صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إلى كل إسلامي واصل التحرك ولكن إلى الأمام

رحاب بنت محمد حسان


لا يخلو مجتمعٌ من الشرِّ ولا النِّفاق، حتَّى أبرَز المجتمَعات نصاعةً وصفاءً لمْ تتوفَّر فيه المثاليَّة التي يَبتغيها الشَّبابُ الآنَ، فالمُجتمَع المدنيُّ على عهْد النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عانَى مِن آفَة النِّفاق على يد عبْدالله بنِ سَلول وحاشيتِه، وتَعايَش النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - معَ يهود وأقامَ معهُم معاهداتٍ قبلَ أن يُحاربَهم.

وفي عهْد أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - انتشرتْ مُشكِلةُ المُرتدِّين واشرأبَّ النِّفاق وباتَتِ الدَّولةُ الإسلاميَّة مُهدَّدةً بخطرٍ مُحدِق - كما تَصِفها أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ - رضي الله عنْها -: "لَمَّا قبض رسُول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ارتدَّت العرَبُ قاطبةً واشرأبَّ النِّفاقَ، واللهِ لقد نزَل بي ما لو نزَل بالجِبال الراسِيات لهاضَها، وصارَ أصْحابُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كأنَّهم مَعزًى مطيرة في حش في ليلَة مَطيرةٍ بأرْضِ مَسبَعةٍ، فواللهِ ما اختلَفوا في نُقطةٍ إلا طارَ أبي بخطامها وعِنانها وفَصلها"، وهؤلاءِ المرتدُّون لمْ يَرفضوا الإسْلامَ صَراحةً، بلْ أوَّلوا النَّصَّ القرآنيَّ كما زيَّنتْ لهم عُقولهم، وقالوا للخَليفة أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: "لا ندْفع زَكاتَنا إلا لمَن هو سكَنٌ لنا - يَقصِدون الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَّا أنتَ يا أبا بكرٍ فلا"!

وفي عهد الحاسِم عُمر بنِ الخطّاب - رضي الله عنه - انتشَر عُلوج الفرْس حتَّى في المدينَة، وبالرَّغم مِن رفْض عُمر لانتِشارِهم؛ لمَا تفرَّس فيهِم مِن خيانةٍ وغَدرٍ وثأرٍ لساسانيَّتِهم القديمة، لكنَّه لمْ يُخرجْهم من المدينة؛ لأنَّه لم يتفرَّد يومًا برأي - رضي الله عنه - وكان نَهجه المشورة في كلِّ أمر يَخصُّ المسلمين، فنجدُه يقول لابن عبَّاسٍ في لحظاتِ احتِضاره: "انظُر مَن قتَلني، فجالَ ساعةً، ثمَّ جاء فقالَ: غُلام المُغيرة، قال: الصَّنَع؟ قال: نعَمْ، قالَ: قاتَله الله! لقدْ أَمرتُ به مَعروفًا، الحمد لله الذي لم يَجعلْ مِيتتي بيدِ رجلٍ يَدَّعي الإسلام، قد كنتَ أنت وأبوكَ تُحبَّانِ أنْ تَكثُر العُلوج بالمدينة، وكان العبَّاس أكثرَهم رقيقًا، فقال: إنْ شئتَ فعلتُ - أي إن شئتَ قتلْنا - قال: كذبتَ[1] بعْدَما تكلَّموا بلِسانِكم، وصلَّوا قِبلتَكم، وحجُّوا حجَّكم"، فلقدْ قُتل عُمر - رضي الله عنه - على يد أبي لؤلؤة المجوسيِّ.

أمَّا عن عُثمان - رضي الله عنه - وما أدراك ما عُثمان؟! الحييُّ الكريم، الذي قُتِل على يد مُنافقينَ أقْحاحٍ مِن رِعاع الفتْح، وعلى أقلِّ تقديرٍ كان بعضهم مِن الجُهَّال، وعاثَ في زَمانِه ابنُ سبَأٍ في الأرض فسادًا، وباتَ معه حكيمُ بنُ جبلة والغافِقيُّ وكِنانةُ بنُ بِشْر وغيرهم يُكوِّنون الفِرَق العَسكريَّة مِن طابورهم الخامِس ويُدبِّرون المؤامراتِ المُنظَّمة ضدَّ الخِلافَة الإسْلاميَّة.

وفي عهْد عليٍّ - رضي الله عنه - انْتشَت الخوارِج، وقُتل - رضي الله عنه - على يدِ الخارجيِّ عبْدالرحمَن بنِ مُلجِم في وجْهٍ مُظلِم مِن الحَماقَة والقَسوة.

فلماذا مع كلِّ هذه المِحن الطاحِنة وجدْنا علوَّ شأنِ الإسْلام، وتنامي أطرافِه، وأثرَه الواسِع الطويل المفعول حتَّى طال الإفرنجَ وباتَ ضاربًا في العُمق حتَّى القرن الثَّامن الهجريِّ؟!

إنَّ المُلاحِظ للتَّاريخ يَرى أنَّ أطرافَ الدولة الإسلاميَّة قد اتَّسعتْ في عهْد الخلفاء، وتَنامتْ صيحاتُ الحقِّ فيما لم تتَنامَ في أيِّ زمَن آخر، وفيما لم يتنامَ عُواء الباطِل، بل زادَ تطرُّفه وبُعدُه عن الصَّحيح الصَّريح، وأصبَح سهلاً على الرّائي أنْ يَكتشِفه.

إنَّ وجودَ المُنافِقين في هذه المُجتمعاتِ العالية المُستوى مِن التَّقوى والصَّفاء والتقدُّم الفِكريِّ، ومِن السِّياسة الواعية الشامِلة التي حدَتْ بِهم إلى تولِّي شؤون خِلافةٍ مُترامِية الأطْرافِ، والتي لم تَقتصِر في ريادَتها وبَسطِها على بلدٍ صغير اسمه مصر، أو تونُس أو سُوريا فحسْبُ، بل وصَل حدُّها مِن قُبرص وحتَّى الهِند، ومِن المغرِب، وحتَّى فارِس لم تؤدِّ إلى علوِّ كعْب النِّفاق ولا زِيادة أطماعِه شبرًا ولمْ تَخمَد ثورة الحقِّ، ولمْ تُلْو أعناقُ الكِفاح، ولم يَنتصِر المنافقون في جولاتهم الأخيرة في أيِّ مرَّة، حتَّى وإنْ بَدَا المشهَد في عصْر كلِّ خليفةٍ يَنتهي بالاغتيالات والفِتن العاصِفة، بلْ ظلَّتِ الدَّولة الإسْلاميَّة في أشدِّ بَهائها وأعلى قِوامٍ لها، وكانَ الدَّليل الماديُّ على ذلك هو اتِّساعَ أطْرافها بعدَ مَوت الخلفاء الراشِدين وعدَم انْحسارها على تقدُّمهم فحسْبُ، ومعه بَدا اتِّساع تأثيرها الثقافيِّ والفكريِّ والعلميِّ واضحًا على الحَضارات الأوربِّية فيما كانوا هم في عُصور ظَلامهم الأوربيِّ، وتجلَّى أثرها الدعويُّ السِّلميُّ مُتماديًا حتَّى ماليزيا وجزر الموريشيوس جنوبًا، ومِن الشَّمال البلقان وروسيا.

كما بدَتِ الدعوة الإسلاميَّة شامِخةً مُتَّضحةَ المَعالِم والأركان، صريحةَ المفهوم بلا شَوب ولا دَخَن، رغم تَكالُب أهلِ البِدع على دولة الخِلافة، ومُحاولتِهم الحثيثة لصهر مُعتقَدات الدِّيانات البائِدة لأهل البلاد المفْتوحة بالإسْلام، فكثيرًا ما وَجدْنا مُحاوَلاتٍ لصهْر مُعتقَدات المجوس بالإسْلام في بعض تصوُّرات المُعتزِلة والقدَريَّة، وصَهْر مُعتقَدات يهوديَّةٍ ونصرانيَّةٍ في صورة التشيُّع والتصوُّف، فلمْ تَخرُج مثلاً فكرةُ خلْق القُرآن إلا مِن ثوب يوحنّا الدِّمشْقيِّ النصرانيِّ الأصل، وما خرج التشيُّع والرَّجعةُ والبداءَة إلا مِن ثوب ابنِ سبأ اليهوديِّ الأصل، وما خرَجتْ خُرافات القدَريَّة إلا مِن بوتَقة المجوس والثَّنويَّة والمانَويَّة في فِكرة الظُّلمة والنُّور، وخرجَتْ خُزعْبِلات ابنِ عربيِّ في الحُلول والاتِّحاد مِن الفكْر النصرانيِّ... إلخ.

مع كلِّ هذا فقدْ وجَدْنا الدَّعوةَ الإسلاميَّة الصحيحة صامِدةً لدَيها القُدرَة على تَحمُّل الصدَماتِ على أعلى مُستوى بلا وهَن ولا رِيبة؛ أين الآن هذه الفِرَق؟

أينَ هذه الأفْكار مِن السَّواد الأعظَم مِن أهل السُّنَّة؟!

هل تَعلمون لماذا؟!


ذلك لأنَّ المحصول النِّهائيَّ في كلِّ صَولة كان حقيقيًّا، وكانَ مَنسوبُ الإخلاص مُرتفعًا مُرْضيًا لربِّ البريَّة، وما ذلك إلا لثبات أهْل الحقِّ، ولوضوح الرُّؤى الشَّرعيَّة لهم، واكْتمال فَهمِها في أذهانِهم، وتَجرُّد نيّاتِهم للغاية السامية، وترفُّعهم عن مكاسِب الدُّنيا واحْتوائِهم للآخَر في تَجرُّد مُنقطِع النَّظير.

حتَّى وإنْ لمْ يرَ هؤلاء الأبْرار قديمًا ومُعاصِروهم هذا النِّتاج المُبهِر، لكنَّه بدتْ آثاره جليَّةً لا يَختلِف عليها مُحقٌّ، وظهَر نِتاجه مُحقِّقًا ثمارًا مُفيدةً وصالِحةً للإفادة المرات مِن بعد الْمرات، ثمارٌ يَنعتْ قويَّةً شديدةَ البأسِ عاليةَ الجودة، حتَّى ولو بَدا المشهد القَريب مُدميًا، لكنَّ الغِذاء الإيمانيَّ، والرِّضا الربّانيَّ، والإحسان في العملِ لا يُضيِّعه ربُّ البريَّة أبدًا.

واليوم - بفضْل الله - نَجِد العُموم يُشيحُ وجهَه للعلمانية القَبيحَة، والتي بدَتْ بِلا ثمَر ولا جِذرٍ رغْم تَزيُّنها وتبرُّجها وعلوِّ أبواقِها في كلِّ وادٍ، وجدْنا الجميع - أو الكثير مِن الجميع - لا يَسمعون إلا الحقَّ، ولا يَفهمون إلا الصِّدق.

علينا إذًا ألاَّ نَستعِجلَ النتائج، وألاَّ نَجعَل النَّصرَ هو غايَتنا؛ بل لِتكون كلمة الله هي العُليا.

فإنَّ غايتَنا هي مَرضاة ربِّ هذا النَّصر، فإن تَحقَّق النَّصر فبِفضْل مِن الله ومَنِّهِ وكرَمِه، وإنْ لم يَتحقَّق فبِفضْل الله فبِذلك فلْيفْرحوا هو خيرٌ ممَّا يَجمَعون.

علينا إذًا ألا نَقلَق، ولا نَيئس سريعًا، ولا نتخيَّل المجتمَع المثاليَّ الناصِع والبعيد عن الواقِع.

علينا التحرُّك لكن إلى الأمام وليسَ للخلْف، ولنرْفَع عن كاهِلنا جميع المثبِّطين والمُنقضِّين فوق ظُهورنا رغمًا عنَّا؛ بغية إعاقتنا عن المارثون الرائِد الذي بدأْناه، ولْننظُرْ أمامَنا إلى كم يتبقَّى على الفوز برِضوان الرب، لِنقِسِ المسافَةَ المُتبقِّيةَ لا المسافَة الماضِية.

علينا ادِّخار طاقَتنا وجُهودنا في البِناء وتَصحيح المفاهيم لا في الردِّ على الهدّامين، وإنَّ هذا يَحتاج إلى صَبرٍ، وضَبطِ نفْسٍ، وكظْم غيظٍ، فإنَّ تعلُّق هؤلاء بأكتافنا باتَ كئيبًا مُريبًا ماسخًا مُعيقًا.

ويَكفينا ما اكتشفْناه في نبْض العُموم لنا مِن تقديرهم واحترامِهم وكسْبِنا لهم.

فلا ننْسَ أنَّ ذاك الاختيار لم يأتِ إلا بفضْل الله أولاً ومِنَّته على المُسلِمين، ثمَّ بفضْل جُهدِكم الدَّؤوب، وعَملكم الرائع خِلال الفترة الوجيزة الماضية، وتَفاعُلِكم المجتمعيِّ والدعويِّ.

استمرُّوا يَرحمْكم الله، ولا تَلفِتوا لخفافيش الظَّلام، فقدْ باتوا لا يَجذِبون إلا المأفونين مِن أهْل الفِتن.

ولئنِ اضطُررْتم للوقوف لحظاتٍ معهم، فليكُنْ بتخطيط مُسبَق وتَنسيقٍ مُجهَّز، ولْتَنفِر مِن كلِّ فِرقةٍ طائِفةٌ ليس إلاَّ، ولْيَكنْ هدفهم هو نفْض هؤلاء المعوِّقين مِن وراء ظُهوركم نفْضَ الجسَد للحشرات.

ثِقوا بالله ثمَّ بِقدراتِكم، ثِقوا في هدَفكم النَّبيل وقَدرِكم الجليل لاستعادة ما اعتبره الفتْح الإسلامي الثاني، واستِعادَة الدُّويلات المحتلَّة زهاء مائتي عامٍ من بريطانيا وأمريكا.

انظُروا لموقِفكم الكبير، ودَوركم الخطير، ولا تتشبَّثوا بتَفاهات الحمْقى، ولا يَشغلْكم هؤلاء.

ليس مِن شأنكم، ولا في الوقت سَعةٌ للوقوف طويلاً في طُرقاتهم، والحديث معهم في كلِّ وادٍ هائم بمَكرِهم.

نَصيحتي الأخيرةُ: لا تَخشَوا الفقْر، لا تَخشَوا الهلَكة، ولكن اخشوا ممَّا خشِي منه نبيُّكم عليكم، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((واللهِ ما الفقرَ أخْشى علَيكم، ولكنِّي أخْشى أنْ تُبسَط عليكم الدُّنيا، كما بُسِطَتْ على مَن كانَ مِن قَبلكم، فتنافسوها كما تَنافسوها، وتُهلِكَكم كما أهلكتْهم)) [2].

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((سألتُ ربِّي ثلاثًا، فأعطاني ثِنتَين ومنَعني واحدةً: سألتُ ربي ألاَّ يُهلِك أمَّتي بالسَّنَة فأعْطانيها، وسألتُه ألاَّ يُهلِك أمَّتي بالغرَق فأعطانيها، وسألتُه ألاَّ يَجعَل بأسَهم بينَهم فمَنعَنيها))[3].


--------------------------------
[1] كذبتَ: هنا تستعمل عندَ العرَب بمعنى أخطأت.
[2] رواه مسلم من حديث سعْد بن أبِي وقَّاص (2890)
[3] رواه البخاريُّ مِن حديثِ عمرِو بن عوفٍ المُزنيِّ (4015)


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
رحاب بنت محمد
  • مقالات
  • بحوث
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط