اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/omima/306.htm?print_it=1

التفاعل الحضاري لا يعني الذوبان العالمي

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
(إن التحديات التي تواجه الأمة كثيرة ومن أهمها المحافظة على التميز الحضاري حيث إن شدة الاحتكاك والتداخل بين الثقافات، والانفتاح على الآخر، الذي فرض نفسه على الجميع ولم يعد خيارا مثلما كان في السابق، ينبئ في الحقيقة بخطر الاضمحلال وذوبان الطرف الثقافي الضعيف في بوتقة الطرف الأقوى حضاريا وثقافيا). هذه العبارة التي لا شك تحفز الهمم العالية للعمل والسعي لمستقبل واعد، هي لأمير عشق الثقافة منذ نعومة أظافره، عشق مفعل على أرض الواقع، ولإدراك ذلك عليك بالتوجه اليوم إلى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لتطلع على مخطوطات نادرة ومكلفة وصلت للمركز لأن الأمير تركي الفيصل تكفل بشرائها ومن ثم إهدائها للمركز فجزاه الله خيراً عن رواد هذا المركز.
ولكن ما يعنيني هنا هو نتاج عقلية هذا الرجل وهو ابن الفيصل رحمه الله، ابن رجل ما زال مؤثرا في حياة من عاصروه ملكا وقائدا ومن لم يعاصروه، فكلمات الأمير تركي التي أطلقها في محاضرته ( ثقافتنا أمام المتغيرات) والتي نقل الإعلام جزءا منها، لامست عقلي وحركت مشاعري، فحزنت ومن ثم فرحت، حزنت لأنها صورت ما وصل إليه واقعنا المرير من ضعف واضمحلال، وفرحت لأنها وقفت عند الداء فشخصته، ثم عمدت إلى وصف الدواء بأسلوب سلس سهل التداول، مع ما يحمله تجرعها من مرارة..
نعم إن الانفتاح على الآخر أمر فرض علينا ولم يعد بالإمكان إذا توقفنا عن الحراك الفرار منه، فالعولمة مع ما تحمله من إيجابيات وسلبيات ستعمد لاقتحام حياتنا وستفرض علينا رؤاها، والتي قد نتفق معها أو نعترض عليها، لقد بين الأمير تركي أن من أهم التحديات التي تواجه الأمة هي المحافظة على التميز الحضاري من الذوبان، لقد بين بلغة الأرقام التي لا تواري الحقائق أننا أمة لا تقرأ، أمة هي في أسفل قائمة العالم من حيث الإنتاج والإبداع الثقافي.
إن الوقوف أمام هذا الموج الكاسر لا يكمن في القصائد الوطنية، بل بالعمل وبذل النفس في سبيل إنجاح مشروع حضاري نتطلع إليه، مشروع يسور خصائصنا الذاتية الدينية منها والوطنية ويجعلها عالميا ومحصنة في الوقت نفسه، كما أن الاكتفاء بالتنظير دون عمل عقلي وبدني لن يحرك من جسدنا الذي أدمن السكون، وطاله الوقوف خلف الركبان.
علينا أن نؤمن أن العالم لا يحترم من يقلده بل يحترم من ينافسه، والميدان الأمثل لهذه المنافسة يكمن في قاعات الدراسة والمؤسسات العلمية البحثية، فبالمال والعلم نستطيع أن نصل لمركز كنا يوما نقف على قمته، ونحن قادرون على التربع عليه مجددا لو اتحدت الهمم.. لقد تحدث الأمير المؤمن بقدرات هذه الأمة: أن علينا عند دراسة التاريخ الحضاري لأمتنا أن نؤكد الثوابت التي تميزنا كأمة، فنحافظ عليها ونعمل على تنميتها.. وفي الوقت ذاته علينا أن نواكب العصر فهذا العصر له علومه ومتطلباته وشروطه، ولا بد من التعامل معه على هذا الأساس من موقع اقتحامي جريء وشجاع، وبعقلية أن الذي أبدع هذه العلوم وهذه التقنيات ليس بأفضل منا، ولا هو أقدر منا.. ) وليتنا نتأمل التاريخ الذي قال كما ذكر الدكتور (حتي): ( خلال القسم الأول من القرون الوسطى لم يساهم أي شعب من شعوب الأرض بقدر ما ساهم به المسلمون في التقدم البشري، وظلت اللغة العربية لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، وكان من آثارها أيضاً فيما بين القرن التاسع والثاني عشر الميلادي فاق ما كتب بالعربية عن الطب والتاريخ والإلهيات والفلك والجغرافيا كل ما كتب بأي لسان آخر).
نعم.. هكذا كان حالنا عندما كنا أمة اقرأ.. وهكذا أصبحنا أمة لا تقرأ.. لقد كانت لغتنا العربية هي لغة العالم المتمدن عندما كنا نعمل ونجتهد، ولم يساهم شعب من شعوب العالم آنذاك في تنمية الحضارة كما ساهم شعبنا، هكذا كان حالنا.. في وقت كان كل منا يشد عن ساعده، وكان كل منا يحفر ليبني.. ويزرع ليجني.. ويتعلم ويعلم، لقد كنا منارة الأمم، وكنا نؤثر في الآخر، شاء الآخر أو لم يشأ، ولأننا كنا الأقوى حضاريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، قبلنا الآخر على اختلافه ولم نفرض عليه ثقافتنا، ومع هذا اختار منها ما يتناسب وتطلعاته وثقافته الخاصة فلم يذب ولم يتخلف..
وأخيرا صدق الأمير تركي فمن أبدع هذه العلوم وتلك التقنيات ليس بأفضل منا، ولا هو أقدر منا.. وما علينا إلا اقتحام مجال العلوم والإبداع، دون الذوبان الذي سيصل بنا لا محال إلى الاضمحلال في عالم النسيان، فالتاريخ لا يرحم الضعفاء، ولا الدخلاء المتطفلين..علينا أن نؤمن أن التفاعل الحضاري لا يعني الذوبان العالمي.
 

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط