اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/zainab/239.htm?print_it=1

مار جرجس والإله حورس..

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية



نشرت جريدة "البوابة" يوم الخميس 24/8/2017 مقالا تحت عنوان "مار جرجس، حامي المصريين في حصن بابليون"، وأسهب كاتبوه (ثلاثة أشخاص) في سرد أصل ذلك الفارس المغوار، بالتأكيد على أصله الروماني وعلى مدى اتساع كراماته، الأمر الذي انعكس على ألقابه، ومنها: "سريع الندهة، الروماني، الكبادوكي، الخضر، الفلسطيني، أمير الشهداء، وقائد الجيش الروماني"..

واللافت للنظر في هذه الأسماء، أولا: حشر اسم "الخضر" في هذا السياق، وهو من الرموز الإسلامية في سورة "الكهف"، فلا أعرف إن كانت هذه محاولة لإذابة رموز الإسلام في المسيحية أم ما المقصود تماما من هذا الخلط، وأترك الرد عليه للمختصين.. أما الملاحظة الثانية فهي تكرار الأصل الروماني مرتين في ألقاب مار جرجس. وهنا أيضا ينبثق السؤال تلقائيا: هل كتبة هذا المقال يهدفون إلى التأكيد على ان الديانة المسيحية أصولها يونانية رومانية، وهذه حقيقة مؤكدة معروفة، وإن كان الأكثر منطقية لهم أن يشيروا أصلا إلى ما نقلوه عن الديانة المصرية القديمة أيضا، خاصة وأنهم كثيرا ما يرددون أنهم كمسيحيين هم "الأبناء الأصليين الوحاد لهذا البلد"، أو "إن المسلمين غزاة ومطلوب طردهم" ؟! واللهم لا تعليق..

أما كلمة "الكبادوكي"، فهي الكلمة اللاتينية لاسم منطقة الأناضول في تركيا قديما، ولا أعتقد ان كثيرا من القراء سيفهم موقعها الجغرافي تلقائيا. وإن دلت عن شيء فهو عن تلك النزعة الى تغيير المسميات العربية الى بدائلها الغربية، مثلما حدث مع تغيير أسمائهم على سبيل المثال: جرجس، وبطرس، وبولس وميخائيل، خاصة منذ النصف الثاني من القرن الماضي، الى بديلها الأجنبي وأصبحنا نطالع: جورج، وبيتر، وݒول، ومايك، وذلك منذ قرر الفاتيكان رأب قطيعة امتدت واستبعاد، بل وازدراء، دام حوالي ألف وخمسمائة سنة، ليفرض على الكنيسة وأتباعها، منذ مجمع الفاتيكان الثاني 1965، المساهمة في عمليات التبشير والتنصير لاقتلاع الإسلام..

ومن ضمن صفات مار جرجس في سيرته الذاتية كما أوردها المقال: أنه قد "تم تعذيبه سبع سنوات، بجميع أنواع العذابات، تحمّل جميعها في صبر وشجاعة".. وهي احدى صور المبالغات الشديدة التي تأتي دوما بنتيجة عكسية في ذهن القارئ أيا كان.. ويواصل المقال، أن من كتب قصة مار جرجس هو "يوسابيوس القيصري، الملقب بأبو التاريخ الكنسي".. ويسترسل كتبة المقال في سرد كرامات مار جرجس، وأن له 372 كنيسة باسمه في مصر، بجميع المحافظات، وثمانية أديرة على اسمه. كما أن له مولد في 11 نوفمبر ومولد آخر في 23 أغسطس، وله أربعة أعياد هي: عيد استشهاده، وأول كنيسة تقام له في فلسطين، فهو جندي روماني أصلا، وعيد 10 يونيو سنة 316 احتفالا بأول كنيسة له في مصر، و23 يوليو عيد نقل رفاته على ديره بمصر القديمة.. وهو ما يكشف من ناحية أخرى ذلك الإصرار المقيت على فرض اسطورته المنقولة على مصر، فعادة ما يقام مبنى واحد للشخص الواحد سواء كان نبيا او وليا وليس مئات الكنائس، ـ إن لم يكن لفرض تنصير شكل الدولة..

يوسبيوس أبو التاريخ الكنسي

وأول ما أبدأ به تعليقا على هذا المقال هو المؤرخ الكنسي يوسبيوس، الأسقف الفلسطيني (265ـ 339) الذي استشهد به كتبة المقال تصديقا على ما يقولون.. ومما يسجله عنه التاريخ الغربي أنه ساهم في معركة أريوس، الرافض لتأليه السيد المسيح مؤيدا لعدم مساواة الآب بالابن.. إلا أنه كان يتأرجح وفقا لهوى الأفكار السائدة والضغوط السياسية. وكان من الأساقفة الثلاثة الرافضين لبدعة تأليه يسوع في مجمع نيقية سنة 325م، ثم سُمح له بالاعتذار والندم على شططه، وتم إعادة قبوله ضمن الجماعة المسيحية المرضي عنها.. وفي مجمع نيقية سنة 325 هو الذي قرأ بيان القرار المرفوع للإمبراطور قسطنطين، ووافق على التوقيع على بيان عقيدة الإيمان التي ساوت بين الله والسيد المسيح.. لذلك أطلق عليه المؤرخون لقب "المزوِّر"..

ويوسبيوس هذا هو مؤلف كتاب "التاريخ الكنسي، من البداية حتى قسطنطين" من عشرة أجزاء. وكان تلميذا للفيلسوف أوريجين، وأفلت من اضطهادات ديوكليسيان، وكان مقربا من الإمبراطور الروماني قسطنطين، ومشرّع للإمبراطورية المسيحية و"الرسالة الإلهية" المضفاه على قسطنطين كما يزعمون، وثبت تزويرها.. والثابت عنه في التاريخ أنه مؤرخ غير موضوعي وغير منصف، وهو ما يعترف به عن نفسه، إذ يقول: "أنه يقوم بعمل دفاعي تبريري للمسيحية وأنه يحذف عمدا بعض المعلومات"(...) "لكنني عادة ما أذكر في هذا التاريخ فقط الأحداث التي يمكنها أن تفدني شخصيا، ثم تفيد الأجيال القادمة" (التاريخ الكنسي، مجلد 8). وأهم ما يوضح موقفه، أنه كان يرى أن التوحيد السياسي للإمبراطورية والتوحيد الديني لها مرتبطان، وان عظمة الإمبراطورية الرومانية وانتصار المسيحية متلازمان، كنوع من التهجين بين الدين والأفكار الهللينية المقدسة..

أصل أسطورة مار جرجس

في مجال الأساطير الدينية في المسيحية الغربية، يقال ان جورج (مار جرجس)، الجندي الروماني الذي تنصر، من أشهر القديسين في مدينة اللد بفلسطين. وقد بدأت اسطورته في الشرق: في فلسطين، أو في ليبيا، أو في الأناضول (كابدوكيا)، وفقا للمرجع، ثم انتقلت الى الغرب وشاعت خاصة في بدايات القرون الوسطي مأخوذة عن أسطورة ݒيرسيه، وجعلوه حاميا لعدة بلدان منها جورجيا، وانجلترا، وكتالوني (شمال غرب اسبانيا)..

أما الأصل الحقيقي لهذه الأسطورة وكذلك الشكل الفني الذي صيغت به يقينا، فيرجع للدولة المصرية القديمة، والاله حورس المنتقم من ست إله الشر. وما أكثر الآثار التي تمثل الاله حورس ممسكا بالحربة ليضرب التمساح رمزا لإله الشر. وأشهر هذه التماثيل الذي يرجع للقرن الميلادي الرابع والموجود في متحف اللوفر بفرنسا، ويبدو فيه الإله حورس ممطتيا الفرس ومرتديا زي الجندي الروماني وممسكا بالحربة المغروسة في رأس التمساح. كما هو واضح من الصورة. ويدل هذا التمثال بلا أي جدال على ان العصر الروماني ظل ممتدا حتى الفتح الإسلامي، حتى وإن تداخلت معه بدايات المسيحية إذ إن أول إبراشية تم إنشاؤها في مصر ترجع الى سنة 381 م. بالإسكندرية.

وما أكثر ما نقلته الديانة المسيحية الوليدة من الديانة المصرية القديمة، بعد ان تم فرض المسيحية ديانة إجبارية على كل الإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن الرابع سنة 392. فبدأت فكرة نقل أهم عناصر الديانة المنتشرة في منطقة ما وإدخالها في المسيحية، من باب تقريب العقيدة الجديدة للأتباع وسهولة الاندماج فيها. وما أكثر ما تم نقله من الديانة المصرية القديمة، ومنها خاصة فكرة الثالوث، إيزيس و أوزيريس وحورس ؛ أو فكرة إيزيس وهي ترضع حورس الطفل، كما هو واضح في الصورة التالية ؛ أو حورس المنتقم من الشر وكيف تحول الى القديس جورج. وهو ما تؤكده عالمة الآثار الفرنسية كريستيان دروش نوبلكور في كتابها "الميراث الأسطوري لمصر" (صفحة 319).
 



ولا يعلم أحد تحديدا متى انتقلت صورة حورس لتصبح مار جرجس، لكن من المؤكد أنه في القرن الثالث عشر، أيام الأب الدومنيكاني وأسقف مدينة چنوة، چاك دي ڤوراچين، الذي صاغها ضمن قصص كتابه المعروف باسم "الأسطورة الذهبية"، وقد أورد به قصة 150 قديسا أو من شهداء المسيحية.. وهي فترة انتشرت فيها صياغة الأساطير لتثبيت المسيحية، استعان الكنسيون فيها بكل ما كان سائدا في الحضارات القديمة المختلفة وتحويلها الى قصص وأساطير دينية مسيحية. أو على حد تعريف فيليب والتر، أخصائي القرون الوسطى: "إن علم الأساطير المسيحية تكون على عقائد وثنية اضطرت المسيحية إلى امتصاصها بدف السيطرة عليها".

وكانت عبادة ايزيس وأوزيريس قد امتدت حول كل البحر الأبيض المتوسط، أولا في اليونان، في عصر البطالسة، التي كان الكهنة المصريون يقومون بهذه العبادات على أرض اليونان ثم في العالم الروماني. بل لقد امتدت حتى أطراف نهر الراين وانجلترا، وكانت جميعها خاضعة للإمبراطورية الرومانية. واستمرت هذه العبادات حتى فرضت المسيحية سياسيا على كل الإمبراطورية، وبدأت محاربة العبادات الأخرى.. فالهدم وحده لم يكن كافيا لاقتلاع العبادات السائدة، وإنما كان لا بد من إحلال بدائل مبنية على ما كان قائما لتسهيل تقبل ما يتم فرضه. لذلك يؤكد العلماء، العالمون ببواطن الأمور في الغرب منذ عقود ممتدة بل منذ عصر التنوير، ان المسيحية "صناعة بشرية" أي: "Man made religion"..


زينب عبد العزيز
28 أغسطس 2017
 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط