اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/sara/15.htm?print_it=1

جفاء معلمة

سارة بنت محمد حسن


دخلت المسجد.
كانت هناك، عادت من السفر، اليوم سأجلس في حلقتها للمرة الأولى.

كنت أسمع عنها فقط، يقولون إنَّها أُمَّة - بضمِّ الهمز وتشْديد الميم - في هذا العلم، علم الاعتقاد، لا يُضاهيها أحدٌ من أقرانِها.
جلست وأنا أشعر بِهيبتها، هذا تعليق كل من رآها، هيبتها.

سألتْ أسئلة، رفعتُ يدي على استحياء، فنظرت إليَّ وابتسامتُها تُشْرق، ثُمَّ اختارتني للإجابة، فأجبتُ وأعجبَها الجواب.
طلبتْ مني أن أحضر حلقة عِلْم أُخرى لها في معهد آخر للمتقدمات.

كنت غير ذات زوج، ولا شيء يحول بيني وبين الحضور هناك؛ حيث كان المعهد قريبًا من بيتي.
انتظمت معها دهرًا من الزمان، أجتهد، وتشجِّعني، كانت تُفضِّلني على أقراني، وتَرى فيَّ خلفًا طيِّبًا لها.

لكن كنت لازِلْت أهابُها، رغْم بساطتِها وحِلْمها، وحُسْن أخلاقِها، وكانت تعامِلُني كابنتها، بل كان مَن حولنا يظنُّ هذا فعلا؛ فهي لم يكن لها أولاد، وكنت أُناديها بـ "يا أمي".
في يوم مرِضْتُ ولم أحضر الحلقة.
رنَّ التليفون.
رفعتُ السماعة، وكان آخر صوت أتوقَّعُه صوتها، كانت تسأل عني في قلق.
قالت لي يومها: أنت أعز عليَّ من ابنتي.

كنت أشعر بنسيم الحب في الله، الخالص من كلِّ شائبة.

كنت أشعر بقوَّة وعزيمة على طلب العلم، تشجيعها لي، نظرتها كانتْ حافزًا للاجتِهاد، حسن ظنِّها فيَّ كان دافعًا للجِدِّ والجدِّ والجدِّ.

ثُمَّ فرَّق بيننا سفرٌ طويل، اضطرَّت معلِّمتي له على غيْر العادة.
سافرتْ وهي توصيني بالمسجِد وأهله خيرًا.

كنت أتَّصل بها في سفرِها، أسأل عنْها وأستشيرُها في أمور الحلقة، كانت سعيدة جدًّا بمكالماتي.

كنتُ أرى في عيون بعضِ النَّاس حولي شيئًا، لَم أستطِع تفسيره،لم أفهمْه ولَم أعلِّقْ عليه.

وعادت معلِّمتي لتستقرَّ في مسجِدِها.

وذهبت لها في بيْتِها أزورُها عدَّة مرات، لكنَّها لم تكن كعادتِها، كنت أرى في عينيْها كأنَّها غاضبة مني.

كأنِّي اقْترفتْ خطأً، ما الَّذي غيّرها؟
ظللت أدور حوْل نفسي فترة، إلى أن أخبرتْنِي إحْدى الأخوات عن سبَب الغضب، تُرى ماذا كان السبب؟
كنَّا في السيَّارة معًا، أنا وهذه الأخت القريبة من معلِّمتي، قالت لي: إنَّ بعْضَ الأخَوات بالمسجِد أخبروها أنَّك درَّست في الحلقة - أثناءَ غيابِها - مادَّة شرعيَّة أخرى، وطبعًا أنت لم تستأْذِنيها في الزِّيادة، وهي لا تعرف مستواك فيها!
تعجَّبت.

فأنا لم أفعل هذا، فقطْ كنتُ رأيت فتورًا في الهمم، فتحدَّثْتُ في بداية الدَّرس عن علوِّ الهمَّة، واستشهدتُ بآيات القُرآن، هل ظنوا ذلك مادَّة تفسير مثلاً أو عِلْم قلوب؟!
عجبًا، لماذا ينقل الأخوات الأمورَ بصورة مختلفة؟! لِماذا تكونُ النُّفوس محمَّلة بِهذه الضغائن؟

لم أستطع أن أواجه معلِّمتي، كنتُ أشْعر أنَّني مظلومة، كنت أشعر بالضيق.

كنت أشعر بـ ...

بِماذا؟ لا أدري.

مشاعر شديدة تكاثرت عليَّ، حزن عميق، كنتُ مستمرَّة في حضور دروسِها في المسجد والبيْت، أنظر لَها في تساؤل، أنتظر أن تسألَني.

ولا تتعجبوا، فهيْبتُها في قلبي طاغية، لا أستطيعُ أن أهمِس أمامَها، ولا أن أقولَ لها: لماذا أنت غاضبة مني؟
يكفيني أنَّني أجد وجهًا لم أعتدْه منها.
ثم قرَّرتُ أن أستجمع شجاعتي، وأسألها.
تَحدثت إليْها، قلت: معلِّمتي، هناك أمر أحبُّ أن أتحدَّث فيه معك، لكن لا أعلَم كيف أبدأ.
كنتُ مرتبكةً، لا أعرف ماذا ينبغي أن أقول.

قلت لها: لا أعرف ماذا أقول؟
ردَّت في صوتٍ حان: قولي: يا معلِّمتي، أنتِ أخطأْتِ في حقِّي لمَّا لم تتثبَّتي مني!
ارتبكت أكثر، فكثيرًا ما سمعتُ عن حسْن خُلُقِها، لكن لم أتوقَّع هذا السموَّ والرقيَّ من معلمة لطالبة من طلابها.

قلت لها في ارتباك: لا، معاذ الله، بل أكيد أنا أخطأْتُ في حقِّك.
تَحدَّثنا، عاتبتني، أخبرتُها بالحقيقة، اندهشَتْ.

كنتُ أؤنِّبها في نفسي، أقول: كيف تستمِعين للوشاية؟ لكن لم أجْرُؤ على أن أقول لها ذلِك.

كانت معلمتي في نفسي أعظم من أن أعاتِبَها، كانت أعظم في عيْني من أن أقول لها: أنت أخطأت في حقي، أو حتى أنتِ مُخطئة؛ فلها من الفضْل عليَّ ما يمنعني.
اكتفيت بالدعاء.

مرَّت الأيام وقد عادت الأمور بيننا إلى خير ما كانت.
حتَّى تزوَّجتُ وسكنتُ بعيدًا، في بلدة أخرى.

لم أكن أستطيع الذَّهاب للمسجد كعادتي؛ بل لم أكُنْ أستطيع الذَّهاب أصلاً.
كان آخِر لقاء في المسجد عند عوْدتي من سفري، سلَّمتُ عليْها، ثم ذهبت أتفقد بعض حلقات المسجد.

ثم مرَّ الزَّمن ولم أستطع معاودة الذهاب.
حدَّثتُها بالهاتِف لأسأل عنها، ردَّتْ عليَّ بصوتٍ فيه من الجفاء ما فيه.

قلتُ في نفْسِي: لعلَّها مشغولة أو مرهقة.
مرَّ أسبوع أو أكثر، وكنتُ أُريدُ أن أسأَلَها عن شيء، اتَّصلْتُ.

ردَّت: من؟
قلتُ - وأنا أتعجَّب في سري -: فلانة.

قالت بِجفاء: آه أهلاً.

سلَّمتُ عليْها وسألْتُها عن أحْوالِها تَمهيدًا؛ لأطْلُب منها ما كنتُ أريد.

لكن، ما إن سألتُها عن أحوالِها حتَّى قالتْ بِجفاء أكبر:
أختي، إذا أردْتِ أن تُسلِّمي عليَّ فلْتأتي لِلمسجد؛ فإنَّني لا وقْت لديَّ للرَّدِّ على كلِّ هاتف.

تَخيَّلي لو كل أُخت اتَّصلتْ بي لتسألَ عنِّي، كم من الوقْت ضاع، هل فهِمْتِني؟
بح صوتي، وغارت الدماء من وجهي، مستحيل! مستحيل أن تكون هذه هي معلِّمتي التي ربتني، مستحيل أن تكون هذه هي معلِّمتي التي أُشْرِبتُ منها العلوم الشرعيَّة، التي قالت لي: إنني مثْل ابنتها، هل تفعل الأمُّ هذا بابنتِها؟
مهْما كنتُ عاقة، فلا يدَ لي في هذا العُقوق.
فقد فرَّقت بيننا المسافات.

هل أسافر بغير محرم لأراها وأحضر درسها؟
هل أترك زوجي وبيتي لأطلب العلم؟
كيف؟ ولماذا؟ هي تعلم ظروفي وأنَّنِي لا أستطيع الذَّهاب للمسجد.

طبعًا لم أطلب منها ما كنت أريد طلبه، قلت لها وقلبي يَدْمى: نعم سيدتي، فهمت.

وألقيْتُ السَّلامَ وأغلقت الهاتِف.

وأخذتُ أتذكَّر الآية: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}، {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}، {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28].
كانت الآية كالسلوى على قلبي.

وحتى اليوم، لا أعرف: لِمَ كان هذا الجفاء منها، فهل تعرفون أنتم؟
لقد كدت أفتن في ديني.

اتَّصلت بداعية قريبة في بلدتي.
قصصتُ عليها الخبر باختصار، ووصفْت لها مشاعري وإحباطي.

ردَّت عليَّ بحزم شديد: أختي في الله، أعلم جيدًا أنَّ سلوك المعلِّمة مع الطالبة هام لهمَّتِه وعزيمته، لكن لا ينبغي أن تَحكمنا مشاعرُنا، وأن تعتمد هِمَمُنا على شخص أو آخر.
فتذكَّري فضْلَ معلمتك عليك، والتمسي لها الأعذار، فأنت لا تعرفين ما يحدث هناك في تلك البلدة البعيدة، لكن التمسي لها العذر واستغفري لها.

ولا تجعلي مثل هذا الموقف مثبِّطًا لهمَّتك، بل اجعليه حافزًا لكِ على الطَّاعة.
وقولي في نفسك: لعلِّي أذنبتُ فعوقبتُ بِجفاء النَّاس لي، وأكْثِري من الاستغفار والتضرُّع لله بالأسحار.

أغلقت الهاتف بعد ما استمعت لِكلماتِها.
نعم، لعلِّي أذنبت.

جعلت أستغفر الله تعالى ليل نَهار، لي ولمعلمتي؛ فإنَّ الشَّيطان قد يئس أن يُعْبَد بأرض العرب، لكن بالتَّحريش بين المسلمين[1].
فلن أجعلَ له عليَّ سلطانًا.


أغلقتِ الدَّاعية التي سألتْها الأخت الهاتف، فالتفتتْ لها إحدى طالباتِها وقالت: كنت قاسية معها.
فردَّت الداعية بابتسامة واسعة: بل خِفْتُ عليْها من نفسِها.

فما أقسى أن يقسو المعلم على طالبه، ولا يقدر ظروفه، ولا يمتن لوفائه.
فما حدث معها كان تأثيره شديدًا عليها، مهما كانت الأسباب.

إنَّ المعلم يؤثِّر في طالبه أيَّما تأثير.
فنظرة الغضب والرِّضا ترفع الطَّالب إلى السماء، أو تَهبِط به لسابع أرض.

بل قد تفتنه، فقد اهتزَّت القدوة لديه، ووقع في الظلم من وجهة نظره.
ولهذا؛ كان بعض السلف يدعو: اللهم أخْفِ عيْبَ معلِّمي عني، ولا تُذْهب بركة علمه مني.

لكن في نفس الوقت لا ينبغي للطالب أن يبالغ في ردِّ فعله لجفاء معلِّمه.
بل يجب عليه الصبر؛ فلعلَّه اختبار من الله - تعالى - ليعلم الصَّادق منا في اتِّباع الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - ومتَّبع غيره من الفُقهاء والشيوخ.

نعم، كلُّنا يحتاج لقدوة في هذا الزَّمن، فنداءً للقدوة: كُن قدوةً دائمًا لطلاَّبك، واحْن عليْهِم، وإن أخطؤوا، فكُنْ حازمًا غيرَ قاسٍ.
ونداء للمقتدي: لا تبالغ في الاقتداء إلا بالنَّبيِّ - صلى الله عليْه وسلَّم - فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَن عليْه الفتنة.

 

سارة بنت محمد
  • الأسرة
  • وسائل دعوية
  • درر وفوائد وفرائد
  • تربية الطفل المسلم
  • قضايا معاصرة
  • عقيدة
  • رقائق
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط