اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/omima/203.htm?print_it=1

نزيف العقول البشرية

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
نشرت صحيفة الوطن السعودية بالأمس خبراً عُنوِن بالآتي: (الجامعة العربية تبحث طرح قضية هجرة العقول على قمة الرياض).
أخيرا نالت هذه القضية ما تستحق من اهتمام، أخيرا سنستيقظ على دراسات إقليمية تجرى- بحول الله - ثم توصيات تسطر، فقرارات تعتمد، قرارات أتمنى أن تكون ملزمة لتلك العقول، كما أتمنى أن تكون منصفة لهم، وحبذا لو نصت صراحة على ضرورة توفير الدعائم المادية لهم، لعل ذلك يعينهم ليكونوا منتجين فاعلين، حبذا لو مهدنا لهم الطرق وأنكرنا وشجبنا الأنا العمياء عند بعض القائمين على الأمر في دولنا ممن يخشى حتى من بروز ظله!

هذه الأنا عند بعضهم هي التي دفعت وتدفع الكثيرين من أصحاب العقول النيرة في بلادنا للهروب، ليس بحثا لتوفير حياة أفضل، وهو حقهم وحق أسرهم التي تنازلت عن الكثير في سبيل عطائهم الفكري والعلمي، أبناؤنا هؤلاء لا يهربون فقط للبحث عن عقد يشمل عدداً هائلاً من الأصفار، بل للبحث عن أجواء تقدر العلماء وتحترمهم، عن مؤسسات تسخر كل إمكاناتها البشرية والمادية للوافدين منهم، ودون التوقف عند انتماءاتهم، فهذا آسيوي وذاك إفريقي وذاك من جنوب القارة أو شمالها، المقياس الذي يحتكم في قبولهم أو رفضهم عند تلك الدول المستوردة لعقول علمائنا، بل السارقة المبرمجة لهم، هو عطاؤهم العقلي، وتميزهم الفكري، وإنتاجهم المتزايد. في تلك الدول الجاذبة لن تجد هذه العقول إي عائق أمام توفير الأدوات والمعامل والأجهزة، والكادر العلمي المساعد، والإداري المساند، هذه هي العوائق التي اعتدنا دعمها في بلادنا بقوانين وضعناها طلبا لتثبت إقدامنا في مكانها!

إن عدداً لا يستهان به من نوابغ أوطاننا، رفضوا الانصياع لمعطيات بلادهم فهرعوا هاربين خارجها، باحثين عمن يساير طموحهم وجموحهم، فبلادهم أقفلت أمامهم الأبواب بحروف جوفاء.. لا تتعدى (.. إن.. لكن.. لعل.. وليت) حروف ليس لها مكان من الإعراب عند أمم تتطلع لإبداع الإنسان، تتطلع لإنجاز تختمه باسمها، ومن ثم تستثمره، وأخيرا لتحتكره، وتسيطر عليه، وعلى الإنسانية التي أدمنت التعامل به!

هذه سياسة تلك الدول الحاضنة مع كل إنجاز علمي ينفذ على أرضها سواء كان إنجازا طبياً أو تكنولوجياً، وسواء كان هذا الإنجاز يلامس الإنسان في طعامه أو حياته أو صحته أو يلامس أمنه ورخاءه، تلك الأمم تشتري العقول وتطعم الأجساد ليستمر أصحابها في العطاء، أمم تعمد لتمهيد الطريق وتساير العقول وتستنزفها، أمم تهتم برفاهية العلماء والنوابغ فتكفل لهم ولأسرهم الراحة والرفاهية، حتى لا يكون انشغالهم بهذا الجانب من حياتهم الخاصة حافزا ولو بسيطا لعدم الإنتاج.
وإذا ما رجعتم للخبر المشار إليه، فستجدون أنه ذكر أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تبحث إدراج موضوع هجرة العقول البشرية على قمة الرياض، وستجدون أن في حيثياته ما يلي: (يساهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية خاصة أن 45% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، ويشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو 43% من مجموع الأطباء العاملين فيها، وتجتذب 3 دول غربية غنية هي أمريكا وبريطانيا وكندا نحو 57% من هذه العقول)!

وفي هذا الصدد الهام والحيوي، أوصي اللجنة المختصة بهذه الدراسة بالاطلاع قبل انعقاد القمة، على كتاب (نزيف العقول البشرية) "للدكتور محمد عبد العليم مرسي" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1403هـ، 1982م، وهو كتاب متوفر إن شاء الله إذ تمت طباعته بالرياض، من خلال (عالم الكتب للنشر والتوزيع)، هذا الكتاب يصف الداء ويوصي بالدواء، فهو يلقي الضوء على قضايا هامة في شأن هجرة عقولنا البشرية، وفي مقدمة الكتاب ستجدون الآتي: (إن دول منطقتنا تقع ضمن العالم النامي وهي تعاني من مشاكل هذا العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعمرانية.. هذه المشاكل تحتاج إلى تخطيط علمي شامل وإلى منفذين وطنيين مخلصين.. وبطبيعة الحال لن يخطط للمستقبل ولن ينفذ التخطيط إلا أبناء تلك الدول ذوو العقول المتفتحة والكفاءات النادرة.. إلا أن نسبة لا يستهان بها من أصحاب هذه العقول قد غادرت أوطانها وفرت بنفسها إما يأسا من الإصلاح أو انجذاباً إلى الإمكانات الهائلة المتاحة للعلماء والباحثين في بعض دول العالم المتقدم..) لقد وصف هذه الهجرة بنزيف العقول البشرية، مؤكدا إيمانه بهذا الوصف بقوله: (إن نزيف العقول البشرية ظاهرة من أخطر الظواهر التي واجهتها مجتمعات الدول النامية خلال تاريخها)! كما سيقف القارئ لهذا الكتاب على إحصائيات قديمة نوعا ما، إلا أنها تظهر مدى تعامينا عن خطورة هذه الهجرة العقلية، بدليل أن هذه المشكلة الوطنية والقومية مازالت حية ترزق في أوطاننا العربية، سيجد القارئ أننا دعمنا هذا النزيف على أرضنا، وفي عقول أبنائنا من حيث ندري أو لا ندري!! هذا ما سيتابعه القارئ عند وقوفه عند أفكار وضعها الكاتب لمواجهة هذه الهجرة الخطيرة.

أما الفكرة التي طرحها والتي أعتقد أني ملزمة أدبيا بطرح جزء منها أمامكم فهي ما عنونها بما يلي: (محاولة بناء مدارس بالخارج يكون التعليم فيها بلغة الدولة الأم)! وتحت هذا العنوان قال: (إن من أخطر الأمور التي تواجه الدارسين بالخارج هو نسيان أبنائهم وبناتهم للغة أوطانهم.. لقد نسي الكثير من الأطفال لغة بلادهم الأصلية.. وبالتالي نسوا ثقافتهم..) ومن هنا أوجه استفساراً أضعه هنا عرضا: هل من الممكن أن أكرم وأمثالي بإجابة من قبل وزارة التربية والتعليم في بلادي، المملكة العربية السعودية، عن الأسباب التي دعتها لاعتماد السماح للمدارس الأهلية باعتماد تأليف وتدريس مناهج تختلف عن المناهج المطبقة حاليا في مدارس التعليم العام الحكومية، وتدريسها بأي لغة أخرى تراها المدرسة - سواء كانت الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الهندية أو الصينية أو الإيطالية أو الإسبانية أو غيرها.. كلغة أساسية تدرس بها كل المواد العلمية ما عدا الدين واللغة العربية؟! ثم هل لها أن تبين لنا ما مصير ثقافتنا وتراثنا الديني والوطني في هذه الحالة؟! وهل ستتحول اللغة العربية ومواد الدين مستقبلا إلى مواد نشاط يختار الطالب إحداها؟! وهل سيقوم بتدريسها مدرسون سعوديون ومدرسات سعوديات نطمئن على انتمائهم الديني والوطني؟! ثم كيف سيتعامل هذا المدرس السعودي مع كادر إداري وتعليمي لا ينطق بلغته؟! وكيف سيوقع على محاضر الاجتماع؟! وكيف سيوافق على القرارات التي تدار على أرض تلك المفارخ الغربية والشرقية؟! أم إنه سيكون معزولا تماما عن كل ذلك ويدار بواسطة (الرموت كنترول ) كآلة لا تجيد إلا طاعة أوامر سيدها..؟! ففي حين حذر الدكتور (محمد مرسي) منذ ما يقارب ثلاثة عقود من هجرة العقول البشرية، مبينا أسبابها ومسبباتها، أكد أن تغريب أبنائنا وبناتنا عن لغتهم وثقافتهم من أهم الأسباب الدافعة لبقاء الآباء المبتعثين وأسرهم في الخارج، فغربة الأبناء عن لغتهم الأم وعن ثقافتهم الدينية والوطنية بطبيعة الحال تجعل من المحال تمكين الآباء من الرجوع إلى أرض الوطن، وبالتالي يبقى عطاؤهم الفكري مجيراً للآخرين.

ولا بد قبل أن أختم هذه السطور أن أشير إلى أن الكاتب أوصى بالاهتمام بتوفير الأجواء العلمية والمادية اللائقة بالعلماء وبأسرهم، بحيث لا يتطلعون لبلاد بديلة عن أوطانهم، كما أوصى بالاهتمام بالتخطيط السليم من كل النواحي الحيوية، العلمية والبشرية، وعلى أهمية الاهتمام بتوثيق الصلات العلمية لمؤسساتنا العلمية بمثيلاتها بالخارج، والاهتمام بالجانب الإعلامي التثقيفي، ورعاية ما يسعى منه لربط الطلبة المبتعثين بأوطانهم، من خلال نقله لإنجازاتهم ونشاطهم ومعاناتهم.. وربط الوطن وأخباره بهم.

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط