اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/gesah/202.htm?print_it=1

هارب من القدر

إعداد / منير عرفه

 
( 1 )
دخل الليل بسكونه العميق ،
ونام الناس وسبتـوا ..
... فى ذلك الليل البهيمى ،
كانت المرأة فى أشد حالات الطلق ..
ولم يكن بجوارها أحدُ من النساء
وتحت ضغط الحاجة ...
آلام الطلق ،
ندرة من حولها ،
وهذا الظلام الدامس ،
لم تجد المرأة أمامها إلا أن تنادى على أجيرها " سمعان ".
صرخت بأعلى صوتها مستغيثة به
يا سمعااااااااااااااان .
قال سمعان : لبيك سيدتى .
قالت : أريد قبسًا من نار ،
وخرج سمعان مسرعًا لتلبية طلبها .
فلم يكن الأمر يحتاج إلى أدنى تأخير .
وفوجئ سمعان برجل لم يره قبل ذلك .
وقال له : إلى أين أنت ذاهب ؟
قال سمعان : أُحضرُ نارًا لسيدتى لأنها تعانى من آلام الطلق .
قال الرجل الغريب : هون عليك يا سمعان !
قال سمعان : أو تعرف إسمى ؟
قال الغريب : لقد ولدت المرأة بنتا صغيرة .
قال سمعان : كيف عرفت ؟!
أكمل الغريب كلماته وكأنه لا يسمع لما يقوله سمعان قائلا :
أما إن هذه البنت الوليدة تكون امرأة من أجمل النساء ،
و ستزني بمائة رجل ،
ثم يتزوجها أجير أمها ،
ويكون موتها بسبب عنكبوت ،
قال سمعان : تتزوجنى أنا ؟!
قال الغريب : أجل ، بعد أن تزنى بمائة رجل .
قال سمعان : إن مثل هذه لا تستحق الحياة .. ولأدخلن فإن وجدتها بنتًا كما تقول لترين ما أصنع .
ورجع سمعان الأجير إلى سيدته فوجدها قد وضعت ،
فنظر فلما علم أنها جارية صغيرة .
أسرع وأخذ سكينًا فبعج بها بطن الجارية الوليدة
فشقه ،
وسال الدم غزيرًا ،
فخرج مسرعًا من البيت ،
ونظر باحثًا عن الرجل الغريب فلم يجده ..
لقد اختفى ..
اختفى من أمامه إلى الأبد .
ثم ذهب سمعان هاربا .
تاركًا خلفه بنتًا صغيرة ..
بعد أن ظن أن الجارية الوليدة قد ماتت.

(2)
لم تدرِ الأمُ لماذا فعل سمعان الأجير ما فعل بابنتها ..
وهى التى عهدته رجلا طيب القلب رقيق النفس
مطيعًا لسيدته ..
وما ذنب هذه الجارية التى لم يتجاوز عمرها سوى لحظات قليلة ؟
ورغم آلام الوضع والميلاد فقد نشطت الأم لمعالجة ابنتها ..
وخاطت بطنها بنفسها .
وأراد سمعان أمرًا
وأراد الله العلى القدير أمرًا آخر .
فقد برئت البنتُ ..
وشُفيت بإذن الله .
وشبت ..
وترعرعت ..
ونشأت كأحسن النساء
بل إنها عُرفت بعد ذلك بالفاتنة .
وكان مضرب المثال فى الجمال والفتنة
وفتح ذلك لها بابًا شديدًا من الفتنة ،
لم تستطع أن تغلقه
ورويدًا رويدًا ..
تركت نفسها للطامعين ..

(3)
أما " سمعان " فقد ذهب بعيدًا ..
وبعيدًا جدًا ،
فى أماكن لا يعرفه فيها أحد .
وركب البحار والسفن أجيرًا ،
وخادمًا عند كبار التجار ،
فتعلم منهم الكثير
وفطن إلى ما يعملون !
إن الأمر صار معروفا لديه تمامًا.
فما يقوم التاجر من هؤلاء إلا أن يشترى بضاعة من بلد تكثر بها هذه السلعة ،
فيشتريها بأسعار زهيدة .
ثم يأخذها التاجر ويذهب إلى بلد أخرى يندر فيها وجود هذه السلعة ،
فيبيعها بأعلى الأسعار .
وبين فرق الأسعار هنا وهناك ،
يُكَوِنُ التاجرُ ثروته .
فألهمه الله أن يدخر مبلغًا ،
من الأموال التى تخرج له من عمله كأجير .
ومع الأيام ..
وبمرور الوقت ..
صار لدى "سمعان" مبلغًا لا بأس به ،
لأن يبدأ به ،
فاشترى تجارة بسيطة
ثم أخذها ونقلها من بلد إلى أخرى ..
وكان سمعان يرى ذلك بعينيه كثيرًا ،
لكنه حين فعل ذلك وجربه بنفسه
فوجئ بالأموال الطائلة التى يجنيها من هذا العمل ،
فاغتنى وكثر ماله .
وأراد الله به أمرًا ،
فنجحت تجارته ،
وتوالت الأيام وهو يزداد نجاحًا إلى نجاحه ،
وصار معروفًا فى معظم البلاد الذى يتردد عليها كتاجر من أعظم التجار.
يتمنى التجار أن يتعاملون معه ، يبيعونه أنواعًا من البضاعة ،
ويشترون منه أنواعًا أخرى.
وعُرف بأمانته وصدقه .
وفى أثناء ذلك كان سمعان يرى من عجائب خلق الله ما يرى .
لكنه أبدا لم يرى أعجب من حديث الرجل الغريب له ،
وكان يحن إلى بلده ومسقط رأسه ..
ويمنعه الماضى أن يرجع ..
وجذبه الحنين إلى بلده ..
وهذا أمر غرسه الله تعالى فى كل إنسان ،
أن يحن إلى البلد الذى نشأ فيه ..
ودار هذا الحوار فى نفسه :
إلى متى أيها الرجل تعيش هاربا بعيدًا عن أوطانك
لقد مر ما يزيد عن عشرين عاما على الرحيل ؟
وهنا هداه تفكيره إلى أن يرجع متخفيًا فى صورة تاجر كبير ..

(4)
رجع سمعان إلى بلده التى هرب منها ،
فبدا كتاجر كبير ، فبنى بيتًا مهيبًا ،
و هابه الناس فلم يفكر أحدٌ أن هذا الثرى هو نفسه سمعان الفقير البائس .
ولم يرد هو أن يكشف عن هويته ..
إنه هروب من نوع آخر
هروب إلى القمة .
وبعد هذه الرحلة الطويلة
ومع هذه الأموال الطائلة أراد سمعان أن يتزوج .
فقال لعجوز أريد أن أتزوج بأجمل امرأة بهذه البلدة .
فقالت ليس ههنا أحسن من " حسناء " .
فقال سمعان : أخطبيها على .
فذهبت العجوز إليها فكلمتها ،
ورغبتها فيه حتى رضيت "حسناء" .
وفى حفل بهيج تجمع الناس فيه للطعام والشراب .
وفى ليلة لا تُنسى عند أهل البلدة ،
تم زفاف هذه الفاتنة الحسناء "حسناء" ،
إلى ذلك التاجر الكبير والثرى المحسود " سمعان "
فدخل بها ،
فأعجبته إعجابًا شديدًا ، وأحبها كما لم يحب رجل امرأة .
وتعلقت حسناء هى الأخرى به تعلقًا شديدًا .
وشعر كل منهما أن الحياة قد وهبته مطلبه .

(5)
وبينما كانت " حسناء " تتسامر مع زوجها يومًا
قالت له : يا سمعان !
من أين أتيت وأين كنت تعيش قبل ذلك ؟
وفى حديث صادق قال لها سمعان :
يا حسناء . لو أنى تزوجت بامرأة أخرى ما أخبرتها أبدا بالحقيقة .
لأن ذلك يعرضنى للمتاعب .
فقالت له بعد أن انجذبت لحديثه : ولم ؟
فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في الجارية ،
وأنه أصلا من أبناء هذه البلدة ،
ولكنى ما قلت لهم ذلك حتى لا يعرفنى أحد ،
وأريد منك أن تكتمى سرى .
فقالت حسناء : يا لها من حكاية عجيبة حقًا .
أتدرى أين ذهبت البنت الصغيرة التى طعنتها ؟
قال : أين ؟!
قالت : إنها أمامك يا سمعان بشحمها ولحمها وكيانها !
إنها أنا
حسناء ..
زوجتك .
وأرته مكان السكين
فتحقق من ذلك ...
دارت رأس الرجل
وشعر أن الحياة واسعة لأبعد حد ،
لكنها فى نفس الوقت ضيقة كسم الخياط .
قال سمعان : لكن
قالت حسناء : لكن ماذا ؟
قال سمعان : وتصدقينى القول .
قالت : أصدقك .
قال سمعان : لئن كنت إياها فلا بد من أمرين :
الأمر الأول : أنك قد زنيت بمائة رجل قبل زواجنا .
فقالت بعد صمت وإطراق : لقد كان شيء من ذلك ،
ولكن لا أدري ما عددهم .
فقال سمعان : هم مائة
و الأمر الثاني : أنك تموتين بسبب عنكبوت
فضحكت .. حتى ملأت البيت بضحكها على كلامه
ثم قالت : أنا أموت بسبب عنكبوت !!
قال : نعم !
لقد تحقق كل شئ ،
ولسوف يتحقق ذلك .

(6)
كان الفرق واضحا بين الزوجين ..
أما الزوجة فكانت لا تبالى ،
وأما سمعان فقد خاف على زوجته ،
بعد أن أحبها وتعلق بها ، بل لم يتصور الحياة بدونها ،
فاتخذ لها قصرا منيعًا شاهقًا ،
بناه فى منطقة استشار فيها أهل العلم والمعرفة ،
وأكدوا له جميعًا أن هذه المنطقة لا يسكنها العناكب .
وصمموا البيت بحيث لا يدخل إليه حشرات ولا هوام ..
وصار الناس يتحدثون عن هذا البيت الفريد ، وهذا البرج المشيد ،
فيتعجبون ..
ويتمنى كل منهم أن يكون هذا البرج المشيد له.
ودارت الأيام والسنون ،
والرجل خائف على زوجته .. ولسان حاله يقول ..
ودع هُريرةَ إن الركبَ مرتحلُ
وهل تُطيقُ وداعًا أيها الرجلُ
بل لو أن الأعشى ميمون بن قيس - ذلك الشاعر العربى - رآى سمعان لظن أنه ما قال هذا البيت من الشعر إلا له .
أما حسناء ..
فكانت بطبيعتها لا تبالى ،
ولا تُعير هذا الأمر انتباهًا .
وفى أحد الأيام ..
وبينما هم يجلسون فى البيت الحصين ،
فإذا بعنكبوت تراه في سقف فأراها إياها ،
فقالت : أهذه التي تخاف منها علىَّ ؟!
والله لا يقتلها إلا أنا ،
فأنزلوها من السقف ، فعمدت حسناء إليها ،
فوطئتها بإبهام رجلها ،
فقتلتها .
وهى تقول : أهذه التى أموت بسببها .
وملأت الدنيا ضحكًا وبهجة .
وما علمت حسناء أن من العناكب أنواعًا سامة وأخرى غير سامة.
وما علمت حسناء أن هذا العنكبوت كان نوعًا سامًا مميتًا .
حيث قد طار شئٌ من سمها فوقع بين ظفرها ولحمها ،
واسودت رجلها ،
وكان في ذلك أجلها
فماتت بإذن الله ..
وقد علمت العرب هذه الحادثة وتحاكوها بينهم وصارت مثلا يُضرب بينهم .
وأراد الله أن يخاطبهم بما يعرفون فقال تعالى :
" أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا " [ النساء 78 ]
 

--------
ذكر هذه القصة الإمام ابن كثير فى تفسير الآية المذكورة

--------
ورحم الله الشافعى حين قال :

وأرض الله واسعة ولكن *** إذا نزل القضا ضاق الفضاء
 

قصص مؤثرة

  • قصص الرسول
  • قوافل العائدين
  • قصص نسائية
  • قصص منوعة
  • الحصاد المر
  • مذكرات ضابط أمن
  • كيف أسلموا
  • من آثار الدعاة
  • قصص الشهداء
  • الصفحة الرئيسية