اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/gesah/sami/4.htm?print_it=1

بأيّ ذنب قُتِلت ؟!

النقيب سامي بن خالد الحمود
عضو إدارة الشؤن الدينية في الأمن العام
ومكافحة المخدرات سابقاً

 
 عالم المخدرات عالم عجيب .. مليء بالأحداث والمواقف المؤثرة التي يعجز عن وصفها لسان أو قلم .
هذه صفحة من صفحات هذا العالم .. تحكي قصة معاناة عاشتها أسرة بريئة ابتليت بأبٍ ظالم .. قد شُغف قلبه بالمتاجرة في المخدرات ، وثقل سمعه عن آهات البنين والبنات .
في يومٍ من الأيام ، إبّان عملي في إحدى إدارات مكافحة المخدرات ، كلفت بالقبض على أحد مروجي المخـــدرات الذين - مع كل أسف - تلاعبت بهم شياطين الإنس والجن ، واتخذت منهم معاول هدم في كيان هذا البلد الطاهر .
يمر شريط أحداث القضية بسرعة .. يتم اتخاذ الإجراءات التحضيرية للإطاحة بالهدف ، ومن ثم تحديد ساعة الصفر لتنفيذ المهمة .. وبتوفيق من الله تعالى يتم القبض على هذا الرجل متلبساً بترويج كمية من الحبوب المخدرة .
لم ينته مسلسل الأحداث .. بل بقي فيه لحظات لا تنسى .
لقد ثبت أن هذا الرجل يتخذ منزلـه موقعاً لإخفاء المخدرات التي يقوم بترويجها وتعاطيها .. كان هذا الموقف يستلزم ضرورةً ضبط هذه الكمية وفق الإجراءات الأمنية المتبعة حمايةً للمجتمع من خطر هذه السموم القاتلة .
تقوم الفرقة بالانتقال مع المتهم إلى منـزلـه .. بالوصول إلى المنزل يترجل الجميع وقوفاً أمام باب المنـزل وقد نصب الصمت أطنابه على أفواههم ، وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة .. يتقدم المتهم نحو منزلـه .. يطرق الباب ، فتنطلق على الفور نبراتٌ من الفـــرح والسرور تملأ أفواه مجموعة من البراعــم الأبرياء وراء الباب : هيــه .. جا بابا .. جا بابا ، بينما تداعب إحدى الصغيرات أباها بكل رقة وحنان : بابا لن أفتح لك الباب .. وتالله ما علمت المسكينة ما الذي يكمن وراء الباب .
أما المشهد في الخارج، فألم وحزن يخيم على وجوه الحاضرين .. يتبادلون نظرات الأسى .. بينما أرخى بعضهم لرؤوسهم العنــــــان وهم يهزونها يميناً وشمالاً حتى اتكأت على صدورهم من شدة الموقف .
لم تمض سوى لحظات حتى فتح الأطفال الباب ، وفي مخيلتهم ذلك الأب الحبيب الذي ربما يحمل في يديه لعبة ، أو حلوى .. أو على الأقل يحمل على وجهه ابتسامة مشرقة .. لكنهم يفاجئون به مجرمًا محاطاً برجال الأمن ، فتنقلب النبرات إلى آهات .. والأفراح إلى أتراح .. والآمال إلى آلام ، فلو رأيتهــم وهذا يحتضن رجل أبيه .. وهذه تتعلق بثيابه .. وأخرى في عمر الزهور تحدق بعينيها عاجزة عن تفسير الحدث .
أقول : لو رأيتهم لبكيت بكاءً جماً .. ولتفطر قلبك ألماً .
بعد هذا المشهد المؤلم يؤدي رجال الأمن واجبهم في مشهد آخر من مشاهد الألم والشقاء ، تمثّله صورة شاحبة لبيت البؤس الذي تستظل به هذه الأسرة .. تدخل غرفة الجلوس فلا ترى إلا أثاثاً متهالكاً ، وفرشاً مبعثرة .. أما غرفة الطعام فمسرح للقذى ومرتع للأوساخ .. وأما المؤنة وما أدراك ما المؤنة فما هي إلا بقايا من الحبوب والمعلبات المعدودة .. لا تكاد تسمن ولا تغني من جوع .
ضَنْك في المعيشة .. وشَظَف في الحياة .. ومع هذا .. فالأب غارق في غفلته .. متمادٍ في إهماله لأسرته .
وفي نهاية المشهد يتم العثور على كمية من المخدرات في المنزل .. ثم يغلق الستار بمغادرة المنزل وسط عاصفة مدوية من بكاء الأبرياء الذين وقفوا على باب المنزل ..يودّعون إنساناً كانوا يتربون في كنفه .. ويتراكضون إلى حضنه .. يقال له : ( بـابا ) .
في خضم ذلكم المشهد المؤلم عصفت بي مشاعرٌ من الأسى تجاه هذا المجرم : أما تخاف الله ؟ ألم تفكر في هذا المصير؟ أهكذا يرعى الأب فلذات كبده ؟ ما ذنب هؤلاء الأبرياء في هذه المأساة؟ وما جريرتهم في تحمل المعاناة ؟ .
تقدمت إليه وجهاً لوجه ، سألته لعلي أجد جواباً .. لكنه لم ينبس ببنت شفة عدا كلمتين .. قال : أنا السبب ، ثم انهمك في بكاءٍ حار .. وقد قلت على لسانه :

إليكم ســـادة الــفـكــرِ
جـرت فيـهـا دمـوع الــحــز 
بـقـلـبـي لــوعــة الأسْــرِ
فيا حـزني عـلى التــفـــريــ
فـكـم مـن حــبـةٍ أضـحــت
وكــم سـيــجــارةٍ أذكــت
فـأكبــو حـيــن أشــربـهــا
وعـقلـي صـار بالـتــخــديــ
فـــلا ألــوي عـلى أحــــدٍ
تـُراع بُـنـيـّتـي الــعـبــرى
أبـي .. بـل لـست أنـت أبـــي
أبـي قــد كــان يـغــمـرنـي
يـداعبـنـي فـأسـعـد حــيــ
وأنــت الـيـوم تــغـتـال الــ
فــأضحــت كـل آمـــالــي
أقـــاســي الــجــوع و الآلا
لـهـيب الــيتـم يـحـرقـنــي
أبــي تـب قــبـل أن تـُـنـعَـى
وتلــقـى بــعـدهــا أهـــوا
إذا ما قــمــت لـلــرحــمـ
فـيا أبـتــاه هـل مــن تـــو
تـهـاجر من بــقاع الــخِـــدْ
  مــعـاناتـي مـــع الــخِــدْرِ
ن بـين الـسـطــر والســطــرِ
ومـوتٌ يــقـتـفــي أثـــري
ـط فــيـما ضاع مـن عــمـري
بـها الأمـراض تـسـتـــشــري
بـأحشائـي لــظـى الــجــمـرِ
وأشـعـــر أنـنـــي أجـــري
ـر بــين الــمـد والــجــزرِ
يـعـاتـبنـي مـن الــبــشــرِ
فـتـقضي الـليــل فــي ذعــرِ
فأنــت الـخِــبُّ ذو الــغــدرِ
بــفـيض الـحــب والـطـهــرِ
ـن يـبــدو بــاسم الـثــغــرِ
ـفضـيـلـة فـي ربــى صــدري
سرابــاً فــي ثـرى الــفــقـرِ
م مـن عــســرٍ إلـى عــســرِ
و حــيٌّ أنــت ، لا تــــدري
وتـوْسـد ظــلـمـة الــقــبـرِ
ل يـوم الـبـعــث والــنــشـرِ
ـن قــد أُثـقـلـت بـالـــوزرِ
بـةٍ تـنــهـي بــها قــهــري
ر لـلــقــرآن والــذكـــرِ .

وفي نهاية المطاف يجرى التحقيق مع المتهم .. ويقدم للعدالة لينال جزاءه الرادع ، والذي يمثل في حقيقته إصلاحاً وعلاجاً لنفسه المريضة .. وصيانةً لأسرته وللمجتمع بأكمله .. و حفاظاً على قـيم هذا البلد وأخلاقـه من أن تمسها أيدي السفهاء العابثين .. حمى الله بلاد التوحيد من كل شيطان مريد .

 

سامي الحمود
  • كتب وبحوث
  • محاضرات
  • كلمات قصيرة
  • منبر الجمعة
  • مذكرات ضابط أمن
  • تحقيقات ميدانية
  • مقالات وردود
  • معرض الصور
  • قصائد
  • فتاوى أمنية
  • صوتيات
  • الجانب المظلم
  • الصفحة الرئيسية