنني أحرص كثيراً على متابعتها، ونعيد الدروس كل ليلة مرات ومرات كي لا تخطئ !..

وإذا صعدنا درجات السلم الدراسي أكثر، واطلعنا على أحوال الآباء والأمهات في فترة المذاكرات الشهريّة، لوجدنا شعبة تجنيد كاملة قد نشأت في العش الهادئ، فأبعدت مشاعر الطمأنينة والدفء، لتحل محلها أوامر صارمة، بالتجند للدراسة والانضباط، وتوديع الهوايات المحببة بشكل نهائي من أجل تحقيق أعلى علامة ..
ومن الناس من جلب لأولاده في المراحل الابتدائيّة طاقم تدريس كامل، لكل المواد، وبدأ العمل على قدم وساق، الكل يحاول حشو المعلومات في عقل الطفل الصغير، والكل يحاول إثبات جدارته وتميزه في التدريس هو الآخر..
ومن رزقه الله بطفلين أو أكثر، فهنا تقع المشكلة، حيث يتحول البيت إلى مدرسة مصغرة، والأم إلى نادلة وظيفتها تقديم القهوة والشاي كل خمس دقائق، والسير متوترة في ردهات البيت وكأنها واقفة أمام غرفة عمليات، والجراح يُعمل مبضعه في عقول صغارها !
وحين تتحول الأزمة إلى ظاهرة، فلابد لنا من التوقف محاولين علاجها ..

بداية وحين نفتش عن ما يحتاجه المجتمع من أفراده، نجده يطلب منهم التميز والإتقان والفاعلية في مجالات شتّى، لا تقتصر أبداً على مهنة أو حرفة معينة، فالمجتمعات لا تقوم أبداً إن سلك أفرادها ككل اتجاهاً موحداً، وإلا فمن سيقوم بالمهام الأخرى؟ ومن تراه سيرعى المتطلبات الضرورية لنهضته ؟!
فالمجتمع المتميز هو الذي يستطيع كل فرد فيه أن يقوم بدوره الملائم له بإتقان وجدّيّة ورغبة بالنهوض والتطوير، والشخص المتميز هو الحريص دائماً على أن يرفع من قدراته، وأن يطور ملكاته نحو الأفضل بكل ثقة وإتقان، ولا يمكن للبشر أن يتميزوا في جانب واحد دون الآخر، فقدراتهم وملكاتهم تختلف من واحد لآخر، كما تختلف بصمات الأصابع عن بعضها البعض من شخص لآخر، والمهم هو أن يدرك كل شخص هذه الحقيقة، فيفتش عن موهبته الكامنة في أعماقه، كما يفتش المنجمون عن الذهب والماس، ثم يعمل على صقلها وتطويرها وتنميتها، كي تغدو بشكل لائق، ومن المؤسف أننا نجد في الحياة أناساً قد مضت سنوات طويلة من أعمارهم، وهم يعانون الفشل في وظائف يمقتونها، أو مهن لا يستسيغونها، لأنها تتنافى مع رغباتهم الحقيقية، فيما يحبون أن يكونوا عليه ..

ولعلنا نلحظ معاناة شريحة كبرى من طلاب الجامعات في كليّاتهم، التي اختاروها نزولاً عند رغبة الآباء، فهم يقاسون الكثير من أجل نيل النجاح، وكم منهم لا ينالونه، وكم نسمع من اعترافات متأخرة لأطباء ومهندسين ومحامين وغيرهم، تمنوا لو أتيح لهم دراسة فرع آخر يحبونه، فدراستهم التي حُددت لهم مسبقاً، وقُرّر عنهم تعلمها، قد حولتهم إلى أفراد فاشلين في أعمالهم، ناقمين على الأهل الذين قيدوهم بأحلام لا تشبههم، وطموحات لا يطمحون لها.. وهذا يهدد تدريجياً ومع مرور الزمن بانهيار المجتمع ..
وكل ما نتمناه من الآباء، بعض من وقاية، وقليل من وعي، فهي ستكون بلا شك خير من قنطار علاج، وقد لا ينفع العلاج أيضاً إن فات الأوان ..

إننا نحتاج كثيراً للتعقل والتروّي ونحن نسلك مع صغارنا الخطوات الأولى إلى المدرسة، نريدهم سعداء ومتفوقين ومتميزين أيضاً، ككل الآباء والأمهات، لكننا نريد لهم أيضاً حياة مطمئنة هادئة، وتميّزاً فيما يحبونه هم لا ما نحبه نحن لهم، نريد أن نقتل الخوف والقلق والتوتر في كل يوم ونحن نمسك بأيديهم لنوصلهم إلى المدرسة، أو نودعهم حين مغادرتهم إلى الجامعة ..
ونريد أيضاً لأنفسنا راحة البال، والاعتدال في التفكير وفي التصرفات أيضاً، حتى لا يستحيل حب التميز إلى أداة جريمة نقتل بها أبناءنا وأنفسنا، لابد وأن نقف لحظة، لنراجع تصرفاتنا، وكثير من القناعة بمواهب كل طفل، وإن كان يحمل نسبة ذكاء أقل من غيره، وإن نقص درجة أو أكثر في الرياضيات أو اللغة وغيرها، المهم أنه قد بذل طاقته كاملة، ومجهوده تاماً، وقدّم ما يستطيع دون ضغوط ..

ومازلت أتألم كلما تذكرت تلك الطفلة التي مازالت أمها تخوّفها من المدرسة والمعلمة، كي تدرس أكثر، وتنجز فروضها المدرسيّة بشكل أفضل، حتى تملكها الخوف والجزع، ولم يصبح عليها نهار جديد، فقد ماتت للأسف بطريقة بشعة، ماتت بمرض العصر، وقد انتاب والدتها نوع جديد من الحمى، يدعى حمى التميّز والإبداع فما استطاعت معها شق طريق المستقبل بفرح، ولا طالت الحلم الذي تتمناه ..

فلتكن وقفة تأمل لنا جميعاً تحفّزنا لنحافظ على جواهرنا ناصعة برّاقة، لا يعتريها كدر الخوف، بل تصقلها الرعاية والمحبة، والثقة التامة بالقدرات في حدود الممكن والمعقول .

 

نُورٌ ومِسك
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط