اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/zainab/43.htm?print_it=1

الجمهورية الفرنسية والحجاب
(تلخيص الكتاب)
بقلم عمر مازرى
و زينب عبد العزيز

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


يقع الكتاب فى أربعمائة صفحة ويتكون من تمهيد ومقدمة وواحد وعشرين فصلا متفاوتى الطول وخاتمة ، يليها عدة ملاحق تتضمن استطلاعا للرأى حول الحجاب ، وبعض الآراء والتعليقات التى قيلت حوله ، وبعض الصور التاريخية والأثرية التى تثبت أن الحجاب وارد كتشريع أخلاقى فى جميع الأديان والمجتمعات ، وتنتهى الملاحق بمشروع القرار البرلمانى توطئة لسن قانون خلال شهر مارس القادم لتحريم إرتداء النقاب رغم مخالفته القانون.

ويتناول التمهيد الحملة الأولى لتحريم الحجاب فى فرنسا عام 2003 بقيادة جاك شيراك ، الرئيس الفرنسى الأسبق. وما يرمى إليه هذا التمهيد هو توضيح أن الحملة الحالية لإقتلاع النقاب تتبع نفس الخطوات السابقة حتى وإن اختلفت الأسماء ، تماما مثلما يحدث فى الفاتيكان حينما يتم وضع تخطيط ما ثم يتوارث البابوات عملية تنفيذه .. ففى 13/1/2010 خاطب السيد ساركوزى ، الرئيس الحالى لفرنسا، مؤسساته التشريعية والتنفيذية معربا عن أمانيه فى أن يتولى البرلمان الفرنسى سن قرارا بتحريم النقاب ليتم تحويله إلى قانون فيما بعد ، شريطة أن يكون " قراراً صريحا وبلا مواربة"، ثم واصل قائلا : "ويجب بعد ذلك إستخلاص النتائج من هذا القرار من وجهة نظر نص قانون يتمشى مع الموقف" ، وذلك " لأن النقاب غير مرحب به فى فرنسا لأنه يناقض قيمنا". وقد تمادى ساركوزى أكثر من الرئيس السابق موضحا : " أن يكون ذلك بمثابة حل يسمح بالحصول على أكبر عدد من الأصوات".

وهو نفس الموقف الذى أعرب عنه رئيس وزراءه فى ديسمبر الماضى حين أعلن عن ضرورة صياغة قانونا بهذا الصدد. وتوالت المقالات والملفات واللقاءات الرسمية بصورة تتسم باللامعقولية والتحيّز لمنع النقاب مثلما تم منع الحجاب "فى مواجهة تصاعد الأصولية الإسلامية" كما يزعمون. لذلك كان لا بد من توضيح وضع الحجاب فى الرسالات التوحيدية الثلاث :

إن الحجاب الإسلامي ليس «علامة دينية مجاهرة» ولا فريضة عبادية أو دينية كما يزعمون لإستبعاده .. إنه فريضة أخلاقية, متعلقة بحياء المرأة وحشمة مظهرها ، ومنصوص عليه في الديانات التوحيدية الثلاث:

العهد القديم: يقول يهوا عن بنات صهيون المتشامخات: « ينزع الرب في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب والسلاسل والمناطق وحناجر الشمامات والأحراز والخواتم وخزائم الأنف والثياب المزخرفة والعطف والاردية والأكياس والمرائي والقمصان والعمائم والأزر» ( إشعياء 3: 18-23).
« ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا ? فقال العبد: هو سيدي فأخذت البرقع وتغطت» ( التكوين 24: 64- 65).
« فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلفعت وجلست (...) ثم قامت ومضت وخلعت عنها برقعها ولبست ثياب ترملها» (قصة يهوذا وتامار, التكوين 38: 14 -19
ومن الواضح أن البراقع والعصائب والعمائم كانت تستخدم لتغطية الرأس وهي عادة موجودة في معظم الحضارات, وأي يهودي ملتزم بتعاليم دينه فى يومنا هذا, يحق له تطليق زوجته إذا ما خرجت من المنزل عارية الرأس.

العهد الجديد: يقول القديس بولس: « إذ المرأة ان كانت لا تتغطي فليقص شعرها. وإن كان قبيحا بالمرأة ان تقص أو تحلق فلتتغط» (الرسالة الأولي إلي أهل كورنثوس 11:6).
وحتي مطلع القرن العشرين, كان خروج المرأة عارية الرأس يعد سُبّة, في فرنسا, أو علي الأقل كان يعد خروجا علي التقاليد والأعراف (راجع قاموس روبير الكبير)

القرآن الكريم: نطالع فيه: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهنَّ} [النور: 31].
وانطلاقا من واقع ان الحجاب شائع ومستخدم بالفعل فى الرسالتين التوحيديتين السابقتين ، فإن الإسلام لم يقم إلا بتحديد تغطية الرقبة وفتحة الصدر. أي ما معناه مزيدًا من الوقار, مزيدًا من الحشمة, وعدم الاستهتار أو التبرج . وإذا ما كانت الفرنسيات المسيحيات قد ابتعدن عن تعاليم دينهن, فذلك لا يعني ان يتم فرض نفس التصرف علي الفرنسيات المسلمات, خاصة وأن الاستثناء وارد الاستخدام . ففي السابع من شهر مايو 2003 نشرت مجلة لوكانار أنشينيه (أي البطة المكبلة بالأصفاد) انه تم رفع حظر « ضرورة رفع الحجاب» في صور البطاقات الشخصية بالنسبة للراهبة أدالبرتا, ونفس الاستثناء ممنوح - في المجال الدبلوماسي- للمسلمات اللائي يمثلن بلدانهن في فرنسا. والحوار العادل لا يقر مبدأ الكيل بمكيالين.

وكان السيد ساركوزى قد أعرب أيام زيارة الرئيس أوباما لفرنسا فى شهر يونيو الماضى قائلا بوضوح : "إن النقاب غير مرحب به فى أراضى الجمهورية الفرنسية". وبعد ذلك بخمسة أشهر أضاف "إن فرنسا بلد لا مكان فيه للنقاب ولا لإستعباد المرأة". وهى عبارة تستدعى التساؤل حول وضع المرأة الفرنسية فى كافة الميادين الإنفلاتية المشهورة بها، بينما الإسلام يحرّم الإتجار بالجسد بشتى أنواعه ويفرض الحياء فى التعامل وفى المساواة بين الرجل والمرأة فيما عدا الميراث والشهادة ، وهاذان الإستثناءان مشروح سببهما بآيات واضحة.

فالميراث فى الإسلام يتضمن 32 حالة للإرث ، لا ترث فيها المرأة فقط نصف نصيب الرجل ، وإنما أحيانا تتساوى معه أو ترث أكثر منه وأحيانا هى ترث وهو لا يحق له الميراث ، وذلك وفقا لحالة النسب فى هذا الميراث. ففى الشرع الإسلامى تكون المرأة عادة تحت المسئولية الشرعية للرجل سواء أكان الأب ، الأخ ، الزوج ، الإبن ، العم أو الخال. وهو ما يغفله المستشرقون أو من يقومون بالتعريف بالإسلام من رجال الكنيسة. والنصيب الذى تحصل عليه المرأة ليست ملزمة بتقديم أية بيانات عنه ويمكنها التصرف فيه فى أعمال الخير كما تشاء.

فالحجاب فرض أخلاقى وليس فرضا دينيا ولا يقع تحت مسمى "المظاهر الدينية الإستعراضية" التى حددها الرئيس الفرنسى ، وإنما هو إحتشام فى المظهر العام ويختلف تماما عن الفروض الدينية التى هى أركان الإسلام الخمسة. وإن عملية فرض تشريع يحتم على المسلمات الفرنسيات مخالفة أحكام دينهم يخالف قوانين الجمهورية الفرنسية كما يخالف قوانين حقوق الإنسان ويمس بقانون حرية التعليم الإجبارية فى فرنسا ، كما يخل بمبدأ العلمانية الذى تتبعه الدولة بشعاراتها الثلاثة : الحرية والمساواة والأخاء. أما النقاب فقد اختلف المفسرون فى تحديد قانونه والإجماع أنه مزيد من التطوع فى الطاعة والإلتزام.

وتتناول المقدمة مهزلة سن مثل هذا القانون المخالف للقانون ، وشغل أجهزة الدولة ومؤسساتها من أجل 367 نقابا فى الجمهورية بأسرها، وذلك وفقا لإحصائية قامت بها جريدة لوموند وأكدها وزير الداخلية. فالوضع برمته ليس إلا تكرار لنفس ما تم أيام منع الحجاب ومحاربة الأقليات المسلمة التى حطت رحالها أساسا فى فرنسا نتيجة لإستعمار الجزائر واستجلاب آيادى عاملة رخيصة التكلفة والأجر لإعادة إعمار الغرب الصليبى خاصة بعد ويلات الحرب العالمية الثانية.
وحيث أن القرآن الكريم يحذرنا من المنافقين ويفسر لنا من هم المؤمنون ، فقد تناول الباحثان الرد على هذه الحملة باسلوب يتفق مع ذلك المنظر الساخر لجمهورية تجند كافة أجهزتها ووسائل إعلامها لتنطلق فى حرب صليبية جديدة ظاهرها محاربة قطعة نسيج ، أيا كان المسمى الذى يُطلق عليها ، حرب هى اللامعقول بعينه شكلا لكنها تندرج فى الواقع فى نطاق الحرب التى يشنها الفاتيكان ضد الإسلام وقراره تنصير العالم ، ذلك القرار الذى تقوم الدول الغربية المسيحية فى التعاون على تنفيذه بصور مختلفة. فتزايد الخوف المعلن من الإسلام قد اتضحت معالمه مع هجمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومسألة منع تشييد المآذن ، ورفض إنضمام تركيا للإتحاد الأوروبى ، وخاصة فى محاولة تصنيع "إسلام فرنسى" لإعادة تصديره للبلدان الإسلاميه لكى تتبعه.

وفى خضم الصراع ضد الإسلام حاربوا رداء الحشمة واختلقوا قضية "الهوية الفرنسية" لإستبعاد المسلمين الذين عاونوا فرنسا فى حربها ضد النازية وفى إعادة تشييدها وإعمارها بعد الحرب. وهكذا ترد فرنسا الجميل للمسلمين الذين جلبتهم من مستعمراتها ، أو إسهام المسلمين طوال عشرة قرون من الحضارة ، باستبعاد المنظر الذى يذكرها بالإسلام : المرأة المسلمة المحجبة !

وتتوالى الفصول فى مساحات متفاوتة تتناسب مع لا معقولية الموضوع ، وتحت مسميات متنوعة للرمز والرموز والرمزية لتوضيح أن أهم ما رمت إليه الحملة الأولى على الحجاب كانت متعلقة أساساً بالمدارس، و كان المقصود منها حرمان الفتاة المسلمة المتمسكة بتعاليم دينها من التعليم ، لكى لا تحصل على شهادات تؤهلها إلى الوظيفة وإلى التدرج الوظيفى فى الدولة والوصول إلى المناصب القيادية. وقد عمل اللوبى الصهيونى بكل طاقته فى هذه المعركة لأن الشباب المسلم تبنى القضية الفلسطينية ونظم المظاهرات السلمية التى تشهد بصحوة إسلامية وسياسية من أجل القضايا العادلة. وذلك لأن الإختلاف حول مسألة الحجاب تسمح بالسيطرة لمنع أية مظاهرات مساندة للقضية الفلسطينية والعراق وأفغانستان.

وأهم ما تكشف عنه هذه الحملة هو العداء المستحكم لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة ومحاولة دهسه أو طمس معالمه من الساحة بعد أن يلصقوا به عبارة "إسلامى إرهابى" . وهو ما تم بالنسبة للحجاب منذ بضعة سنوات و يدور الآن بالنسبة للنقاب والمأذن وغيرها. واللافت للنظر أن أى قضية فى المجتمع تحال للقضاء الذى يتناول الموضوع من كل جوانبه ويتم تثبيت الحكم أو تغييره وفقا لكافة الظروف مجتمعة. أما هنا ، فى موضوع الحجاب والنقاب ، فقد تولت أجهزة الدولة الموضوع من جانب واحد ، هو وجهة نظرها هى ، لتفرضه على المجتمع بأسره وحرمان الفتيات المسلمات من التعليم بينما تقوم نفس هذه الدولة بتخفيف الأحكام على مرتكبى الجرائم بالبحث عن مخارج لهم فى ثغرات القانون. الأمر الذى يكشف عن تعنت مسبق وعدم عدالة واضحة ، إذ لا يتم إتخاذ نفس الموقف مع من ترتدى الصليب الذى هو فعلا "علامة دينية مجاهرة" ، بمعنى انه إشارة مباشرة للمسيحية و رمز دينى بحت إذ لا يمكن لغير المسيحية أن ترتديه. كما لا يوجد أى منطق لهذا التعسف حيال طالبة تتسم بالحياء بينما تقوم الدولة بترك من يمارسن الإستعراض الجسدى والإنفلات والعلاقات غير الشرعية على أنها حرية شخصية !!

كما لا يحق لأحد الصحافيين مثلا أن يقوم فى أحد البرامج التليفزيونية باستجواب سيدة محجبة عن الغرض من إرتدائها الحجاب وعما تخفيه من وراء ذلك وكأنه أحد رجال البوليس ! فكل ذلك يندرج تحت بند الضغط الإعلامى على العقول. وهذا الضغط مقصود به أساسا المرأة المسلمة فى المجتمع الغربى وخاصة ذلك الشباب الواعد من الفتيات اللائى يجدن التحدث ويساهمن فى الحياة السياسية والإجتماعية ، لأنهن بمثابة قوة مناضلة دفاعا عن الإسلام والمسلمين وعن القضية الفلسطينية. فقطعة النسيج هذه ليست هى المقصودة وإنما الإسلام ودوره الفعال فى الضواحى الفرنسية الذى بات مختلفا عن تلك الصورة العشوائية لشباب يلقى الحجارة ويشعل الحرائق.

إن شرع الله سبحانه وتعالى عدل واضح وهو ينزل بعقاب الإضمحلال والضياع بالأمم والشعوب والحضارات ما أن تبتعد عن شرعه أو تنجرف إلى عدم طاعته أو تمس بحقوق مخلوقاته التى خلقها حرة وعليها أن تعيش حرة لتواصل رسالتها كخليفة لله على الأرض. والظلم والكفر البواح والغرور والإنفلات الأخلاقى وعدم الإكتراث تعد العلامات الرئيسية المؤدية إلى إضمحلال هذه الحضارات وضياعها. ولنا فى القرآن الكريم مثلا فى سورة الكهف ، فى قصة رجلين يمتلك كل منهما حديقة ، إحداهما مثمرة منتجة والأخرى متواضعة ، وأجرم الثرى بنكرانه جميل صنع الله وعدم الإعتراف بفضله عليه ونسب لنفسه ثراء حديقته. ودار الحوار بين الرجلين ليكشف عن الفرق بين عدم الإكتراث بفضل الله وبين الإيمان الصادق. والحضارات لا تنتهى دوما بالكوارث الطبيعية وإنما قد تضيع بقلة إنتاجها وأزماتها الإجتماعية وقياداتها غير الحكيمة أو الفاسدة ، فيضيع رخاءها وتضيع مكانتها بل ووجودها.

والأمة التى تنساق نخبتها إلى ملزات الدنيا والتى يضيع شعبها فى اللهو والكسل والإبتعاد عن الدين والإيمان تفقد القدرة على قيادة الشعوب الأخرى. إذ ان من أهم سمات الأمة المتحضرة هى حمل مشعل العدل والتعبير عن عرفانها بالجميل لكل ما أنعم الله به عليها. أما حينما تصبح السلطة إستبدادية فعليها أن تترك المكان لقيادة رشيدة عملا بتناوب الخيرو الشر فالمؤمن والكافر بنعم الله لا يمكنهما أن يبقيا معا أو أن يتجاورا دون أن يُؤذى المؤمن فى إيمانه. فالسلطة يمنحها الله للشعوب والأمم كمحنة لإختبارهم فى الدفاع عن الحق والعدل وحقوق الكرامة الإنسانية.

إن حضارة الأندلس ، وفقا للقانون الإلهى لتعاقب الحضارات ، لم تفقد طابعها الإسلامى إلا بعد أن أعطت أوروبا كل معارفها الثقافية والعلمية. وقد استطاع عصر النهضة فى الغرب التعبير عن مواهبه على أنقاض الأندلس المسلمة التى ورث عنها الفنون والرياضيات والمؤسسات وعلوم الطب والفلك والشعر والإقتصاد والفلسفة والآداب. وقام الغرب باضفاء معالم التراث العربى الإسلامى بالتلاعب فى رموزه وتحويل الأسماء العربية إلى اللاتينية التى استعار منها علومها وقام فى نفس الوقت بنسبها إلى إيطاليا بأن أسند إليها عصر النهضة لإلغاء الصلة الإسبانية المسلمة التى تربطه بالعرب و المسلمين وليؤكد إنتمائه للعالم اللاتينى متمثلا فى روما ثم فى الفاتيكان. ويحتفظ التاريخ بهذه الحقائق إضافة إلى إضطهاضهم للمسلمين والعرب والعمل على طردهم من إسبانيا وملاحقتهم.

وفى خضم هذه الأحداث المتواصلة لمطاردة الحجاب او النقاب ، الذى هو فى واقع الأمر ليس إلا استمرار لمحاولة إقتلاع الوجود الإسلامى ، فيجب على المرأة المسلمة أن تتمسك به أمام تلك الروح الإستعمارية ،ليس من قبيل التمسك بتعاليم دينها الأخلاقية فحسب ، وإنما للعمل على وقف من يتبارون لإقتلاع الإسلام ورموزه وقهر الفتيات وإجبارهن على خلعه لحرمانهن من التعليم. فالتلاعب بالرمز ومعانى الثياب وحشمة الحجاب لا يمثل خطرا فحسب وإنما هو بمثابة عنصرية واضطهاد. وإذا كان القرآن الكريم ينص على أنه لا إكراه فى الدين ، فكيف نسمح بأن يكون هناك إكراه مفروض على أحد الرموز الأخلاقية أو الإحتشام فى الوقت الذى لا تمثل فيه أى مساس بالأمن العام والأخلاق العامة للدولة.

وقد أوضح الكاتبان كيف قامت فرنسا بإسم "التعايش معا" الذى يحدد معالم الهوية الوطنية لتحصرها فى "رمز مجاهر للإسلام" بدلا من أن تجعل منه رمزا عالميا للوقار والحشمة ومن أجل التعايش معا. ومع إفتقارهم الى مشروع حضارى تقوم وسائل الإعلام والنسق السياسى للدولة بالغرق فى متاهة قطعة نسيج بدلا من النقاش حول القضايا الأساسة ومنها الحرية والتفاعلات السياسية والإقتصادية والثقافية التى تؤدى إلى تكوين المجتمع الوطنى والتفاعلات الشفافة بين أعضاء الأمة. وقد تعمد الكاتبان أن يكون الأسلوب ساخرا بقدر السخرية الكامنة فى الموقف برمته ، متخذين من رمزية الوان العلم الفرنسى مجالا لتوضيح الخلط الذى وقع فيه منتقدوا مجاب الحشمة لتوضيح أن اطروحتهم ينقصها الأمانة والحياء !

وقد ازداد اللغط فى الصحافة الفرنسية خاصة وتداخلت المعانى والرموز حتى بات المرء لا يدرك هل هى دولة تحارب الزى أم العلامات الدينية أم الدين نفسه ؟. بل لقد وصل الخلط إلى عدم التمييز بين الزى والدين وهل إرتداء الحجاب هو فرض دينى أم أخلاقى أو قهر من الزوج أم حرية شخصية ؟ هل هى حرب ضد حرية الضمير والعقيدة ، الذى هو أمر مقدس لديهم فى العلمانية ، أم أنها ضد من يتهمن العلمانية بارتدائهن الحجاب ؟ ويتزايد الخلط الإعلامى .. وحيال هذا الخلط لا بد وأن نتساءل حول تلك الرغبة فى السيطرة والإصرار عليها فى مسيرة طويلة ممتدة هى المساس بمكانة المرأة المسلمة ووجودها فى فرنسا. وهنا لا بد من التساؤل : لماذا ترفض فرنسا التعددية الثقافية والدينية ولماذا تجبر الفتيات على خلع الحجاب وعلى إنكار تعاليم دينهم الأخلاقية وحرمانها من التعليم ؟

والحقيقة التى يصعب إنكارها والمتمثلة فى تلك المحاولة الصريحة هى الرغبة فى إزاحة الطابع الإسلامى لفتيات يقمن بمظاهرات لمساندة فلسطين المحتلة أو لإنتقاد المعايير غير العادلة للدولة.
والشباب المسلم المقيم فى فرنسا يعلم تماما أن مهمة التعليم هناك لا تقوم بتعليمهم القرآن والسنّة ، وإنما يقع ذلك على عاتق الأسرة وإمام المسجد. كما يعلمون أن القانون الفرنسى يجعل من التعليم حقا لهم وان مهمة المعلم ألا يرفت فتاة ترتدى الحجاب أو أن يقبل شابا يرتدى الطاقية الهيودية. إن مهمته تعليمية تربوية إذ تقع عليه مسؤلية أن يحبب الطلبة والطالبات حب العلم والمعرفة والتطلع إلى مزيد من التحصيل حتى يمكنهم خدمة الدولة والمجتمع الذى يعيشون فيه. لذلك يتعيّن على وزير التعليم الذى أصدر قرار حرمان المحجبات أن يعيد نظر فى هذا القرار العنصرى . فقد كان من الأصوب أن يتفق مع وزير الصحة ووزير الداخلية ليجد الحلول المناسبة واللازمة لحماية المجتمع الفرنسى من العنف والمخدرات والجرائم. لأن الفعل الرمزى حين يتحول إلى معركة ضد خصمٍ ما عليه أن يعيد نظره فى كافة الرموز ويقارنها. فالمقارنة تعاون على عدم إلقاء الجيران بالحجارة حينما يكون مسكننا من زجاج.

كما نتوجه بلومنا إلى النخبة المسلمة فى فرنسا التى آثرت الصمت أو التواطؤ إن لم تقم صراحة بإدانة الحجاب أو النقاب والمطالبة بخلعه.. إن الإسلام لا يبحث عن الإنفصال والعزلة وإنما يهدف إلى الترابط والتواصل بين البشر لأن الإسلام دين متكامل البنيان ، يتناول الحياة فى الدارين ، أنه رسالة متكاملة الجوانب والأركان ولا يمكن تقسيمها أو تزويرها أو تحريفها. والقرآن الكريم شامل التعاليم ومتعدد المعانى بلا أى تناقض فى تحديده لمختلف جوانب المجتمع والأسرة وحياة الفرد وعلاقته بربه.

إن كل معركة تقوم على الرموز تخفى وراءها صراع فكرى معيّن ، لأن الهدف هو الإستحواذ على الرمز والتلاعب به لفرض قراءة مختلفة عن مضمونه وعن ثقافته و يرمى إلى فرض وجهة النظر الواحدة المتحكمة. والواضح أنه ما أن يتعلق الأمر بالإسلام حتى بفقد الغرب عقله ومقاييسه ولا يعد الموضوع يتعلق بالتعددية والمعايشة السلمية والأخوة ، وإنما إلى كراهية وعداء. فالمساواة الحقيقية أو الواقعية تعنى تقديم فرص متساوية بنفس الضمانات فى الإستماع إلى المطالب أو الشكوة ، ونفس الحماية القانونية والقضائية والإجتماعية ، وبالتالى إيجاد السبيل إلى نفس الرغبة فى الإنتماء ونفس النتائج حيال نفس المجهود المبذول. فلا يمكننا التحدث عن المساواة دون الإعتراف بحق الإختلاف و إلا ستتحول المساواة التى تفرضها الدولة إلى مساواة أفراد الشعب فى شئ واحد وفكر واحد وبرنامج تعليمى واحد. وهو ما يتناقض مع الحرية التى لا يمكنها تقبل أن تقحم الدولة نفسها فى كل شئ حتى العقائد !

وبعد تناول مختلف الأوجه التى يثيرها الحجاب بأشكاله وأنواعه ، مروراً بمختلف المشاكل التى يثيرها برموزه ومسمياتها ، لتوضيح سخف الموقف المفتعل المثار حول رداء الحشمة أو حول ذلك الفرض الأخلاقى ، تتناول الخاتمة ذلك الإعلان الرسمى الذى ينص أو يطالب بسن قانون يمنع النقاب وتحديد غرامة قدرها 750 يورو لمن ترتديه ، وحرمانها من المساعدات الإجتماعية وفرض عقوبات تصل إلى السجن والحرمان من الجنسية الفرنسية ، بل لقد تمت مطالبة رؤساء المجلس الإسلامى " ان تكون لهم مواقفهم الحاسمة فى منعه ، إذ يجب أن يتمشى الإسلام مع الجمهورية الفرنسية" ! الأمر الذى يذكرنا بكبير المبشرين القس زويمر الذى قال فى مطلع القرن العشرين ، حينما رأى ثبات الإسلام ورسوخه فى أعماق المسلمين ، أنه لن يقتلع الإسلام إلا أيدى مسلمة من الداخل.. وكل هذه العمليات الملتوية تتفادى صياغة نص صريح يحرمه القانون الدستورى وقانون حقوق الإنسان بل وقانون الإتحاد الأوروبى.

إلا أن الهدف من وراء ذلك هو تلك الرغبة الملحة فى تغيير الإسلام وتغيير القرآن الكريم ، وذلك ليس بأيدى المسئولين المسيحيين وإنما بأيدى بعض المسلمين الذين يقبلون المساس بدينهم موالاة للدولة وانحياذاتها الصليبية. وهو مطلب ليس بجديد فقد نادى به جاك بيرك صراحة من قبل فى المقدمة التى ذيّل بها ترجمته لمعانى القرآن الكريم وكثيرون غيره ، وأخيرا طالب بها الأب هنرى بولاد ، مدير مدرسة العائلة المقدسة بالقاهرة ، فى حديث مسجل يتم نشره على الإنترنت وموجه للحكومة الفرنسية يطالبها فيه بتغيير الدستور لمحاصرة الإسلام و فى نفس الوقت يطالب بتغيير الإسلام ليتمشى مع متطلبات العصر ، وإلا سنصل إلى مواجة حتمية على حد زعمه.

وهذه المواجهة تقوم بها المؤسسات الفرنسية من خلال محاربتها الحجاب بدلا من أن تحمّلها إسم "حرب دينية" جديدة. وقبل الرد على تسييس الحجاب أو النقاب تتناول الخاتمة قضية توضيح ان الحجاب لم يكن خاصا بالرسالات التوحيدية الثلاث ، وإنما هو موجود من قبلها. إذ نطالع فى قانون حامورابى أنه ينص على فرض الحجاب على المرأة المتزوجة إحتراما لتمييزها عن الفتيات. والحضارات الأكثر قربا منا كانت تلتزم به حياء وحشمة أيضا. وذلك يعنى أن القرآن الكريم لم يأت ببدعة مفذعة أو جديدة أو حتى أنها قاصرة على الإسلام ، بما أن الحجاب منصوص عليه فى اليهودية وفى المسيحية وفيما قبلهما.

والقرآن الكريم لم يحدد زيا بعينه للمرأة وإنما نص على حدود له بألا يوضح معلم الجسد وألا يلتصق به وألا يشف. فالمرأة يمكنها أن تختار ماتشاء فى حدود هذه التعاليم الثلاثة التى تصونها وتحافظ على مظهرها و كيانها فى المجتمع. فلا يوجد ما تود الحكومة الفرنسية فرضه بقلب معنى الحشمة والإحتشام إلى عبارة "الزى الإسلامى الإستفذاذى" لكى تحاربه. بدليل أن الزى العربى يختلف عن الزى الجزائرى الذى يختلف بدوره عن الزى الإيرانى مثلا. وكلها أزياء تعتمد على الحشمة والوقار وتتمشى مع البيئة التى هى فيها.

