اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/zainab/111.htm?print_it=1

بنديكت 16 : "نور العالم" !

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية



 

لقد تم الترويج بصورة غير مسبوقة لآخر كتب البابا بنديكت 16، المعنون "نور العالم" ، وهو كتاب دعوى بحت يهدف إلى تحسين صورة البابا وصورة الكنيسة فى مواجهة نظرات الإتهام التى تحيط بهما. ويقع الكتاب فى 270 صفحة تساعد على تسويق عملية التبشير الجديدة التى تمثل جزء لا يتجزأ من عملية تنصير العالم .. لكن ، أن يحتل الكتاب قائمة أعلى المبيعات وأكثرها رواجاً هل يعنى ذلك أنه يتضمن شيئا من الصدق أو الحقيقة ؟ ذلك ما سوف نراه فيما يلى :

لقد تناول بنديكت 16 ومُحاوره كافة النقاط الحالية المتعلقة بفترة رئاسة البابا ، وكل الأفكار الأساسية ، أوالمتسلطة ، بل والأحقاد الشديدة التوغل ضد الإسلام المسلمين . ومن غير المعقول أن نتناول هنا قرابة المائة موضوع التى تعرّض لها بإصرار وبأسلوب سلس يتعدى السذاجة ، لكننى سأتوقف عند الخمس صفحات المتعلقة بالإسلام ، عن طريق محاضرة راتيسبون ، وهو موضوع يلخص المستوى المؤسف لشخص يزعم العقلانية ، ويحتل مركز القيادة الدينية العليا للعالم المسيحى ، ويلجأ إلى هذا الكمّ من الإلتواء والأباطيل !

فأن يبدأ بالرد على السؤال حول محاضرة راتيسبون قائلا بأنه قد أعد محاضرة أكاديمية لكن تمت قرأتها بوجهة نظر سياسية ، يعد هروبا رخيصاً يكشف فى نفس الوقت إلى أى مدى موقف البابا لم يتغير. ومن المحبط أن نراه يقول : "لقد إنتزعوا نصا من مضمونه وعملوا منه شيئا سياسياً غير موجود أصلا. فالموضوع يتناول موقف ناجم عن حوار قديم لا يزال بالنسبة لى كبير الأهمية " ، فهو الذى بحث عن إستشهاد هو فى حد ذاته مشكوك فى امره ، لكنه يتفق مع رأيه !

والرد محبط فعلا ، لأن الإستشهاد المعنى تم إختياره بعناية وبحقد لا يكل ولا يهدأ ضد الإسلام، لأن الإستشهادات لا تقفذ من مكانها إلى النص الذى تتم كتابته : إن المؤلف هو الذى يبحث بعناية عن إستشهاد إما ليدعم به رأيه أو لكى يفنده لصالح عمله الذى يكتبه. والإدعاء بقول غير ذلك يعد استهطاراً بعقلية القارئ.

وإذا كانت نية قداسته أكاديمية بحته كما يزعم ، لماذا ذهب للبحث فى نصٍ من القرن الرابع عشر ، تم تحقيقه ونشره سنة 1966 ؟ ويقول الذى تناول تحقيقه فى المقدمة لهذا الحوار رقم 7، بين مانويل باليولوج ومدرس مسلم ، أن هذه الحوارات قد تمت عام 1390 وأن "صياعتها النهائية قد تمت قى آخر عام من القرن الرابع عشر" ، أى أنه تمت صياغة هذه الحوارات بعد عشر سنوات تقريبا "إعتمادا على ملاحظات وذكريات تم تدوينها بعد المناقشات" ! ومن باب الأمانة يقول محقق المخطوطة ، الأب خورى فى نفس المقدمة : "أن مانويل لم يكن يجيد سوى اليونانية ، ومحاوره لم يكن يجيد سوى التركية" ! وهى معلومة يكررها مرة أخرى فى صفحة 118 ، قائلا : "المتحارون لا يعرفون اليونانية ، ومانويل كان يجهل لغتهم. لذلك تمت الإستعانة بمترجمين ، وهؤلاء لم يكونو ضالعين فى علم اللاهوت او متمكنين من المواد الدينية" ! وحينما يكون هذا هو المستوى العلمى اللغوى للمتحاورين ، وعدم وجود لغة مشتركة ، يمكننا أن نتصور كمّ الأخطاء الدينية واللغوية التى يمكن أن تحدث.

ويضيف الأب تيودور خورى بعد عدة صفحات : "إن التطرف اللغوى الذى لا نزال نطالعه فى النص شبه قليل الحدوث ، وهو ناجم فى جزء كبير منه للحرية التى استباحها مانويل لنفسه أثناء الصياغة النهائية ". والأدهى من ذلك يصيف قائلا : "أن مانويل يؤكد بالفعل أنه سيذكر كلمات الطرفين بدقة بقدر ما ستتيحه له ذاكرته (...) وانه سيعيد إنشاء الحوار بناء على الملاحظات وعلى ذكرياته ، إلا أنه لم يمنع نفسه من بعض التصورات المسرحية وبعض الإفتعالات الأدبية" وأن مانويل أكثر من مرة "قد تمنى أن يقوم محاوره بإعتناق المسيحية ويتخلى عن الإسلام"، ثم أضاف فى صفحة 119 : "ولنتذكر كيف بقوم مانويل بالهجوم على شرع محمد بإسم المنطق" ويذلك إكتمات كل العناصر التى يحتاجها البابا خاصة عندما يضيف مقدم المخطوطة أن التعارض الأساسى بين الإثنين يرجع "إلى الإيمان المطلق للمدرس برسالة محمد والرفض المطلق لمانويل أن يرى في الإسلام أى شئ آخر سوى الإحتيال" ! أى أن النص الذى اختاره البابا أبعد ما يكون عن الدقة والأمانة العلمية .

فأن يلجأ البابا إلى إستشهاد لإنسان لا يعرف لغة مُحاوره ، وأن الحوار بين الإثنين قد تم عن طريق مترجم آخر لا كفاءة له فى المجال الدينى الذى يتم الحوار فيه ، وأن كاتب هذا الحوار قد سمح لنفسه ببعض حريات التصرف والإفتعال وهو يصيغه ، يكشف عن المستوى المخزى وعدم الجدية أو عدم صحة الإستشهاد المذكور. وإذا أضفنا إلى ذلك كله أن المدعو مانويل ، صاحب المخطوطة ، يؤكد أنه سيستعين بملاحظاته والقدر الذى تسمح به ذاكرته لكتابة هذه المحادثات ، فذلك يعنى : أنه حوار طرشان ، مكتوب من الذاكرة ، بعد حوالى عشر سنوات ، وأنه حوار تم بين أشخاص لا توجد بينهم لغة حوار مشتركة ، وبه تخيّلات إفتراضية وتدخلات ممن صاغه ! وهنا لا يسعنى إلا أن اقول لقداسة البابا : إذا كان ذلك هو مستوى عملك الأكاديمى ، وفقا لإصرارك على وصف محاضرة راتسبون ، فكان الله فى عون أتباعك أو فى عون قرّاءك من كل النصوص التى تفرض عليهم تجرعها ... فلم تكن هناك أية "رهافة حس" كما تقول فى اختيار هذا الإستشهاد ، وإنما سوء نية متعمّدة !

ثم يضيف البابا قائلا كنوع من إثبات حسن نيته : "أثناء زيارتى لتركيا ، أمكننى التعبير عن إحترامى لأوضّح أننى أعترف بالإسلام كواقع دينى كبير يجب أن نكون على حوار معه" ! وهنا تجب الإشارة إلى أن الإسلام ليس مجرد "واقع دينى" وإنما هو ديانة ديانة ، أنه الديانة الوحيدة بين الرسالات التوحيدية الثلاث التى ظلت سليمة بلا أدنى تحريف منذ أنزلها الله عز وجل ، حتى يومنا هذا ، ويتواصل إنتشار الإسلام فعلا بسبب وضوحه المنطقى ، رغم تلك الحرب المتواصلة التى يشنها الفاتيكان ومؤسساته الكهنوتية منذ أربعة عشر قرنا !

ومن المحزن والمحبط أيضا أن نطالع قول البابا فى الفقرة التالية قائلا : "لقد بات واضحا أنه يتعيّن على الإسلام أن يعالج مسألتين فى حواره العام : تتعلقان بعلاقته بالعنف وعلاقته بالمنطق" ، مصراً على تأكيد إرتباطه بالعنف وعلى مزيد من الغرس لفكرة أن الإسلام قد إنتشر بالسيف وانه بعيد عن أى منطق ...

وبدلا من القيام بعملية إسقاط بهذا الوضوح ، لكل ما عانت منه المسيحية وكل ما قامت به من عنف وإرهاب على مر العصور ، وتحميلها للإسلام ، ليكلف قداسة البابا خاطره ويراجع على الأقل كل البذاءات والأكاذيب التى كالها آباء الكنيسة الأجلاء والمؤرخون التابعين لها وكل ما كالوه ولا زالوا يكيلونه ضد الأسلام والمسلمين ، وقد أشار تيودور خورى بوضوح فيما يتعلق بهؤلاء ، فى الكتاب الذى كان بين يديك فى صفحة 19 : "كانوا يرمون إلى إثبات أصالة الرسالة المسيحية وإثبات زيف الديانة المسلمة (...) ونادراً ما نجد أية إشارة إيجابية لصالح روعة الشرع الإسلامى وعلم الأخلاق فيه بالنسبة لعلم الأخلاق فى المسيحية ".

أما عن الخطاب الشهير الذى وقّع عليه 138 عالما مسلما ، جهلا أو عن عمد ، والذين كتبوا كما تقول : "كتبوا خطابا يتضمن دعوة صريحة للحوار المباشر مع المسيحية" ، فيؤسفنى قول أنه يمثل واحدة من أكبر فضائح الخداع والإلتواء ، لأن أولى خطواته بدأت من الفاتيكان ، وفقا لأوامرك إلى الكاردينال توران عقب محاضرة راتيسبون ، و بواسطة بعض عملائكم . وقد توصلتَ بهذا التحايل إلى جعلهم يقولون أننا نعبد نفس الإله ! ولا ضرورة لأن أقول لك أو أن أكرر بالبنط العريض ، حتى وإن خالفتُ فى الرأى هؤلاء ال 138 من العلماء الأجلاء ، أننا لا نعبد نفس الإله ، لسبب بسيط هو : بالنسبة لكم ، كمسيحيين ، أنكم تعبدون إنساناً تم تأليهه فى مجمع نيقية سنة 325 . إنسان كانت له إخوة وأخوات ، وكان يأكل الطعام ويشرب ويشعر بالحاجة للتخلص من فضلاته ، ولا أقول "إنسان أكول وشريب خمر " مثل أحد الناجيل (متى 11 : 19) . وقد جعلتموه إبن الله ، ثم الله شخصيا ، وهو ما يوجد حتى فى آخر ما كتبت من نصوص بشأن اليوم العالمى للإتصالات (24/1/2011)، حيث تقول فى الصفحة الثالثة : "حتى فى هذا المجال فنحن مدعوون للإعلان عن إيماننا بأن المسيح هو الله ، منقذ الإنسان والتاريخ ، الذى يكتمل كل شئ فيه". فبالنسبة لنا ، المسلمون، فإن عيسى أو المسيح هو واحد من كبار الأنبياء ، ولا يكمل إيمان المسلم إذا أخل بذلك. ونعبد الله فى تصعيد مطلق ، الله الذى ليس كمثله شئ، والذى أنزل إلينا فى سورة الإخلاص ما يلى :
"قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ".

وهل لى أن أضيف لك أن مجمع الفاتيكان الثانى هو الذى فرض عملية الحوار بين الأديان ، ومجمع الفاتيكان الثانى هو الذى أنشأ لجنة لتبشير الشعوب ، ومجمع الفاتيكان الثانى هو الذى أنشأ لجنة للحوار بين الأديان ، وأن الحوار معناه فى كافة النصوص الفاتيكانية بدأ من وثيقة "حوار وبشارة" ، وكافة النصوص الأخرى المتعلقة بالحوار فهو يعنى : كسب الوقت حتى تتم عملية تنصير العالم ؟!

وفضيحة محاضرة راتيسبون ليست المثال الوحيد الذى يمكن تقديمه حول المستوى العلمى أو الأكاديمى المتدنى لهذا الكتاب المصاغ بعناية فائقة ليقوم بعملية غسيل مخ للقارئ. وأورد على سبيل المثال قول المُحاور متسائلا فى صفحة 225 : "لم يعد هناك أدنى شك فى أن يسوع التاريخى وما يطلق عليه يسوع الإيمان أنهما حقيقة واحدة تماما ".. ويأتى رد قداسة البابا قائلا: "ذلك هو المحور الأساسى لكتابى تماما (...) فبين كتبة الأناجيل الثلاثة متّى ومرقص ولوقا لا توجد إلا بعض التنويعات الطفيفة لأنهم ينقلون نفس ذات الحكاية " !

والقول بأن يسوع التاريخى ويسوع الإيمان متماثلان يتعدى كافة معايير الهراء ، وذلك لا يعنى السخرية من كافة المسيحيين ومن مستوى إدراكهم ، حتى وإن كان محدوادا ، وإنما ذلك يعنى الإطاحة بألفى عام من التاريخ والأحداث المعاشة . والقول بأن كتبة للأناجيل الثلاثة يحكون نفس التاريخ الواحد مع بعض "التنويعات الطفيفة" فذلك يعنى أن قداسة البابا لم يفتح الكتاب المقدس ، وهو ما لا يتمشى مع أحد كبار البابوات الأكادميين !

وإذا كان قداسته لم يلحظ أن احد كتبة الأناجيل يقول أن يسوع وُلد فى الناصرة والآخر يقول فى بيت لحم ؛ وأن واحدا يقول أنه من نسل داوود (وهو ما يمس بالوهيته) والآخر يقول ابن يوسف؛ وواحدا يكرر أكثر من مرة أنه نبىّ ، ويقول الآخر أنه إبن الله ثم تحول إلى الله نفسه ؛ أو أن واحدا يقول أن النبأ السعيد يخص إسرائيل وحده ويؤكد الآخر أنه يعنى كافة الأمم (ويعنى الأمم المعروفة آنذاك) ؛ أو أن واحدا يقول ان خلاص إسرائيل عن طريق ملك وان يسوع سيحكم على كل الأمم ، والآخر يجعل ذلك المفترض فيه أن يصبح ملكا يقول : "لم أرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة "! وأن واحدا يقول أن يوسف أخذ الطفل وأمه وهربوا إلى مصر بينما الآخر يؤكد أنهم ظلوا فى القدس ثم عادوا إلى الناصرة ، أى أن أقدامهم لم تطأ أرض مصر بالمرة ؛ وأن واحدا يقول أن يسوع أتى ليُحضِر السلام بينما الآخر يجعله يقول : "أما عن أعدائى أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا وإذبحوهم قدامى" ؛ ويكتب متّى أن يسوع يقول لبطرس : "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبنى كنيستى" ، وفى الفقرة التالية مباشرة يقول نفس متّى هذا عن يسوع، قائلا لنفس بطرس هذا : "إذهب عنى يا شيطان أنت معثرة لى لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس". ونفس هذه الجملة يكررها مرقس تقريبا بحذافيرها (8 : 33). أى أن الإناجيل تتهم بطرس بأنه شيطان مرتين وبأنه معثرة ليسوع ولا يلتزم بقول الله ، ورغم هذا الإتهام المتكرر قامت المؤسسة الكنسية بإختيار ما يروقها. وإن كان قداسة البابا لم يلحظ كل هذه المتناقضاط أو لم يدرك أن الفرق بينها أكثر من شاسع وليست بالتنويعات الطفيفة ، فاللهم لا تعليق لكى لا أخرج عن حدود اللياقة !

ومن المحال الإستشهاد بأكثر من هذه الأمثلة لأن التناقضات فى الأناجيل تعد بالآلاف ، مما يستوجب كتابا ضخما لعرضها وليس مقالا محدود الحجم ، لكن ان يتم إعتبار هذا الكمّ وهذا المستوى من التناقض الصريح الوضوح أنها مجرد "تنويعات طفيفة" فذلك لا يمس سوى مستوى معلومات ومستوى إدراك قائل هذه العبارة ، لذلك لا يسعنى إلا أن أكرر مرة أخرى لقداسة البابا :
إذا كان ذلك هو مستوى عملك الأكاديمى ، وفقا لإصرارك على وصف محاضرة راتسبون ، ومستوى فهمك لمعنى المتناقضات ، فكان الله فى عون أتباعك أو فى عون قرّاءك من كل النصوص التى تفرض عليهم تجرعها ...

27 يناير 2011

 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط