صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







المسيحية والمؤرخون القدامى

أ.د. زينب عبد العزيز
2017
أستاذة الحضارة الفرنسية


 المسيحية والمؤرخون القدامى (1/4)
 

من أهم ما يعاب على تاريخ نشأة المسيحية اختفاء أية أصول ووثائق قديمة وعدم الاحتفاظ إلا بما صاغته الأيادي العابثة، وهو ما ضمنته الأناجيل الأربعة، وما أطلقت عليه كتب وتراث الآباء، وبخلاف ذلك لا أثر لتلك النشأة بصورة علمية موثقة، وهو ما سوف نعرضه من خلال أربع مقالات لهذه الجزئية، أى لدى المؤرخون القدامى بمختلف أحقابهم، وهم المؤرخون اليهود، والمؤرخون الوثنيون، والمؤرخون اليونان، والإمبراطور جوليان لأنه يمثل نقطة فارقة أو علامة كاشفة سنراها في حينها. وذلك لتأكيد إن مصر لم تكن مسيحية منذ القرن الأول كما يزعم النصارى، بل ولم تكن مسيحية بكاملها على الإطلاق.. ونبدأ بالبند الأول:

1– المؤرخــــون اليــــهــود:

فــيلون السكندري (13 -20 ق م -54 م) Philon d'Alexandrie

هو فيلسوف ومثـقـف، ولــد أيــام هيـرود الأكـبر، وتـوفى عـام 54م، أي أنه فرضاً يُعـد معاصراً تماماً ليسوع؛ وهـو شـديـد الإلمام بكل ما يتعلق باليهود. وتتضمن مؤلفاته 57 عملاً، منها كتاب بعنوان "عصر بيــلاطس " وهـو كتاب لو استطاع أن يضمنه شيئاً عن يسوع المسيح لـوجـد عشرات الإمكانيات؛ لكنه لم يـذكر يسـوع مـطلقاً.
ويُعـد فيـلون من كبار مـثـقـفي عصره وأنه شـديد الأمانة الموضوعية ومشهود له بأنه لا يغــفل كبيرة ولا صغيرة في الموضوع الـذي يتناوله. وذلك ما إتبعه في كل كتاباته المتعلقة بالطوائف الدينية المتعـددة، لذلك لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لماذا لا يـذكر شيئاً عن يسوع وحـواريـيه، خاصة وأن شعبية يسوع – وفـقاً للوثـائق الرسمية – كانت تـفوق الآفـاق، وأنها تعـدت سـوريا، وأنهم أحضروا كل المرضى ليشفيهم، ولا يـذكر شيئاً عن ألاف الأشخاص الـذيـن اتبعوه وأطعمهم بمضاعـفة الخبز والسمك.. خاصة لا يـذكر فيلون شيئاً عن عملية "صـلب" المسيح ولا عـن تلك القـيامة المتـفردة بين الأمـوات، أو عن أولئك الموتى الذين عـادوا إلى الحياة وراحـوا يتجولون في شوارع المدينة في وضح النهار! وكلها أحـداث لا يمكن لمـؤرخ بمثل دقـة فـيلون أن يغفلها أو ألا يــذكر عنها شيئاً.
بل المعروف أن فـيلـون كان من الشجاعة بحيث أنه سـافـر إلى رومــا لمقابلة الإمبراطور الـرومـاني كاليجـولا دفـاعاً عن اليهود ضحايا الاضطهاد الـدامي سنة 39 في الاسكندرية. فاستقبله كاليجولا لكنه لم يستجب لمطلبه.. وبعد عـودته إلى الإسكندرية راح يواصل كتابة أعماله التي لا يـرد بها أي ذكـر ليسـوع أو لجماعة المسيحـيين الإسكندريين ومنهم المـدعـو أبوللونيوس الطـواني، الذي يـُقال عنه أنه كان منافساً أو شبيهاً ليسوع الرسـول.
وكان فـيلون تـلميذاً لأفـلاطـون، صاحب نظـرية "اللوجوس" أو "الكلمة"، وما أكثر ما كتبه عنها وعن العـلاقة بين الله العــالِم بكل شيء وبين تلك الـدنيا بنواقـصها. وسرعان ما جعل من "الكـلمة" كائناً مستـقلاً قـد خـلق كل شيء لأنه يحتوي على الصفات الإلهية، وكل المخلوقات نتجت عنه وهـو غير مخلوق ومنبثق من الله ذاتـه.. وما أشبه ذلك ببـداية إنجيل يوحنا الذي يـبدأ بعبارة: "وفي البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" (1: 1).
أي أن فكرة "الكلمة" كانت واردة في الـفكر الفلسفي ولم يضـف إليها إلا عبارة "التجـسد" التي أضيفـت في القرن الثاني.
والأكثر من ذلك أن القـس الإيطالي ليـوجي كاتشيولي الذي خـرج عن سلك الرهبنة، وهو من مـواليد عـام 1934 م، يـؤكد في كتابه المعنون: "مهـزأة المسيح" أن فيلون السكندري كان ينتمي إلي جماعة الآسينيين، ورغمها "لا يـذكر أبـداً أي شيء عن يسوع أو المسيحيين، بل بالعكس تماماً، نــراه يستبعدهم من أعماله المكتوبة فيما بين سنة 50 و 60م، ويتحدث عن (لوغـوس) لا يزال سوف يأتي روحياً، وبذلك فهو ينكر أي مجيئ ليسوع في شكل مادي" (صفحة 109).

فـلافــيوس جوزيف (حوالي 37م -100) Flavius Joseph

وُلــد جوزيف عــام 37م من أسـرة يهودية ميسورة الحـال وتـم تعيينه حاكماً على الجلـيل في بـداية ثورة 66؛ وقـد تـولى قيادة المحاربين ضد الـرومان. ثــم اعتقله الإمبراطور فـسبـازيـان وسـرعان ما انقلب موقـف فـلافيوس جـوزيف، إنقـاذاً لحياته، ليصبح متعـاوناً بحماس مع الرومـان، الأمُـر الــذي سمح له بالحصول على الجنسية الــرومانية، إلا أن ذلك لا يمنع من أنه من كبار مـؤرخي عصره، ومن أهــم مـؤلفـاته: "حـرب اليهـود ضـد الــرومـان" من سبع مجـلـدات، والأثار اليهودية" أو "التاريخ القـديم لليهـود"، من عشرين مجلداً، إضافة إلي مـؤلف "ضـد أبـيـون" من جزئيين وسيرته الذاتية.
وفي كل هـذا الكم المستفيض خاصة في كتابه "آثــار اليهود"، وقــد ضمنه منذ عصر سـفر التكوين حتى حرب اليهود مع الرومان سنة 66م، لا يوجد سوى فـقرة من بضعة أسطر تقول:
"وفي نـفس العصر آتى يسوع ،إنه رجـل عـاقـل ، إذا كان يجب أن نطلق عليه رجـلاً. لأنه كان صانع مُعجزات وسيد الرجال الذين يتلقـون عنه الحقيقة بسعادة. وقــد جــذب إليه العـديد من اليهود والهلليـنين، أنه كان المسيح، وعندما حكم عليه بيــلاطس بالصلب بناء على وشاية من مواطنينا الأوائل، لم يكف الذين كانوا يحبونه عن الإعجاب به لأنه ظهر لهم بعد ثـلاثة أيــام، لقد قام، إذ كان الأنبياء الـقدامى قـد أعلـنوا ذلك وآلاف الأشياء الأخـرى بشأنه. والجماعة التي يطـلق عليها المسيحيين لم تخـتف بعـد"!
ولو كانت هــذه الفـقرة نصاً أصلياً لكانت حاسمة، إلا أن كافة العلماء يجمعون على أنها إضافة تحريفية لاحـقة. فهي من ناحية، لم تكن موجـودة في أقــدم نسخة من كتاب "أثــار اليهـود"، تلك التي كان يمـتلكها أوريجـين في مطلع القـرن الـثالث والـذي كان يـؤكد أن فلافيوس جـوزيف كان يرفض "الاعتقاد بالمسيح". ومن المعروف أن فـلافيوس جـوزيف كان شـديد التمسك باليهودية الفريسية، وهو ما يبدو في كل أعماله، خاصة في سيرته الذاتية وفي الكتاب الهجومي الذي ألفه بعنوان "ضد أبيون".
ويــؤكد الأب جيليـيه أمين مكتبة سانت جنـفيـيف ومـترجم أعمال فـلافيوس جوزيف سنة 1756: "أن التناقضات والتحريف يتـولد أمامي في كل خطوة. إنني مضطر إلى القول بأن كتاباته قـد تــم تعــديلها بحيث أصبح يتناقض مع نفسه، وأخشى من تكرار ذلك القـول وأثــره غير الحميد على أعماله".
ويـوضح روجــيه بـترينيـيه (Roger Peytrignet) إن "المسيحيين قــد استولوا على أعمال جــوزيف، إذ أن مـواطنيه قــد تباعـدوا عنه، لانضمامه إلى صفـوف الرومان، وراحــوا يحرفـونها وفـقاً لهــواهـم"، ("يـسوع المســيح أسطـورة أم شخص تـاريخي" صـفحة 29).

ويـؤكـد كل من ألفاريك وكوشو، في كتاب لهما حول "مشكلة يسوع وأصول المسيحية"، استحالة أن ينطق فـلافـيوس جـوزيف بمثل هـذا القــول "لأنه لو كان قـد قاله حقاً لكان مسيحياً. إلا أنه كان شـديد التعلق بيهوديته الفـريسية، وهو ما نُــطالعه في مؤلفــاته اللاحـقة".
وإجماع أخــر من كافة الباحثين على أن تلك الفــقرة أضيفت بفعل فاعل، يوضح أن الجـزء الذي أضيفت فيه لا يتـفـق وسـياق الكلام، حيث إن جــوزيف كان يتحدث عن المصائب التي لحقت بمواطنيه أيام بـيلاطس. وأنه إذا ما حـذفت تلك الفـقرة فإن سياق الكلام يتواصل بموضوعية واضحة!

أما أنـدريه فـوتــييه André Vautier))، فيوضح في كتابه عن " لـُغـز يسوع" أن فـلافيوس جوزيف قد كتب عـدّة ترجمات "لحـرب اليهود" وأن النص الآرامــي له يرجع إلى عــام 75م. والنص اليـوناني إلى 79م. وأن هـــذه الترجمة اليونانية لا تتضمن أية إشــارة إلي يسوع إلا أن الأبحـاث قــد دلت على أن الجــزء الأول والأجــزاء من ثــلاثة إلى سبعة رائعة الصياغة والمضمون الـدقيق، إلا أن الجــزء الثاني الذي يقص الأحــداث التي تتوافق والفترة التي عـاش فيها يسوع رديئة الصياغة وغيـر متناسقة المضمون. وذلك دليل قاطـع على أن هـذا الجــزء قــد تــم التلاعب فيه بأيــدي النـّساخ المسيحيين، وهنا يوضح: "يجب علينا ألا ننسى أن القساوسة وحدهم هــم الذين كانوا يُجيدون القــراءة والكتـابة، وأن الأجزاء المتعلقة بيسوع وبيوحنا المعمدان قـد قــاموا بإلغائها من النسخ التي عملوها للنص اليوناني".
لذلك يـؤكـد أنـدريه فـوتـييه بإصرار واضح: "أن كتاب (حـرب الـيهود) والجزء الثامن عـشر من كتاب (الـتاريخ القـديـم لليهود) اللذان يتناولان أحـداث القرن الأول الميلادي" تتضمن آثــاراً شـديدة الوضوح للتغـيير والتبديل، والنصوص المدسوسة، والنصوص المحذوفة.
ويُشير فــوتيــيه في الفصل الثالث من كتابه إلي أن مقـدمة كتاب "حرب اليهود ضد الرومان" : "النص اليوناني يتضمن ملخصاً لما سوف يتناوله الكتاب ، وفي هذه المقدمة، فإن الكتاب في وضعه الراهن، ينتقل فجأة من حكم الإمبراطور أغسطس إلي السنة الثانية عشرة من حكم الإمبراطور نيرون" !
أي أنها فجـوة تشتمل على حوالي ستين عاماً، "ومن اللافت للنظر أن هـذه الفجوة هي الفترة التي تحتوي على نشاطات كل من يوحنا المعمدان، ويسوع الناصري، وبولس الطرسوسي".
ومن الواضح أنه لا يمكن لواحــد في مثل دقـة فـلافـيوس جـوزيف أن يقـفز متغاضياً عن مثل هـذه الحـُقبة بكل ما فيها من أحــداث مصيرية. وهنا لا يمكن لأي دارس أمين إلا أن يـُشير بأصابع الاتهام إلى الأيـادي العابثة في الكنيسة التي من الواضح أنها قامت، منذ لحظاتها الأولى، على عبثيات الغـش والتحريف والتزويــر.
لذلك يقــول لويجي كاتشيولي: "إن الكنيسة قـد حرفت الفـقرات الواردة في مؤلفات فلافيوس جوزيف، واختلقت حـريق روما الذي نسبته إلى نيـرون حتى يمكن اعتبار الضحايا أو الشهداء الآسينيين أنهم شـهداء مسيحيين والعــديد من الأكاذيب التي لا يكفي مجلداً لاستيعابها، إنها أكاذيب ما أن يكتشفها القــارئ حتى تــؤدي إلى نتيجة عكسية لما أراده المزيفون. وتكفي الإشارة هنا إلى كم التحريف الذي قام به يوسبيوس، أسقف القيصرية (314 -340)، والذي أطلق عليه المـؤرخون لقب "الـمـزوِّر" لنـرى ما الــذي قــام به المسيحيون لمواجهة نقـص الوثـائق ولمحاولة إثبات الوجــود التاريخي للشبح الذي أطلقوا عليه اسـم يسوع" ("مهــزأة المسـيح" صفحة 111).

ويورد العالم القس السابق جـي فــو (Guy Fau) في كتابه المعنون "خـرافة يسـوع المسيـح" : "أن النصوص المتعلقة بيسوع المسيح ظهـرت لأول مـرة في القـرن الرابع في أعمال يـوسبيـوس ولم تكن قـد وجــدت بعــد في كتاب "الأثـار العبرانيـة" في عهد أوريجــين (185 – 254)، بما إنه هـو بنفسه يــؤكد في كتابه المعنون "ضـد سلسـيوس" أن فـلافـيوس جــوزيف لم يتحدث أبداً عن يسوع يُـدعى المسيح. إن الــتزوير لشديد الوضوح لدرجة أن الكنيسة نفسها لم تعــد تــدافع عن تلك الفقرة المدسوسة في أعمال فـلافـيوس جـوزيف ".
جــوست من طـبرية (القرن الأول) Juste de Tibériade
يُعــد جــوست الطبري، أو من مــدينة طبرية، مــؤرخاً معاصراً لفـلافـيوس جـوزيف ومنافساً له.. وقد كتب هو أيضاً كتاب بعنوان "تـاريـخ اليـهود" وقـد اختفى هـذا الكتاب من الوجود حالياً وإن كان قـد ظل حتى القـرن التاسع. ونعلم من فـوسيوس، بطريرك القسطنطينية أنه لم يـذكر يسـوع بكلمة واحــدة، إذ دون في يــومياته قــائـلاً: "جــوست لا يــقول شيئاً عن مجيء المسيح ولا عن وقائــع حـياته ولا عن المعجزات التي قــام بها".
وهنا يؤكد روبير بـترينييه: "إذا كانت قـــد تمت محاكمة يسوع بالظروف الــوارد ذكرها في الأناجـيل، لاضطر الحاكم أن يكتب تـقـريراً رسمياً إلى رئيسه وفـقاً لما تفتضيه القـواعـد المتبعة ولكان قـد تــم حفظه في الأرشيف الإمبراطوري. ويـزعـم الفيلسوف القـديس جوستان (القرن الثاني الميلادي) أنه قـد شاهــد هـذا المحضر شخصياً وكان أول من رآه، ولابد من وجوده في أرشيف الدولة، ولابـد من أن يكون محتواه موافـقاً تماماً لكل ما ورد بالأناجيل".
إلا أن مثل هـذا التـأكيد الصادر عن أحــد الـقـديسين المشهود لهم بالــولاء للكنيسة لدرجـة أنها قامت بإضفاء صفة القــداسة عليهم، هـل يمكن أن تـؤخـذ في الاعتبار؟! فـالمعروف أنها حرقت كل من عارضها وقامت بإضفاء صفة القـداسة على الذين تعاونوا معها في أغراضها.

الــــتــلمـــود

التلمود كلمة عبرية تعني " التعـاليــم ". وهـو يتضمن التعليمات والتعليقات المتعلقة بنصوص التوراة أو العهد القديم. ويُعد التـلمود تكملة للشرع المكتوب وتـقنيناً للشرع الشفهي مؤكداً العـقيدة التوراتية "للشعب المختار".
وقد تمت صياغة الجزء العقائدي فيه في الـقرن الثالث الميلادي بحيث يـؤكد سيادة الدين اليهودي. ويـزخـر التـلمود بالاتهامات ضد المسيحيين، الأمـر الذي أدى إلى إدانته رسمياً في الغـرب في القـرون الوسطى.
ومن الصور الساخرة التي يحتوي عليها تريقه لاذعة ضد الأناجيل وضد من يطلقون عليه: "الابن المزعوم لله؛ غير الطاهر المولد؛ إذ أن والدته عاهرة يهودية اسمها مريم وجندي روماني من جنود الاحتلال اسمه بانتيرا". ويصف الـتلمود المعجزات التي قام بها المسيح "بأعمال من السحر مأخـوذة من عبادة الشياطين ولذلك حُكم عليه بالموت لمحاولته إغـراء الشعب اليهـودي وحثه على الـثورة".
ووفـقاً للتـلمود فإن المسيح لم يُصلب وإنما تم رجمه ثم عُلق على شجرة. ويورد بيير دي جرانميزونPierre de Grandmaisonفي كتابه عن "يسـوع المسـيح" نصاً أخر يقـول: "وأخيراً تمت محاكمته في ليـدّا واتهامه بالسحر والارتداد. وقـد وُضع على عمود التـشهيد طوال الأربعين يوماً التي سبقت موته، وكان المنادي يعلن بصوت عال: هذا الشخص سيـُرجم لأنه مارس السحر وأضل إسرائيل. وأي شخص يعرف شيئاً لتبرأته ليتقدم بشهادته ويعلنها. لكن أحداً لم يتقدم وتم إعدامه يوم الاستعداد لعيد الفصح. ويقول أخــرون أنه تم رجمه".
وهنا لابد من الإشارة إلى موقف اليهود من المسيحية، فعلى الرغم من كل ما قدمه الفاتيكان من تنازلات تخرجه تماماً عن نصوص الأناجيل وعقائد المسيحيين بتبرأة اليهود من دم المسيح في مجمع الفاتيكان الثاني (1965)، وذلك رغم 35 إشارة في إنجيل يوحنا وحده تتهم اليهود بقتل المسيح، فإن اليهود لم يغيروا من موقفهم ولا من نصوصهم التي تـتهم مولد السيد المسيح بالسفاح والعياذ بالله.

المـــشــــناه:

والمشناه هي مجموعة من 63 بحثاً لليهود وتعليق على الــتوراة وتــدوين للشرع الشفهي وتمثـل القـاعـدة الأساسية للتلمود إضافة إلى تعليقين أخــرين. وقــد عـثر هليل (Hillel) الـبابلي، وهـو أحــد علماء الحاخامات، على نسخة من المشناه سنة 40 ق.م، في منطقة طبرية قـرب بحــر الجليل حيث دارت أحــداث حياة يسوع، ومع ذلك فــلا تتضمن المشناه أي شيء مُطلقاً عن يسوع أو الحواريين رغــم أنها تتناول كل "الهـرطقات" التي تعرضت للمحكمة العليا اليهودية منذ 40 ق.م. حتى حوالي سنة 237 م.
وتعد المشناه بمثابة أو أشبه ما تكون بيوميات لأعمال المعبد اليهودي وتاريخ الفريسيين الـذيـن تـم اتهامهم بقتل يسوع – كما يقـولون – فكيف لا يحــاول أي حاخام أن يستبعد مثل هـذه التهمة؟ إنه صمت يفسره بعض العلماء الحــداث على أن يسوع قـد وجـد قـبل التاريخ الذي بــدأ فيه تـدويـن المشناه.

المراجع:

L. Cascioli : La Fable du Christ, Viterbo, 2001
Fau, G. : Le christianisme sans Jésus, France-Quercy, 1995
Peytrignet, R. : Jésus-Christ, Mythe ou personnage historique, Réflexion, 2002
Vautier, A. : Le secret de Jésus
 



المسيحية والمؤرخون القدامى (2/4)


تناولت في المقال السابق "المؤرخون اليهود وأصول المسيحية الأولى"، لأوضح كيف أنها بدأت في الصراعات والتحريف والأكاذيب، لأؤكد خاصة ان مصر لم تكن مسيحية بكاملها في أي وقت من الأوقات وأن الوثائق الأولى تثبت عكس ما يقال. واتناول في هذا المقال الثاني دور المؤرخون الوثنيون..

المؤرخـــون الوثــنيون:
هناك ظاهرة لافـته للنظر وهي أنه ما من واحـد من الكتـّـاب اللاتين أو اليونان، في القرن الأول الميلادي، قـد ذكـر اسم يسوع، وإن كان هـذا الصمت له مغـزاه أو حتى إن لم يدل على شيء في حـد ذلك، لكن، كيف لهم ألا يلحظوا وجـود المسيحيين الأوائل أو لم يتحدثوا عنهم على الإطلاق، فما من واحـد منهم قـد ذكـر مثـلاً تلك الظلمات التي حطت على المدينة وخيمت على كل شيء عند وفـاة يسوع! بل لم يشر أي واحد منهم حتى إلي احتمال حـدوث كسـوف للشمس ولـو جـزئياً! وما من واحـد منهم قـد لاحظ ذلك النجـم اللامـع الذي أرشـد خطى ملـوك الأعــاجم، بل ولـم يلاحظه أي عـالم فـلك أو أي مـُراقب حتى للسماء.
ويتحدث المـؤرخ السـوري لـوسيان أنه سمع، قبل وفـاته، سنة 190م، عن سـاحر أدخـل طقساً جـديداً قائماً على الأسرار الخفية في فلسطين وأنه قد صلب. وفي روايته المعنونة "موت بريجـينـوس" تكـلم عن ذلك الطقس الجـديد قـائلاً: "وكانوا يعبدون مـُغالطهم المصلوب". ويقـول روبيـر بترينـييه إن هـذه العبارة لها أهـميتها بالـفعل "لأن المسيحية في البداية تـم تقـديمها على أنها عبادة ذات أسـرار"، أي أنها لا تعلن للعوام.
ومن الغريب أن لـوسـيان السـوري، حتى أواخر القـرن الثاني، لم يكن قد سمع شيئاً لا عن صلب المسيح ولا عن الأناجـيل، وذلك رغـم قـربه من تلك المنطقة التي توصف بأنها مهد المسيحية، خاصة وأنه كان يسخر من كل العبادات الموجودة.
كما أن المؤرخـين اللاتين لا يـذكروا شيئاً عن مـذبحة آلاف الأطفـال الأبـرياء التي أمـر بها الملك هيـرود. ويعجب الباحثون من صمت المؤرخين فيما يتعلق بقـيام الأموات وتجـولهم في شـوارع المدينة بأكـفانهم، كما يقول أحد الأناجيل.. ومثل هـذه الأحداث لو كانت قـد وقعت فعلاً للفتت نظر أي مـؤرخ من المؤرخين الـذين عاصروها أو أتـوا في القـرن التالي لها.

بــيــلاطـــــس:

إذا كان القـديـس جـوسـتان قـد زعـم، في منتصف القـرن الـثاني، إنه قـد اطلع على التقرير الذي رفعه بيلاطس إلى رئيسه، فهو لم يقرأه بالفعل وإنما افترض وجوده فحسب ضمن أوراق الـدولة ومستنداتها. وإن كان تـرتـولـيان، وهو يُـعـد أول الكتـّـاب المسيحيين باللغة اللاتينية، قـد راح يكـرر قــول القــديس جــوستان، فإن وقـائع التاريخ تناقض هـذه العبارة.
ففي مطلع القرن الرابع قام الإمبراطور ماكسيما دايـا بنشر وتـوزيع "أعمال بـيلاطس". وقـد وصفها المؤرخ يـوسبيـوس بأنها "مليئة بالشتائم ضد المسـيح"، لذلك قال إنها من النصوص المحتجبة، أو التي يجب أن تـُحجب لسبب فاصل: إنها تتحدث عن صلب المسيح في السنة السابقة من حكم تيـبريـوس، أي في سنة 21، في حين أن بيـلاطس قـد عُين حاكماً على فلسطين في سنة 26".
وفيما بعـد، قـام المسيحيون بإعـادة نـشر "أعـمال بيــلاطس" حيث نـراه يتولى الدفـاع عن يسـوع المسيح! وكان هـذا الكتاب يحتـل الصدارة في آداب الـقرون الوسطى، وقـد ضـُم بعـد ذلك إلى إنجيـل نيكومـيد. ويـوضح روجيه بترينـييه أنه ما من مـؤرخ في يومنا هـذا يعتبر هـذا النص نصاً أصلياً وأن الجميع يعـتبرونه من الـروايات، مؤكداً: "وفي نهاية القـول، إننا لا نمتـلك أية وثـيقة رسمية ولا أي تـقرير رسمي أو شهادة رسمية حـول يسـوع من روما الوثـنية".

سويتونيوس: (حوالي 69- حوالي 126) Suétone

عاش سويتونيوس في الفترة ما بين 69 و126م، وكتب سيرة أثني عشر إمبراطوراً رومانياً، من يولـيوس قيصر، المتوفي 44 ق.م.، حتى دومـثيان المتوفي سنة 96 م، وهـو معاصر تاسيتوس وصديق للفيلسوف بليني الأصغر. وقـد شغل منصب سكرتيراً للإمبراطور سبتكيـوس كلاروس وكان مسئولاً عـن الأرشيف الإمبراطوري. أي انه يمكنه الاطلاع على ما يريد من وثائق.
وتأتي سيرته للإمبراطور تيبـريـوس، المولود سنة 42 ق.م والمتوفي سنة 37 م فرضاً مواكبة لحياة يسوع، إلا إنه من الصعب أن نجـد بها أية إشارة إليه أو إلى أي من تفاصيل حياته. أما في سيرته عن كلود يوس، المـولود سنة 10م والمتوفي سنة 54م، فيؤكد سويتـون أنه في بداية حكمه "قـد طــرد اليهود من روما لأنهم كثيراً ما كانوا يثيرون القلاقـل بقيادة المحرض كريستوس". (Impulsore Chrestos) وقـد تمت هـذه الواقعة سنة 41م. أما سـويتون فـقد كتب هـذه الأسطر حـوالي سنة 120م، وهـو تاريخ جـد بعيد عن الأحـداث المذكورة.
والغريب في الأمـُر أن كلاً من فيـلون أو فـلافـيوس جــوزيف لم يذكرا شيئاً حـول هذا الموضوع، بل على العكس من ذلك، فإن جوزيف يتحدث عن كلـوديوس على أنه حاكم مُتـفهم لعادات وتقـاليد اليهود.
وهنا لابـد من وقـفة تتعلق باسم كرستوس Chrestos والتفرقة بينه وبين اسم كريستوس Christos، فهذا الأخير يعني المدهـون بالزيت أو الممسوح، أما الأول فهو اسم شـائـع ويعني باليـونانية "الطـيب" أو "الأفـضل". وكان شـديد الانتشار بين العبيد ولـدى اليهود. وقـد أشار الباحث ليـنك أن اســم كـرستوس قـد ورد أكثر من ثمانين مــرة في النصوص اللاتينـية.
ويـورد ديـون كاسيـوس، على عكس سـويتـون، "أن اليهود كانوا من الكثرة في روما بحيث يصعب طـردهـم دون إثـارة القــلاقـل، قائـلاً إن كـلوديوس لم يطردهم وإنما اعترض على اجتماعاتهم التي ينص عليها شـرعهم". وبناء على ذلك يـرى روبيـر بترينيـيه أنه حتى وإن قـام الإمـبراطور بطـرد بعض اليهـود، فلـم يكن بينهم مسـيحياً واحداً في روما حتى سنة 41م، مثلما لم يكن هناك أي مسيحي في مـدينـة بـومباي (الإيـطالـية) سـنة 79م.
لذلك يقـول: "لو افترضنا جـدلاً أن كريستوس سويـتون هـو يسوع المسيح، فإن يسوع لم يمت أيـام تيـبريـوس، والاعتماد على نص سـويـتون لإثبات تاريخية يسوع يُعـد بمـثابة أضحـوكة ".
أما ميشيل كـوكيه (Michel Coquet) فـيوضح أن اسم كـرستوس (Chrestos) كان موجوداً منذ القـرن الخامس قبل الميلاد وقـد استخدمه كل من اشيليوس وهيرودوت وغيرهما. وهـو اسم يقـابل اسم سـوتـير باليونانية ويعني مُـنقـذ.

تاسيتوس 55-120)) Tacite

تاسـيتوس مـؤرخ لاتيني عـاش فيما بين عامي 55 و 120 م، وقـد اشتهر بجمال لغته الأدبية، وفي "الحـولـيات" التي كتبها يتعـرض إلى شائعات تـتهم نيـرون بإشعال حـرائق روما عـام 64م والتي قـام الإمـبراطور باتهام المسيحيين بإشعالها، ويقـول تاسيتوس: "إن اسم المسيحيين مشتق من المسيح الـذي حُـكم عليه بالموت أيام تيـبريوس من الحـاكم بــيلاطس البنـطي".
ويـوضح ميشيل كـوكـيه أن هـذا النص يـرجع إلى القـرن الحـادي عشر ولم يُعرف إلا سنة 1429م ودخل مكتبة مـديتـشي سنة 1444:"وبعـد الأبحاث الجـادة التي أجـريت عليه لمعرفة أصالة الوثــيقة أجمع العلماء أن هـذه الفـقرة الخاصة بالمسيح مُـزيفة ودخيلة على النص الأصلي". وتـُـشير الأصابع إلى بـــودج (Podge)، وكان سكرتيراً لعـدد من البـابـاوات هـو الـذي دسّ هـذه الجملة.
ويسخر ميشيل كـوكـيه قـائـلاً: "نـتمنى للمسيحيين أن يُعـد هـذا النـص من النصوص الممنوعة عن الـتـداول لأنـه وإن كان قــد تحــدث عـن مـوت المسيح إلا أنه لا يـقول شيئاً عن بعـثه: وبالنسبة للعـقيدة المسيـحية فإن الحـدثيـن، المـوت والبعـث، لا انفصام بينهما. وبما أن تاسيتوس استبعد قـيام يسـوع وأورد ببساطة خبـر مـوته فــذلك راجـع إلى أن كل إنسان يموت.. وفي النهاية، إن هـذا النص الـذي ينـكر البعث أو الـقيــام لا يمكنه إثــبات وفــاة المسيح".
وأيـاً كـان الأمُـر فـقد كتب تاسـيتوس حــولـياتـه حـوالي سنة 117، وكان عـدد المسيحيين قـد تـزايـد في روما وبـدأت حيـاة يـسوع تنـتشر بينهم، وإذا ما كان قـد كتب هــذه الجملة فعـلاً فيمكن أن يكـون قـد استـقاها من المسيحيين أنفـسهم، وما أكــثر ما كـانـوا يـروجـونه. وكان سِلسيوس Celsius يـؤكـد "أنهم قـد غـيروا وبـدّلـوا في نصوص الأناجيل وفـقاً لهواهم، ثـلاث أو أربـع مـرات أو أكثر في النصوص البـدائية لاستبعاد ما كان يُعترض عليه".

سينيك: (4 ق.م- 65م) Sénèque

يُعـد سينيك من فـلاسـفة الـقرن الأول، وقــد عـاش فيما بين 4ق. م و65، أي في الفترة الشـديدة القــرب ببداية المسيحية، فـلم يـذكر شيئاً عن يسـوع، ولم يتـورع القـديس جيـروم أن يجعل منه واحــداً من أبـاء الكنيسة، وقـد قـامت الأيـادي العابثة بمـلء هــذه الفجـوة باختلاق مـراسلات بين سينيك والقـديس بـولس. لكن سـرعان ما تكشفت عمليات التـزوير لتديـن هـذه الخـدعة بأنها أحـط تــزوير يـُديـن مصداقية تلك الأيـادي.

المراجع:

Bernard, J.L. : Apollonius de Tyane et Jésus, 1977
Coquet, M. : La vie de Jésus démystifiée, 2003
Duquesne, J. : Jésus, 1994
Massey, G. : Les origines du christianisme, 2003
 



المسيحية والمؤرخون القدامى (3/4)


في هذا الموضوع المتعلق بأصول المسيحية الأولى وما نستكشفه من المؤرخين القدامى تناولت المؤرخون اليهود في المقال الأول، ثم المؤرخون الوثنيون في المقال الثاني، وأتناول هنا، في المقال الثالث، المؤرخون اليونان، لأوضح بالنصوص الرسمية كيف ان المسيحية لم تكن انتشرت في العالم وخاصة في مصر منذ القرن الأول كما يفترون.

المــؤرخــــــون اليـــونـان
بــلـوتـارك: (50-125م) Plutarque

يُعـد بلـوتارك، المـؤرخ اليـوناني الـذي عـاش فيما بين عامي 50 و 125م، مـؤلف "مشاهير الرجال"، إلا أنه لا يقـول شيئاً عن يسوع، وعلى الرغم من أسفاره المتعددة في أثينا وروما والإسكندرية مجاوراً لليهـود، فلـم يلحـظ وجـود المسيحيين ولم يتحـدث إلا عـن اليهود وأحـوالهم.

بليني القديم (23 -79م) Pline L'Ancien

عـاش بليني القـديـم فيما بـين 23 و79م وكان من علماء الطبـيعة إضافة إلى كونه أديـباً وهـو عــمّ بـليـني الصغـير، فـقـد ذهـب إلى فلسطين حــوالي عـام 60م مع الجيش الـروماني. ولم تكن الأحـداث قـد خبأت فـرضاً حـول حياة يسـوع ومعجزاته، بل كان من الممكن أن يقـابل أي فـرد من الـذيـن عـاصروه، لكـن في كـل مـؤلفـاتـه التي يبلغ عـددها مائة وخمسون مجـلداً فهـو لا يـذكر كلمة واحـدة عن يسوع وأحـداثـه.

أبوللونيوس من طــوانه (توفى عام 97) Apollonius de Tyane

(طـوانـه بين قــونية وطـرطـوس)
لا نعـرف الكـثير عن شخـصية أبـوللـونـيوس الطـواني الـذي يُـقال إنه عــاش في أواخر الـقرن الأول الميلادي إلا أنه كشخصية أسطـورية قــد لعب دوراً عظـيم الأثــر في الصراع ضد المسيحية في أواخــر العصور القـديمة، لأن الناس كانوا يطلقـون عليه أنه المسيح – خاصة وأنه كان مـوجـوداً في نفس الفترة التي عـاش فيها السيد المسيح.
وفي مطلع الـقـرن الثالث، حينما قـام الأديب فيلـوسترات Philostrate بكتابة تـاريـخ حـياة "أبـوللـونــيوس الطـواني" لم يشـك في النجاح الـذي كـان سيـلاقيه بطـله ولا المعنى الـذي اكتسبه بـشدة الشـبه بينه وبـين يسـوع. فـقـد كان يحـاول التعبـير من خـلاله عن الإنسان الحكيم المثالي، عن ذلك الإنسان الإلهي، المتقـشف، الصامت، والـذي كان يُعـلم الناس أن "تمجيد الله العلي لا يكـون بالأضاحي الـدامـية وإنما بنـقاء القـلب، كما كان معـروفاً عـنه أنـه لغـة الطـيور، مُـلـمّ بلغـات الكـون، عليم بأغــوار القـلوب والنبوءات وشـفاء النـاس ".
وظل الشعب حتى أواخـر القـرن الـثالث يـؤمـن بـأنـه كان المسيح، حتى في بيزنطة المسيحية نفـسها، كانوا يتـبركون بتعاويذ حـامية منسـوبة إلـيه.
ويـؤكـد إيمـانـويـل إيفـسينج (Emmanuel Evsing) في كتابه المعنون: "من سـيد العـدالة إلي يسـوع أو الـتاريـخ الـذي تـم تحــريـفه" (1979)، "أنه لا يمكن لأي شيء إثبـات أنه لا تـوجـد تـداخلات شـديـدة الوضوح بين الإثنين" (صفحة 59)، بل يـؤكد في الفصل الأول من كتابه "يسـوع" عــبارة عن خليط من وقـائع حياة سيد العـدالة لدى الآسينيين ويسوع، وأبـوللـونيـوس الطـواني". وهو ما اعتاد الآباء الأوائل عمله.
ويضيف بعـد ذلك قـائـلاً: "أن كافـة الإستـشهادات التي استعانت بها الكنيسة من سفـر إشعياء لتنسج به قـصة يسوع نبوءات بصيغة الماضي، أي أنها وقعـت وتمت، فكيف يمكنها أن تـنبئ عن المستـقبل؟".

سيلس (الـقرن الثاني) Celse

يُعـد كتاب "الخـطاب الحق" الـذي كتبه المُـفكر سيـلس حـوالي عام 178م. النقـد المنهجي الوحيد للمسيحية الـولـيدة في عصر الوثـنية. ولا يعـرف الكثيـر عـن حياته إلا أنه قـد سـافـر إلى كل مـن فـلسطين وفينـيقيا ومصر. وقـد أهــدى له الفيلسوف اليـوناني لوسيان دي سامـوزات (125-192) بحثه حــول "الِكسندر الأبـونـوطـيقي" عـام 180م، قـائـلاً: "إلي سيلس، إلى زميلي وصديـقي الـذي أُعجب به لحكمته، وحبه للحق، ودماثـة خلـقه، وصفاء حياته، وتـفـانـيه تـجاه كل مـن يعـرفـهم".
و "الخـطاب الحـق" هجـوم موضوعي شـديـد الـدقـة ضد المسيحية، بـلا تعصب ولا إجحاف، بل شـديـد الأمـانة والإخـلاص، فمن خـلال تحليل منطقي الوضوح يبرز سيلس كل تناقضات ذلك الـديـن الجـديد، وكلها تناقضات سـوف يتـناولها العلماء ورجال الدين المنشقين عن الكنيسة في هـجومهم عليها ابتداء من الـقرن السادس عشر، مع ما عُــرف باسم بـدايـة عصر التـنويـر.
ولا يعني ذلك أن سيلس كان مُلحـداً، بل على العكس من ذلك لقـد كان شـديد الإيمان بالله، بإله خـالق الكـون وكل الخـلائق، إله ليس كمثله شيء. وكان أكثر ما يهتم به هـو سلامة الـدولة، ومـن أهــم ما كان يتبينه آنـذاك أن "أي انتصار للمسيحية سيؤدي حتماً إلى انهيار في الوطنـية".
ونـُطالع في مـوسـوعـة أونيفـرساليس الفـرنسية أن كتاب "الخـطاب الحـق" قـد ضاع تماماً، وهـو ما يُـفهم منه أنه من النصوص التي أبادتها الأيـادي العابثة في الكنيسة الوليـدة آنــذاك. إلا أنه قـد أمكن استعادة تكـوينه من الــرد المطول والقـائم على الشرح والـتبريـر الـذي كتبه أوريغون، حـوالي عـام 248م، والـذي كان يستشهد جـزءاً من كتاب سيلس ليـرد عليه.
وتـقـول الموسـوعة "أن نقـد سيلس شـديـد القـوة عميق الفهم، وإن كان أسلـوبه يصل أحياناً إلى درجة من الحـدّة. وكان سيلس يـرى أن تعاليم المسيحيـين ليست إلا حماقات ولا أخـلاقـيات وأن أصل مـذهبهم هـمجي ولا يأتي بـأي جـديـد فكل ما تتكون منه المسيحية مـوجـود في الـديـانـات الـوثـنية التي تتـفوق عليها بالعمق الزمني، ونصوص الأنـاجـيل عبـارة عـن أسـاطـير فـظة ولا أسـاس لها من الصحة مثال الحمل العــذري، والمعجزات التي ليست سـوى ألاعيب من السحـر، وقصة البعث التي لـم تشهـدها سوى امرأة مشكوك في ذمـتها، وتجـسد الله في شكل إنسان هي خـرافة بحتة ولا يقبلها عـاقل، إذ أن عملية التجسد هـذه تقـتضي تغييراً في الله الـذي ليس كمثله شيء. كما كان سيلس ينـتقد عملية العفو التي يقـوم بها المسيح والقـساوسة من بعـده".
وقــد كـان سـيلس يــرى ان المـسيحية تـمثل خـطراً على أمـن الـدولة من حيث أن المسيحيين عبارة عن شرذمة من الـثوريين المتعـصبين الذيـن يعـيشون على هـامـش الـدولة ويحيكون أساطـير عـقيدتهم في الخــفاء، بل كان يــرى المسيحية كـنوع من الانحراف الـذي لا أسـاس ولا سـند تاريـخي له. وبعـد ستين عــاماً من تـــداول كتاب "الخـطاب الحـق" وزيـادة انتشاره، طلب القـس إمـبرواز من الفيلسوف أوريجـين (Origène) أن يفـند دعـواه بالتفـصيل. وأتى رد أوريجين بعـنوان "ضد سيـلس" في ثمـاني مجـلدات. وبفضل هـذه المجـلدات الثمانية عــرف العــالم ما كـتبه سيلس من نـقد شـديد للمسيحية الناشئة آنــذاك، بعد أن أبــادته الكنيسة.

ومما انتقده سيلس في تلك المسيحية النـاشـئة ما يـلي:

في الآونـة الأخيرة عثـر المسيحيون بين اليهود على موسى جـديد أغـراهم أكثر من الأول. ويقـولون عنه أنه ابن الله وأنه مـؤلف عـقيدتهم الجـديدة. وقـد جمع من حوله وبلا اختيار شرذمة من البسطاء الذين لا خـلق ولا خــلاق لهم، أفـظاظ عـادة ما يمثلون تلك الفئة الملتـفة حـول الدجـالين والمحتالين، بحيث إن أولئـك الذين تـقبلوا هـذه العقيدة يكشفـون عن مـدى الثـقة التي يمكن أن نضعها فيها.
أي إله وأي ابن إله ذلك الـذي لم يستطع أبـوه أن ينقذه من أكثر أنواع العذاب فضيحة، بل ولم يتمكن من إنقـاذ نفسه !
إذا كان عيسى يــود حقاً الإفصاح عن صفته كإله فكان يتعينّ عليه أن يظهر نفسه لأعــدائه (بعـد بعـثه) ، وللحاكم الـذي أدانه، وأن يُظهر نفسه للجميع، لأنه إذا ما كان قد اجتاز تجربة الموت، إضافة إلي كـونه ربنا كما يـزعمون، فما كان يجب عليه أن يخشى أحـداً، لأنه على ما يـبدو لم يُبعث لكي يخفي شخصيته !
إن من تطلقون عليه اسـم يسوع، لم يكن إلا رئيساً لعصابة من قطـّاع الطـرق والمتسكعين، ولم تكن المعجزات التي تنسبونها إليه إلا ظــواهر تتم بناء على معرفة بعض أنواع السحر والخـدع الغيـبية. والحقيقة أن هـذه الوقائع المزعـومة ليست سوى أساطير صنعـتموها بأنـفسكم دون حتى أن تنجحوا في إضفاء مسحة من المصداقية عليها، والجميع يعلمون أن ما كتبتموه هـو نتيجة للتعـديلات التي تمت بعد الانتقادات التي وجهت إليكم.
تـرى ما هــو الغرض من تجسد الله ونـزوله على الأرض كما تـزعمون؟ أهــو بهـدف أن يعرف ما يـدور بين الناس؟ لكن، أليس الله عليماً بكل شيء، أم أنه بعلمه كل شيء فـإن قــدرته الإلهية محـدودة ولا يمكنه إصلاح أي شيء إن لـم ينزل بنفسه أو أن يـرسل مـندوباً عـنه.
هـل يمكن لأي جسد بعد أن يتحلل أن يعـود إلى حالته الأولى؟ وإذ تخـرسهم الإجابة، لا يجد المسيحيون ما يقـولـونه سوى أن كل شيء ممكن بالنسبة لله. لكن الله الحـق لا يمكنه أن يفعـل شيئاً مُخـزياً ولا أن يطلب شيئاً منـافـياً للطبيعة.
وإذا ما كان النـقـد الـذي يوجهه سيلس للمسيحيين أو للمسيحية يـدخـل إجمـالاً في دائرة النقـد إلا أن هناك فـقرة تستوجب التوقـف والـدراسة لأهميتها بالنسبة لحياة يسوع. وفيها يــوجه سيلس الكـلام إلي يسوع مباشرة قـائـلاً: "لقـد بـدأت بأن اختلقت لنفسك نسباً مجيداً بـزعم أنك ولــدت من عــذراء. وفي الواقـع أن أصلك من كوخ متواضع في اليهودية، وابن ريفية مسكينه كانت تقــتات من عملها. وقـد وقعـت في الــزنا مع جندي روماني اسمه بانتيرا، وقـد طردها زوجها النجار (...) وسافـرت إلى مصر حيث رُحت تعمل بساعـديك بالأجــر، وهناك قــد تعلمت بعضاً من تلك الألعاب السحرية التي يجيدها المصريون، ثم عـدت إلى بلـدك مـزهـواً بالأعمال السحرية التي تجيدها وأعـلنت نفسك إلهاً ".
وبغض الطرف عما في هـذا النص من تجريح بالسيدة مــريـم – وإن كان لا يـزال الاتهام وارداً بالأنـاجـيل ولدى اليهود، فإن ما يستوقـف الانتباه هنا هـو ذهـاب يسوع إلي مصر وبقائه فيها فترة طـويلة وتعلمه الأعمال الخـارقة التي كان يجيدها العـديد من الكهنة المصريين القـدماء. إنها نقطة جـديـرة بالبحث والدراسة خاصة أن حياة يسوع من سن الثانية عشر حتى سن الثـلاثـين في غموض مُطلق ولا أحــد يعلم عنها أي شيء.
وفي كتاب للعـالم الفـرنسي لـويس روييه (Louis Rougier) بعنوان "الخـطاب الحـق ضد المسيحيـين" يـُشير إلى ظاهـرة لافته للنظر حـول أصول المسيحية الأولى والاهتمام الذي لا يكاد يـذكر الـذي أثـارته دعاية الديـانة الجـديـدة في المجتمع الوثني حتى النصف الثاني من القـرن الميلادي الثاني. موضحاً كيف أن اسم المسيح قـد تسلل خلسة في التاريخ العلماني، بأبجـدية خطأ في الكتاب الذي ألـفه سويتون عن "حياة أثنى عشر قيصراً" حيث يقـول المؤلف بمناسبة أحد أفعال كلوديـوس: "لـقد طرد من روما كل اليهود الذين كانوا في هيجان شعبي متواصل بسبب تحريض واحـد اسمه كرستوس.. (Chrestus)
وبعد ذلك بقليل، أيام نـيرون، يـورد كتاب حـوليـاتـه عبارة: "أنه قـد تـم فرض عقاب على المسيحيين، تلك الفئة من الرجال الذيـن يتبعون شعـوذة ديانة مـؤذية". ثـم يوضح لويس روجييه أن تاسيتوس وهـو يكتب بعـد ذلك بنصف قـرن عن الأحـداث التي يرويها وقبل سويتون، يعلـن أن نيرون، لكي يحـّد من الشائعات التي كانت تتـهمه بحـريق روما سنة 64م، قـدم بعض المتهمـين إلى المحاكمة ممن يطـلق عليهم العــوام عبـارة "مسيحـيون".
ويُـشير روجييه أن تاسيتوس يقـدم المسيحيين في كتاباته على أنها فـئة من أحط الطبقات وهم "مكـروهـون لـرجسه (Flagitio)، ومضطهدون لأنهم كانـوا يعترفون بذلك، والبعض الأخـر لأنهم كانـوا مقـتنعـين بعـدائهم للجنس البشري".
ومن الناحية التـاريخية، فـإن خطاب بليني، أيـام كان حاكماً لبلـدة بيـتاني (بيت عانيا)، والـذي أرسـله إلي الإمبـراطـور تــراجـان سنة112م، يُعــد أقـدم وثيـقة في النصوص العامة والمتعلـقة بالمسيحيين، وهي في نفس الوقت الشهادة الأقـل غموضاً عن النقص الشديد في المعلومات، وفي مطلع القـرن الثاني، وسط الطبقات المثـقـفة فـيما يتعلق بموضوع الطائفة الجـديـدة.
ويقول روجييه: "على الرغـم من أهميته الكبيرة، فإن كتاب سيلس قـد مــر وكأن أحـداً لم يلاحظه، فالمسيحيون في أواخر القرن الثاني ومطلع الثالث لا يتحدثون عنه أبداً، وعندما قام قسطنطين صبيحة مجمع نيـقية سنة 325م، ثم بعد ذلك بعام تقريباً، قـرر هـدم المعابـد الـوثـنية. وفي سنة 499، عندما قـام الإمبراطور المسيحي تيـودور الثاني ومن بعده فالنتـينيان الثالث بإصدار أمــر "بهــدم كل ما كان يمكنه إثارة الغضب الإلهي ويجرح النفـوس"، لم يـذكر كتاب سيلس مع أعمال بورفير وأريوس، ويمكننا تخمين أن النص الأصلي كان قـد ضاع منذ فترة طويلة "(صفحة31).
ثـم يُـشير إلى أن أوريجـين قـد كتب فيما بين 246 و249 ثمانية كتب لتفـنيد الكتب الأربعة التي كانت تتضمن النص الأصلي الذي كتـبه سيلس. وبفضل ردود أوريجــين، يقول روجييه: "أصبحنا بـذلك نمتـلك تسعة أعشار المادة الأصلية وعلى سبعة أعشار كلمات الكتاب الـذي خطه سيلس. وبفضل ذلك الــرد وحـده أمكننا استعادة النص الأصلي للكتاب".. ويـورد روجييه مـائة وسـتة عشر بنـداً من البـنود التي تمـثل إدانـة سيلـس للمسيحية والمسيحيين.
ومما قاله سيلس في مقـدمة كتابه، ويـرد تحت البند رقم 4 من كتاب روجييه :(…) "إن الذين يؤمنون بشيء دون أن يتـفحصوه ويـؤمنوا بكل ما يُـقال لهم، أشبه ما يكونـوا بأولئك البؤساء الـذين يقعون فريسة الدجالين، والذين ينساقون خلف كهنة الإله ميثرا أو سبازيـوس وعـبدة هـيكـانـت أو الألهة الأخـرى المشابهة، بـرؤوس تتـرنح من هـوسهم واحتيالهم. ونفس الشيء بالنسبة للمسيحيين، فما من واحـد منهم يـريـد تقـديم الأسباب التي دعتهم إلى ما تبنوه أو يسمعوا أي شيء. فهم يـرددون جميعاً وكأنهم على اتفاق: "لا تبحثوا شيئاً، عليكم بالإيمان، إن إيمانكم وحـده هـو الـذي سينقـذكم" (صفحة 38).

بــورفـــــــير (234 – حوالي 310) Porphyre
لعب بورفير دوراً هـاماً في تطـور الفكر في أواخـر العصور القـديمة وطوال العصور الوسطى، وعمله الضخم تـرك أثـراً واضحاً بين العـديد من المؤلفين اليـونانيين واللاتين والعـرب. إذ يتضمن كشف أعماله 77 عـنواناً تمتد أبحاثه خـلالها إلى أهـم الميـادين التي شغـلت عصره وهي القـواعد اللغوية، وعلم البـلاغة وعلم الفلك والرياضيات، والأساطير، والــدين، وتاريخ الفلسفة، وعلم الأخـلاق، والفيزياء، وما وراء الطبيعة، إضافة إلى قيامه بنشر أعمال أستاذه أفلوطين.
ومما يـؤسف له أن معظم أعماله قـد "ضاعت" لأنه قـد كتب بحثاً بعنوان: "ضد المسيحيين". وهـو نفس العنوان الـذي كان استخدمه سيلس فـقـد "قـام كلا من قسطنطين وفـالنـتينيان، وتـيودوز بحـرق كل الكـتابات التي يمكنها "أن تـُـثير غضب الــرب أو جرح شعــور الأرواح" (روجييه بترينييه، صفحة 175). وقـد هنأ الأب أغسطين السلطات التي تصدت لحماية أعماله التي تمجـد في المسيحية. أما جـريجوار الأعـظم فـقد أمـر بحـرق المكتبة العامة وأمـر بهـدم كل الكتب غـير الدينية، والمقصود بها الكتب التي تهـاجـم المسيحية ".
ويقول بـيـير هادوت (P. Hadot) في كتابه عن "بـورفـير وفـيلــتوريـنوس" : "إذا كانت المسيحية، مثلها مثل اليهودية ، ديانة تراثية لشعب معيّن، لأفرد لها بورفير مكاناً واسعاً في أعماله المتعـلقة بالــدين، لأنه يرى أنها تفـتـقر أي أساس تاريخي، ومع ذلك تـزعم المسيحية بأنها ديانة عالمية ومُطـلقة، ومن ناحية أخرى أنها تتضمن مفاهيم عبثية ولا عـقـلانية بالنسبة لله. لذلك فهو يـدينها من وجهة نظر الـديانات المعينة ومن وجهة نظر التصعيد الفلسفي".
ويقـول هــادوت في عرضه لكتاب بورفير والـوارد في موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (مجلـد18صفحة 741)،"إن الـديـانـة المسيحية ليست قـائمة على أي أساس تاريخي، وتحـاول أن تجـد لنفسها جـذوراً في الـتراث اليهودي، إلا أن المسيحيين لا يكـفون عن الاستحواذ على تـاريـخ الشعب اليهـودي والذي لا يحترم حتى تــراثه القـومي، ولا يـوجـد مطلقاً ما يـبرر هـذا الاستحواذ: فـالكتابات اليهودية لا شأن لها بالكتابات المسيحية. ومن ناحية أخـرى، لا يبقى أي شيء من كتابات مـوسى فـقـد احترقت كل أعماله مع المعبد (550 ق.م). وما بقي باسمه قـد تـم تـأليـفه بعد أكثر من ألـف عــام، ومن كتبه هـو الكاهن عــزرا. وكذلك كتاب دانــيال، فهو ليس من زمـن سـيرس، أنها نبوءات كتبت بعـد الأحــداث في وقت انطـيوقس إبيفان". ومن هنا نــرى كيف كان بورفير سباقاً فيما توصل إليه على مدرسة النقد التاريخي للنصوص المقـدسة.
كما كان ينتـقـد "أن الأصول التراثية المسيحية لا قيمة تاريخية لها لأن القصص الإنجيلية مليئة بالمـتناقضات وبعـدم التوافـق. وقـد قـام الحـواريـون بتحريـف تعاليم يسوع. وبالتالي فالمسيحية لا تـمتلك أصـالة تـراثها". ومن ناحية أخرى ينتـقد بورفير الفكرة التي لدى المسيحيين عن الله قـائلاً: "إن إلههم في نظـرهم عبارة عن طاغية له نـزوات متقلبة وغير متوقعة وقــد قــام وسوف يقــوم بأعمال عشوائية تماماً ومنها: خلـقه العـالم في لحظة ما، واختيار الشعب اليهودي، وفكـرة التجسد، والبعث، وأخيراً هــدم العـالم الذي قـام هـو بخلقه.. ثـم يـقول المسيحيون إن "الله قــادر على كل شيء"، إلا أنه لا يستطيع أن يجعلني أقتنع بأن إثنـين زائــد إثـنين يساوي مائتـين وليس أربعة"!
لذلك يتحـفظ بـورفير على ما طـالعه في الأنـاجـيل وينتـقـدها إجـمالاً قـائـلاً: "إن كـتبة الأناجيل هـم مؤلفو الأشياء التي يحكونها عن يسـوع وليسوا مؤرخوها". وكانت عباراته هـذه وكل ما ورد في كتابه "ضد المسيحيين" كافياً ليقوم الإمبراطور الروماني تيــودوز (379 – 395) بإصدار قـانـون "يعاقـب بالموت كل من يمتـلك كتاباً من أعمـال بورفــير".
ومما قاله بورفير حــول عملية صلب يسوع: "من الواضح أن هـذه القصة الملـفقة إما أنها خاصة بأكثر من مصلوب، أو أنها تتعلق بشخص لا يعـرف ولا يفهم من حــوله أي شيء عنه. وبما أن هــؤلاء القــوم، كـتبة الأناجيل، قـد عجزوا عن قـول حقيقة كيف مات ولم يكـتبوا سـوى اختلافات، فـذلك يعني أن كل ما كتبوه لا يـوجد فيه أي شيء يستحق ثـقتنا" ("يسوع ضد يسوع" صفحة 92).

المراجع:

Celse : Discours vrai contre les chrétiens, Liberté
Evsing, E. : La grande imposture du Maître de la Justice à Jésus, ou l'histoire falsifiée, Actus, 1979
Rougier, L. : La genèse des dogmes chrétiens, Albin Michel,1972
Peytrignet, R. : Jésus-Christ, Mythe ou personnage historique, Réflexions, 2002
Bernard, J. L. : Apollonius de Tyane et Jésus, Laffont, 1977
 



المسيحية والمؤرخون القدامى (4/4)


أتناول في هذا المقال الرابع والأخير في مبحث المسيحية والمؤرخون القدامى، الذي تناولت فيه المؤرخون اليهود، والوثنيون، واليونان، وأختتمه بالإمبراطور جوليان على أنه يمثل نقطة فارقه في تاريخ تلك العقيدة المنسوجة عبر المجامع على مر التاريخ، لنرى كيف أنه حتى منتصف القرن الرابع لم تكن المسيحية تحارب فحسب بل أنه لو لم يتم تدبير قتل الإمبراطور جوليان لأتى عليها في ذلك الوقت!
- الإمبراطــور جــوليـانL’Empereur Julien (331 -363)
أو جــوليـان المرتــد
لـقد امتد حـكم الإمبراطـور جـوليان 23شهراً من 361إلي 363، حـاول خـلالها تغيير نسق الـدولة تغـيراً جـذرياً، فـقد حـاول الابتعاد عن الاستبداد البيروقــراطي والعودة إلى بساطة الأبـاطرة القـدامى ووقـف عملية تنصير الإمـبراطورية، تلك العملية التي كان قد بـدأها قسطنطين وأولاده، والعـودة إلى الديـانة الـوثنية.
كان جوليان ابن شقيق قسطنطين الذي عـند وفـاته قــام أبنـاؤه الـثلاثـة باغتيال جميع أفراد هذا الفرع من الأسرة، ولم ينج سـوى جوليان وشقيقه جالوس لصغر سنهما، وفـُرض عليهما الدخول في سلك الرهبنة، وكان جــوليان في السادسة من العمر عنـدما شـاهـد هـذه المجزرة بعـينيه... ولعل كثرة ما رآه وعاصره من استبداد رجـال الدين المسيحي وجرائمهم هـو الـذي دفعه عـام 351 إلى الارتداد عن المسيحية والعـودة إلى الوثنية.
وإذا ما تـأملـنا تـاريـخ مـيلاده ووفاته، نرى أنه قــد ولــد بعــد أن قامت الأيادي العابثة في المؤسسة الكنسية بتأليه السيد المسيح بستة أعـوام، وتــوفي مقـتولاً قبل انعقاد مجمع القسطنطينية الذي تـم فيه إختلاق بـدعـة الـثالـوث بثمانية عشر عاماً. أي أنه عـاش ومات في فترة من أكثر الفترات شـراسة للكنيسة التي كانت تسعى بكل الوسائل لفرض واستتباب عـقائـدهـا.
وما أن تــولي جـوليـان الحكم حتى بـدأ باستبعاد الفاسـديـن من الوظائف العامة وأضعف شوكة البوليس السياسي وخفض الضرائب وأعــاد التسامح الديني وفتح المعابـد الوثنية وألغى امتيازات رجـال الـدين المسيحي. وقـد أصبح عـداءه للمسيحيين من الصرامة بحيث استبعدهم من كافة الوظائف العامة ومنعهم من ممارسة مهنة التعليم، فما كان من رجال الكنيسة إلا أن رتبـوا اغتياله في إحــدى المعارك الحربية التي خاضها ضد الفـرس، فـقام حارسه الشخصي بتنـفيذ عملية اغتياله.
ومن أهـم سمات الإمبراطور جولـيان اهتمامه بالـثقافة والفلسفة، ومن أشهر مؤلفاته كتاب بعنوان: "خطاب الإمبراطور جوليان ضد طائفة الجليليين". والواضح من العنوان أنه على الرغم من استحواذ المسيحيين على منافذ السلطة إلا أنهم كانوا حتى أيام الإمبراطور جوليان عبارة عن مُجرد "طائفة" من منطقة الجليل.
واحتفاظ التاريخ بالصفة التي فرضتها عليه الكنيسة: "جوليان المرتد"، لأكبر دليل على جبروت القهر والدسائس التي كانت تمارسها المؤسسة الكنسية ولا تزال.. فـقد قامت بحرق كل ما كان يُـدينها أو يتعارض معها أو يفضح مُخططاتها في كتابات جوليان، ولو لم يقـم الأسقـف سيريل – بعـد أربعين عاماً – بالـرد على كتاب جـوليان، والاستشهاد بالكثير من أجـزائه لما بقي منه أي أثــر في يـومنا هـذا.
وقد قام الماركيز دارجنس (1704 – 1771) D’Argens بترجمة ما تبقى من خطاب الإمبراطور جـوليان، بنـاء على طلب الإمبراطور فـريـدريـك الأعظم إمبراطور بروسيا، وذلك سنة 1768 .

ومما قاله الإمبراطور جوليـان في خطابه ضد المسيحيين النقاط التالية:

أيها الجليليون، إذا كان الله يـريـد ألا يُعبد سواه، وهي أولى الوصايا، لماذا تعبدون ذلك الابن المزعـوم الذي فـرضتموه عليه ؟(...).
لا يمكن القول بوضوح أكثر أن يسوع كان مُجرد إنسان... وقد تجرأتم عليه بالتدريج: فجعلتموه ممسوحاً، ثم مسيحياً ثم ابن الله، ثم الله! وهكذا استتب لكم كل شيء.. إن الخطوة الأولى عادة ما تكون مُـفـزعة، أما الخطوة الأخيرة فلا تكلف شيئاً (...).
أيها الجليليون، لقـد انشققتم عنا وانتقلتم كالهاربين من الخـدمة إلي مصاف اليهود. ويا ليتكم التزمتم بتعاليمهم واكتفيتم بإله واحـد ولم تنساقــوا إلى عبادة مُجرد إنسان بسيط كما تفعلون اليوم (...) لـقد تصرفتم كمصاصي الـدماء أخـذتم الـدم الفـاسـد وتـركتم الأكثر نقاء. ولم تبحثوا عما هـو طيب لـدي اليهود وإنما انصب كل اهتمامكم إلي تقليد طابعهم السيئ وغضبهم العـارم: فمثـلهم تماماً تقـومون بهدم المعابد والمذابح، وتقـومون بـذبح المسيحيين الذين تطــلقون عليهم اسم الهراطقة لأن لهم عـقائـد تختلف عن عقائدكم حـول ذلك اليهودي الذي قـتله اليهود، علماً بأن العقـائـد التي تساندونها فهي مُجرد هــراء وتخاريف قمتم بتـأليفها، لأن لا المسيح ولا بــولس قــد قـالـوا شيئاً حــول هــذا الموضوع، والسبب بسيط، إذ أنهما لم يتخـيلا أنكم ســوف تصلون إلي هـذه الــدرجة من السلطة التي وصلتـم إليها .
يسـوع الذي تبشرون به أيها الجليليون كان من رعـايا قـيصر، وسوف أدلل لكم على ذلك، ألا تقـولون أنه هـو وأمه وأبيه قـد دخـلوا ضمن تعـداد سيرينيوس ؟ (ومن الواضح أن باقي النص قـد تـم حـذفـه حتى من كتاب الأسقـف سيـريل الذي كان يفـند اتهامه).. لأن فأروس Varus هــو الـذي كان يحكم ســوريا آنـذاك وليس سيـرينيوس.
إن ارتيادكم مـدارس معلـمينا وفـلاسفـتنا تجعل أي فـرد منكم من أصل مـشّرف يتخلى فــوراً عن عـقـائـدكم المتعصبة (...).
إنكم تهــدمـون ديـانـات كـل الأمـم الأخـرى خاصة الذين يتمسكون بعبادة إله واحـد. وقـد تخليـتم عـن عـقائـدكم القـديمة لتختاروا بين كل العـقائد ما يناسب كل الحـقراء من كافة الشعوب أمثالكم وأمثال أصحاب الحـانات وجامعوا الضرائب والمهرجون وأشباههم (...).
لقد نسبتم إلي عيسى ابـن مـريـم بـلا أي أساس من الصحة أقــوال موسى الخاصة بيسوع حين قـال: "يقيم لك الـرب إلهك نبياً من وسطك من أخـوتك، مثلي، له تسمعون" (تـثنـية 15:18) (...) إنكم تبـدّلـون وتحرفـون في الآيات وفـقاً لهـواكم. ولا يوجـد هنا شيء متعلق بيسوع فـلـم يكن من ســلالة يهـوذا بما إنكم لا تـريـدونـه أن يكـون ابن يـوسف النجار، وتـُصرون على أن الـروح القـدس هـو الـذي أنجـبه! وقـد حـاولتم إيجاد نسب له من يهـوذا لكنـكم فشلتم فأناجـيلكم تتـناقض ومتى ولـوقـا يتعارضان في شجرة النسب التي يـوردانها. وحتى إذا افترضنا جــدلاً أن يسوع أميـر من سـلالة يهوذا، فـذلك لا يعني أنه "إله من إله" كما تـزعمون، وكل ما هـو وارد في سفـر العـدد متعلق بـداود وسـلالته لأن داود كان ابـن يسي (...).
إذا كانت الكلمة هي الله، مُـنبثـقة من الله كما تقـولـون، وأنه من نفس كيان الله، كيف إذن تطلـقون على مـريـم أم الله؟ وكيف لها أن تـلـد إلهاً وهي بشر مثـلنا؟
لقد حاولت أن أوضح لكم أنكم بعد أن انسلختم عنا وقبلـتم دين اليهود ثـم تخليتم عن كل شعائرهم (...) وقمتم بـتأليف نوع جديد من الأضاحي ولستم بحاجة إلي القدس، لماذا لا تـذبحون الأضاحي مثـل اليهود الذين انشققتم عنهم؟
إنكم من قلة العقل بحيث لا تتبعـون حتى التعاليم التي أتى بها الحـواريون، إذ أن أول خليفة لهم قـد غيرها وبـدّلها بـلا تــورع أو حياء، فـلا بولس ولا متى ولا لوقا أو مرقس قــد جــرؤ أحدهم على القـول إن يسوع هـو الله. (ومن الواضح هنا أنه حتى القرن الرابع لم يكن تأليه المسيح قد أ ُدخل على نصوص الأناجيل)! لكن عندما علم يوحنا أنه في بعض اليونان وإيطاليا كثير من أفراد الشعب قد سقطوا في هذا الخطأ (أي أنهم راحوا يؤلــّـهون أو يقبلون تألـّـيه المسيح الـذي تـم سنة 325) تجرأ يوحنا لدرجة القول بأن يسوع هـو الله. وراح يكتب أن الكلمة تجسدت وسكنت فينا. لكن لم يجرؤ على تفسير بأي وسيلة لأنه لم يـذكر عبارة يسوع أو المسيح حينما يتكلم عن الله والكلمة. أنه يحاول أن يخـدعـنا بصورة ملـتوية غير واضحة وبالتـدريـج! (...) .
إن يوحنا يعـتبر أول مؤلف للشر ومنبع الأخطاء الجديدة التي أقـمتموها بإضافة العـديد من الإضافات الأخـرى إلى بـدعـة اليهودي المتوفي الـذي تعبدونه (...)
ألم يأمـر يسوع قـائـلاً: "لا تظنوا أني جئت لأنـقض النامـوس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمّـل" (متى: 17:5) وبعـدها بقـليل يُضيف قـائـلاً: "فمن نقض إحـدى هـذه الوصايا الصغرى وعلــّم الناس هـكذا يـدعى أصغر في ملكوت السماوات" (19:5). وبما أن يسوع قـد أمـر تحديداً بالالتزام بالشرع وأنه حــدد العـقـوبات بمخالفته وتعليم سواه، وهـا أنتم أيها الجليليون وقـد نـقضـتم كل بنود الشـرع، أي حجة يمكنكم تـقديمها تبريراً لذلك؟ فـلا يـوجـد سـوى أحـد أمـريـن: إما يسوع يكذب ولا يـقول الحق، وإما إنكم مخالفـون للشرع غــدّارون".
ويـورد الباحث لويس بـرنـار (L. Bernard) في كتابه عـن "أبـوللـونيـوس الطـواني ويسـوع" (1977) تـوضيحاً لـوفـاة الإمبراطـور جـولـيان، إذ يقول: "إن الإمبراطور جوليان، الذي ألصق به المسيحيون عبارة "المرتد"، في القرن الرابع، قـد توفى في الحرب إذ قتله أحـد جنود الفـرس، وليس خيال يسوع كما يـزعـم المسيحيون الـذين وضعوا على لسانه أنه قـال وهـو يحتضر "لقـد انتصرت أيها الجلـيلي".. لكن المنـتصر دائماً ما يُـعيد كتـابة التـاريـخ وفـقاً لهـواه، وعـلينا أن نتذكر دوماً أنه طــوال الـقرون الوسطى، كان الرهـبان وحـدهـم هـم حفظة التراث اليـونـاني – الـروماني الـذي أنقـذوه وهـم يبـدّلون ويعـدّلـون فيـه (صفحة 17).
ويا لها من صـورة جد مـريـرة مُهينه تـلك التي تـصاحب تكـوين الـديـانة المسيحية منـذ نشأتها، وقد رأينا عبر كل أولئك المؤرخون المشهود لهم في التاريخ، أن المسيحية الأولى وهي تتكون أطاح مؤسسوها بكل الوثائق الأخرى التي تدينها ولم يحتفظوا إلا بكل ما يتفق وما ينسجون..

المراجع:

Bernard, J. L. : Apollonius de Tyane et Jésus, R. Laffont 1977
Rougier, L. : La genèse des dogmes chrétiens, Albin Michel, 1972
Julien, l'Empereur : Discours contre les chrétiens, Frederic Voss, 1768

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط