اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/omima/468.htm?print_it=1

كان يا ما كان..

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
اكاديمية سعودية في جامعة الدمام


على مؤسسة سكة الحديد دفع تعويضات مالية مجزية.. عليها أن تتحمل أخطاءها بشجاعة، فالإهمال واقع عليها لا محالة.. مهما حاول بعضهم إخفاء الحقائق أو التهوين مما حدث .

كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هناك قطار عجوز مخلخل الأطراف يتألم ليل نهار، وكثيرا ما كان يتساءل: لماذا الدواء والطعام لهما تاريخ صلاحية، والسيارات والحافلات، بنات العمومة يمنع استيرادهما إذا مضى على تصنيع أي منهما أكثر من خمس سنوات، ولماذا يسمح باستيراد من مضى على تصنيعها أكثر من ثلاثين عاما لهواة جمع التحف دون غيرهم، مع منعها من السير على الطرقات، أما القطار وحيد الأبوين فما زال ومنذ أكثر من نصف قرن يعمل ودون اعتبار لسن أو سنوات الخدمة؟
هذا القطار المخلخل الأطراف كان يا صغار.. مجتهدا، يؤدي واجباته على أكمل وجه، ولسنوات عديدة بلغت ـ كما ذكرت لكم ـ قرابة الستين عاما، وكان يجدر بالقائمين على أمره تكريمه بحفل يعقد أمام الأشهاد. كان الأجدر بهم أن ينشئوا له متحفا خاصا يستقبل زوارا يشاهدون بأم أعينهم شبح ذاك البطل الذي صمد أكثر من نصف قرن. كان الواجب أن يحال بعدها إلى التقاعد عزيزا مكرما، لا أن يجر للمحاكم كالمجرمين المذنبين المكبلين بالأصفاد.
فبعد أن كان الناس يتسابقون للاقتراب منه والجلوس إليه أصبحوا اليوم يتحرجون من الاقتراب منه أو سماع شخيره، وينفرون منه نفورهم من الداء العضال، فبعد أن كان في شبابه يتباهى بحسن قامته وقوة عضلاته، فقد كان الأفضل والأنبغ والأقوى بين أقرانه، بل كان في محيطه فريدا من نوعه سباقا لزمانه، نراه اليوم يمشى على هونه مطأطأ الرأس، يخجل من جار له أقوى وأسرع وأجمل، جار قنوع غير متطلب.. وإذا تحرك فحركته تسابق عقارب الساعة، يحتضن زواره بغنج ودلال، في حين نجد قطارنا لا يقبل بالقليل الذي يستحق، وإن رحب بأصدقائه وأجلسهم على مقاعد اعتبرها مميزة، فلن يدفعه ذلك لتحريك عجلاته بشكل أسرع.. فإمكاناته محدودة تناسب عمره المديد، ولذا كانت حركته تشبه حركات السلحفاة.
ومنذ أيام انزوى باكيا متشنجا وسقط مغشيا عليه، فقد أنهكت قواه ولم يعد قادرا على مسايرة مرؤوسيه، عندها لم يرحمه أحد.. فقد صدرت التوجيهات بإرجاعه فورا إلى العمل، فالإجازات الطبية ممنوعة والاضطرارية حسرت عنه، ولذا أدخلوه عنوة وبشكل عاجل إلى غرفة العمليات الجراحية لجره بعدها إلى ساحة العمل، فالأيام تمضي، ورقاب القائمين عليه التوت من كثر الحراك باتجاه أصوات أتت من كل صوب تتوعد بالحساب.. هم يريدون إسكات الأصوات التي تعالت وطالبت بحقوق الآلات المسنة. وأعتقد أن نتائج الفحوصات الخاصة بالسلامة النفسية والجسدية للقطار ستكون سلبية، وستظهره بكامل قواه العقلية والجسدية، فجلادوه رحماء وراكبوه ضعفاء، فلا مسوغات منطقية لتسريحه من العمل.. ولذا فالقرار سيكون وكما هو متوقع.. التمديد ثم التمديد.
لا أستبعد أن يعلن تعويض أولئك الذين قذفهم قطارنا ثم طحنهم تحت هيكله وهم 44 مصابا بتعويضات من جنس العمل. لا أستبعد أن تقدم لهم تذكرة أو تذاكر تعويضية، ذهابا وإيابا من وإلى الدمام الرياض، أو لعلها تكون رحلة ذهاب دون عودة؟! يا إلهي.. آمل ألا يحدث هذا.. لقد ائتمن المصابون المؤسسة على حياتهم وعلى ممتلكاتهم، ولذا عليها دفع غرامات تناسب قيمة حياة الإنسان وصحته، وقيمة الفزع الذي أصاب المصابين وذويهم، عليهم ألا يستهينوا بالمصابين على اعتبار أن معظمهم بسطاء يسهل التعامل معهم، فتقديم بطاقات لرحلات أخرى من الدمام إلى الرياض، قد يجدد ذكريات تلك الرحلة المروعة، ويزيد الطين بلة.
إن على المؤسسة دفع تعويضات مالية مجزية، عليها أن تتحمل أخطاءها بشجاعة، فلا حركة بدون محرك ولا حادث دون محدث، والإهمال واقع عليها لا محالة.. مهما حاول بعضهم إخفاء الحقائق أو التهوين مما حدث. والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) - بحول الله - بالمرصاد. عليها أن تتحلى بالأمانة وتوجه الميزانية الضخمة في محلها، فعند شرائها عربات جديدة لا بد أن تجربها على أرض المملكة قبل الشراء وتتأكد من صلاحيتها للسير على أرضنا صيفا وشتاء.. عليها أن تجري تجارب على صلاحيتها للعمل في شهر أغسطس، فإبقاء العربات الجديدة خارج نطاق العمل في هذه الفترة بالذات فيه تلاعب بالحقائق، إذ إن شدة الحر تكمن في هذا الوقت من العام، وعدم اختبار إمكانات تحمل هذه المركبات خلاله أمر مستهجن للغاية.
وأخيرا عيب عيب ما حدث في الأيام الماضية.. عيب، فبلادنا هي المملكة العربية السعودية، وهذا الأمر لا يقبل أن يحدث على أرضها جملة وتفصيلا، والحساب سيكون عسيرا، ونتائج التحقيقات لا بد أن تعلن، ولا بد للجهات الرقابية والأمنية القيام بها، فلا نقبل الاكتفاء بتحقيقات المؤسسة نفسها، و(نزاهة) بحول الله سبحانه ستكون بالمرصاد.


 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط