اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/feraq/sufyah/g/2.htm?print_it=1

الجولة الثانية : ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته

الدكتور محمد جميل غازي

 
إذا كانت الخرافة مدسوسة عليهم فلماذا يبقون عليها ؟!
ليس في الكتاب ولا في السنة شيء اسمه التصوف !!
متى قال الرسول.. إن للقرآن ظاهراً.. وباطناً ؟!

هناك أكثر من سبب يدعونا إلى أن نلتقي مرة أخرى بالرجل الذي شن هجوماً عنيفاً على التصوف والصوفية.. كان منه على سبيل المثال ذلك السيل المنهمر من رسائل القراء الذين تجاوبوا معه فيما ذهب إليه من اتهام للصوفية بالتناقض مع الإسلام، وطالبوا بأن تفسح له الجريدة صفحاتها لكي يعطي ما عنده، ويجيب على ما أرسلوه من أسئلة واستفسارات.. ثم كان هناك سبب يتمثل في سؤال هام: ترى ماذا يكون رأيه في التصوف بعد الحوار الذي أجريناه مع الدكتور "أبو الوفا التفتازاني" أستاذ التصوف الإسلامي بجامعة القاهرة، والذي أوضحت فيه كثيراً من اللبس الذي اكتنف قضايا الصوفية واستنكر فيه كثيراً من الشوائب التي تخرج عن آداب التصوف الصحيح.

تأليه "إبليس" في طبقات الشعراني:
وعلى غير موعد كان هذا اللقاء مع الأستاذ محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله في مكتبته الحافلة بالمؤلفات العديدة في الفقه والحديث والتفسير واللغة، والأدب، والتاريخ.
قلنا له في محاولة للاعتذار عن هذه الزيارة المفاجئة: ربما اخترنا موعداً غير مناسب ولكن قد يكون ما جئنا من أجله يستحق أن تضحي معه بالقراءة.
فيجيب مبتسماً: لم أن أقرأ بالمعنى المفهوم، ولكني كنت أسلي نفسي باستعراض بعض كرامات الصوفية وهي في الواقع مجموعة من الطرائف والأساطير تستحق أن أعرض عليكم بعضاً منها.. اسمعوا معي ماذا يقول الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) وهو يتحدث عن سيده محمد الخضري ثم يقرأ: "أخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة، فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجده ثم قال: "وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام" فقال الناس: كفر!! فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس على المنبر إلى أذان العصر، وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع ثم جاء بعض أهالي البلاد المجاورة، فأخبر أهل كل بلدة أنه خطب عندهم وصلى بهم، فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالساً عندنا في البلدة"!!
وقبل أن يمضي الأستاذ جميل غازي في عرض نماذج أخرى من هذه الشعوذة نستوقفه لنقول: ليكن ما قرأته علينا هو منطلقنا لبداية حوارنا معك اليوم.. إن بعض أقطاب الصوفية يعتبرون أن أمثال هذه الخرافات أمور مدسوسة على التصوف، وأن القول بما قد شاع في عصور التدهور الفكري والحضاري، ولقد سبق أن أوضح الدكتور "التفتازاني" أن العشراني نفسه قد ذكر أن خصومه دسوا عليه آراء لم يقل بها للنيل من مكانته.. لذلك فقد لا يكون من العدل اتهام التصوف ومحاولة إدانته من خلال كتابات يتبرأ منها مشايخ الصوفية أنفسهم.
ويجيب سيادته قائلاً: إن ادعاء الدس ليس جديداً على الصوفية، فهم دائماً يلجئون إلى هذه الحجة لإغلاق باب المناقشة حول أي موضوع يرون أن الحق قد جانبهم فيه، ومن ناحية أخرى.. إذا كانت هذه الخرافات التي حفل بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني قد دست عليه كما يقولون، فلماذا نراها في جميع طبعات هذا الكتاب القديم منها والحديث؟ ولماذا يترك مشايخ الصوفية هذا الكتاب في متناول أيدي أتباعهم يستقون منه معرفتهم بالدين؟ ألم يكن من المنطق – إن صح ادعائهم – أن يبادروا إلى جميع هذه الكتب ومنع تداولها أو على الأقل إعادة تحقيقها بحيث تستبعد منها هذه الأمور المدسوسة؟ ولكن الحاصل هو عكس ذلك تماماً، إنهم يحيطون الشعراني وطبقاته بحصانة وقداسة لا حد لها، بل إنهم يقيمون منزلة الصوفي بقدر إيمانه بما جاء بهذا الكتاب.
ثم يستطرد د. جميل غازي متسائلاً: ثم لماذا هذا الادعاء بالدس على كتاب (الطبقات) وهناك عشرات من كتب الصوفية تمتلئ بمثل ما امتلأ به كتاب الطبقات من خرافات وخبل وضلال؟.. خذ مثلاً كتاب (الإنسان الكامل) وفيه يشرح "أبو يزيد البسطامي" من أئمة الصوفية كيفية حلول الله فيه فيقول: "دفع بي مرة حتى قمت بين يديه فقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، قلت: يا عزيزي وأنا أحب أن يروني. فقال: يا أبا يزيد إني أريد أن أريكهم. فقلت: يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يروني وأنت تريد ذلك وأنا لا أقدر على مخالفتك، فزيني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك. ففعل بي ذلك".. ثم اسمعوا ماذا يقول الحلاج وهو يشرح لنا عقيدة الحلول: "من هذب نفسه في الطاعة لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصفاة حتى يصفو عن البشرية فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى ابن مريم وكان جميع فعله فعل الله تعالى"، وفي كتاب (النفحات القدسية) يقول محمد بهاء الدين البيطار أحد مشايخ الصوفية:

وما الكلب والخنـزير إلا إلهنا *** وما الله إلا راهب في كنيسة

ثم يعقب د. جميل غازي متسائلاً: هل هذه الآراء والمعتقدات في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التي امتلأت بها كتب مشايخ الصوفية هي أيضاً أمور مدسوسة عليها !!

احذفوا البدع تسقط الصوفية !!
قلنا.. دعنا من مناقشة هذه العقائد التي نتفق معك في أنها تتصادم بالفعل مع عقيدة التوحيد الإسلامية فإن أقطاب الصوفية المعاصرين يرون أن من قال بهذه الأفكار هم قلة من أصحاب التصوف الفلسفي من أمثال البسطامي والحلاج وابن عربي، ويقولون أنه تصوف يكتنفه كثير من الغموض ويحتمل تأويلات شتى.. إنما الذي يعنينا الآن هو التصوف السني الذي يدعو إليه الصوفية المحققون، والذين يؤكدون أن مقياسه الصحيح هو الكتاب والسنة، ومادام الأمر كذلك فلماذا يرفض التصوف بل ويتهم بأنه بدعة تتناقض مع الإسلام؟
ويجيب د. جميل غازي بنبرة حادة: اسمع..أليس هناك ما يسمى "تصوفاً سنياً".. إنني أحذر بشدة من هذه المحاولة للتضليل والخداع والبحث عن مسميات يحاول بها الصوفية إضفاء الشرعية على مذهب يتناقض في أساسه مع الكتاب والسنة.. إن هذه المحاولة من جانبهم لربط التصوف بالسنة تذكرني بتلك المحاولة الفاشلة التي يلجأ إليها الشيوعيون في الوقت الحالي للإيهام بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.
ويضيف متسائلاً: ثم هذه العبارة (تصوف سني) ألا تحتوي على مغالطة فاضحة؟. إن كلمة (تصوف) لم ينطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يقلها، ولم يدع إليها فكيف يزعم زاعم أنها (سنة!!) ثم يذهب بعد ذلك إلى القول بأن هناك تصوفاً سنياً؟ ومن جهة أخرى فإن هذه العبارة توحي – بمفهوم المخالفة – أن هناك تصوفاً بدعياً.. فما هو هذا التصوف البدعي حتى نميزه عن التصوف الذي يريدون منه أن يكون سنياً؟ إنني أدعوهم أن يقدموا لنا كشفاً دقيقاً بأنواع البدع التي يريدون حذفها من التصوف ثم يقولوا لنا ماذا يتبقى منه!! ثم يبتسم د. جميل غازي ساخراً ويقول: إنهم لو فعلوا ذلك فسيكون على رأس قائمة البدع اسم التصوف نفسه، لأنه بدعة لم ينطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم .
قلنا: ولكننا نرى أن مجرد عدم استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم لكلمة تصوف لا ينبغي أن يكون مبرراً لتجرد التصوف من شرعيته.. فإن هناك أيضاً كثيراً من العلوم الإسلامية لم تكن معروف أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ، من بينها على سبيل المثال علوم الفقه والحديث والكلام والتفسير، ومع ذلك فهي علوم معترف بها وتؤدي دورها في خدمة الدعوة الإسلامية.. وبالنسبة للتصوف فلا مجال في رأينا للاعتراض عليه كعلم إسلامي ومنهج يستهدف دراسة الأخلاق وتقويم السلوك وتربية النفوس، طالما كان يستند إلى الكتاب والسنة وهذا ما يقصدونه بتعبير التصوف السني!
ويجيب فضيلته قائلاً: أحب أولاً أن أعترض على اعتبار التصوف علماً إسلامياً، فالتصوف في حقيقته مزيج من أفكار ومعتقدات مجوسية وبوذية ومسيحية ويهودية ويونانية.. وهذه حقيقة يعترف بها المستشرقون الذين درسوا هذا النوع من التصوف المسمى بالتصوف الإسلامي.. فهذا هو "فون كريمر" يقول في كتابه (تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام): "إن في التصوف عنصرين مختلفين أولهما مسيحي رهباني، والثاني هندي بوذي" ويذهب المستشرق "ثولك" إلى أن التصوف مأخوذ من أصل مجوسي، كما أن مؤسسي فرق الصوفية الأوائل كانوا من نفس ذلك الأصل المجوسي، وكذلك يقول المستشرق الهولندي "دوزي" في كتابه (تاريخ الإسلام): "إن التصوف جاء إلى الصوفية من فارس حيث كان موجوداً قبل البعثة المحمدية" أما المستشرق "جولدزيهر" فقد فرق بين تيارين مختلفين في التصوف أولهما الزهد وهذا في نظره قريب من روح الإسلام وإن كان متأثراً إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية، والثاني التصوف بمعناه الدقيق وما يتصل به من كلام في المعرفة والأحوال والأذواق وهو متأثر من ناحية بالأفلاطونية الحديثة، ومن ناحية أخرى بالبوذية الهندية.

التلقي عن رسول الله عندهم..!
قلنا.. ربما كانت آراء هؤلاء المستشرقين جاءت نتيجة ما يوجد من تشابه بين التصوف الإسلامي وغيره من أنواع التصوف الأجنبية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التصوف الإسلامي قد صدر عن هذه الفلسفات الأجنبية أو أخذ عنها.. فالتصوف كما هو معروف يتعلق بالشعور والوجدان، وطالما أن النفس الإنسانية واحدة على الرغم من اختلاف الشعوب والأجناس، فإن التجربة الصوفية يمكن أن تكون واحدة في جوهرها، كما يمكن أن يمثل التصوف خطاً مشتركاً بين الديانات والفلسفات المختلفة.. وعلى أي حال مهما كان من أمر مصدر التصوف الإسلامي وأصله فإن الذي يعنينا بحثه الآن هو ما يقول به الصوفية من أن التصوف الإسلامي يستند إلى الكتاب والسنة ويتقيد بهما.. فإلى أي حد ترون فضيلتكم صدق هذه النظرة؟
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: مرة أخرى أعود فأذكركم بما يحاوله الشيوعيون الآن للزعم بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.. فهل هي حقاً كذلك؟ الجواب معروف فهي ضد الإسلام شكلاً وموضوعاً.. إذن لماذا يلجأ الشيوعيون إلى هذه المحاولة؟ إنهم ببساطة يهدفون إلى تضليل المسلمين وخداعهم، وتغطية عقائدهم الفاسدة التي ينفر منها المسلمون.. كذلك هو الحال بالنسبة للصوفية فهم أول من يعلم أن مذهبهم يتناقض مع الإسلام ولكنهم يحاولون التمسح بالكتاب والسنة من باب التضليل والخداع أيضاً.. ولو أن التصوف كما يزعمون يستند إلى الكتاب والسنة لكان هو الإسلام، ولما كان هناك ما يدعو إلى ذلك الجدل والانقسام الذي استمر أكثر من عشرة قرون.
قلنا.. إن القضية في رأينا تستحق مناقشة أكثر موضوعية وتحتاج إجابة أكثر تحديداً.. كيف ترون أن التصوف لا يستند إلى كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
ويجيب فضيلته بقوله: لأن علم الصوفية يعتمد أصلاً على الادعاء بالكشف بدلاً من الدليل الشرعي الذي يستند إلى الكتاب والسنة.. وعن طريق هذا الادعاء بالكشف فإنهم يشككون في مصادر الشرع بل وينكرون بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة في دواوين السنة، ويؤولون البعض الآخر وفقاً لأهوائهم، وحجتهم في ذلك غاية في الافتراء على الله ورسوله.. إنهم يدعون أنهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً، ويتلقون منه ما يعينهم على تأويل الأحاديث أو التمييز بين الصحيح منها والضعيف واسمعوا ماذا يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر في كتاب الفتوحات المكية.. "ورب حديث يكون صحيحاً عن طريق رواته حصل لهذا الكاشف الذي عاين هذا المظهر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث فأنكره وقال له: لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفه فيترك العمل به على بينة من ربه، وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه وهو في نفس الأمر ليس كذلك".. بل إن ابن عربي هذا يذهب في افترائه على الله ورسوله إلى أبعد من ذلك فينسب كلامه إلى أنه وحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول في أول كتابه (فصوص الحكم): "أما بعد فإني رأيت رسول الله في مبشرة (رؤيا صادقة) وبيده كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى ناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية، وأخلصت النية إلى إبراز هذا الكتاب كما حدده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان.. فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا...".
ثم يعقب د. جميل غازي على ذلك بقوله: هذا باب فتحه الصوفية للتشكيك في العلوم الإسلامية جميعها ولإتاحة الفرصة لكي يضع الصوفية ما يشاءون وينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة الكشف !
ويستطرد قائلاً: إن هذا الادعاء بالكشف دفع هؤلاء الصوفية إلى أن يقسموا الدين إلى شريعة وحقيقة، وإلى ظاهر وباطن، فأما أهل الظاهر عندهم فهم أهل الشريعة ومن بينهم علماء المذاهب الأربعة وفقهاء الشرع وعلماء الحديث وهؤلاء يعتبرهم الصوفية طبقة العوام من الناس. لماذا؟ لأنهم يؤمنون بالنصوص الشرعية دون اللجوء إلى التأويل. أما أهل الباطن أو أهل الحقيقة والطريقة فيعتبرهم الصوفية الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية عن طريق ما يسمونه بالكشف والخواطر والأحلام.. وعن طريق هذا الكشف يزعمون أنهم يستطيعون تأويل الأحاديث والتمييز بين الصحيح منها والضعيف دون ما حاجة إلى الرجوع إلى دواوين السنة ورواتها.
قلنا.. ربما كان هذا الاتهام الموجه للصوفية بالفصل بين الحقيقة والشريعة يجافي الحقيقة، فإن بعض أقطاب الصوفية لا يفرقون بينهما بل ويؤكدون أنه لا تصوف إلا مع العلم بالعقائد والأحكام.

الزندقة شهادة التصوف:
ويجيب د. جميل غازي مقاطعاً: هذا كلام يقولونه بأفواههم فقط هروباً من اتهام صادق موجه ضدهم بالتناقض مع الإسلام.. ولكن يتضح لنا فساد زعمهم تعالوا بنا نستعرض ماذا يقول مشايخ الصوفية الكبار.. هذا هو الجنيد رئيس الطائفة الصوفية يقول: "لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال حتى يشهد فيه ألف صديق من علماء الرسوم (الشريعة) بأنه زنديق، لأن أحوالهم وراء النقل والعقل" ويقول أيضاً: "أحب للمبتدئ ألا يشغل قبله بهذه الثلاث وإلا تغير حاله: التكسب وطلب الحديث (حديث رسول الله) والتزوج وأحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه" وهذا هو أبو يزيد البسطامي من أئمة التصوف يسخر من علماء الشريعة ويتعالى عليهم فيقول: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" وهو يقصد بهذا أن علماء الشريعة يأخذون علمهم عن الرسل بينما الصوفية باعتبارهم أهل الحقيقة يتجاوزون هذا المستوى ويتلقون عن الله مباشرة.
ويضيف فضيلته قائلاً: إن الصوفية يؤمنون بأن كل آية وكل كلمة بل وكل حرف في القرآن الكريم يخفي وراءه معنى باطناً لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده، وهم أهل الحقيقة الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم في أوقات وجدهم.. وذهبوا بعد ذلك إلى تأويل آيات القرآن الكريم عن طريق ما يدعونه بالكشف، فجاءوا بالخرافات والكفر والضلال الذي حشوا به كتبهم واعتمدوا في ذلك على حديث افتعلوه لخدمة غرضهم يرويه ابن عربي في الفتوحات المكية فيقول: "قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال ولكل طائفة قطب وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف" وعلى الرغم من أن هذا الحديث المزعوم لا وجود له في دواوين السنة فإن ابن عربي يقول عنه: "وقد أجمع أصحابنا أهل الكشف على صحته".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: ربما لا يتسع المجال هنا لعرض نماذج من تأويلاتهم الغريبة لآيات القرآن الكريم والتي سمحوا لأنفسهم بها تحت ادعاء الكشف والأحلام ذلك الأمر الذي لم يدعه أحد حتى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو أبو بكر الصديق وهو سيد أولياء الله من هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حينما سئل عن معنى آية في القرآن الكريم: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي).
ثم يعقب بقوله:.. هذا هو حال الصوفية أو أهل الحقيقة والباطن باسم الكشف وعلم الباطن يعطن لأنفسهم الحق في الحكم على أحاديث الرسول وتأويلها وتمييز الصحيح منها والضعيف.. وباسم الكشف يعطون لأنفسهم الحق في تأويل آيات الله وفقاً لأهوائهم.. وباسم الكشف يريدون من أناس أن يقبلوا كلامهم دون بحث أو مناقشة، وكيف ذلك وهم أهل الحقيقة والباطن الذين
يقول أحدهم: "رأيت رسول الله وحدثني" أو يقول الآخر: "حدثني قلبي عن ربي" ثم بعد ذلك يفرضون على الناس إرهاباً فكرياً ويقولون: "أحسن الظن ولا تنتقد، بل أعتقد" أو يقولون: "من اعترض انطرد".
قلنا.. مازال الاتهام الموجه للتصوف بالخروج على الكتاب والسنة في حاجة إلى مراجعة.. فإن الصوفية يؤكدون التزامهم الكامل بما جاء بكتاب الله وسنة رسوله ويستدلون على ذلك بأن جميع مقاماتهم كالتوبة والصبر والخوف وغيرها تستند جميعها إلى شواهد من القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: إن هذا الادعاء من جانب الصوفية يمثل مغالطة تثير الدهشة والعجب.. فإن هذه المعاني والقيم التي يسمونها مقامات الصوفية ما هي إلا أخلاقيات الإسلام التي ينبغي أن تتوافر في المسلمين كافة.. فكيف يجعلها الصوفية وقفاً عليهم وحدهم؟.. ومن جهة أخرى إذا صح ادعاؤهم بأنهم يحرصون فعلاً على ممارسة هذه الأخلاقيات فلماذا يستبعدون اسمها الطبيعي وهو الإسلام ثم يفتعلون لها اسماً مبتدعاً وهو الصوفية.
قلنا.. ننتقل الآن إلى الطرق الصوفية.. يقولون إنها مداس تستهدف التربية الإسلامية وتقويم السلوك.
ويجيب فضيلته قائلاً: بل هي مدارس لتخريج عناصر بلهاء تائهة غارقة في الأوهام والخرافات بعد أن ضلت طريقها إلى الله، واستغنت عنه بعبادة الأدعياء وأصحاب القبور..
ثم يضيف متسائلاً: كيف يمكن للطرق الصوفية أن تكون مجالاً للتربية الإسلامية وهي دعوة إلى الفقر والجهل والاستسلام بينما الإسلام دعوة للعلم والعمل والجهاد؟ ثم ما هي وسيلتهم للتربية الإسلامية؟ وما هي الشعائر التييمارسونها؟ حاول أن تقترب من حلقات ذكرهم.. هل تجهم يتدارسون القرآن أو أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لن تجد أثراً لذلك.. ولن تجد من بينهم من يحفظ القرآن أو يهتم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .. فلقد انصرفوا تماماً عن كتاب الله واكتفوا بترديد الأذكار والأوراد الغامضة التي يرتلونها دون وعي وبأصوات صاخبة تتم معظم الأحيان على دقات الطبول والدفوف.. فهل هذا أسلوب في العبادة يقره الإسلام أو يوصي به الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ بل أنهم فوق ذلك قد أغفلوا عقيدة التوحيد واستغنوا عن الاستعانة بالله إلى طلب المدد والعون من الأولياء وأصحاب القبور، وانشغلوا بإقامة الموالد التي أصبحت مجالاً لكل مظاهر الفسق والفجور ومرتعاً للنصابين والأدعياء والدجالين وكل من يبتغي المكسب الحرام.
ويستطرد فضيلته قائلاً: وكيف يمكن للصوفية أن تكون منهجاً لتقويم السلوك وهي التي أضعفت معنويات أتباعها، وخربت نفسياتهم وأصبح الإنسان المسلم الذي يدعوه دينه إلى أن يفكر ويتأمل أصبح على يد الصوفية عنصراً سلبياً لا إرادة له ولا حياة يسلم زمام نفسه كاملاً لشيخه بحيث يقول عنه الشاذلي: "على المريد أن يعتصم بالشيخ ويتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بقائده بحيث يفوض أمره إليه بالكلية فلا ينازعه في الأمر ولا يخالفه".

الشيخ القائد إلى الضلال:
بمناسبة الكلام عن الشيخ.. ما هي الحقيقة فيما يقول به الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان ؟
يقول الصوفية أن الشيخ واسطة بين الله والمريدين، وأنه أمين الإلهام كما أن جبريل عليه السلام كان أميناً للوحي، ويقول السهروردي كما جاء في كتاب (عوارف المعارف): "كلام الشيخ بالحق من الحق، فالشيخ للمريدين أمين الإلهام كما أن جبريل أمين الوحي فكما لا يخون جبريل في الوحي لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فالشيخ لا يتكلم عن الهوى".
ثم يعقب سيادته على ذلك بقوله: إن مشايخ الصوفية يرددون هذا الإفك ليقنعوا الناس بالالتجاء إليهم والتسليم لهم تسليماً كاملاً.. ويضيف أنه من خلال ذلك الافتراء والزور وفي غياب التوجيه الديني والتربية الإسلامية السليمة نجح مشايخ الصوفية في تحقيق سيطرتهم على الأتباع والمريدين الذين التزموا بمجموعة من القواعد يعرفها كل من شاء له سوء حظه أن يقع في براثن هذه الطرق.. منها على سبيل المثال: أن يكون المريد مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والدين.. ومنها: ألا يعترض عليه فيما يفعله ولو كان ظاهره حراماً ولا يسأله لما فعلت ذلك لأن من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبداً.. ومنها: أن يسلب اختيار نفسه باختيار شيخه في جميع الأمور كلية كانت أو جزئية عبادة كانت أم عادة.. وعن هذا المعنى يعبر أحد شعراء الصوفية فيقول:

كن عنده كالميت عند مغسل *** يقلبه ما شاء وهو مطاوع
وسلم له فيما تراه ولم يكن *** على غير مشروع فثم مخادع

بل إن ذا النون المصري أحد مشايخ الصوفية يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: "طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه".
وتمضي فترة من الصمت يقطعها الدكتور جميل غازي قائلاً: لعل فيما أوضحناه ما يكفي للتدليل على أن الصوفية جناية على الدين والدنيا، وربما يتأكد من ذلك بشكل أكثر وضوحاً لو تعرفنا على أفكارهم في "الحقيقة المحمدية" والديوان الباطني، والعلم اللدني، وصناديق النذور. وحول هذه المعتقدات لسيادته وقفة طويلة وآراء جريئة نلتقي بها في الجولة القادمة.
 

أرباب الطريقة
  • منوعات
  • من كلام الأئمة
  • كتب عن الصوفية
  • جولات مع الصوفية
  • شبهات وردود
  • صوتيات عن الصوفية
  • فرق الصوفية
  • شخصيات تحت المجهر
  • العائدون إلى العقيدة
  • الملل والنحل
  • الصفحة الرئيسية