اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/fatwa/sahm/77.htm?print_it=1

لهيب أسواق المال

وليد المغامسي

 
قام بربط حبل في اصل مروحة غرفته ، ثم قام بلف الحبل على رقبته ، كما تلتف الحية الرقطاء على فريستها ، وهو يقف على كرسيه ، الذي طالما جلس عليه وهو متسمر أمام شاشة حاسوبه ، يتابع بشغف مؤشر السوق ، الذي أوصله الى هذه الحالة الكارثية ، فما هي إلا لحظات بعد أن أزاح الكرسي برجليه ، إذ بجسمه يتدلى في الغرفة وإذ برقبته تنعقف الى الأمام ، واذ بلسانه يخرج من فمه طريحا على شفته ، معلنا خروج روحه من جسده ، وإذ بعينيه تجحظ وتحكي عن صولات وجولات في عالم الأسهم ، اغلبها مأساوي
وثان أصيب بجلطة دماغية - حمانا الله وإياكم - عندما راء الشاشة تتشحط في دمائها ، بل في دماء أمواله التي وصل نهاره بليله في سبيل تحصيلها .
وثالث ضربته نوبة قلبية مفاجئة ، فأحالته جثة هامدة لا حراك فيها ، عندما راء أمواله التي اقترضها من البنك ، ورهن في سبيلها مستقبله ومستقبل أسرته ، أصابها إعصار فيه اختلاس فاحترقت .
ورابع سالت روحه على جنبه حسرات وأهات ، عندما أخطره البنك انه سيل محفظته ، وان رصيده الذي كان يعد بعشرات الملايين ، أصبح بضعة من الألوف ، فنزل من قمة موجة كان يعد فيها من الأثرياء ، الى قاع موجة أصبح فيها من أهل الزكاة .
وخامس رهن مشاعره ومشاعر ابنائه ومن حوله بلونين تعرفونهما جيدا فإن كسيا سهمه بحلة خضراء بلون الربيع ، رايته فرحانا جذلا ، امنا مطمئنا ، كانما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، وان كانت الأخرى التي تعرفون ، رايت في وجهه غمة البؤس ، وفي عينيه حمرة الموت بحمرة سهمه ، فكأنما قد فقد كل احبابه بل وكل اصدقائه وجيرانه وفصيلته وعشيرته .
وسادس وسابع وثامن الى اخر تلك السلسلة الطويلة من المصائب والمأسي ، التي لا تخفى عليكم ، حتى انك لا تكاد تجد بيتا ، أو أسرة ،إلا وقد اصابها شيئا من حرها وقرها ، وتلوثت بشيء من دنسها وحرامها ، وتمثل فينا قول الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [التغابن14-15]. وقول نبيه صلى الله عليه وسلم((إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) . وقوله ((يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال ))
وحتى أكون صريحا مع نفسي ومعكم ، لا أجد سببا لهذه المصائب التي حلت بمجتمعنا ، وذلك فيما استطيع أن أتحدث عنه ، إلا الجري واللهث في طلب الدنيا ،والتسابق المحموم في تحصيل المال بأيسر الطرق وأسهلها ، والتنافس المذموم في القفز الى عالم المال والثراء بأسرع الوسائل الشرعية ، والغير شرعية،المنطقية والغير منطقية ، حتى أصبحنا كالفراش والجنادب التي راءت نارا مستوقد في ظلمت الليل المدلهم ، فظنت أنها تباشير الإصباح ، فألقت نفسها في أجيجها ، فاصطلت بلهيبها ، وماهو بلهيبها ، ولكنه لهيب الطمع ، واحترقت بأوارها وماهو بأوارها ، ولكنه أوار الجشع .
فعلت ذلك دونما تبصر أو تفكر ، ودونما إصغاء لتحذير العقلاء على قلتهم ، والذين كثيرا ما حذروا من نتائج هذا الإندفاع الأهوج ، ومن أثار هذا الإقدام الغير محسوب .
وهذا هو حال أسواق المال ، فإن المتاجرة فيها مخاطرة ما بعدها مخاطرة ،والإستثمار بها مع الجهل ، كغالب بني قومي شبيه بالإنتحار ، بل انه من أسباب إهلاك الحرث والنسل ، وحلول والدمار ، وعامل من عوامل البوار السريع في لمح البصر ، و الإفقار المدقع بين غمضة عين وانتباهتها ،
قد يقول احدكم انك تبالغ كثيرا ،وأن هناك من حقق ثروات كبيرة ، اقول له كم نسبة هؤلاء الذين حققوا الثروات الهائلة ، الى الذين سرقت اموالهم من امام اعينهم وهم يؤملون ، الأحصاءات العالمية تقول ان 10 بالمئة في اسواق المال يربحون ، و90 بالمئة يخسرون ، ثم كيف ربح اغلب هؤولاء الرابحون ، الا بالغش والتدليس غالبا ، ومعرفة الأخبار وبث الأشاعات كثيرا ، وعقد الصفقات خلف الكواليس دائما ، ضد المساكين الذين يسمون بالقطيع ، وليس للقطيع الى التسمين ثم الأكل ، وهذا كله يحصل في جميع اسواق العالم ، على تفاوت بينهم في النصب والاحتيال ، ثم إنني أقول أيضا ألا توجد الكثير والكثير من الشركات ، أسعار أسهمها لا تعكس قيمتها الحقيقية ، ألا توجد شركات بلغ سعر السهم الواحد فيها200 ريال ، وهي تقوم مشكورة مأجورة بتوزيع نصف ريال على السهم الواحد ، كأرباح سنوية ، أي انك تسترد رأس مالك المستثمر فيها خلال 400 سنة فقط ، فقولوا لي بلله عليكم أي تجارة هذه ؟ ، وأي تلاعب هذا ؟، وأي إهدار للأموال والأوقات يحدث ؟ ، وأي اختلاس وسرقة للأموال تتكرر ؟ ،بل اين عقول من يشترون مثل هذه الأسهم ؟ ، أقول لكم إن عقولهم مأسورة بالحلم الزائف بالكنز الموعود ، والجنة الوارفة ، والراحة الدائمة ، الذي يعد به منافقي المنتديات المنتشرة انتشار السوس ، وأبواق القنوات المستأجرة ،ويصدقه المساكين الذين يفرون من الفقر ، ألا في الفقر سقطوا ،بل إنه التنافس المسعور في الدنيا ، الذي حذرنا من نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم .

أخرج البخاري بسنده عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها ، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة ، فوافوا صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف تعرضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : ( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء ) . قالوا : أجل يا رسول الله ،وكانوا فقراء لايجدون قوت يومهم ، قال : ( فأبشروا وأملوا ما يسركم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم ) وفي رواية عند مسلم ( وتلهيكم كما ألهتهم )
نعم أيه الإخوة الكرام :نبينا لم يخش علينا الفقر الذي نفر منه فرارا من الأسد ونحن والله في نعمة عظيمة ، تحتاج الى شكر ، ولكنه خشيا علينا من هذا التنافس الأزعر على الدنيا ، الذي بتنا نحسه ونلمسه بل ونراه راي العين في مجتمعنا ، ووالله إن الحرص الشديد على الرزق ، لن يقدمه ، ولن يؤخره ، ولن يزيد فيه ، ولن ينقص منه .

وليس الرزق عن طلب حثيث *** ولكن ألقِ دلوك في الدلاء

ورزقك ورزقي مكتوب جرى به القلم ، قبل أن يجعل الله هذه الأرض فراشا ، وهذه السماء بناء ، فعلى رسلي ورسلك ، فلنجمل في الطلب ، ولنقنع بما كتبه الله لنا ، فإن القناعة والرضا بما كتبه الله علينا ، من خير ما اوتيه الإنسان .

أفادتني القناعة كل عز *** وهل عز أعز من القناعة
فصيّرها لنفسك رأس مال *** وصيّر بعدها التقوى بضاعة
تحز ربحا وتغنى عن بخيل *** وتنعم في الجنان بصبر ساعة

ويقول ابن القيم -رحمه الله- الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العابدين ، وقرة عيون المشتاقين ... ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ الله صدره غنى وأمناً ، وفرَّغ قلبه لمحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، ومن فاته حظه من الرضا ، امتلأ قلبه بضدِ ذلك ، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه

إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا **** عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية *** على الناس تخفى والبلايا مواهب

ولنصبر على ما كتبه الله علينا ، فإن الصبر على أقدار الله من علامة الفلاح في الدنيا والآخرة ، : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ))

وإنني أرجو ألا يظن ظان ،أنني أزهد في التجارة وطلب المال وتحصيله ، حاشا أن يكون ذلك مقصدي ، فإن المتتبع لشريعة الإسلام في كتاب الله وسنة نبيه يرى حثا على تحصيل المال الصالح الحلال ، وأنه قوام الحياة، ويرى ندبا على حسن تدبيره وتثميره ،يقول نبينا صلى الله عليه وسلم ((ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))
وقال: "ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" و قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إن كان خرج يسعى على وُلده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان".بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عمل في التجارة مع خديجة ، وشارك بعض الصحابة في المتاجرة ، يقول السائب بن أبي السائب _رضي الله عنه_ قال: "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ شريكي، وكان خير شريك، لا يداري ولا يماري )

إذا نحن لا نحذر من طلب المال ، ولا نزهد في استثماره وتنميته ، وإنما نحذر من إلقائه ، في أتون محرقة أسواق المال ، دون علم ولا دراية ، نحن نحث الناس على الاستثمار الحقيقي، والذي يتمثل في الإنتاج الصناعي ، والتطوير التقني والمعرفي وما يتبعه من خدمات ،وتأسيس بنية صناعية تقنية معرفية قوية ، داخل وطننا الغالي على قلوبنا ، تساهم في تطوير البلد ، والرقي به إلى مصاف الدول المتطورة ، وحمايته من طوارق المستقبل الذي لا يبشر بخير ، وتساهم في تشغيل وتثمير الأموال الفائضة عن حاجة الناس ، والتي تكدست عبر قنطرة المتاجرة في الأسهم ، في يدي ثلة قليلة من الناس ، فتكرست الطبقية المقيتة ، وطلت علينا الرأس مالية بوجهها الكالح ،

ومن أراد إلا أن يستثمر أمواله في أسواق المال ،وأن يتعامل بأصفار رقمية تصنعها الدوائر الكهربائية في شاشات التداول ، فعليه أن يتقى الله في ماله ، فيجنبه الحرام والمختلط من الأسهم والمعاملات ، وما أكثر الحرام والمختلط فيها ، وعليه أن يتسلح بالعلم والمعرفة ،وأن يتترس باليقظة وبعد النظر، وأن يتمنطق بالصبر وسعة الصدر والقناعة ، والكلام في هذا الباب يطول .

وختاما أقول لكل من يخاف عوادي الأيام ، ومفاجئة الأقدار بالفقر ، إن ذلك مكتوب على جبينك كما يقولون ، ولن يغني حذر من قدر ، فأجمل في الطلب ،
وإن كنت تظن أن الفقر في الدنيا عيبا ومنقصة ومذلة فنبيك كان فقيرا وعزيزا , تقول عائشة رضي الله عنها – ((ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير))
وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: ((أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي؟ يعنى الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نثريه فنعجنه)) واعلم إن الفقر الحقيقي هو فقر الآخرة يوم (يودُ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ{11} وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ{12} وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ{13} وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ

 

الأسهم المالية

  • قائمة الشركات
  • دراسات في الأسهم
  • فتاوى الأسهم
  • معاملات معاصرة
  • فتاوى شرعية
  • صفحة المعاملات