وحينما سألوا النبى عليه الصلاة والسلام عما يُسمح به أن يظهر من المرأة فى الحج أشار قائلا : "الوجه والكفين". فتلك هى حدود الدين ، ومن تبغى التطوع بالمزيد فى الطاعة وتغطى وجهها فلا يجب أن يكون ذلك سببا لقيام حرب لمحاصرة الإسلام والمسلمين.

وما يتعيّن على المسلمين وخاصة الأقليات المسلمة فى أى دولة مسيحية أن تسعى لتكوين نخب تمثلها فى تلك البلدان ، وأن تتناول مهامها وقضاياها وألا تسمح بتنازلات تمس الدين والعقيدة. إذ ان أكبر مشكلة تواجه الإسلام حاليا سواء فى الغرب أو فى بلدانه الأصلية هى تلك الفئة التى تسارع إلى موالاة الإنحرافات السياسية وتقديم التنازلات على حساب الدين. كما يجب عليها عدم الإنسياق فى تيارات الحداثة وما بعدها زعما فى التقرب او فى التحضر.

فالمشكلة الحقيقية فى واقع الأمر هى أن الإسلام هو البديل الوحيد المنطقى والمتجانس ضد العولمة والإستبداد والتحريف الذى تم فى الرسالتين السابقتين ، والقيادات الغربية بأنواعها تعرف ذلك جيدا.. جميعهم يعرفون ذلك إلا عامة المسلمين ، وخاصة ذلك العدد من المسلمين الذين يتنازلون عن دينهم وتعاليمه الواضحة تقربا وحبا فى السلطة والمال حتى بات الإسلام والمسلمون يوصفون ويوصمون بالتخلف وبالفساد.

إن المشكلة ليست فى الزى أو فى قطعة نسيج أيا كانت وإنما فى واقع المسلمين الذين ابتعدوا عن القيام بدورهم فى الشهادة لله وفى تحمل مسئولية دور الخلفاء له فى الأرض لإعمارها والمساهمة فى الرقى الحضارى وفقا للتعاليم التى أنزلها المولى عز وجل ، والدفاع عن فلسطين وعن التحرر الوطنى من السيطرات الغربية الصليبية والإستعمار المقنّع الذى يسعى سراً وعلانية لإقتلاع الإسلام ، كما ابتعدوا عن المساهمة الفعالة فى تشييد الوطن واللإلتزام بتعاليم الدين للإسهام فى بناء تاريخ الإنسانية تمسكا بالجوهر وليس جريا وراء المظاهر.

لقد ادنّا الحملة المنسقة والمفتعلة فى حقيقتها على الحجاب والنقاب لكل ما تخفيه وراءها من معارك حقيقية لا بد من الإلتفات لها بصدق وصلابة دفاعا عن كياننا وعن الدين. فالهدف الحقيقى من وراء هذه الحملة المتلفعة بالحجاب والنقاب هو الوجود الإسلامى نفسه فى الغرب ، ذلك الوجود الذى سبق لهم واقتلعوه أيام الأندلس وطردهم او تقتيلهم للمسلمين. ليتنا نفيق من تقاعصنا ونخرج من ذلك الجمود الذى تقوقعنا فيه جريا وراء الشكليات والتفاهات ونتمسك بجوهر الدين وتعاليمه دفاعا عنه فذلك هو ما سوف نُسأل عنه يوم الحساب.

والكتاب الذى يُعد يمثابة جولة موضوعية ساخرة من خلال لعبة الوان الجمهورية الفرنسية يبدأ بعبارة للشاعر الفرنسى لامارتين يقول فيها : " إننى من لون اولئك الذين يتم إضطهادهم " .. وينتهى بعبارة :
" أن القدرة على التمييز تسمح بأن نجعل من قطعة نسيج ناصعة ، أو من تصرّف أومن إقتراح لقانون أو من مجرد ورقة بيضاء ، على حد قول ميشيل سيريس ، أن تكون فى آن واحد كل الألوان مجتمعة أو غياب الألوان. فكل الألوان مجتمعة يمكنها ان تعطى اللون الأسود الكالح ، أو أن تكون باقة متراصة من الألوان على باليتّة الفنان و جاهزة لأن تعبر بفرشاته المبدعة عن أجمل جدارية إنسانية وإجتماعية ".

17 / 2 / 2010

 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط