اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/female/0230.htm?print_it=1

فقه المرأة في الخطاب النسوي السعودي

ملاك إبراهيم الجهني


بسم الله الرحمن الرحيم
 (1-2)


المراقب للاتجاه النسوي السعودي يلحظ تطورا في تناوله لقضايا المرأة، فلم تعد المقالة الصحفية ولا الرواية مجالاته المعبرة عن رؤيته لتلك القضايا، فقد اقتحم مؤخرا ميدان الدراسات الفكرية لإشباع المسائل المتعلقة بالمرأة طرحا ومعالجة.

واتجه للفقه الحنبلي ليعرض تصوره الخاص بالمرأة من خلال الأحكام المتعلقة بها في الأبواب المعنية ببحثها.

ومن المسائل الفقهية التي استعرضتها الكتابات النسوية مسألة (كفن الزوجة) في كتاب (الروض المربع شرح زاد المستقنع)للشيخ منصور البهوتي-رحمه الله- حيث لم يوجب المؤلف على الزوج دفع قيمة كفن زوجته، فنوقشت المسألة نسويا بوصفها طرحا عاريا عن الأخلاق لا متحيزا ضد المرأة وحسب، فقد تم تناولها من قبل مؤلفتين نقلت إحداهما عن الأخرى دون أن تكلف الأخيرة نفسها عناء مراجعة المسألة من مصدرها القريب وفقًا لما تقتضيه أبسط قواعد البحث العلمي، أما المنقول عنها فقد عرضت رأي الشيخ البهوتي دون أن تذكر ماقام عليه الحكم الذي ذكره الشيخ في المسألة من أدلة موضوعية لم يستند الحكم فيها لفراغ، أي لمجرد الهوى والتشهي، بل أتبعته بقولها: "مالذي جعل الدين في عقول البعض يصبح بهذه الصورة؟ والمفاهيم التي يقال أنها تمثل الإسلام، كيف تم تحريفها لتخرج لنا بعض الكتب وتصور لنا علاقة الرجل بزوجته علاقة جسد فقط؟ وهل يطيق الأسوياء من الرجال هذه العلاقة؟...لاشك أن هذا لا ينطبق على الرجال ولكن ينطبق على الشواذ منهم، أما ذوو الطبائع السوية فنفوسهم تسمو بهم عن هذه البهيمية، إن التعامل الكريم واللباقة واللطف صفات يتوجب على المسلم التعامل بها مع كل الناس فمابالنا برفيقة الدرب! وقد نظلم الحيوان إذا ألصقنا هذا التصرف بالبهائم، إذ أن كثيرا من الطيور وبعض الحيوانات لاترى العلاقة بين الذكر والأنثى كما يراها صاحب الكتاب السابق ومؤيدوه"(1).

ولئن كانت صاحبة هذا الكلام لم تُلزم نفسها ابتداء بشرط المنهجية، فالناقلة التزمت به وقدمت كتابها بهذه الصفة وأضافت لما نقلت كلاما مرسلا يُوسع دائرة الاتهام لتشمل جمهور الفقهاء وينص على أن هذا هو المذهب عند المالكية والحنابلة وبعض الحنفية دون إحالات توثق مقولاتها، ثم تساءلت:"كيف يمكن لمن يملك الحد الأدنى من إنسانيته، أو من يملك القدرة على إعمال عقله أن يقبل بمثل هذه الأقوال؟"(2)
.

ومن المعلوم أن زاد المستقنع هو أشهر المتون الفقهية عند الحنابلة، وشرح الشيخ البهوتي للزاد رغم شهرته وكونه من أهم كتب المذهب المتأخرة والمعتمدة لدى العلماء، إلا أنه ليس الشرح الوحيد للزاد، إذ له عدد من الشروح.

والغريب أن كلتا المؤلفتين وبرغم تناولهما لموضوعات المرأة في الشأن السعودي لم ترجعا لأشهر شروحات زاد المستقنع في السعودية ألا وهو(الشرح الممتع)لابن عثيمين-رحمه الله-رغم حداثة إصدار مؤلفيهما إذ صدر الأول عن الدار العربية للعلوم في(2007)م، بينما صدر الآخر عن دار مدارك في سبتمبر (2011) أي منذ عدة أشهر فقط، والتفسير المطروح لهذا الموقف هو عدم وجود بغيتهما في الشرح الممتع، مما يلغي القيمة العلمية لهذا الشرح بالنسبة لهما، إذ يُفقدهما الدعامة التي بُنيت عليها أطروحتيهما الإصلاحيتين!

وعلى جنبات الكتابات النسوية لن تُعدم كُتّابا من نفس الاتجاه يدعمون التعبئة ضد الفقه الحنبلي ومشائخه المعتبرين في المملكة كذلك، فمن حين لآخر تُستخرج أقوال لأولئك المشائخ وتعرض بطريقة تصور تحامل الحنابلة على المرأة، فقبل فترة نبش أحدهم تراث الشيخ ابن ابراهيم-رحمه الله-وأخرج وثيقة مصورة لفتوى من فتاوى الشيخ غير المطبوعة موشومة بمثل هذا، وعُرضت وكأنها إحدى وصايا الشيخ للتأليب على المرأة أو أن فتواه هي من شكّل الرأي العام السعودي تجاهها !

إن ممالا خلاف فيه أن التراث الفقهي الحنبلي ليس بالمقدس، وهو حكم ينسحب على التراث بعامة، فالأحكام الفقهية اجتهادات تتبع الدليل وتؤسس عليه، وتتفاوت قوة وضعفًا وقربًا وبُعدًا عنه، والفقه بناء موضوعي لا يقبل قولا ليس له مستمسكٌ من حجة، راجحا كان أو مرجوحا، وما عرِي عن هذه الصفة مطرحٌ ولا عبرة به في عرف الفقهاء، وخزانة الفقه ملأى بما هو ضعيف وشاذ وساقط من الآراء في مختلف الأبواب الفقهية لا في باب بعينه، مثلما هي زاخرة بخلاف ما ذكر، ولم يعب ذلك الفقه أو يؤثر في حجية أحكامه.

كما أن كثرة الأحاديث الواهية والمنكرة والموضوعة لم تعب السنة النبوية أو تؤثر في حجيتها،
وكذا ما كان من الآراء الفقهية مصطبغا بآثار اجتماعية تجاه المرأة لا ينقص من قدر الفقه أو يطعن في مقاصد الفقهاء،
كما أنه لم يُترك بلا تعقيب واستدراك.


فللفقه خاصية التطهير الذاتي التي هي خاصية المنهج السلفي الشاملة لأصول الدين وفروعه.

وهذه الخاصية طالما حررت الفقه من نير آراء الرجال أو التعصب المذهبي وأعطته القدرة على التجدد والتصفية المستمرة.


كما أن الفقه ليس منفصلا عن الأخلاق، كما تذكر النسويات والدكتور طارق السويدان وغيرهم، لكنه محددُ مجال البحث كما هو الحال في العقيدة والفرائض، وغيرها من التخصصات الشرعية وغير الشرعية، فالفقه لا يبحث في الكليات ولا يتناول أصول الأخلاق، كما هو معلوم بل يهتم بالأحكام التفصيلية المتعلقة بالحلال والحرام مما يتصل بعمل بالمكلف، وحين يتعلق البحث بالواجب أي ما لا تبرأ ذمة المكلف إلا بفعله، فليس بالضرورة أن يحضر الحكم الأخلاقي في المتن نفسه.

والاقتصار على ذكر الواجب، لا يضاد الأخلاق ولا يتنافى مع الأخذ بها فالإحسان مثلا من أسمى الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام، ومن فعل الواجب وأحسن فقد جمع بين الحسنيين، وهكذا هو الحال في مسألة كفن المرأة، لا تجب على الزوج قيمة الكفن لكنه مأمور في الجملة بالإحسان، فلا تعارض إذن بين الحكم الفقهي والأخلاقي في هذه المسألة لكن الحديث في المسألة المنتقدة وأضرابها عن الواجب وما زاد عن ذلك فمرغبٌ فيه ومثابٌ عليه بلا شك، هذا على القول بعدم وجوب قيمة الكفن على الزوج وإلا فهناك من قال بوجوبها عليه، وممن قال بهذا من العلماء المعاصرين ابن سعدي وابن عثيمين-رحمهما الله-، إذ رجّح ابن عثيمين قولالجمهورفي المسألة، وأجاب ابن سعدي -رحمه الله- في الفتاوى الجامعة للمرأة المسلمة على سؤال عن كفن الزوجة بقوله: "الصحيحأنه يجب على الزوج كفن امرأته موسرة كانت أو معسرة، وهو من النفقة، ومن المعاشرة بالمعروف"(3)
.

والخلاف يرجع لما يقع عليه عقد النكاح بحسب ماهو مذكور في المسألة المعتضدة بالأدلة
-بغض النظر عن صوابية استنباطهم أو فهمهم رحمهم الله للدليل-، ولم ينبني الخلاف بالأساس على نظرة الفقيه الشخصية أو النظرة الاجتماعية للمرأة، رغم تأثير مثل هذه النظرة في آراء بعض الفقهاء فالتأثر بالبيئة الاجتماعية وارد لكنه تأثرٌ تلقائي وعارض أي ليس متعمدا، كرأي ابن الجوزي-رحمه الله- الذي أورده صاحب الحاشية على الروض الشيخ عبدالرحمن بن قاسم النجدي-رحمه الله -في عشرة الرجل لزوجته حيث يوصي ابن الجوزي-رحمه الله-الرجل بأن يكتم أسراره عن زوجته، وهو رأيٌ لايتفق مع ما ورد في سيرته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، لكن اقتناص هذا الرأي وحده لابن الجوزي مثلا وجعله عنوانا لرؤيته العامة للمرأة وعرضه بمعزل عن بقية آرائه المتعلقة بها ابتسارٌ ومجافاة للعدل، فقد ذكر رحمه الله في مشيخته ثلاث نسوة سمع منهن الحديث، سمّاهن وأثنى على كل واحدة منهن خيرا، ولو كان رحمه الله يزدري النساء لكتم خبر أخذه العلم عنهن فضلا عن أن يثني عليهن، وهل العلم إلا مؤشر على سمو العقل!ومن يطالع سير بنات العلماء يجد العناية بالمرأة نفسا وعقلا لا جسدا فقط كما تصور النسويات، فقد أعلن الحافظ الذهبي رحمه الله تحسره على مافاته من السماع من إحدى عالمات عصره، وترجم ابن الجرزي-رحمه الله-لابنته سلمى وذكر ما جمعته من العلوم رحمها الله وأنها كانت تنظم بالعربية والفارسية، ولو كان لا يرى المرأة إلا جسدا لأعدها لذلك فقط، أو لوكلها لفطرتها، ولما اعتنى بتعليمها علوما لا تحتاجها ربة المنزل كعلم القراءات واللغة والعروض، ولاكتفى بتعليمها القدر الواجب عليها معرفته لأداء الفرائض كفقه الطهارة ونحوه ولما علّمها الكتابة وتركها تنظم الشعر لئلا ينحرف سلوكها لفساد طبعها الأنثوي !

لكنها مآثرُ خير تُسقِط دعاوى التمييز وتضيق بها صدور النسويات ومن حذا حذوهن ..

ومن أقرب الأمثلة الدالة على موضوعية البناء الفقهي ونزاهة الفقهاء ودورانهم مع الدليل حيث دار، ما ذكره ابن عثيمين-رحمه الله- في شرحه لكتاب الطهارة من زاد المستقنع في مسألة وضوء الرجل بفضل طهور المرأة، وكان الفقهاء قد ذكروا شروطا سبعة لعدم صحة وضوء الرجل بفضل المرأة مستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة)، فذكر الشيخ رحمه الله أن للحديث تتمة وهي قوله صلى الله عليه وسلم:( ولا تغتسل المرأة بفضل طهور الرجل)، وعليه فالحكم يشمل الاثنين لورود الحديث في كليهما ولا ينبغي أن يختص بالمرأة، فقال رحمه الله:
"ومن غرائب العلم: أنهم استدلُّوا به على أن الرجل لا يتوضأ بفضل المرأة، ولم يستدلوا به على أن المرأة لا تتوضأ بفضل الرجل وقالوا:يجوز أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، فما دام الدليل واحدا، والحكم واحدا والحديث مقسَّمًا تقسيمًا، فما بالنا نأخذ بقسم، ولا نأخذ بالقسم الثاني؛ مع العلم بأن القسم الثاني قد ورد في السُّنَّة ما يدل على جوازه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضل ميمونة ولم يرد في القسم الأول ما يدل على جواز أن تغتسل المرأة بفضل الرَّجل، وهذه غريبة ثانية" (4) .

فقال رحمه الله: (هذا من غرائب العلم )، ولم يقل من تحيزات الفقهاء وظلمهم وشططهم، ولو كان التحيزُ مألوفا أو مُطردا لما عبر عنه الشيخ بالغرابة، مما يدل على مخالفة الحكم الوارد في المسألة للمألوف المطرد في المسائل العلمية وهذا ما تقتضيه الموضوعية التي هي سمة العلم المميزة له عن الآراء الذاتية والتوجهات الأيديولوجية، مع أن البعض ينفي هذه الغرابة ويرد الأخذ بهذا القسم من الحديث لفعل الصحابة رضي الله عنهم، وعلى أية حال فما ذكر مجرد نموذج دال، وليس ابن عثيمين-رحمه الله-بدعا من العلماء، فلكثير من المشائخ مواقف علمية كهذه تبع فيها العالم الدليل وأدّى واجب البيان وإن خالف مشائخ المذهب، فالسلطة للدليل والدليل فقط.

وفي موقف الشيخين ابن سعدي وابن عثيمين رحمهما الله صورة من صور الإصلاح الصادق، تتجلى فيها أخلاقيات الخلاف الإسلامية دون أن يؤثر ذلك على الموضوعية أو يقلل من الصرامة المنهجية التي لم تمنع الشيخين من التصريح بقولهما في المسألة.

إن النظرة للفقه من هذا المنطلق توقف الدارس على مزايا الفقه وفضائل الفقهاء لاخطاياهم، كما توقفه على عظمة الدليل وتعظيمه في قلوب كثير منهم،
ويبدو فيه الفرق شاسعا بين الإصلاح الصادق، والتنوير النسوي والتنويري في(المناهج، والتعبيرات، والمواقف).

كما يتوصل الدارس للفقه أن ما ذُكر من آراء نقمتها النسويات على الفقهاء ضد المرأة ليس سوى قشة في ركام التراث الضخم، وهي في واقع الأمر آراء معدودة يستند عامتها لمستندات موضوعية، وقد عرضت بإزاء آراء أخرى في المذهب نفسه، لا منفردة كما تعرضها المؤلفات النسوية لترتفع بما هو حالات فردية إلى مستوى القضية النظرية على حد تعبير جورج طرابيشي في نقده لنوال السعداوي في كتابه(أنثى ضد الأنوثة).

أما آراء الفقهاء الشخصية مما ليس له صلة بالدليل فلا نتعبد الله به ويظل رأيا شخصيا يجب ألا يتجاوز هذا الوصف ولا يوظف توظيفا مغرضا، فمما نتعبد الله به إجلال حملة العلم، ومعاملتهم بالقسط الذي أمر الله به مع الأبعدين والأدنين على حد سواء، وهذا ما يفترضه النقد بحديه الإيجابي والسلبي، وخلط الأوراق بهذه الطريقة التي يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي والتخصصات بعضها ببعض، قد يُمرر بالتهييج الخطابي المؤدلج الذي هو طابع الكتابات النسوية، لكنه لا يُمرر في البحوث الرصينة ولا يصمد أمام المنهجية العلمية، وإن صدر من صحفي أو ناشط حقوقي أو حتى باحث اجتماعي يمكن تفسير موقفه بتقحمه لمجال ليس مجاله وبعدم تصوره لحدود البحث الفقهي وطبيعة الفقه وآلية الاجتهاد والاستنباطرغم عدم إعفائه من مسؤولية تقحمه وتعالمه، لكن هذا الخلط لا يجد تفسيرا ولا يُقبل مطلقا من باحث شرعي ملمّ بهذا و أكثر!
 



(2-2) 


تناولت المقالة السابقة نموذجًا لمعالجة قضايا المرأة على الطريقة النسوية، إذ لم تترك تلك الكتابات شيئا إلا وأعملت معاول الهدم فيه، والمهمة الأحدث التي اضطلعت بها هذه الأقلام هي سوق جرائر الفقهاء لتكشف عن تحيز قديم ضد المرأة لدى المنظومة الفقهية (الذكورية) على حد وصفهم، مما يُفقد المرأة الثقة بسدنة الفقه.. فالفقه.. فالدين..

وتهتم هذه المقالة بإغلاق الدائرة السابقة من خلال التأكيد على أهمية ما ورد وطرح بعض التنبيهات والتوصيات المتعلقة بالموضوع إجمالا، فمثل هذه الأطروحات الفكرية لم تعد خطابا نخبويا تتداوله فئة محدودة من المثقفين فقد احتلت موقعًا بارزا في مقالات الرأي في الصحافة، وأصبحت من موضوعات البرامج الحوارية على الشاشات، كما أصبحت معروضة بعناوينها الجذابة للعابرين في المكتبات التجارية بما فيها المكتبات الصغيرة في المطارات المحلية، وليست من صيود القراء في الشبكة العنكبوتية أو معرض الكتاب فقط !

ومع التشويه الإعلامي الممنهج والمستمر للمؤسسة الدينية ورموزها في المجتمع، وتلبيس الشذوذ عن الحق للشباب والشابات بوهم الاستقلال الفكري، والقدرة الذاتية المطلقة على الوصول للحقيقة دون الحاجة لوساطة العلماء، مع إحاطة أولئك الشباب والشابات من قبل الخطاب المناوئ بمزيد اهتمام، أصبح للخطابات المتدثرة بالثورية والتنوير وهجٌ خاص لديهم، وإلا فلا يخفى على من عنده أدنى أثارة من علم مدى افتقار تلك الكتابات للمنهجية العلمية.

وتعاملها مع تراث الفقهاء وفقا لسياسة البحث عن العفريت التي نسبها نصر حامد أبو زيد لمخالفيه في أحد كتبه.

فلم تسجل كاتباتها أو كتابها أي سبق فكري من حيث النظرية ومهنتهم الحقيقية هي نبش التراث خدمة لأهداف مرصودة سلفا، وإذا كانت النسوية العربية تقليد للنسوية الغربية فالنسوية السعودية تقليد داخل التقليد .. وتفحُص أية أطروحة سعودية لا تصرح بمراجعها كاملة تفضحها أطروحة نسوية عربية مسكوت عنها، سبقتها بالصدور، وبمراجعة مضمونها والنظر لتاريخ طباعتها يظهر الاقتباس منها في المؤلفات السعودية بوضوح فج!

