اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/leqa/19.htm?print_it=1

حوار مجلة البيان
مع فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
مجلة البيان العدد 132 شعبان 1419هـ

 
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عـالـم جـلـيـل أفنى ما مضى من حياته في العلم والتعليم والإفتاء...، اشتهر بتواضعه، وسعة صدره، وصبـره، كـمــا عُرف باجتهاده وعلو همته، حتى صار له في الأسبوع: اثنا عشر درساً ـ منها ما يمتد لثلاث ساعات ـ، ويجلس لبذل العلم كل يوم بين العصر والمغرب، هذا بالإضافة إلى عمله (عـضــــــو الإفتاء) في دار الإفتاء بالرياض، وذلك إلى قبل أشهر يسيرة؛ حيث أحيل للتقاعد ـ حـفـظـه الله، ومتعه بالصحة والعمل الصالح الذي يرضي الله ـ.
وقد كان لنا معه هذا اللقاء المبارك؛ حيث اقتطعنا جزءاً من وقته الثمين، فتفضّل بالإجابة عـلـى أسئلة (البيان) وإنا لنرجو أن يجزيه الله عن الجميع خير الجزاء، وأن يوفقه لأداء رسالـتــه في العلم والتعليم والتوجيه، وأن يختم له بصالح الأعمال. وإلى الحوار مع فضيلة الشيخ ـ حفظه الله ـ.


1- هل لفـضـيلـتـكـم أن تحدثنا ـ باختصار ـ عن طلبكم للعلم.. كيف كان؟ وعلى يد مَنْ مِنَ العلماء تلقيتم العلم؟
جـواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه.
وبعد: فإن الله ـ سـبـحــانه ـ له الحمد والفضل والمن والثناء الحسن، فهو الذي يوفق من يشاء ويهدي من يشاء فضلاً منه وكرماً، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، ولا يظلم ربك أحداً.
أقول: إنني معترف بالنقص والقصور، وقلة التحصيل، وضعف المعلومات، وكثرة النسيان، وضياع الكثير من العمر في غير فائدة؛ فعندما أقرأ في تراجم بعض العلماء كالشافعي وأحمد وابـن راهـويــه، والبخاري، وابن معين ونحوهم، أعرف الفرق الكبير، والنقص الجلي في نفسي، وأن لا نـسـبـة إلى أحدهم ولو من بعيد، وكذا عندما أقرأ في مؤلفات بعض العلماء الربانيين، كابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وأمثالهم ممن فتح الله عليهم، وألهمهم العلم والفهم، والإدراك والــذكاء والفطنة، أرى ما منحهم الله ووفقهم له مما لا أصِلُ إلى عُشر معشاره، ولا أحلم بإدراك معـلــوماتهم، ولو بعد التأمل والتفكر، وهكذا عندما نسمع سيرة إمام الدعوة الشيخ محمد بن عـبــــد الوهاب وبنيه وتلامذته، ومن تبعهم، ونقرأ في رسائلهم ومسائلهم، نرى ما وهبهم الله ـ تـعـالـى ـ، ومـا منحهم من العلم النافع، والفهم الثاقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
نشأة الشيخ:
ثم أقول إنني نشأت في قرية (الرين) التابعة للقويعية، وفـي كل صيف غالباً أكون في قرية (محيرقة) من قرى (القويعية) فابتدأت بتعلم القرآن والهجاء من والدي ـ رحمه الله ـ، ومن إمام جامع محيرقة العم سعد بن عبد الله بن جبرين ـ رحـمـــه الله ـ، وذلك في سنة تسع وخمسين من القرن الرابع عشر الهجري، وفتر العزم عن الحـفـظ؛ حيث لم يكن من يتابع معي، فلم أكمل حفظ القرآن إلا في سنة ثمان وستين، وقد قرأت قـبـل ذلك على والدي ـ رحمه الله ـ في النحو والفرائض والحديث، وبعض الكتب المطولة، فبعد إكمال حفظ القرآن ابتدأت في القراءة على فضيلة قاضي الرين، الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، وشهرته (أبو حبيب)، وواصلت القراءة عليه في المتون والشروح في التوحيد والعـقـيـــدة والحديث والفقه والتفسير، وحصل بذلك خير كثير، ثم في عام أربع وسبعين انتقلنا إلى الــريــاض؛ حيث فتح معهد إمام الدعوة العلمي، وانتظمت فيه، وكانت قراءتنا في الـصــبــاح عـلـى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ، وفي أثناء النهار على غيره مــــــن المشايخ كإسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاري، وعبد العزيز بن رشيد، ومحمد المهيزع وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى ـ، ونقرأ في المساء على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعد العـصــر وبعد المغرب، وأنهيت الدراسة النظامية في عام 1382هـ، ومنحت الشهادة العالية من الـمـعـهـد، وتعادل الجامعة، وفي عام 1388هـ انتظمت في المعهد العالي للقضاء حتى عام 1390هـ، حيث منحت شهادة الماجستير، بعد أن قدمت رسالة في أخبار الآحاد وهي مطبوعة، وفي عــــام 1407هـ حصـلـــت على الدكتوراه؛ حيث قمت بتحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرقي الذي طبع بـعـــد ذلك بتحقيقنا في سبعة مجلدات. والله الموفق.


2- لو أردنا المقارنة بين ذلك الوقت، وبين اليوم؛ من حيث إقبال الشباب على العلم، فهل نجد فوارق بارزة بين المرحلتين، وهل كانت تتوسطهما مرحلة أخرى تتميز عنهما؟
جـواب: لا شك أن هناك فوارق كبيرة لها تأثيرها في كل من المرحلتين، ولكل منهما ميزة ظاهرة، فقبل خمسين عاماً كان في هذه المملكة قلة في العلماء الربانيين البارزين، سيما في القرى والبلاد النائية؛ وذلك لأن طلاب العلم أفراد وأعداد قليلون وتغلب العامية على الأكثر؛ وذلك لأنهم عاشوا في فقر وفاقة، وشظف عيش، وقلة في الإمكانيات؛ فالمواطنون يهمهم الحصول على لقمة العيش، فالبوادي الرحل يتبعون مواضع القطر لمواشيهم التي بها معاشهم ومعاش عوائلهم، فهم أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، وأكثرهم جهلاء، قد لا يحسنون قراءة الفاتحة، ولا صفة الطهارة والصلاة، إلا ما شاء الله، وأهل القرى منشغلون بتحصيل الرزق والقوت، إما في حرث وغرس فيعملون طوال الوقت في السقي والحرث، والأبر والغرس والإصلاح، وإنما يتفرغون لأداء الفرائض جماعة، وسماع ما يقرأ في الصلاة، ولا يجدون غالباً من يلقنهم تعاليم الدين، وآخرون أهل صناعة من الصناعات اليدوية، كحدادة ونجارة، وخرازة ودباغة، وحياكة ونحوها مما يتحصلون منه على القوت الضروري، كغذاء أو كسوة وسكن يكنهم عن الحر والقر، وآخرون منشغلون في التجارة التي تتوقف على الرحلات، والأسفار الطويلة، حيث تستغرق الأشهر، يقطعون فيها المفازات والصحاري، مما لا يتفرغون معه لتعلم أو تفقه في الدين، وإنما يتلقون من آبائهم العلوم الضرورية في العبادات قولاً أو فعلاً، ومع هذه الأحوال فإن هناك من اهتموا بالطلب والتعلم، فتجشموا الصعاب، وقطعوا المراحل البعيدة، وتغربوا عن الأوطان؛ ولازموا العلماء في المدن أو في بعض القرى، على ملء بطونهم، وكسوة ظهورهم، وأكبوا على التلقي، واهتموا بالحفظ والفهم، واستهموا على الوقت، وأقبلوا بكلياتهم على التعلم، فوفقهم الله وسدد خطاهم، وأعطاهم ما تمنوا رغم قلة الإمكانيات، وبُعد المسافات، وكثرة المعوّقات، ولكنهم صبروا على المشقة، وركبوا الصعوبات، حتى مكنهم الله وأعطاهم ما تمنوا، ولكنهم قلة قليلة يتواجدون في المدن، وحول حملة العلم، وأكابر العلماء الذين أنزل الله في علمهم البركة، واهتموا بتعليم العقائد والعبادات والأحكام، وبارك الله في سعيهم، وذلك لحسن النيات والمقاصد؛ حيث لا يريدون عَرَضَ الدنيا، وإنما قصدوا الاستفادة وحمل العلم، والتفقه في الدين، ولا شك أن هذا الجهد الذي يبذلونه، وهذه المشقة التي يتجشمونها، قليلة بالنسبة إلى ما نسمع ونقرأ عن جهود سلفنا الصالح، وعلماء صدر هذه الأمة، في القرون المفضلة، ومن سار على نهجهم، الذين يتغربون عن أهليهم عدة سنوات، للتعلم والاستفادة، ويسافر أحدهم للتحمل والأخذ عن المشايخ الأكابر الشهر والأشهر، ويسهرون الليالي في طلب المعاني، مما كان سبباً في بقاء علومهم، والانتفاع بآثارهم، والبركة في مؤلفاتهم، وبقاء لسان صدق لهم فيمن بعدهم، فرحمهم الله وأكرم مثواهم.


3- تتباين وجهات النظر في الأسلوب الأمثل والطريقة الأكمل لطلب العلم؛ من الاكتفاء بمجالسة العلماء، أو إدامة القراءة، أو حفظ المتون، أو الدراسات المنهجية في الجامعات.. نود تجلية الأمر للإخوة القراء من خلال خبرتكم الطويلة في التعليم.
جـواب: لا شك في اختلاف الرغبات، والتباين الكبير في طرق التحصيل عند طلاب العلم، والذي أراه أن لكل طالب التمشي على ما يميل إليه ويتأثر به، ويرى فيه الفائدة وإدراك المعلومات، ومع ذلك فإن مجالس العلماء، وحضور الحلقات، وإدامة الملازمة للدروس اليومية أو الأسبوعية التي تقام في المساجد ونحوها، مفيدة ونافعة، ولها تأثير كبير في تحمل العلم، وتجديد المعلومات، وما ذاك إلا أن الدافع إليها غالباً هو الاستفادة؛ حيث يتوافد الطلاب إلى تلك الحلقات، ويأتون من أماكن بعيدة أو قريبة، وتراهم خاشعين منصتين، وكل منهم غالباً يحمل معه كتاباً يتابع فيه المدرس، أو دفتراً لتعليق الفوائد، وكتابة المعلومات؛ بحيث يرجع الطالب بحصيلة علمية نافعة، تبقى معه طوال حياته، ومع ذلك فإن المطالعة وإدامة قراءة الكتب العلمية مفيدة جداً، لكن لا بد قبل ذلك من معرفة المقدمات، والأساليب والاصطلاحات للمؤلفين، ولا بد من معرفة اللغة الفصحى، وما يتصل بها من النحو والصرف والبيان، حتى تتم الاستفادة منها؛ حيث إن الكثير من الطلاب يصدهم عن القراءة في الكتب جهلهم بالمصطلحات، وقصورهم في المعلومات اللغوية، حتى فضّل الكثير ما كتبه المتأخرون، وأكبوا على القراءة للمعاصرين، وإن لم نعرف الصوارف عن مؤلفات الأقدمين. ثم نقول: إن حفظ المتون والمختصرات، واستظهار الأحاديث، والقواعد، والأركان والواجبات، له الأثر الكبير في بقاء المعلومات، فلقد كان مشايخنا الأكابر يذكرون عن نشاطهم وتسابقهم إلى الحفظ، ويحثون تلامذتهم على ذلك، حتى رأينا منهم العجب في استحضار النصوص والأدلة عند الحاجة إليها، وكانوا يلزمون من أراد الالتحاق بالتعلم أولاً: بحفظ القرآن الكريم، وثانياً: أثناء الاستعداد بحفظ المختصرات في النحو والفرائض، والأحاديث في الأحكام، والتوحيد والعقائد والفقه، والتفسير، أما في هذه الأزمنة فقد لاحظنا فتوراً ظاهراً في الحفظ والاهتمام بالمتون، وإنما يكتفون بالفهم وإدراك المعاني من المتون، أو من الشروح، أو من التقارير والتعليقات، وذلك قد يكفي لمن حصل له الفهم التام، ورزق حفظاً دائماً. فأما الدراسات المنهجية فقد أصبحت من الضروريات؛ بحيث لا يخل بها إلا القليل، بل يلتزم الأكثرون بها، رجالاً ونساءً، انتظاماً وانتساباً، والغالب أن القصد منها هو الحصول على المؤهل الذي يمنح لهم بعد الانتهاء من كل مرحلة، ولا شك أن الالتزام بذلك مع المواصلة إلى نهاية المرحلة الجامعية مما يفيد كثيراً؛ حيث إن الطفل يبدأ من مبادئ العلوم، ثم يترقى إلى ما بعد ذلك سنة بعد سنة، ومرحلة بعد مرحلة، فمتى كان قصده الاستفادة، وتحصيل المعلومات النافعة، فإنه سيحصل من ذلك على قسط كبير، يبقى معه أثر طوال حياته، ولكن لا بد مع ذلك وبعده من مواصلة التعلم، وبذل الجهد في التحصيل، فإن العلم كثير، وطالب العلم لا يكتفي بما حصل عليه، كما في الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا). وكان العلماء يوصون تلاميذهم بالاستمرار في الطلب، ويقول أحدهم: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد)، ويقولون: (مع المحبرة إلى المقبرة) فعلى المسلم الجد في الطلب بما يقدر عليه، وما يراه نافعاً في حقه. والله أعلم.


4- لا يخفاكم واقع مناهج التعليم في جل بلاد العالم الإسلامي.. مما جعل بعضهم يرغب عن التعليم النظامي جملة: ما الموقف الصحيح تجـاه هذا المنهـج: ألا ترى ـ فضيلتكم ـ أن لذلك سلبيات لا سيما مع قلة العلماء العدول فضلاً عن حاجة الأمة لتعليم ناشئتها مختلف العلوم والفنون؟
جـواب: لا شك في صلاح النية، وحسن الأهداف عند تقرير المناهج التعليمية، في أغلب البلاد الإسلامية، ثم مع مرور الزمان، نشأ من يريد في الظاهر قصداً حسناً، والله أعلم بما يضمره، فاقترح تغيير المناهج القديمة، أو الاقتضاب من بعضها، وإضافة علوم أو مواد ثانوية، وفرض دراستها، مع قلة الحاجة إليها، أو عدم أهميتها، أو اختصاصها ببعض الأفراد، فكان ذلك سبباً في عزوف كثير عن التعليم النظامي، إما لصعوبته، أو لنفرة بعض النفوس عنه، أو لقة الفائدة التي تعود إلى ذلك الطالب، وميل نفسه إلى علوم وأعمال أخرى، وكان الأوْلى أن يجعل لهؤلاء مدارس خصوصية، يقرر فيها دراسة العلوم الدنيوية الضرورية، مع المواد الشرعية، ويعفى من ينتظم فيها عن علم الجبر والهندسة، واللغات، والفيزياء وشبهها، ثم إن هذه العلوم لا شك في أهميتها، ومسيس الحاجة إليها، ولكن ذلك في حق من يرغبها، ويجد من نفسه ميلاً إلى التعلم والعمل بها، ثم إن طالب العلم في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها، يجب عليه حسن النية في دراسته لتلك المواد، فيقصد أولاً: حمل العلم النافع، ليفوق الجاهل به، فقد قال ـ تعالى ـ: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الزمر: 9]، أي لا سواء بين العالم بالفن والجاهل به، ويقصد ثانياً: نفع نفسه ونفع الأمة، سواء في أمر الدين أو أمر الدنيا؛ حيث تمس الحاجة إلى تعلم هذه الفنون، ويستفيد حاملها، ويعلّم غيره، ويغني نفسه، ويكتفي بصناعته أو حرفته، ويقصد ثالثاً: فيما يتعلق بالعلوم الشرعية فضل حاملها، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). ويقصد رابعاً: العمل على بصيرة؛ فإن من شرط قبول العمل موافقته لما ورد به الشرع، فمن عمل على جهل فعمله مردود، وخصوصاً إذا تمكن من التعلم فأعرض عنه، ولا شك في خطأ الذين عزفوا عن التعليم النظامي، لأي سبب عرض لهم، ولذلك نراهم أصبحوا عالة على أهليهم، قد عطلوا أنفسهم، وصاروا كلاً وثقلاً على أولياء أمورهم، وقد روي عن بعض السلف ـ رحمهم الله ـ أنه قال: الناس ثلاثة أقسام: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وسائر الناس همج رعاع لا خير فيهم، يغلون الأسعار، ويضيقون الديار، ثم إنهم بعد أن أفاقوا من سكرتهم، وانتبهوا من رقدتهم، أسفوا أشد الأسف على ما ضاع من أوقاتهم، ولكن ذلك بعد أن تفارط الأمر، وفات الأوان. والله المستعان.


5- يشكو كثير من طلاب العلم المواظبين على حِلَقِ العلم من طول مدة إنهاء كتاب من الكتب، التي قد تمتد لسنوات.. فما تعليقكم؟
جـواب: هذا مشاهد ملحوظ، ولكنه ليس مطرداً في جميع طلبة العلم الذين يرغبون في المواصلة والاستمرار في الطلب، ولا تكل جهودهم، ولا تضعف هممهم، فنوصي طالب العلم، أن تكون همته عالية، وأن لا يعتريه سآمة ولا ملل، وأن يتذكر أحوال السلف وعلماء صدر هذه الأمة، وما بذلوه من الجهد، والتعب والنصب في طلب العلم، وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه ـ رحمه الله ـ أنه قال: (أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ولما زاد على ألف فرسخ تركت الحساب. وذكر أنه سار ماشياً من الكوفة إلى بغداد مرات عديدة، ومن مكة إلى المدينة مراراً، ومن البحر من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثم من طرسوس إلى حمص، ومن حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، وقبل ذلك من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً في سفره الأول، وسنه عشرون عاماً، وقد نقل عن غيره أكثر من ذلك. وبالجملة نوصي طالب العلم بالمواصلة، ولو طالت المدة، سواء في الدراسة النظامية، أو في الحلقات العلمية، ونوصي المشايخ أن يتنزلوا على رغبات جمهور الطلبة، في تعليمهم ما يساعدهم على حمل العلم، من المختصرات المفيدة، حتى لا يملوا، فمن رغب في المطولات، واستمر على المواصلة فهو أوْلى، حتى يتزود من المعلومات المفيدة. والله أعلم.


6- ما يزال الشباب يتوافدون ـ بحمد الله ـ على دروس العلم، لكن الملاحظ سرعة تبدل بعض الطلبة بحيث لا يستمر بعضهم إلا أشهراً، وقد يكون ممن ابتدأ قراءة كتاب على بعض أهل العلم... ويخشى بعض المحبين من خطورة الأمر.. فما رأي فضيلتكم في العلاج الأمثل لحث الطلبة على مواصلة العلم وتلقيه عن العلماء المشهود لهم؟
جـواب: نوصي طالب العلم أن لا يعتريه ملل، ولا يثنيه كسل؛ فإن العلم كثير، والعمر قصير، وذلك أن الطالب للعلم همته رفيعة، فهو لا يشبع من التعلم، ولا ينثني عن المواصلة، ولقد كان الكثير من العلماء الأكابر يقرؤون ويستفيدون، حتى من تلامذتهم، ولا يحتقر أحدهم من دونه أن يتلقى منه فائدة، وكان التلاميذ يلازمون مشايخهم، ويتكرر أحدهم على مجالس العلم، إما للتذكر أو للتزود، حتى ولو كان عالماً بما يقول شيخه، وذكروا أن من آداب التلاميذ أن يظهروا لمشايخهم الشكر، والدعاء لهم، حتى لو كانت المسألة معلومة عندهم، فإذا سمع الفائدة أظهر لشيخه أنها جديدة، وأعلن بشكره عليها، ولو كانت معلومة له من قبل، واستشهد بعض المشايخ بقول الشاعر:
إذا أفــادك إنـســــان بـفــائـــــدة من العلوم فلازمْ شكـره أبــدا
وقل: فلان جـزاه اللـه صالحـة أفادنيهـا، وألقِ الكِبْـَر والحسـدا
وعلى المدرس أن يحث الطلبة على المواصلة والاجتهاد، والحرص على إكمال الدراسة، سواء كانت نظامية أو علمية، وأن يتصور فائدة المواصلة والمتابعة، وما يترتب على الانقطاع من ضياع المعلومات، وذهاب ما بذله من الجهد، وليعلم أن العلم لا يحصل لمتكبر، أو متوان، أو مستحْيٍ، وأن العلم بالتعلم، وبالحفظ والإتقان والفهم والإدراك.


7- لعل من أسباب ضعف الاستمرار: سوء اختيار الطالب للدرس الذي يحضره، أو الكتاب الذي يدرسه؛ لكونه لا يناسب مستواه العلمي، ألا ترون أن هناك حاجة إلى جعل الطلبة على مستويات ـ اثنين أو ثلاثة مثلاً ـ ينظر في إلزام الطالب الراغب في الالتحاق بما يناسب مستواه؟
جـواب: قد عرف أن طلبة العلم يتفاوتون في المستويات، وهكذا في الرغبات، ولذلك يكثر تواجدهم في بعض الفنون دون بعض، وعند بعض المشايخ دون البعض، وقد يكون السبب قلة الرغبة من بعضهم في إحدى المواد؛ حيث إن منهم من لا يرى الاشتغال بالفقه الذي يغلب عليه أنه اجتهاد من الفقهاء، والكثير منه لا دليل عليه، وبعكس هؤلاء آخرون رأوا أهميته؛ لأنه يتعلق بواقع الحياة، ويحتاج إليه الفرد والمجتمع، ولا بد من الفتوى به عند وقوع حادثة، فهو من العلوم الضرورية في كل زمان ومكان، ولهذا كثرت فيه المؤلفات من العلماء الذين رزقهم الله العلم والفهم بالوقائع، وتطبيق النصوص على الحوادث، ثم إن من الطلاب من يفضل نوعاً من العلوم الفقهية، كقسم العبادات، ويحب تكرارها في عدة كتب، ولا يرغب في قسم المعاملات وما بعده، وبعكسه آخرون يفضلون الاجتهاد في فهم المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، فعلى هذا لا مانع أن يقسم المدرس الوقت بين الطلاب؛ فمن رغب في النحو واللغة والصرف والبلاغة والبيان جعل لهم وقتاً، واختار مادة أو مختصراً يناسبهم جميعاً، ومن رغب في الحديث حدد لهم درساً في يوم أو أيام، ومن رغب البدء من أول العلوم ابتدأ بالتوحيد والعقيدة التي تناسب المبتدئين، ومن رغب في الفقه من أوله أو من وسطه أعطاهم رغبتهم، ولعله بذلك يفيد المستفيدين، ويحصل كل منهم على ما تميل إليه نفسه. والله الموفق.


8- تلقى فتاواكم ـ بحمد الله ـ ارتياحاً عاماً، يعزى فيما نحسب ـ بعد توفيق الله تعالى ـ لحسن فهمكم روح الشريعة ومراعاة مقاصدها، واعتبار المصالح والمفاسد.. هل من توجيه لطلبة العلم في هذا الصدد؟
جـواب: أعترف على نفسي بالقصور والنقص، وكثرة الخطأ، وأسأل الله العفو والغفران، وستر العيوب والنقائص؛ حيث إني أكتب أجوبة الأسئلة التي ترفع إليّ بدون مراجعة، أو بحث في أقوال العلماء غالباً، نظراً إلى كثرة الأعمال، وعجلة السائل، والارتباط بالمواعيد والدروس، وأعتمد فيما أكتب على معلومات قديمة علقت بالذهن وقت الطلب والتلقي عن المشايخ، أو تجددت وقت التدريس الرسمي الذي كنت أستعد له وأراجع وأحضّر قبل الإلقاء، أو حصلت من الممارسة وتكرر المرور، ومن المطالعات والدروس الجديدة التي أقوم بإلقائها في المساجد. فأما القابلية لها عند العامة أو التلاميذ فلعل ذلك لحسن الظن، ولما يتلقونه من الدروس التي يتقبلونها، واثقين بصحتها ومع ذلك فإني أقول: ما كان فيها من صواب فمن الله ـ تعالى ـ وهو الذي وفّق له وهدى، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله مما وقع مني. وأقول: على طلاب العلم أن لا يعتمدوا على فتوى تخالف الدليل أو الحق والصواب، فإن على الحق نوراً، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، فلا بد من مراجعة الكتب والمؤلفات، وتطبيق الفتاوى الاجتهادية لي ولغيري على كلام العلماء، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، والله أعلم.


9- (لحوم العلماء مسمومة)؛ فما واجب أهل العلم وطلبته في حماية أعراضهم؟
جـواب: اشتهرت هذه العبارة بين الأمة، وهي تفيد معرفتهم بفضل العلماء، ومكانتهم في المجتمعات، ومنزلتهم بين الأمة، ولعل من أسباب تكرار هذه الكلمة ما وقع فيه البعض من الطلبة أو العامة، أو المنتسبين إلى العلم، من كثرة القدح والعيب والتنقص والاغتياب لبعض علماء الأمة، وأكابر الدعاة والمعلمين، وقد يكون الحامل لهؤلاء الحسد الذي يكثر بين حملة العلم، وقد ذكر ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ في (جامع بيان العلم وفضله) باباً كبيراً في طعن العلماء بعضهم في بعض، قال: والصحيح أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته، ... والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور المسلمين إماماً في الدين، قول أحد من الطاعنين، أن السلف ـ رضوان الله عليهم ـ قد سبق من بعضهم كلام كثير في حالة الغضب، ومنه ما حمل على الحسد، كما قال ابن عباس: (استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِها). وفي قول له: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة). ثم نُقِل عن أبي حازم عن أبيه أنه قال في أهل زمانه: فصار الرجل يعيب مَنْ فوقَه ابتغاء أن ينقطع عنه، حتى يرى الناس أنه ليس بحاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس...إلخ. وقد ذكر أمثلة من طعن بعض العلماء في بعض نظماً ونثراً، وقد اشتهر طعن الإمام مالك وهشام بن عروة في محمد بن إسحاق، وبالعكس، ولم يكن ذلك موجباً لرد روايتهم، وهكذا طعن ابن حجر في العيني، والعيني في ابن حجر، وكذا ما حصل بين السيوطي والسخاوي؛ وذلك لأن الحامل على ذلك المنافسة والحسد، وحب الظهور، وإذا كان ذلك ليس من أخلاق العلماء المتواضعين، فعلى هذا لا يجوز سماع الطعن في العلماء المشهورين، ولا يلتفت إلى من أخذ ينقّب عن مثالبهم، ويتتبع أخطاءهم، فيجعل من الحبة قبة، ويتغافل عن فضائلهم وآثارهم، وعلومهم الجمة التي نفع الله بها، والله عند لسان كل قائل وقلبه.


10- ما أهم ما يميز العالم من الخُلق، مما يمنحه قبول الناس له؟ وما جوابكم على من يخلط بين الهيبة والتعالي؟
جـواب: لقد كتب العلماء في أخلاق العالم وأكثروا، سيما إذا تولى عملاً ذا أهمية كالقضاء والتعليم ونحو ذلك، ونحيل القـارئ على كتاب: (تذكـرة السامـع والمتكلـم، في آداب العالـم والمتعلـم)، لابن جماعـة ـ رحمه الله ـ ولا شك أن العالم له مكانته بين الناس، وأن عليه أن يتواضع لمن سأل، ويصغي لمن يستفيد منه، ويلين جانبه، ويظهر للطلاب الفرح والاستبشار، ويلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط، ويفرح بتوافدهم وكثرتهم عنده، ويسره أن يستفاد منه، وعليه أن يبدأ بطلب القراءة عليه، ويعرض على التلاميذ أن يجلس لهم في مادة كذا وكذا، أو يسألهم عن رغبتهم، ويجيب مطلبهم، وأن يلتمس ما يميلون إليه من البسط أو الاختصار، ومع ذلك فلا يضع نفسه موضع الذل والاستضعاف والهوان، بل يترفع عن مجالس السفه واللهو واللعب، وإضاعة الوقت، مما يسقط مكانته، ويضع قدره عند تلاميذه، وأن لا يشمخ بأنفه، ويتكبر على بني جنسه، مما يعيبه به العلماء والتلاميذ، ولكن بين ذلك، فيكون ليناً بلا ضعف، قوياً من غير عنف، حليماً ذا أناة، كما ذكروا ذلك في القاضي.


11- من المشتغلين بالعلم من يـرى ضرورة احتجابه عن مخالطة العامة؛ لأجـل توفيـر الجهد والوقت؛ فما مدى توافق ذلك مع الهدي النبوي؟ وهل القاعدة في هذا الأمر مطّردة، أم يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة؟ وما ضوابط المخالطة المناسبة لأهل العلم وطلابه؟
جـواب: قد علم أن لحامل العلم مكانته ومنزلته التي فضله الله بها على غيره، ومتى خالط السفهاء وعوام الناس، واندمج معهم، لقي إهانة وذلاً واحتقاراً، وسمع من سخيف القول، ومستهجن الكلام، ما يترفع عنه حملة العلم الذين قال الله عنهم: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [المجادلة: 11] ولقد صور ذلك الشيخ أبو الحسن الجرجاني ـ رحمه الله ـ بقوله:
يقولــون لـي فـيك انقـبـاض وإنمـا رأوا رجـلاً عن موقف الذل أحجما
ولم أتبذل في خدمـة العلم مهجـتي لأخـدم من لاقيـت لـكـــن لأخدمـا
أأشقى به غرســــاً وأجنـيـــه ذلـة إذاً فاتباع الجهل قد كـــان أحزمـا
ولو أن أهل العلـم صانوه صــانـهـم ولو عظموه في النفوس لـعـظّـمـــــــا
ولـكـــن أهـانــــوه فهانـوا ودنسـوا محـيـــاه بــالأطمـاع حتى تجهـمـا
وأقول أيضاً: إن الاحـتـجـاب العام عن الجميع غير لائق؛ فإن الناس بحاجة إلى مجالسة أهل العلم، والتلقي عنهم، والـبـحـــث مـعهم عن المعضلات وما يشكل عليهم، فلهذا متى ابتعد العالم عن العامة حتى عن الطلاب عـيـب عـلـيه هذا الابتعاد، ومتى اختلط بالعامة وغوغاء الناس ومن لا يعرف مكانته عيب ذلك عـلـيــه، فلا بـد أن يحفـظ نـفـســـه ووقته للاســـتفـادة والـقـــراءة والمذاكرة، ولا بد أن يتبسط ويفتح صدراً رحباً لمن زاره أو استزاره لتحصل الاستفادة مـــن معلوماته، ويتجدد ما في ذاكرته من معلومات ومفاهيم، وينفق مما أعطاه الله، ولا شك أن الـنـاس يختلفون، وبينهم تباين كبير في الآراء والأعمال؛ فمن كان ميله إلى المذاكرة والكتابة والـتــألـيــف آثر ذلك على التعليم والتدريس، وساغ له أن يتفرغ للقراءة والبحث والكتابة ونحو ذلـك، ولـكــن لا ينبغي له أن يحتجب دائماً، بل عليه أن يفسح المجال لبعض الزوار والمستفيدين. وأمــا مــن آثــر التعـلـيم والإفتاء والتدريس، فإنه يحب الانبساط والاختلاط، ويرغب الاندماج مع الناس، ولكن عـلـيـــه أن يرفع نفسه عن مواقف الذل والهوان.


13- حين يُمكّن الله لرجل في العلم فإن الناس يرون فيه الخطيب والواعظ والمدرس، وعلى هذا الأساس قد يعاملون الخطيب أو الواعظ على أنه العالم المفتي... وليس ذلـك بـغـريـب منهم بقدر غرابته حين يصدر من بعض المتعلمين. فهل لفضيلتكم من توجيه؟
جـواب: لا شـك فـي كـثــرة الفنون، وتنوع المعلومات، وأن الهمم تختلف، ولذلك نشاهد الجامعات ممتلئة؛ فهؤلاء يمـيـلــون إلـى الأحكـام وعلم الحلال والحرام، وهؤلاء يفضلون التخصص في علم العقائد والفرق والمذاهب المعاصرة، وآخرون ميلهم إلى علوم اللغة والتراجم والتاريخ والأدب، وآخرون ميلهم إلى العلوم الآلـيـة والـرياضيات ونحوها. ثم إن العامة إذا لقوا من جاوز المراحل الدراسية، وحصل على درجة عـالـيـة، اعتقدوا فيه الأهلية لكل ما يـتـجــدد من الوقائع، ورجعوا إليه في حل المشاكل، فرضوا بحـكـمـه فـي الـفـصـل بـيـن المتخاصـمـيــن، ورجـعـوا إلـى قوله في الأحوال الشخصية، وطلبوا منه الجواب فيما يدور حولهم من الوقائع العلمية، سـواء كـانـت تتعلق بالعبادات، أو بالمعاملات، أو بالأنفس أو بالأموال، ثم تراه يتجاوب معهم، ويُنَصّب نـفـسـه للإفـتـاء والتعليم، ويجيب على كل ما يوجه إليه من أسئلة تتعلق بالتوحيد، أو بالأدب أو بالسّنـّـة، أو بالتفسير، أو بالأحكام، رغم قلة معلوماته في أكثرها، ويحمله على ذلك الخجل مــن رد الجواب، أو التوقف على الفتيا، مخافة الوصمة بالنقص، أو الرمي بالجهل؛ حيث إنـه فـي مكانة مرموقة، ومنزلة مـن العـلــم رفـيـعـة عند العامة، فهو يفتي بغير علم، ويتصدر للجواب، وهـو بـعـيـد عـن الصواب. ولا شك أن هذا عين الخطأ، وأن الواجب عليه أن يحيل هذه المسائل إلى أهلها، ويعطي القوس باريـهـا؛ فإن العلم أن يقول: الله أعلم. وقد قال بعـض العلمـاء: (من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله)؛ وقد قال بعض الشعراء في الحث على العلم وآداب التّعلّم:
وقـل إذا أعـيــــــاك ذاك الأمــــر مــا لــي بـمــا تسـأل عنـه خبـر
فـــذاك شطـر الـعـلـــــــم فاعلَمَنْـهُ واحذر هُديـــــت أن تـزيــغَ عنـه
فربمـــا أعيـا ذوي الفـــضـائــــــل جـــواب مــا يـلـــقـى من المسائـل
فيـمـســــكوا بالصمـــت عن جوابه عند اعتراض الشــــك في صوابـه
ولو يكـــــون الـقـــــول في القيـاس من فضـة بيضاءَ عنــــــد النـاس
إذاً لكان الــصمـت من عين الذهب فافهم هداك اللـه آداب الطـلــب
وقد ذكر بعض العلماء أن تدخل الإنسان في ما لا يعنيه من القول على الله بلا علم،وجعلوه أعظم إثماً من الشرك، لقول الله ـ تعالى ـ: ((قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف: 33]. وهذه المحرمات مرتبة على الترقي من الأخف إلى الأشد، فدل على أن القول على الله بلا علم أعظم إثماً من الشرك.
ولقد كان العلماء الأجلاء يتوقفون عند الكبير من المسائل، كما ذُكر ذلك في الشعر المذكور، وقد نقلوا عن مالك إمام دار الهجرة ـ رحمه الله تعالى ـ أنه سُئِلَ عن أربعين مسألة فأجاب عـــــن أربع منها وتوقف عن الباقي، وقال للسائلين: اذهبوا فقولوا: إن مالكاً يقول: لا أدري. وكان الإمام أحمد كثيراً ما يتوقف عن الأجوبة التي تعرض له، ويستدل بقول الله ـ تعالـى ـ: ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَــــذِبَ إنَّ الَذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [النحل: 116]. ثم نقول: على الجمهور أن يرجعوا في مسائلهم ومشكلاتهم إلى أهل العلم الصحيح، وأن يمتثلوا قول الله ـ تعالـى ـ: ((فَاسْأََلُوا أََهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل: 43] فأهل الذكر هم حملة علم الشريعة الذين توغلوا في علم الأحكام، وبحثوا في مسائل الحلال والحرام، وقد يسر الله الاتصال بهم بأسهل الطرق؛ فقد تقاربت البلاد، ويسر الله المواصلات السريعة التي تقطع المسافات البعيدة في زمن قصير، كما يسر الاتصال الهاتفي للقريب والبعيد، وتيسر الرجوع إلى الفتاوى المطبوعة والمسجلة، والرجوع إلى الإذاعة الإسلامية، سيما برنامج (نور على الدرب)، وما أشبهه، فعلى هذا لا يجوز لغير العالم بالأحكام التدخل في جوانبها، ولو كان واعظاً، أو خطيباً أو مدرساً أو داعية، حتى يطّلع على العلوم الشرعية، ويعرف الحق بدليله، ويعرف الراجح من المسائل الخلافية، ويتصور أسباب الخلاف بين المذاهب والعلماء، كما لا يجوز للعالم الرباني أن يكتم العلم، ويتوقـف عـن الجـواب الذي يعرفه؛ فقد ورد الوعيد الشديد عـلـى كـتـمـان الـعـلـم، وأن الـذيـن يكتمونه يلـعـنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ومن سُئل عن علم فكتمه أُلجِمَ يوم القيامة بلجام من النار، ولا يجـوز للـعـامــة الـرجـوع إلـى حملة الشهادات التي لا تؤهل للفتيا في المسائل الخلافية، كمسائل الطلاق، والتيمم، ومسح الجوارب، ومفطرات الصائم، وواجبات الحج، ونحوها، بل يوجهون هذه المسائل إلى أهل التخصص والمعرفة بها، ليصدروا عن علم ويعملوا على بصيرة. والله أعلم.


14- تتزاحم الأولويات في مخاطبـة الناس، فيقع بعـض المصلحين في حيرة أو اضطراب؛ فحبذا لو جلّيتم الخطوط العريضة في هذا المجال؟
جـواب: لا شك أن الناس يختلفون في المفاهيم، وفي الميول والطباع، وأن المعلم، أو الواعظ قد يتوقف في العلوم والفنون أيّها أوْلى أن يطرقه، ولكن نقول: إن الواجب تحديث الناس بما هو الأهم في حقهم، وقد نُقل عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟) فمتى كان المخاطَبون من أهل الأديان المخالفة، فالأوْلى خطابـهـم بتـقــرير الـرسالــة، ودلائل النبوة، ومحاسن الدين الإسلامي، أو إزالة شبهاتهم، والإجابة عما لديهم من الشـكـوك والتـوهـمـات. وإن كـان المـخـاطَـبون من أهل الإسلام، إلا أن لديهم بدعاً وعقائد منحرفة؛ فإن خطابهم يكون بتقرير العقيدة السلـيـمـة، وما كـان عـلـيـه الـصـحـابـة والسلف الصالح، والصدر الأول، وهو ما تطرق إليه الأئمة في مؤلفاتهم في السّنّة والتوحيد، والإيمان، وتقرير العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة.
وإن كان المخاطَب من أهل التفـريـط والانـتـمـاء إلى الدين ظاهراً، دون تطبيق وعمل، أو مع مخالفة وانهماك في كبائر الذنوب أو صغائرها، فإنه يُسلك معه من المناقشة حول حالته ما يمكن اقتناعه به من الوعد والوعيد، وإقامة الحـجـة والـدلـيـل، وإيـضاح الحجة والسبل السوية، التي تقطع الشبهات، وتوصل إلى الحق واليقين.
أما الخطيب والواعظ الذي يلتقي بعوام الناس الذين لم تتلوث عقائدهـم بأوضار الجاهلين وشكوك المموهين، بل هم على فطرتهم، وعلى يقين من صحة دينهم، إلا أن مـعـهـم مـــن الجهل ما أوقعهم في المحرمات ونقص الطاعات، فإن الخطيب والواعظ يسلك معهم طــرق التعـلـيم، والتنبيه على ما فيه خطر، أو ما هو محرم، ويحرص على علاج ما انتشر وفشا من المعاصي والفواحش، ويتطرق كل حين إلى ما فيه ضرر على الأديان والأبدان، مما هو موجود ومتمكن في المجتمعات، فلا بد أن يكون عالماً بما يحتاج إليه ذلك المجتمع، وما يتساهل فيه الأفراد والجماعات، وما يفعلونه عن جهل، أو عن تهاون، ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، فمع كل جنس بما يناسبه، وبذلك ينجح الواعظ، ويقدم ما هو أهم من غيره، ويعطي كل نوع ما يحتاج إليه.


15- لا شـك فـي ضـرورة تصحـيح عقائد الناس بكل جوانبها. حبذا لو ذكرتم لنا جوانب الاعتقاد مرتبة حسب أهميتها في واقع الناس اليوم.
جـواب: معنى ذلك أن الدعوة إلـى الله ـ تعالى ـ، يُحتاج فيها إلى البدء بتصحيح العقيدة؛ فإن الأعمال الصالحة يتوقف قبولها على صحة المعتقد، ومعلوم أن عامة الناس وأكثريتهم لا يحسن خطابهم بأدلة وجود الله ـ تعالـى ـ، ولا بالـخـوض في إثبات الصفات الذاتية، والصفات الفعلية ونحو ذلك، وإنما يسلك الداعي معهم تصحيح مفهوم العبادة، وإخلاص الدين لله ـ تعالى ـ، وذكر أنواع العبادة، وأدلة التوحيد الـعـمـلـي، كالـدعـاء، والخـوف، والرجاء، والتوكل، ونحو ذلك. وقد كتب في ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمــه الله ـ الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ونحوها مما كتبه في التوحيد، فهو المناسب للعامة الذين يقعون في شرك العبادة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والـعـلـمـاء مـنـهــم يناقـشـون فيما لديهم من الشبهات، وما قد يعرض لهم من الاعتقاد في المخلوقات؛ الذي تلقوه عن أسـلافـهـم وعلمائهم الذين انخدعوا بالعامة والخاصة، وأكبوا على الشركيات، وسموا ذلك اسـتـشـفـاعــاً، وتبركاً، وتوسلاً بالأولياء ونحوهم. وأما علماء الضلال فإن الداعية يناقشهم في البدع التي يـنـتـحـلـونـهـا، ويحتـجـون فيها بسنّة الآباء والأجداد، ويقول الله ـ تعالى ـ في حجتهم: ((قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)) [الشعراء: 74]، ويدخل في البدع ما يخالف الأدلة اليقينية، من العقائد المتعلقة بالأسماء والصفات، والقضاء والقدر، والأمر والنهي، والإسلام والإيمان، والصحابة، وأهل القبلة، من المعتزلة، والمعطلة، والجهمية، والجبرية، والمرجئة، والقدرية، والخوارج،والروافض، والمتصوفة، ونحوهم. وقد أكثر العلماء من أهل السّنّة في مناقشة عقائدهم، والرد على شبهاتهم العقلية والنقلية، وبيان الصواب والخطأ في معتقداتهم وأدلتهم. فلذلك على الداعي أن يسلك معهم المجادلة بالتي هي أحسن، ويرجع في ذلك إلى ما كتبه علماء صدر هذه الأمة، مما يتعلق بالسنة، والإيـمـــان، والتوحيد، فقد أكثروا من التأليف فيما يتعلق بالاعتقاد، كالإمـام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبي بكر الخلال، وأبي بكر بن أبي شيبة، والبخاري، وابن خزيمة، وعـثـمـــان الدارمي، والآجري، واللالكائي، وابن بطة، والبيهقي، والطحاوي، وابن أبي عاصم، وغـيـرهــم، وقـــد يسّر الله طبع كتبهم ونشرها، وتوفرت لدى كل طالب علم، وتبين بواسطتها ما كان عليه الـسـلـف والأئمة المقتدى بهم، والله أعلم.


16- تـتـبـايـن مـنـاهــــج الدعاة في التغيير، فيميل بعضهم ـ اجتهاداً ـ إلى مسلك دخول المجالس النيابية.. تُرى: هل هذا مما يتسع فيه النظر والاجتهاد ـ لأجل تباين الظروف، وتعقّد بعض الأوضاع ـ؟ وإذا كـــان الأمر سائغاً فهل في هذا السبيل غنية عن تربية الناس على دين الله ـ تعالى ـ؟
جـواب: صحيح أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، والأماكن، والأوضاع، فمتى رأى الـدعــــاة هذا المسلك مفيداً فعلوه؛ حيث إن الداعية متى غَشِيَ الجماهير، واعترفوا بمكانته وفضله، وارتفع منصبه، واشتهر بين العامة بعلمه ورتبته، كان ذلك أدعى لقبول قوله، والتأثر بنصحه، وتلقي مواعظه وإرشاداته، وتقبل فتاواه وأجوبته؛ حيث تعترف به الدولة، وتوليه منصباً مرموقاً، وترجع إليه الاختلاف، ثم يقوم بالخطابة، والدعوة إلى سبيل الله ـ تـعـالى ـ والقضاء بالعدل، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو بما لديه من علم وعمل ومـعـرفــة بالله ـ تعالى ـ وبوعده ووعيده، وأمره ونهيه، يقول الحق ويصدع به، ولا يخاف في الله لومة لائم، فيأمر بردع الظالم، وقمع العاصي والمجرم، وقتل القاتل متى تمت الشروط، ورجــــم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، وهكذا يقضى بأمره على معامل الخمور والمسكرات، وعـلـى مروجـــي المخدرات، وعلى حوانيت الدعارة والبغاء، وأماكن الفساد. ولكن هذا إنما يُتَصوّر عن عالم رباني، مـعـتـــرف بمكـانـتـــه، فهو يتصل بالرؤساء والوزراء، والأمراء والولاة ونوابهم، وتـنـفــــذ أوامره، وتجاب طلباته التي توافق الحق، وتهدف إلى مصلحة العباد والبلاد.
فأما من كان ضعيف المعلومات، أو قليل المعرفة، أو معه شيء من الانحراف، أو عنده ميل إلـى بـعـــض البدع والمحدثات، أو كان مُزجى البضاعة في العلم، فأرى عدم دخوله تلك المجالس، لـعـدم تمكنه من قول الحق والصدع به، وخوفاً من إقراره المنكرات، أو دعوته إلى شيء من البدع والشركيات، كما حصل ذلك من بعض علماء الضلال الذين خدعوا ولاة الأمر وسوغوا لهــم البناء على القبور، وعمارة المشاهد والمعابد الشركية، وحفلات الموالد، وإقرار البدع الاعـتـقـاديـة والعملية، فاحتج العامة بأقوالهم الخاطئة، وأصبحت فتاواهم ومؤلفاتهم حجة لكل جاهــــــل ومـبـتـدع. وهكذا نقول أيضاً: قد يُفَضّل للعالم والداعية الاعتزال، والبعد عن ولاة السوء، وأئـمــة الضلال، الذين يحتقرون العالم، ويخالفون ما يقوله، ويبقى بينهم ذليلاً مهيناً مع تظاهــرهـم بتحكيم القوانين، وإعلان البدع، وإباحة الخمور، وتعاطي المسكرات، وإعلان تعطيل الحـــــدود، وفتح بيوت الدعارة والفواحش، ورفع أماكن علماء الضلال، وقمع الدعاة إلى الله. فمن السلامة في مثل تلك الدول أن يبتعد الداعية إلى الله عنهم، وأن يعتزل ولاياتهم، وأن يفـضـــل الـعـيـش فـي البادية، والقرى النائية؛ فقد ورد في الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يوشــك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن). ومع ذلك فإن كل مسلم عليه مسؤولية كبرى، بحسب ما عنده من القدرة والعلم، ففي الأثر: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَله). فعلى هذا يقـــــول بما في إمكانه من الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، وتربية الناس على دين الله ـ تعالى ـ وليس هناك غنية عن هذه التربية بحسب الإمكان. والله أعلم.


17- من قواعد منهج أهل السّنّة: (رحمة الخلق في دعوتهم إلى الحق). وقد سبب غياب هـــذه القاعدة عن أذهان بعض المصلحين والشباب أن استحالت قضيتهم مع أهل البدعة والضلال إلى معارضات جدلية لا معنى لها؛ مما أضعف استجابة بعض المخالفين. فليتكم تشيرون إلى بعض الأمثلة لتطبيق هذه القاعدة عند سلف الأمة من المتقدمين والمتأخرين.
جـواب: قال الله ـ تعالى ـ: ((ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل: 125]. وقال الله ـ تعالى ـ: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [العنكبوت: 46] وقد امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر، فرفق بالناس عند الدعوة إلى الإسلام، وأحسن معهم المقال، فكان بمكة يتتبع الوفود والحجاج، ويعرض عليهم دعوته، وما جاء به، ويبين لهم حقيقة التوحيد، دون أن يضللهم، أو يُسفّه أحلامهم، أو يتنقص عقولهم، حتى قال الله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام: 108] مع أن آلهتهم أموات غير أحياء، لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئاً، ولكن في سبها قدح في عقولهم وأعمالهم، وقد حكى الله ـ تعالى ـ حالته معهم بقوله: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) [آل عمران: 159]، وهكذا كان يوصي أصحابه عند دعوة الناس إلى الإسلام، فقد قال لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله). وقال لعلي ـ رضي الله عنه ـ: (ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله ـ تعالى ـ فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). وفي حديث (بريدة) في الوصية لأمير الجيش، أمره أن يبدأ بالدعوة إلى الإسلام، ثم إلى بذل الجزية، وهو دليل على ما جبل الله ـ تعالى ـ نبيه عليه من الرحمة بالخلق، وحبه لدخولهم في الإسلام بالطرق السلمية؛ حيث لم يكره أحداً على الدخول في الدين، وإنما دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا فعل أصحابه والمؤمنون من أمته، قديماً وحديثاً، فقد ظهر حسن معاملتهم مع المعاهدين والذميين، مما حمل الكثير على اعتناق الإسلام، فكانوا يوفون بالعهود، ويؤمّنون المستأمن حتى يسمع كلام الله، وقد ذكر العلماء في أحكام أهل الذمة تحريم الظلم والعدوان، والإضرار بالذميين، ووجوب الرفق بهم في الدعوة إلى الله، وحسن معاملتهم التي تجلب لهم الدخول في الإسلام. وضرب المسلمون أروع الأمثال قديماً وحديثاً في الرحمة بالخلق، ولين الجانب، واللطف في القول، واجتناب الإغلاظ والفظاظة؛ والقصص عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب التأريخ والتراجم، فمن طلبها وجدها.


18- تعيش قاعدة: (هجر المبتدع) بين نظرين: نظرٍ يجنح إلى تطبيقها دون مراعاة قاعدة: (المصالح والمفاسد)، وآخر يترك تطبيقها بالكليّة فما ضوابط تطبيق هذه القاعدة؟
جـواب: أرى أن الأمر وسط بين هذين النظرين، فإن الهجر يجوز للمصلحة؛ وذلك أن العاصي والمبتدع إما أن يكون معانداً مصرّاً على الذنب والبدعة، لا يتأثر بالوعظ، ولا يقبل النصح، بل يرى صحة ما هو عليه، ويعتقد خطأ من نصحه عن ذنبه، سواء كان الذنب مكفراً أو مفسقاً، فمثل هذا أرى هجره والابتعاد عن مجالسته وموالاته؛ لعموم الأدلة في تحريم موالاة الكفار، كقوله ـ تعالى ـ: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادلة: 22] الآية، والمودة هي المحبة والكرم، وقوله ـ تعالى ـ: ((تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا)) [المائدة: 80] إلى قوله: ((وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ)) [المائدة: 81]، وقوله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ)) [التوبة: 23] فالنهي عن التولي أمر بالهجر والإبعاد، والمقاطعة للأقارب، فضلاً عن الأباعد، وذلك أن إكرامهم وتقريبهم، ومجالستهم، مع إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان، يعتبر إقراراً لأفعالهم، وفيه دعوة لغيرهم إلى تقليدهم واتباعهم؛ حيث لم يلقوا من المؤمنين إلا المودة والتقريب، والله قد نهى عن مودتهم، وجعل من والاهم مثلهم، بقوله: ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائدة: 51] أما إن كان العاصي أو المبتدع متأولاً ويعتقد أنه على صواب، فإن الواجب دعوته، وبيان الحق له، وتأليف قلبه وتقريبه، وكثرة نصحه، وتخويفه وتحذيره، من غير مبادرة إلى الهجر الذي يكون مُنفّراً له عن الخير، ومبعداً له عن مجالس الذكر والعلم، سيما إذا كان هجره وإبعاده يسبب اختلاطه بالأشرار، وامتزاجه بهم، ورسوخ المعاصي في قلبه وابتعاده عن أهل الذكر والخير والعلم النافع؛ مما يسبب قسوة قلبه، وانصرافه عن أهل الفضل والعلم، واعتقاده فيهم التنفير والغلظة والشدة، فمثل هذا متى هجر واستعملت معه القسوة لأول مرة نتج عن ذلك بغضه للصالحين، ونفرته من مجالستهم، واعتياضه عنهم بالأشرار، وإحسانه الظن بهم، لما يجد منهم من التقبل والترحيب والتشجيع؛ وهكذا إذا كان العاصي معترفاً بذنبه، مقراً بسوء فعله، قد غلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء، وكذا من يجالسه ويعمل معه من السفهاء؛ فإن ذلك يحدث كثيراً من بعض الجهلة، فأرى أن هجرهم مبدئياً مما ينفرهم، ويسبب منهم التمادي في الغي والضلال، فمن المصلحة تقريبهم وتكرار نصحهم، وتخويفهم، وترغيبهم في التوبة والإقلاع عن الذنوب، سيما إذا وجدت منهم الرقة والتقبل، والوعد الحسن. وقد يجوز الهجر للعاصي إذا عُلم أن الهجر يؤثر فيه، ويسبب إقلاعه عن المعاصي حيث إن هناك الكثير من العصاة يقع منه الذنب الصغير أو الكبير، بلا حاجة ولا دافع نفسي، كحلق اللحية والإسبال، والتكاسل عن الصلاة، وسماع الأغاني، وتعاطي الدخان أو الخمر، وهو مع ذلك متأول، أو متساهل، فمتى هجره أبواه وإخوته وأقاربه، ومقتوه، وطردوه، تأثر لذلك، وعرف خطأه، وكذا إن كان الهاجر له يعز عليه، كأصدقائه وأحبابه، فكثيراً ما يحدث أن يتوب بعد الهجر، ويقلع عن العادات السيئة، فإن كان الهجر لا يزيده إلا تمادياً في السوء، وعملاً للمعاصي، فالمصلحة تقتضي تقريبه، فذلك أخف للشر، وأقل للعصيان، والله المستعان.

19- كثرة الواجبات أشغلت بعض الدعاة عن بيته، لا سيما إذا كان مشغولاً بما هو فرض كفاية مما يرى أنه متعين في حقه: فهل له في هذا عذر ـ مع اعتبار المصالح والمفاسد في كلتا الجهتين ـ؟
جـواب: لا يجوز للإنسان أن يتقبل من الواجبات والأعمال ما هو فوق طاقته، بحيث يشغله عن الحقوق المتحتمة عليه لله أو لعباده، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص: (فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً وإن لزَوْرك عليك حقاً)(1) والحق الذي لزوجه، هو الأنس والمجالسـة الكافيـة، والعشـرة الطيبـة، وقضـاء الوطـر، والمبيت المعتـاد، ولا شك أن ذلك لا يستغرق جميع وقته، ففي إمكانه أن يقوم بواجبه الوظيفي، ومنه الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، وزيارة الإخوان، وأداء الواجبات الدينية، ومنه الإتيان بما يقدم عليه في نهاره أو ليله من فروض الكفاية، سيما إذا رأى غيره لم يقم بها، وأصبحت متعينة في حقه، ولو كانت تحتاج إلى سفر بعيد أو قريب، كالمحاضرات، والندوات، والنصائح، وتغيير المنكرات، والأمر بالمعروف، وإبداء الآراء والاقتراحات عند من يقبلها؛ وذلك لما فيها من المصالح العامة للمسلمين، وما فيها من نصرة الدين، وقمع العصاة والمنافقين، ومع ذلك كله فلا يهمل أهله وذريته، فقد ورد في الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يمون) وفي لفظ: (أن يحبس عمن يمون قوته)، وعليه أن يقنع أهله وزوجاته بما يحصل لهم من نفقة، أو إقامة، إذا تحتم عليه السفر أو الانشغال، والله أعلم.

20- ما الشروط المعتبرة للشهادة بعدالة الرجل؟ وهل يمكن الاكتفاء فيه بقول معدل واحد؟
جـواب: تكلم العلماء في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الحديث، وأطالوا في شروط العدالة في كتب المصطلح، وكتب الرجال، وذكروا أنه لا يقبل قول كل جارح أو معدل؛ حيث إن هناك من يتكلم في الرجال بغير علم، فيجرح أو يعدل بمجرد الظن والتخمين، وكذا من يتكلم لمجرد الهوى، فيجرح من يبغضهم أو يعاديهم، ويعدل من يواليهم، ويعرف ذلك بمخالفته لغيره، فكثيراً ما ينفرد البعض بتعديل الراوي، بينما بقية الأئمة جرحوه وطعنوا في روايته، ولا شك أن الكلام في الرجال المسلمين، سيما بعد موتهم، له خطره، وخصوصاً من عُرف بالدين والعبادة، والصلاح والاستقامة، وعرفت مكانته عند الأمة، وظهر له ذكر حسن، ولسان صدق، فإن الكلام فيه من غير تثبت ذنب كبير، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري وغيره. وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) رواه أحمد وغيره.
ومتى كان الكلام في الأموات لمجرد الهوى أو الحسد فإنه يكون طعناً في الجارح نفسه؛ حيث إن المجروح قد اشتهر علمه وفضله، وانتشر بين الناس ذكره الحسن، والثناء عليه.
أما إن كان المجروح ضعيف الحديث، وقد تصدى للرواية، فدخل في حفظه خطأ، أو خلل، أو نقل ما ليس بصحيح، فإن الكلام فيه متعين على من عَرَف ذلك، مخافة الانخداع برواياته ونقوله، وهي غير صحيحة، ولذلك كان الإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم يتكلمون في المحدثين، ويذكرون ما فيهم من الجرح والطعن، وذلك من باب النصيحة للأمة، لا من باب التنقص لهم، ولا يكون غيبة؛ لأنهم يذبّون عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينقّونها مما دخل فيها؛ فلو سكتوا لاشتبه الصحيح بالضعيف والسقيم، ولم يفرق بين نسر وظليم، فهم مأجورون على كلامهم؛ ولأن أولئك تدخلوا في رواية الحديث بغير أهلية، فوجب بيان حالهم بدون تعصبٍ أو هوى، والله أعلم.

21- ما توجيهكم لطلاب العلم الذين اشتغلوا بالجرح والتعديل في بعضهم وفي بعض العلماء والأشخاص دون أن يأخذوا للأمر عدته ومتطلباته؟
جـواب: لحوم العلماء مسمومة، أي غيبتهم والقدح فيهم يردي من تسرع وطعن في علماء الأمة، ويتوجه الطعن والعيب عليه حتى يهلكه هلاكاً معنوياً؛ وذلك لأن علماء الأمة الإسلامية قد حَمّلهم الله هذا الدين، واختارهم لحمل كتابه وسُـنّة نبيه، وذلك شرف وفضيلة تميزوا بها عن غيرهم، وقد عرف الناس قدرهم ومكانتهم المرموقة، واعترفت الدول والرؤساء بفضلهم وتقدّمهم، وولّوهم المناصب الهامة، وصدروا عن آرائهم وتقبلوا نصائحهم واقتراحاتهم، فهم يقومون بأمر عظيم، ويتحملون عن الأمة عبئاً كبيراً، ولو قُدّر أن في بعضهم شيئاً من الخلل والخطأ، فإنهم معذورون، فهم يعرفون ما لا يعرف غيرهم، ويقدرون للأمور حسابها، وليس في استطاعتهم ولا غيرهم إصلاح كل فاسد، ولا رد كل شارد، ولكن بعض الشر أهون من بعض، وقد يظن بهم بعض العامة التساهل والتغاضي عن الشرور الظاهرة، والمنكرات الموجودة، ويعتقد أنهم سكتوا عنها وأقروها، والواقع أنهم قد قاموا بما في الإمكان، ودافعوا عن الأمة والدين الإسلامي، ودفع الله بهم الكثير مـن كيد الأعداء الحاسدين، ممن يحاول الطعن في ديننا، وإدخال ما يفسد القلوب، مـــن الشرور والأضرار والفتن، فالعلماء يبذلون الجهد في الدفاع عن الإسلام، والتخفيف من المنكرات، ولكن الشرور تتوافد وتتوارد من كل جهة، فتغلب القوى الفردية، ويعتذر من خفـف من شأنهـا، بصـعـوبــة اجـتـثـاثها، وبما في بعضها من مصلحة أو خلاف ولو ضعيفاً يقتضي التساهل بها، ومع ذلك فالـسعي جاد في تقوية الحق ونصر الدين بقدر الاستطاعة، والله المعين، فعلى هذا من اشتغل بالـطــــعـــن في علماء الأمة الإسلامية أو في بعضهم فقد أساء العمل، وجهل الحال فيقال لهم:
أقلـوا عـلـيـهـم لا أبا لأبـيــكـــــم من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا
فعلى طالب العلم أن يشتغل بنفسه، ويتفقد عيوبه، ويسعى في إصلاح نقصه، كما عليه أن ينكر المنكرات بقدر استطاعته، وأن يـنـصـــــح العلماء ويرشدهم إلى ما يراه الأصلح للحال والمستقبل، ويتصل بكل من رآه مخلاً بشرط، أو واقعاً في خلل، ويبدي له اقتراحه، ويقبل عذره، ويعترف بما يراه من الرأي السديد، ويـنـصـح الشباب وطلبة العلم بعدم الخوض في أعراض العلماء، والميل أو التّحيّز إلى جهة أو طائفة لمجـــرد تعـصـــب أو هـوى في نفس، وبذلك تصلح الحال، وتجتمع الكلمة، وتقوى معنويات المسلمين، ويوجهون قـوتـهــــم إلى أعـــــــداء الدين في البعيد والقريب، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

----------
الهوامش :
(1) أخرجه البخاري في الصوم (1975)، وأخرجه مسلم في الصيام (1159).
 

لقاءات الشبكة

  • لقاءات عبر الشبكة
  • لقاءات عبر المجلات
  • الصفحة الرئيسية