  والموضة الثقافية لدى النسويات وبعض التنويريين السعوديين مؤخرا هي التأسيس والنقل الصريح والمضمر عن الفكر النسوي في دول المغرب العربي، لا عن نسويات عربيات ذائعات الصيت أو سيئاته -كنوال السعداوي مثلا- استغفالا ومخاتلة من قبلهم للقارئ البسيط البعيد عن متابعة أطروحات النسوية المغاربية، والتفافا على وعي المثقف الإسلامي المشغول بتفنيد أطروحات الفكر الحداثوي الأخرى، ومن المفضلات نسويا وتنويريا في السعودية مؤخرا العلمانية التونسية آمال قرامي أستاذة الحضارة بالجامعة التونسية، والتي عارض موظفو الإذاعة التونسية تعيينها رئيسة لإذاعة القرآن الكريم في العام الماضي لمحاربتها الشديدة لمظاهر التدين كالحجاب واللحى، عدا أقوالها المعروفة لدى التونسيين بخاصة عن زواج المسلمة بغير المسلم والمثلية السحاقية وغيرها ..

وإذا كانت هذه هي أسس الكتابات النسوية ومنطلقاتها فليس غريبا أن تحدثنا إحدى النسويات السعوديات عن المثلية الوجدانية اللا أخلاقية التي يُسببها منع الاختلاط أو الفصل بين الرجال والنساء في المجتمع السعودي، فما هذه إلا مقدمة لتلك وليست إحداهما بأولى بالذم من الأخرى..

هذا هو عمل العقل النسوي السعودي في الشرعيات ..  

إنه المسبقات التي تفتش عن أدلة إدانة لمدانٍ على كل حال ..

الأحكام التي ينبغي أن تُأول لتساوي بين الجنسين .. وليست المساواة بآخر المطاف فالمتابع للكتابات النسوية في رقعة أوسع، يلحظ أن المطالب الثورية النسوية تتزايد في حركة تصاعدية، وتنزع للتطرف بطبيعتها المؤسسة على ثنائية التضاد والصراع بين الجنسين، والنظرية النسوية لم ولن تكتفي بالمساواة، فالنرجسية الأنثوية حملت بعض منظراتها الغربيات على التمركز حول الأنثى وأفرزت المثلية، وتمجيد الوثنية، وآفات أخرى ..

وتصفح أي كتاب من كتب الفكر النسوي الغربي، بل كتاب واحد من الكتب المحايدة والتي دورها العرض فقط يوقف القارئ في المقدمات أو الهوامش التي تتضمن ترجمة أو تعريفا بمنظرات الفكر النسوي وناشطاته على المثليات منهن بما يبعث على التقزز .

وللتعرف على الظروف التي أفرزت نظرية التمركز حول الأنثى يمكن الرجوع لما كتبه الدكتور عبدالوهاب المسيري حولها إذ نقد هذه النظرية بعلمية فائقة في كتيب قيّم بعنوان (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى)، حيث أوضح كيفية انتهاء هذه النظرية بالتفكيك الكامل لثوابت اللغة والتاريخ والمجتمعات، وتمزيق العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة.

  ولم يكتف المسيري بالنقد فقط بل قدم رؤية بديلة للفكر النسوي تعالج مشكلات المرأة داخل نماذجنا المعرفية ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية وإنسانيتنا المشتركة، إذ يرى أن يتم تناول موضوعات المرأة وحقوقها تحت (حقوق الأسرة ) ثم تناول حقوق كل فرد منها على حدة (حقوق المرأة، حقوق الطفل، ...) بحيث يضمن تناولها داخل هذا الإطار عدم تكريس الفصل الحاد بين الجنسين، مع مطالبته بإنقاذ المرأة من النمط الحركي الاستهلاكي، وتغيير مفهوم العمل وإعادة تعريفه من: (العمل المنتِج للسلع والخدمات) إلى: (العمل المنتِج إنسانيا)، مما يعيد الاعتبار لعمل الأم والمرأة في المنزل لدى كل من المرأة والرجل، واستئصال الفكرة الغربية التي تجذرت لدى الجميع وهي أن ربة المنزل لا تعمل. 

يطرح المسيري هذه الرؤية إدراكا منه لمآلات النسوية في الغرب، وهي مآلات قابلة للتمدد ثقافيًا، فيقول:
" وربما ظن البعض أن مسألة الاهتمام بالفكر النسوي الغربي من قبيل الترف الفكري، أما الحقيقة فإن هذا الفكر وامتداد تأثيره إلينا يعد من أهم معاول الهدم الآن في قلب مجتمعاتنا الإسلامية" .

والمتابع لكتابات طائفة من الكاتبات السعوديات يلمس تأثرهن بالفكر النسوي بعامة، إذ لا يمكن استبعاده من مكونات خطابهن، ويلمس كذلك تأثر بعضهن بنظرية التمركز حول الأنثى بشكل خاص، فالمتابع لكتابات السعودية وجيهة الحويدر- عرّابة منال الشريف- على سبيل المثال يبدو له بوضوح تأثرها بهذه النظرية بتمجيدها للعهد الأمومي الذي انتشرت فيه عبادة الآلهة الأنثى ونقمتها على العصر الذي سيطر فيه الرجل على الأنثى (1).

فإلام تهدف النسوية السعودية في تدثرها بالشرعيات تارة وطعنها فيها تارة أخرى، وفي أي اتجاه تحث الخطى، وإلى أين سينتهي بها هذا المسير..؟!

تساؤل يمكن الإجابة عليه بالاستفادة من فلسفة التاريخ في دراسة الحركات النسوية في الغرب عبر تشكلها التاريخي.

أما مواجهة هذا الفكر فتحتم على الخطاب الإسلامي تقديم رؤية إسلامية ذاتية لقضايا المرأة كالتي اقترحها المسيري، مع استمرار المضي في معالجة التصورات الاجتماعية الخاطئة حول المرأة، فتتبع الزلات على الطريقة النسوية والتنويرية لم يكن يومًا طريقا للإصلاح، ويؤدي لإيجاد أو زيادة منسوب الشك والحقد وسقي بذرة التمرد في نفس المرأة وهي سبيل لا توصل إلى الحق، بل تحيطه بالغبش من كل ناحية.

  وهذا يقودنا للحديث بالمقابل عن علّة أخرى لا تختلف من حيث الأثر والمآل عما سبق وهي استخدام المصطلحات الشرعية من قبل البعض -حتى من صلح منهم - في انتقاص المرأة، كتعييرها بنقص العقل والدين، بإخراج النقص عن سياقه الذي ورد في الحديث، وتجريده عن التفسير النبوي الوارد فيه كذلك، ليصبح نقصا في مطلق الإدراك والوعي، ورقّة في الدين تجعل من المرأة سهلة الوقوع في الرذيلة، فكلا الموقفين يشحذ في المرأة التمرد بل يجعلها تتساءل عن ازدواجية خطاب يكرمها ويهينها في الوقت نفسه، فالحط من الكرامة الإنسانية مستفزٌ لأيٍ كان، والقارئ لتاريخ النسوية الغربية يجد تفسيرا لثورتها على النظرة الكنسية للمرأة، وكلٌ يحمل ما اكتسب من الإثم في إبعاد المرأة عن الدين وتبغيضه لها.

ففرقٌ بين تقرير شرعي من لدن لطيف خبير، وتفسير اجتماعي يوافق هوى في احتقار المرأة، فالتسليم لحكم الله يقتضي إذعان العبد لحكمه ذكرا كان أو أنثى، ولو كانت المرأة دون الرجل بمئة درجة لا درجة واحدة فإيمانها بعلم المشرع يحملها على التسليم بهذه التراتبية ونفي أي حرج يتعلق بها، مع يقينها بأن وراءها ماوراءها من الحِكم، والخير كل الخير مقترن بها، مادام الحاكم الآمر هو الحكيم العليم، لكن أن يُنسب للشرع ما هو منه براء فهذا ما مغبته سيئة كل السوء.

  ويجب ألا يُنسى أن معظم من انحرفن عن الجادة بدأن بالنقمة على أخطاء اجتماعية في صورة مواقف أسرية تعرضن لها أو ظلم اجتماعي من بعض الجهات أو الشخصيات المعتبرة في نظرهن، ثم تطور بهن الأمر إلى النقمة على الدين، ولذا كان الإصلاح الاجتماعي من واجبات الدعاة إلى الله، وكثير من المشكلات الاجتماعية كالعضل، وحرمان المرأة من الميراث تصدر لها العلماء ولم يخشوا مصادمة المجتمع بمناقشتها وحلها، وهذا مايؤمل استمراره في تصحيح ممارسات وتصورات شبيهة ضد المرأة، فالإصلاح الديني لا يتناول جانبا دون جانب بل يشمل جميع المخالفات بلا استثناء، مما يمنحه قوة وقبولا ليسا لسواه.

ثم إن استغلال التيار المخالف للأخطاء الاجتماعية في الهجمة على الدين يجب ألا يدفعنا للتغاضي عن أخطائنا أو تقديس ممارساتنا الاجتماعية، وتخوين من يتقاطع معهم في نقد تلك الأخطاء، فهذا الموقف اللاواقعي يعيق الإصلاح، ولا يوقف الاستغلال، بل يتيح الفرصة لتقديم التصورات المنحرفة كحل أو بديل لما انتُقد، وقد أشار الشيخ عبدالعزيز الطريفي -حفظه الله- إلى معنى قريب من هذا في إحدى تغريداته بقوله: " مما يعيق المصلح الصادق وجود من يشاركه في بعض نصحه من تيارات جانحة عن يمين وشمال، فترسم له صورة ذهنية معهم كما ترسم للعابر صورة مع العابرين".

ولايعقل أن يحتشد الإسلاميون للدفاع عن الإسلام في جهة واحدة أو جهتين تاركين مسارب لهدمه هنا وهناك، ومن تلك المسارب ماذكر من الكتابات النسوية المتلبسة بالمنهجية العلمية والتي مازالت تؤكد على سلبيتها وعدم تقديمها لبحث إيجابي في موضوع المرأة، يعالج مشكلاتها داخل المنظور الإسلامي، ولا يباعد الشُقة بينها وبين الدين.

  وقد بات من الضروري والحال هذه تكثيف الحديث عن الأسس والمسلمات الشرعية، ومنح المخاطبين رؤية تفصيلية لعدة موضوعات بات غموضها عليهم سببا للحيرة والزيغ والانحراف، كخصائص الشريعة وعلومها، والموقف من التراث، وفطرية الاختلاف والموقف منه، وقصور التطبيق الاجتماعي عن المعايير الإسلامية، وحدود عمل العقل ومجالاته، وغيرها من القضايا التي سببت قلقا وتوترا لدى البعض، ويُرجى لهذه الرؤية التفصيلية أن تُكوّن لدى المسلم ما ذكره ابن القيم-رحمه الله- في حديثه عن أهمية التعرف على مذاهب المخالفين في الفوائد، وهو: "معرفة سبيل المؤمنين من حيث التفصيل وسبيل المخالفين من حيث الجملة والمخالفة، وإن كل ماخالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل"، فهي رؤية كفيلة بخلق تصور شمولي يقي صاحبها من الانجراف مع الشبهة مبدئيا، والتي لا مندوحة من مناقشة تفصيلاتها حين تستشري، ومع هذا فتبقى العناية ببيان الحقائق الإسلامية أولى الخطوات الوقائية في هذا المجال.

-----------------------
الهوامش:
1) انظر مثلا مقالة (إلى متى سيظل تاريخ الحضارة الإنسانية يلقن مبتورا ؟)
2) (ص162).


 

للنساء فقط

  • المرأة الداعية
  • رسائل دعوية
  • حجاب المسلمة
  • حكم الاختلاط
  • المرأة العاملة
  • مكانة المرأة
  • قيادة السيارة
  • أهذا هو الحب ؟!
  • الفتاة والإنترنت
  • منوعات
  • من الموقع
  • شبهات وردود
  • فتاوى نسائية
  • مسائل فقهية
  • كتب نسائية
  • قصـائــد
  • مواقع نسائية
  • ملتقى الداعيات
  • الصفحة الرئيسية