صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







لقاء شبكة التفسير والدراسات القرآنية
مع الأستاذ الدكتور زغلول النجار

 
ترجمة للأستاذ الدكتور زغلول النجار حفظه الله

* هناك فرق كبير بين التفسير العلمي للقرآن الكريم ، والإعجاز العلمي للقرآن الكريم .
* ألا يوظف في قضية الإعجاز إلا القطعي الثابت من الحقائق العلمية الراسخة التي حسمها العلم والتي لا رجعة فيها .
* أدعو الجامعات الإسلامية والأقسام المتخصصة في الدراسات القرآنية للعناية بالإعجاز العلمي وعدم إهماله !


الخميس 26 - 4 - 1424هـ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

شبكة التفسير : ابتداءً نرحب بالدكتور زغلول النجار ، ونريد من الدكتور باختصار كيف يعد مادته في الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن وكيف يتوصل إلى النتائج التي يتوصل إليها في كل حلقة يطرح فيها الموضوع.
د. زغلول النجار : أبدأ بحمد الله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد فأحب أن أعبر عن شكري لهذه الدعوة وسعادتي لوجودي بينكم وابتداءً أقول إن أزمة من أزمات الأمة الازدواجية في التعليم ، بمعنى أننا نعلم بعض الناس تعليماً شرعياً ونعزلهم عزلاً كاملاً عن أحداث العالم وحركة الدنيا ، وهذا في غاية الخطورة ! وفي نفس الوقت التعليم المدني عندنا أصبح خلواً تماماً من أي إشارة إلى الدين سواء كان طب أو زراعة أو هندسة أوعلوم. والذين يدرسون في هذه المجالات يتخيلون أن إدخال الدين قد يكون مفسدة لها فيتحرجون من أي محاولة بين الجمع بين الفكر الدنيوي والأصول الدينية الثابتة وأعتقد أن هذا نتيجة مخطط موضوع وليس أمراً عفوياً , ومن ضمن الإنجازات الكبرى في التعليم الأمريكي - رغم كراهيتنا لأمريكا - أنهم منهجيون ، ومن منهجيتهم أنهم جعلوا الدرجة الجامعية الأولى درجة عامة وليست درجة تخصص , ودرجة التخصص تبدأ من الماجستير والدكتوراه وفي الدرجة العامة لم يعزلوا المعارف عن بعضها البعض ، فتأتي لواحد يدرس كيمياء في كلية العلوم في جامعة من الجامعات ، يقول له أنت تدرس كيمياء لكن لا بد أن تلم بمتطلبات الأقسام الأخرى ، فعنده متطلب القسم الرئيسي لكن يجعل هذا المتطلب الرئيسي يشكل 50% من المتطلبات و 25% متطلبات الكلية حتى لا ينعزل طالب الكيمياء عن باقي التخصصات في العلوم يعرف شيء عن الفيزياء عن الفلك عن الجيولوجيا لأن الفصل هذا فصل صناعي فيسمي هذه متطلبات الكلية بأن يلم بقدر من المعارف من تخصصات الكلية المغايرة لتخصصه هو ، ثم عنده ربع المتطلبات متطلبات الجامعة فإذا كان داخل علوم يأخذ دراسات إنسانية إذا كان داخل دراسات إنسانية يأخذ شيء من العلوم حتى لا ينعزل الإنسان عن الحياة.

نحن مصيبتنا في الأزهر مثلاً , علماء الأزهر في مصر يتخيلون أن أي كلام في العلم يدور في دائرة النظريات ، والنظريات قابلة للتغير ، ويعتقد أن هذا التغير لا يليق أن نفسر القرآن الكريم به ، أو نتحدث عن الإعجاز العلمي به، وأصبح عندهم عداء شديد للناحية العلمية بدون مبرر ، والحكمة ضالة المؤمن أن وجدها فهو أحق بها.

أيها الإخوة ! لأن الحق أياً كان مجاله لو بقي بأيدي أهل الكفر والشرك والضلال ، فسيوظفونه ضدنا كما هو حاصل الآن ، فعلى دارسي العلوم الشرعية أن يلموا ولوا بالمعطيات الكلية للعلوم ؛ لأنها أصبحت جزءاً من الحكمة ، والمعرفة لا يجوز أن أكون جاهلا بها ، وفي نفس الوقت على دارسي العلوم المدنية من طب وهندسة وعلوم وزراعة وصناعة ...الخ , أن يلموا بقدرٍ أو بحد أدنى من الثقافة الدينية حتى يقوموا بعبادتهم على الوجه المرضي لله سبحانه وتعالى.

الإزدواجية أضرت ضرراً بليغاً بنا ، أفرزت لنا كوادر قد تكون متميزة في دراستها المدنية ، ولكن ثقافتها الدينية صفر, و أفرزت لنا علماء شرعيين لا يعرفون شيئاً عن معطيات علوم الدنيا ، ويشككون في أبسط الحقائق العلمية ، وهذا الوضع لا يرضي الله ولا يرضي رسوله – صلى الله عليه وسلم ، وإيجاد جسر بين المجموعتين مهم جداً ، يجمع بين الثقافة الشرعية والإلمام بالمعطيات الكلية للعلوم عملية ضرورية.

وأنا أُشبَّه المعرفةَ الإنسانية بشكل هرمي ، هذا الشكل الهرمي قاعدته العلوم البحتة والتـطبيقية ، ليس احتقاراً لها ولا استهانة بشأنها ، ولكنها وسيلة التمكين في الأرض ، ووسيلة تمكين الإنسان من حسن القيام بـواجب الاستخلاف في الأرض ، فهي ضرورة وفرشة أساسية لا بد أن يلم بها كلم مسلم.

يأتي فوق العلوم البحتة والتطبيقية , فلسفة العلوم . والفلسفة عندنا هي حب الحكمة ، بمعنى أني لا بد أن أستخلص من الرؤية المادية حقائق غيبية ، المنطق يحتمها يعني ، لا يجوز أن أكتفي بأن أقول للطالب أن الكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع ، محكم الحركة منضبط في كل جزئياته وأسكت !

لو لم يقدني ذلك إلى الإيمان أن هذا الكون العظيم ، الذي له هذه الصفات ، لا يمكن أن يكون قد وجد بالصدفة ، ولا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه ، ولكن له موجداً عظيماً ! هذا الموجد العظيم لا بد أن له صفات مغايرة لصفات خلقه ، لا يحده المكان لا يحده الزمان ، لا تصنعه المادة ، و لا تشكله الطاقة ؛ لأنه سبحانه وتعالى خلق هذا كله ، فلا بد أن يكون مغايراً لخلقه ، و لا نملك أن نقول في وصف هذه الذات العلية إلا ما قاله ربنا في حق ذاته العلية :(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). وأنا أسمي هذا فلسفة العلوم بمعنى ألا أتوقف بالمعرفة العلمية عند الحدود المادية المحدودة ، و إلا أكون بذلك قد وقفت عند أقل أبعاده ، وإن لم يوصلني إلى الله فليس له قيمة.

فوق ذلك تأتي الدراسات الإنسانية ؛ لأن الإنسان مخلوق مكرم وكل ما يتعلق بهذا المخلوق المكرم فهو مكرم ، دراسة اللغات وآدابها ، دراسة العلوم السلوكية ، الإدارة ، الاقتصاد ، الجغرافيا ، والتاريخ ، كل هذه المعارف لا بد أن تدخل ضمن الدراسات الإنسانية ، وبما أنها متعلقة بهذا المخلوق المكرم فهي مكرمة وتأتي فوق فلسفة المادة.

فوق ذلك تأتي الفلسفة على الإطلاق ، بمعنى توظيف كل نوع من أنواع المعارف المتاحة سواء كانت نظرية أو تطبيقية بمعرفة الله سبحانه وتعالى.

في قمة الهرم وحي السماء ؛ لأن وحي السماء بيانُ الله سبحانه وتعالى للإنسان في القضايا التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه بنفسه ضوابط صحيحة ، مثل قضايا العقيدة ، وهي غير مطلق العبادة ، وأوامر مطلقة كالأخلاق والمعاملات وهي ضوابط وسلوك والإنسان كان دائماً عاجزاً عجزاً كاملاً عن وضع ضوابط في هذه القضايا. ومن هنا كانت ضرورة الدين.

هذا الهرم المعرفي لا بد للإنسان أن يتخصص في شريحة منه ، لكن لا يجوز له أن ينعزل عن بقية الشرائح ، دائماً يكون له إلمام ولو بحد أدنى ، شيء في الاقتصاد ، وشيء في الآداب ، وشيء في المسائل الشرعية ، شيء في العلوم المدنية ، أرى هذا ضرورياً , وأرى أن الفصل بين هذه المعارف أضر بنا ضرراً بالغاً.

أما طريقتي في شرح الآيات الكونية في القرآن الكريم ، فأقول أن الآيات الكونية في كتاب الله وهي كثيرة تتعدى 1400 آية صريحة ، بالإضافة إلى آيات كثيرة تقترب دلالاتها من الصراحة ، هذه الآيات لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحا في إطار اللغة وحدها أبداً , اللغة أساسية وضرورية لكن اللغة وحدها لا تكفي ، والذي يراجع التفاسير الحديثة والقديمة التي كتبها كبار المفسرين ، تجدهم عند الآية الكونية إما أن يقوموا بتفسيرها في حدود اللفظ فقط ، أو يعبرونها ويتجاوزونها ، وكثير من التفاسير تَعْبُر الآية الكونية , لأن علم المفسر لم يبلغها بعد ، لذلك نقول إن الآيات الكونية في كتاب الله لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً في إطار اللغة وحدها ، بل لابد من توظيف الحقائق العلمية المتاحة لفهم دلالة هذه الآيات ، واستشعار السبق القرآني لهذه الحقائق ، والذي نسميه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

عندما أقوم بالكتابة عن آية من الآيات الكونية ، أبدأ باستعراض مقاصد السورة , فألخص السورة في عمود , أو عمود و نصف من المقال الأسبوعي الذي أكتبه في جريدة الأهرام ، وأعتبر هذا في حد ذاته دعوةً للناس ، لا أقوم بتفسير السورة ، وإنما فقط ألخص الجو العام للسورة , إلى ماذا تدعو ؟ هل هي مكية أم مدنية ؟ هل تركز على العقيدة ، أم على العبادات ، أم على السلوكيات ؟ هل تقص قصص الأمم السابقة ، أم تتحدث عن أمور مستقبلية ؟ وهكذا. ثم بعد ذلك أتعرض للألفاظ اللغوية الغريبة في الآية التي أتعرض لتفسيرها ؛ لأن معرفة وفهم دلالة الألفاظ أمر مهم ، ولا يمكن فهم المعنى العلمي حتى يفهم المعنى اللغوي الصحيح. بعد ذلك أتعرض لكلام المفسرين في هذه الآية ، فإذا كان قد ورد في الآية شيء مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو شي من أسباب النزول ، أو قضية ناسخ ومنسوخ ، فلا بد أن نعرض لها.

ثم أتكلم عن الدلالة العلمية للآية ، والدلالة العلمية لا نقول فيها إلا بحقائق علمية قاطعة لا رجعة فيها ، فلا نوظف الفروض ولا النظريات أبداً إلا في حالة واحدة , وهي حالة الآيات التي تتحدث عن الخلق , خلق الكون, خلق الحياة , خلق الإنسان , لماذا ؟ لأن الخلق , قضية غيبية لا يمكن إخضاعها لأحاسيس الناس ومشاعر الناس ، ولا رؤى الناس. والقرآن بنصه يقول في ربنا تبارك وتعالى :( ما أشهدتهم خلق السموات و الأرض و لا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) وهذه الآية كانت في معرض الرد على الجن , لكن الجن كانوا سابقين في وجودهم على الأرض على الإنس , فالآية تشمل الإنس والجن في آن واحد , ليس هناك أحد من الإنس ولا الجن شهد عملية الخلق ، ولكن القرآن الذي يخبرنا فيه ربنا تبارك وتعالى بهذه الحقيقة هو هو الذي يقول فيه رب العالمين : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) ، هو الذي يقول فيه رب العالمين :( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) آيات كثيرة تحض على النظر في عملية الخلق ، عندما نجمع هذه الآيات ، ندرك أن عملية الخلق قضية غيبية لا يمكن للإنسان أن يصل فيها إلى حقيقةٍ كلية بجهده منفرداً أبداً , ولذلك فقضية الخلق متاهة بأبعادها الثلاثة بين العلماء الغربيين ، بالرغم من أنه قد توفر لديهم من الشواهد الحسية كم هائل ، لكن هو لا يملك إلا أن يضع فيها نظرية ، والنظرية تتأثر بخلفية واضعها ، هل هو مؤمن أم كافر ؟ موحد أم مشرك ؟ جاد أم هازل؟ سعيد أم شقي ؟ فلا بد أن هذا ينعكس على صياغته للنظرية ، وكثير من النظريات التي يصوغها الغربيون أسسها العلمية صحيحة 100% ، وهي هراء ، وكلام لا يليق بجلال العلم !

معنى هذا الكلام أن قضية الخلق بأبعادها الثلاثة ( خلق الكون- خلق الحياة - خلق الإنسان) متاهة لا يمكن للإنسان أن يصل فيها إلى تصور صحيح بجهده منفرداً ، حتى لو توفر له كم هائل من الشواهد ، ومن رحمة ربنا تبارك وتعالى بنا أنه أبقى لنا في صخور الأرض ، وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان على الوصول إلى تصور صحيح لقضية الخلق , لكن لا بد أن ينطلق في هذا من الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فلو أنكر الخالق تاه وضل , أحد العلماء اسمه ستيفن روبن ، وهو واحد من علماء زماننا ، ألف كتاباً عن خلق الكون ، وهذا المؤلف في كتابه يكاد ينطق بالإيمان ، لكن قبل ما ينطق بكلمة لا إله إلا الله أو سبحان الله يقول : أنا لا أريد أن يقال عني أنني إنسان رجعي , لكن الكون هذا لا بد من وجود قوة كبرى وراءه وأنا لا أسمي هذه القوة ولا ندخل في هذا المجال ! فتأمل ! هذا نمط من أنماط الحيرة.

ولذلك فللمسلمين فقط وليس لغيرهم القدرة على أن يرتقوا بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة ؛ لأن العلم الكسبي قد وصل فيها إلى حقيقة ، و لكن مجرد وجود إشارة لها في آية في كتاب الله ، أو حديث صحيح من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - والنماذج على هذا كثيرة جداً.

فالذي أفعله ألخص السورة أتحدث عن الكلمات الغريبة في الآية أعرض شرح عدد من المفسرين المتوفر عندي تفاسيرهم لهذه الآية الكريمة ولا أريد أن أطيل على القارئ كثيراً ثم أشير إلى الدلالة العلمية للآية القرآنية الكريمة في ضوء عدد من الحقائق الثابتة ، ولا أريد الإطالة عليكم لكن هناك ضوابط كثيرة للتعامل مع قضية الإعجاز من أهمها ألا يوظف في قضية الإعجاز إلا القطعي الثابت من الحقائق العلمية الراسخة التي حسمها العلم والتي لا رجعة فيها ، بعد ذلك عندما نأتي لقضية الخلق أنا أرجح نظرية على أساس نظرية لوجود إشارة لها في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وأعتبر المقال الذي أكتبه في جريدة الأهرام أسبوعياً فتحاً من الله سبحانه وتعالى ، وإعزازاً للإسلام ، الأهرام التي أسسها النصارى في مصر ، والتي لا يزال فيها إلى يومنا هذا جيوب كثيرة لأعداء الإسلام من النصارى والعلمانيين واليساريين وأصحاب الشهوات ، فهذا نصر كبير ولله الحمد ، فهو الذي وفق وأعان ، ولست أعرف كيف تيسر هذا الأمر ، فهو توفيق محض من الله سبحانه وتعالى ، وبعض الناس يظنون أنني وصلت لرئيس الجمهورية ، واستطعت الحصول عن طريقه على هذه الفرصة للكتابة في الأهرام، وهذا لم يحدث وإنما هو توفيق من الله. كنا فيما مضى نتمنى أن يسمح لنا بعمود في جريدة الأهرام نبلغ فيه شيئاً من الدعوة الإسلامية للناس ، فمنَّ الله علينا بصفحة كاملة في هذه الجريدة السيارة !

والذي لا يفهم العلم على الأقل سيستفيد من تلخيص السورة ، يستفيد من عرض تفسير الآية ، والذين يهتمون بالعلم قبل أن يهتموا بشرح السورة أو تفسير الآية ينتقلون مباشرة إلى القضية العلمية ، فهذه الصفحة الأسبوعية تخدم أغراضاً كثيرة. ولا أقول ذلك عن المسلمين ، بل تعدى نفعها وتأثيرها إلى غير المسلمين ، فقد جاءني مهندس نصراني إلى بيتي ، وهو يقول : والله عقلي معك 100% ، لكن قلبي لم يتحرك بعدُ ! فقلت : لعل الله يحركه.

فتاة نصرانية تُعلِّقُ على المقال أسبوعياً ، المقال ينشر يوم الأحد الساعة عشرة ليلاً ، وأنا أخرج الساعة الحادية عشرة لأشتري الجريدة من أول طبعة حتى أقرأ المقال. وعند الساعة الثانية فجراً ، أجد هذه الفتاة قد أرسلت رسالة الكترونية على بريدي ، تبدي إعجابها بما ورد فيها ، وتستوضح بعض الأمور الغامضة التي لم تتضح لها ، وهكذا.

أستاذ في الأزهر يحضر رسالة دكتوراه في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم تحت إشرافي ، يكلمني مباشرة بعد نزول العدد مباشرة ، وهذا الأستاذ حاصل على شهادتي دكتوراه ، إحداهما في (الجيولوجيا) ، والأخرى في (علوم الأرض) ، ورجل يعتبر من القمم في مصر وهو من بيت أزهري من عائلة الظواهري عنده مكتبة إسلامية كبيرة في بيته وهو مهتم بهذا العمل ، ويعلق على المقال يوم بيوم ويناقشني فيه ، فأحدث المقال شيئاً من الصحوة في مصر من فضل الله وله قبول عند الناس وأعتبره إعزازاً للإسلام ، ورفع لصوت القرآن في مجتمع أريد له التغريب والإبعاد عن هذا الدين.

شبكة التفسير: في بداية الكلام أشرت يا دكتور إلى قضية الدراسة في الأزهر والدراسة التطبيقية ، ما السبب في كون أكثر الذين يدرسون جانب الإعجاز العلمي من المتخصصين في الدراسات التطبيقية وليست الشرعية ؟
د. زغلول النجار : لأنه يشعر بدلالة المعنى في الآية الكونية أكثر من الذي درسها دراسة شرعية فقط ، الذي درسها دراسة شرعية ركز على دلالة الألفاظ لكن لا يحس بالمعنى العلمي. سأضرب لكم مثالاً !

عندما قرأت الآية الكريمة : (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس) ، قرأت تفسيرها في أغلب التفاسير و وقفت أمامها كثيراً فأغلب المفسرين قالوا الخنس يعني المختفي ، وخنس بمعنى اختفى أو يختفي. وقالوا الشيطان يسمى الوسواس الخناس لأنه يخنس فلا يراه الإنسان ، وقالوا إنه الذي يخنس بالنهار ويظهر بالليل ليتخفى. وبعضهم قالوا الكواكب تتراء لنا بالليل و تختفي بالنهار. أنا وقفت عند هذه الآية سنتين ، ولم أستطع الإقدام على نشر شيء مما أرى أنه قد يكون تفسيراً صحيحاً ، تخوفاً من الحساسية المفرطة عند بعض مشايخنا وفقهم الله.

(خُنَّس) صيغة مبالغة ، لا يظهر و يختفي لا بد أن يكون مختفياً اختفاءً كاملا كما يبدو لي ، القرآن الكريم عندما يكرر المعنى ، يكرره بغرض التوكيد ، فوقفت عند الآية :(فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس). فقلت : (كُنَّس) قالوا كناس الظبي المغارة التي يختبئ فيها من الصياد ، وقالوا خَنَسَ مثل كَنَسَ ، يعني كنس اختفى ، وخنس اختفى ، ومن معاني كَنَسَ سَفَرَ الشيءَ يعني وجد شيئاً آخر على آخر فأزاله ، كما تقول القواميس ، أي بمعنى ما يعرفه الناس من الكَنْسِ العادي ، فقلتُ : لماذا لا يكون المقصود هو الكنس بمعناه المعروف ؟ لماذا التكرار لنفس المعنى الأول ؟

وفي آخر الثمانينات من القرن العشرين بدأ العلماء يلاحظون أن النجوم في صفحة السماء لها دورة حياة كأي كائن حي , لها ميلاد و طفولة و شباب وكهولة و شيخوخة واحتضار ووفاة. ووجدوا أن بعض النجوم أكبر من بعض , هناك نجوم يسمونها (العملاقة) كالشمس عشرات المرات. وأطول فترات حياة النجم هي فترة الشباب ويسمونها (النجم في مراحله الأساسية) كشمسنا هذه يعتبرونها نجماً عادياً , النجوم العملاقة هذه عندما تحتضر وتموت تنتهي إلى دخان في السماء ، هي تبدأ من دخان السماء يخلقها ربنا تبارك وتعالى من دخان السماء ويعيدها إلى دخان السماء , ينفجر النجم ويتحول إلى دخان السماء.

لكن النجوم العملاقة إذا جاء وقت احتضارها تتكدس على ذاتها تكدساً شديداً للغاية ؛ نظراً للكثافة الهائلة لها ، وقدر المادة التي فيها, عندما تتكدس على ذاتها تمر بمراحل لا أريد أن أتوقف عندها كثيراً ، لكن ينتهي بها المطاف إلى نقطة متناهية الضآلة في الحجم متناهية الضخامة في كم المادة والطاقة ، عندما تصل إلى هذه الصورة يصبح لها كثافة فائقة فلا ينبثق عنها الضوء فلا ترى ، وتختفي اختفاءً كاملاً ، ويسميها العلماء (الثقوب السوداء) ! فكيف أدرك العلماء هذه الثقوب ؟

وجدوا في كل مجرة نقطة سوداء ، لا ترى لكنها بجاذبيتها العالية تسحب تيار من الإلكترونات من النجوم التي لا تستطيع ابتلاعها ، فهي تبتلع أي صورة من صور المادة والطاقة التي تمر بها لكن النجوم البعيدة عنها – والمسافات في السماء رهيبة جداً تقدر ببلايين الكيلومترات - يعني النجم الذي لا تستطيع أن تبتلعه تسحب منه تيار إلكتروني ، والتيارات الالكترونية لها أشعة سينية يمكن إدراكها بأي طريقة من طرق كشفها المعروفة (مثل أجهزة أشعة X التي في المستشفيات) ، لا حظ العلماء في مركز كل مجرة تيار من الأشعة السينية يتحرك من النجوم إلى هذا المركز بحسابات رياضية أدركوا أن هذا النجم , نجم مختفي اختفاءً كاملاً لا يرى ؛ لأنه من شدة جاذبيته لا يستطيع الضوء أن ينفلت من عقاله وإذا سقط عليه الضوء يبتلعه وإذا مر به يشفطه. لذا سموه بالثقب الأسود , هو ليس ثقبا لكنه حالة كثيفة جداً للمادة , لكن لقدرته على ابتلاع مختلف صور المادة والطاقة سموه ثقباً , بعض العلماء يتخيله العالم الآخر ويمر فيه روح العالم الثاني؟!! خيال علمي فقط ، لكن وجوده حقيقة , إذا فالثقوب السوداء حقيقة علمية ، وهي مرحلة من مراحل احتضار النجوم العملاقة.

فقلت في نفسي : وصف (الخُنَّس) أبلغُ ما ينطبق عليه هذه الثقوب السوداء ؛ لأنها أجرام مختفية بالكامل ، والقرآن الكريم عندما يصف بصيغ مبالغة ، لا بد أن يكون شيئاَ لا يرى على الإطلاق.

(الجوار الكنس) ! قلت : هو نجم ، وكأي نجم يدور حول ذاته ، و كأي نجم له فلك يدور فيه ، وهو يدور يشفط الأشعة السينية من النجوم التي على بعد بلايين الكيلومترات منه ، فلما يمر بها يشفطها ، وهو حقيقة يكنس صفحة السماء ، فبقيت متردداً متردداً سنتين ، كتبت المقال وترددت في أن أنشره ، وذات يوم وجدت عالماً أمريكياً معاصراً يقول عن هذه النجوم : (هذه مكانس شافطة عملاقة) ! بهذا اللفظ.

فإذا كان ربنا يقسم بالخنس قبل أكثر من 1400 سنة بقوله :(فلا أقيم بالخنس الجوار الكنس) ، والعلماء لم يدركوه إلا في أواخر الثمانينات ، وأنتم طبعاً بما أنكم أساتذة في اللغة العربية ، تعلمون أن نفي القسم في القرآن الكريم أو في اللغة العربية يعني توكيد القسم ، أي أنه قسم عظيم . طبعاً الذي درس اللغة فقط لا يمكن أن يستشعر هذا المعنى ، فإذا لم يكن عنده معلومات في علم الفلك لا يستطيع أن يصل إلى هذا المعنى ولا يستسيغه، لكن حينما أقول هذا الكلام لعلماء متخصصين ، يندهشون ويعجبون !

ألقيت محاضرة في جامعة مانشستر وتكلمت عن هذا الموضوع بالذات ، فيسأل طالب في القسم كيف عندكم هذا الكلام من 1400 سنة وتتركوننا ندرس ونبحث ونتعب ؟!

شبكة التفسير : عندما نقول بأن (الخنس) هنا صيغة مبالغة ، فيكون هذا الموصوف مختفياً تماماً ، هذه قاعدة ليست مأخوذة من اللغة بدقة ، وليس من لوازمها الدلالة على الاختفاء التام ، فلو رجعنا لمعنى الخنوس لأخذناه من مادة خنس , وخنس بمعنى تأخر واختفى ، وكنس معناها دخل في كناسه (أي بيته) تشبيهاً بالظباء.
وتفسير السلف جاء على وجهين :
الأول : أن المراد بهذه الأوصاف بقر الوحش والظباء ، ويكون خنوسها تأخرها واختفاؤها إذا رأت الناس ، والجوار جريانها في المراعي ، والكنس دخولها في بيوتها .
الثاني : أن المراد بها ، النجوم والكواكب ، فيكون خنوسها ، تأخرها عن الظهور ، أول الليل ، والجوار جريانها في أفلاكها ، والكنس دخولها في النهار تشبيهاً لها ببقر الوحش والظباء إذا دخل كناسه. أليس تفسير الصحابة والتابعين واضحاً وصحيحاً ؟ وفي هذه الحالة يا دكتور ألا يفهم من عرضكم لمثل هذه القضية أنكم تردون تفسير السلف وتأخذون بهذا الرأي الجديد في فهم الآية ؟ ما هي الطريقة للتعامل مع من قد يفهم هذا الفهم وإن كنتم لا تقصدونه ؟

د.زغلول النجار : الآيات المتعلقة بالدين في القرآن الكريم بركائز الدين الأربع الأساسية ( العقيدة - العبادة – الأخلاق – المعاملات ) جاءت مصاغة صياغة محكمة لا تحتمل أكثر من معنى واحد , مثل (أقم الصلاة) (كتب عليكم الصيام) ,(لله على الناس حج البيت) ونحوها , بينما الآيات الكونية جاءت بصياغة معجزة يفهم منها أهل العلم معنى من المعاني وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية حتى يبقى القرآن الكريم مهيمناً على هذه المعرفة مهما اتسعت دوائره ، ليس معنى أن السابقين قالوا أن الظباء تختفي , قد يكون المعنى صحيحاً أنا لا أنكره لكنني أعتبر الرأي الذي وصلت إليه قولاً يمكن أن يكون تفسيراً أبلغ وأدل من التفاسير السابقة في نظري ، ويمكن اعتباره قولاً ثالثاً في تفسير الآية ، ولا أرد تفاسير السلف ، بل هي المقدمة ، ولكنني أذهب إلى أنه ليس هناك ما يمنع من الاجتهاد في البحث عن معاني آيات لم يتضح للمفسرين من السلف معناها بشكل واضح ، وهي من الآيات الكونية على وجه الخصوص ، وأقوال المفسرين السابقين في تفسير الآيات الكونية غير دقيقة إلى حد بعيد حسب اطلاعي على كلامهم رحمهم الله ، ولا لوم عليهم ، فقد قفز العلم في جانب الأمور الكونية قفزات كبيرة في عصرنا هذا ، فأدركنا حقائق لم يكن من المتيسر حتى عهد قريب معرفتها .

شبكة التفسير : عندما يقول المفسرون أن المقصود بقر الوحش والظباء ، فهذا شيء يشاهدونه ، وحملوا عليه الآية والقول الآخر أنه أقسم بالنجوم عموما والكواكب , فتخصيص هذا القسم بقضية لم تعرف إلا بعد 14 قرناً يا دكتور ، هل يعني أن الأمة جهلت تفسير هذه الآية ، حتى جاء العلم المعاصر فاكتشفها ؟ كيف تجيبون من يرد عليه هذا الوارد ؟
د. زغلول النجار : أنا أريد أن نفهم التفسير العلمي للقرآن الكريم , كل آية كونية في كتاب الله جاءت بصياغة محكمة كما قلت ، بمعنى أن أهل كل جيل يفهم منها معنى من المعاني ، وتظل هذه المعاني تتكامل مع تكامل المعرفة البشرية مع الزمن ، وهذا جانب من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله. كل سلف فهموا هذا المعنى أو فهموا غيره لا يقلل من قيمة الآية ونحن في نظري لسنا ملزمين بفهم أحد من المفسرين غير النبي صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه الصحابة والتابعون ، فهناك كثير من المفسرين قد فهموا بعض الآيات فهماً غير صحيح ، وكتب التفسير مليئة كما تعلمون بكثير من الأقوال الواهية والضعيفة. ولا يلزم من ظهور معنى جديد للآية إلغاء أقوال السابقين التي لا تتعارض مع الفهم المستنبط كما في الآية التي معنا ، فالآية محتملة للمعاني كلها والحمد لله. والتفسير هو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآية ، إن أصاب فيها المفسر بعد اكتمال شروطه فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، والخطأ في التفسير لا يحسب على جلال القرآن الكريم أبداً ، إنما يحسب على المفسرين ، والذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا ، والذين فسروا بالتاريخ أصابوا وأخطأوا ، والذين فسرو بالإعراب أصابوا وأخطأوا ؟ وأنا الآن أرى عمقاً وبعداً في الآية لا بد أن أعرضه على الناس و أحدثهم به لأن هذه هي اللغة التي يفهمها كثير من الناس اليوم. وليس في عرضنا لهذه الحقائق إلغاء لفهم السابقين رحمهم الله ، إلا ما ظهر خطأه ، وبان خلله مما لا دليل قاطعاً عليه ، , والسبب في تركيزي على الحقائق العلمية في برامجي ومقالاتي ، هو أن هذا هو الجانب الذي لم يحظ بالعناية من قبل المفسرين ، فأستغل الوقت في بيانه وإيضاحه ، وبقية الجوانب التفسيرية قد أشبعها المفسرون بحثاً ، وهناك مشايخ فضلاء يقومون بتفسير القرآن في الإعلام للناس ، فأكتفي بعملهم وأنصرف إلى هذا الجانب ، هذا كل ما في الأمر ، ولست بعملي هذا قاصداً لترك تفسير السلف ، وعامداً لتنقصهم رحمهم الله.

شبكة التفسير : لماذا لا نذهب إلى ما قاله السلف في تفسير الآية ، ونبحث فيها عن الأسرار والإعجاز والحكمة ؟ فيكون هو الأولى من الجهتين فهو قول السلف ، وفيه دلالة خفية على كثير من الناس ؟
د. زغلول النجار : جيد جدا أنا لا أنكر هذا أبداً ، نعم هذا وارد , يعني القسم بالإبل كيف خلقت لم يقل فيه السلف معنى من المعاني العلمية الكثيرة المتوفرة لنا الآن في معرفة معجزات خلق الإبل وبحث فيها رسالة دكتوراه . لكن يغلب علي العناية بالآيات الكونية لتخصصي في هذا الجانب ، وربما جاء عالم في (الحيوان) فظهر له في مثل آية الإبل هذه ما لم يخطر لي على بال ، وهكذا.

شبكة التفسير : هناك يا دكتور قضية مهمة تشغل بال محبيك ، وكل من يتحدث في جانب التفسير العلمي والإعجاز ، وهي الموقف من تفسير السلف ، والمقصود بالسلف الصحابة والتابعون وأتباع التابعين بالذات , لأن من جاء بعدهم أخذ منهم , ومعلوم أن الكلام إما أن يكون متفقاً عليه وإما مختلفاً فيه , أما المتفق عليه فهو معروف وقد تم الإجماع عليه ، وأما المختلف فيه إما أن يكون الاختلاف متنوعاً ، وإما أن يكون متضاداً فإذا كان متضاداً فلا بد من الترجيح , فإذا كان متنوعاً والآية تحتمله فنقبله ، فما دام أننا قبلنا اختلاف السلف فإنا نقبل ما جاء من كلام المعاصرين مادام لا يخالف أقوالهم بشرط أن لا يقصر معنى الآية عليه , وطريقتكم حفظكم الله في عرضكم للإعجاز العلمي يفهم منها - وإن لم تقصدوا - الاقتصار على المعنى العلمي فقط ، فهو من لازم هذه الطريقة في العرض. والذي نريده كمتخصصين في الدراسات القرآنية ، ونتمناه أن يكون هناك توازن في الطرح بين تصحيح ما قاله المتقدمون ، و أن هذه أقوال معتبرة في الآية وقد ظهر لها معنى جديد يمكن أن يضاف إلى هذه المعاني ، فما قالوه معنى صحيح وهذا المعنى الجديد إن كان صحيحاً قبل ، وإلا فلا ، وإن لم نفعل ذلك لزم منه إلغاء أقوال السلف ، وأن هذه الآية لم يفهمها أحد من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا حتى جاء العلم الحديث فكشف لنا معنى هذه الآية.
د. زغلول النجار : لا , أنا كما كررت كثيراً ، أقول المعنى الذي أراه في هذه الآية ، ولا أنكر ما قاله المفسرون فيها ، لكن عرض البرنامج في (التلفزيون) لا يسمح بعرض كلام المفسرين لضيق الوقت ، وأنا أريد أن أقدم الذي ظهر لي في هذا الوقت القصير. ومقالاتي في الأهرام موجودة على الانترنت أكثر من 100 مقال أرجوا أن تقرؤها إن أمكن ، وأنا أذكر على الأقل 7 آراء لمفسرين معتبرين قبل أن أتحدث بما عندي , الحديث الذي يكون في التلفزيون أكون فيه حريصاً على أن أوصل المعنى الجديد للناس ، أما المعاني السابقة للآية فقد ذكرها مئات المفسرين , وهناك للشيخ محمد الراوي وغيره برنامج يومي في التلفزيون المصري يشرح فيها أقوال الفمسرين بتفصيل ، فأنا أريد أن أٌقدم شيء جديد لفهم دلالة الآية القرآنية الكريمة وهذا لا يلغي القديم أبداً ، ودعني أضرب لكم مثالاً.

يقول رب العالمين : ( والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها). أغلب المفسرين قالوا معناها : كورها , ولا يوجد في اللغة معنى التكوير من الدحو. الدحو في اللغة أي البسط والمد. ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما قال : فسرها ما بعدها. فالبدوي في صحراء الجزيرة العربية يرى العيون تتفجر أمام عينيه ويرى أن الأرض تكتسي بالخضرة بعد أن ينزل المطر , وهو معنى صحيح 100%

لكن نحن نرى في هذه الآية بعداً كبيراً ، إن العلماء إلى يومنا هذا مختلفون من أين جاء الماء إلى الأرض؟

ولا يزال إلى يومنا هذا علماء معتبرون يقولون إن الماء أتى من المذنبات ، والمذنب عبارة عن كتلة من الصخر محاطة بكمية من الجليد ، ولها كمية من الدخان والغبار ، تدور حول الشمس كل 76 سنة مرة ، فقالوا لا بد أن هذه المذنبات خبطت الأرض فذاب الجليد , وهذا كلام غير مقبول علمياً ، فلاحظ العلماء أن أغلب ما ينبثق من فوهات البراكين هو بخار الماء وهو يعادل 70% مما يخرج من فوهة البركان ، وبحسبة رياضية كم فوهة في سطح الكرة الأرضية ، متوسط عدد مرات ثورانها ، أعطانا نفس كمية الماء على سطح الأرض 1400 مليون كيلوا متر مكعب من الماء !

رب العالمين قال :( أخرج منها ماءها ومرعاها ) ! وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى ، أن يخرج الماء من وسط النيران ، هذا السائل الرطب الندي الذي تقوم عليه الحياة.

والمرعى توقفوا عند معناه ، فوجد العلماء أن ثاني أكثر غاز ينبثق من فهوة البركان هو ثاني أكسيد الكربون ، وهو لازمة من لوازم كل النباتات الخضراء ، لا يستطيع أن يبقى في الوجود بدون ثاني أكسيد الكربون ؛ لأن وسيلته في الوجود أن يمتص ثاني أكسيد الكربون ، ويفصل الكربون عن الأكسجين ، ويسخر الكربون مع الماء فيكون كربوهيدرات. فعبر ربنا تبارك وتعالى عن ثاني أهم غاز ينبثق من الأرض بالمرعى , فبهذا نضيف بعداً جديداً للآية ، فتلاحظون هنا أن الآية الكونية تأتي بألفاظ محدودة ، لكنها تحمل معاني لا تستوعبها المعرفة الإنسانية بأكملها ، وأنا بهذا لا ألغي القديم ، لكن أحاول أن أركز على معنى جديد لا يقدمه غيري.هذا كل ما في الأمر.

شبكة التفسير : ما هي الكتب التي بحثت التفسير العلمي واعتنت به ؟ ومن من المفسرين كذلك اعتنى بهذا الجانب ؟
د. زغلول النجار : كمفسر لا أعرف غير الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله ، فقد اهتم بهذا الجانب ، وكان العلم الخاص بالأبحاث الفلكية والكونية في زمانه لم ينضج بعد ، وقد لقي هجوماً شديداً من علماء الأزهر . وأرى أن (المنتخب في التفسير) الذي يصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر ، بداية طيبة جداً ؛ لأنه يفسر الآية القرآنية باختصار ، ويضع حاشية لشرح الدلالة العلمية للآية الكونية ، ونحن نراجع المنتخب الآن , ونحن لجنه موسعة ، أربعة وعشرون متخصصاً ، معنا أساتذة تفسير، وأساتذة لغة عربية ، وأساتذة حديث ، وأساتذة فقه ، وأساتذة عقيدة ، ومعنا متخصصين في كل المجالات ، معنا أطباء وفلكيين، وكيميائيين ، وفيزيائيين ، وعلماء نبات و زراعه وحيوان وطب بيطري وأطباء في مختلف التخصصات ، ونحن نناقش كل آية ، وكل واحد يقول ما عنده ، وأول ما نسترشد به الدلالة اللغوية لألفاظ الآية ، والمعنى اللغوي كما توحي به هذه الألفاظ ، ثم ننظر في كلام المفسرين ، ثم نسأل المتخصصين كل واحد في مجال تخصصه. وأرجو إن شاء الله تعالى في منتصف العام القادم نكون أكملنا مراجعته وسنصدر إن شاء الله ملحقاً بالآيات الكونية ودلالتها العلمية ، على أن يجمع مع المنتخب في الطبعة القادمة ، وبعد ذلك نصدر (الوسيط) و(المفصل). بإذن الله.

شبكة التفسير : لكم تجربة جيدة في البحث والحديث في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة . ما تقويمكم لهذه التجربة ؟ وهل ترون مبالغة في ذلك ؟
د. زغلول النجار : الذي يقرأ منكم الضوابط التي نشرتها هيئة الإعجاز العلمي في مكة المكرمة بالتعاون مع هيئة الإعجاز العلمي , يطمئن ، حيث يشترط كشرط أساسي عدم التكلف في تفسير الآية ، وعدم لي أعناق الآيات التي تتوافق مع حقيقة كونية ؛ لأن القرآن أعظم ، وأجل عندنا من ذلك. القرآن أعظم من كل المعارف الإنسانية لكن الذي أقوله لو بقينا أبد الدهر على فهم بعض المفسرين القدامى مع إجلالنا لهم ، لن نتقدم خطوة ، لأن هذه الآية الكونية تحتاج في كل جيل إلى من يجدد دلالتها ، وإلا لن نستطيع أن نخاطب أهل العصر باللغة التي يفهمونها ، والآيات الكونية لها رسالة حقيقة.

فلو دققت تجد أن جميع الآيات الكونية لم تأت للإنسان من قبيل الإخبار العلمي المباشر ؛ لأن كل قضية يعلم ربنا بعلمه المحيط بكل شيء أن الإنسان قادر على أن يصل إلى تصور صحيح. القرآن الكريم جاء للإنسان بيان من الله في القضايا التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه ضوابط صحيحة ، ولذلك جاءت آيات الأحكام والعقيدة والتشريع و العبادة في غاية الوضوح ، ولا تحتمل معاني غامضة ، أما الآيات الكونية فقد جاءت كلها في مقام الاستدلال على قدرة الله في إبداع خلق هذا الكون ، جاءت الشهادة على وحدانية الله سبحانه وتعالى ؛ لأنه يؤكد لنا أن كل شيء في الوجود , من الشفرة الوراثية داخل شفرة الإنسان إلى الأجرام الكبرى في الكون خلق في زوجية واضحة. وهي أنها خطاب لأهل عصرنا ، هذا العصر الذي نعيشه ، والذي فتن الناس فيه فتنةً كبيرةً بالعلم ومعطياته ، يأتي القرآن الكريم ليؤكد لهم أن كلام الله سابق لعلمهم بقرون طويلة ، قبل أن يصل الإنسان إلى أي قضيه من هذه القضايا ، سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى شيء من حقائق هذا الكون ، فهي حجة على أهل عصرنا. إذا لم نستطع أن نظهر هذه الحجه لن نستطيع أن نخاطب أهل هذا العصر ، هذا الذي أريد أن أقوله الآن. وأنا لا ألغي كلام أي مفسر من المفسرين من السلف أبداً ، ولا أملك ذلك.

وأنا تمنيت أن هذا المجال يدرس في إحدى الجامعات الإسلامية هنا ، وعرضت ذلك على كثير من المسئولين في جامعه الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، والجامعة الإسلامية ، وفي جامعة أم القرى ، فهم أولى الناس بهذا المجال.

شبكة التفسير : لماذا سميناه الإعجاز العلمي ؟ أو التفسير العلمي ؟ نسبةً إلى ماذا ؟
د. زغلول النجار : إلى العلم ، صحيح أنه كل ما وصل إلى إدراك الإنسان من معارف ، لكن أصبح عَلَماً على العلوم الكونيه وتطبيقاتها وتطوراتها. وقد تعارف الناس الآن على هذه التسمية الاصطلاحية ، خذ أي قاموس أجنبي ، وابحث عن كلمة (ساينس) التى هي العلم ، غالبا يقول لك هي كل ما وصل إلى إدراك الإنسان من معارف ، لكن أصبحت مقصورةً على المعارف الكونية اصطلاحاً وتشمل غيرها.

شبكة التفسير : ما رأيك في تسميتها (العلوم التجريبية) ؟ أو (العلوم الكونية) ، لأنه إذا قلت (التفسير العلمي) دل بمفهوم المخالفة على أن ما عداه ليس كذلك ؟
د. زغلول النجار : العلوم الكونية تختلف عن العلوم التجريبية ، يعني الفيزياء النظرية ليست تجريبية ، الرياضيات ليست تجريبية ؟ فالتعبير بالعلوم التجريبية غير دقيق . لأن العلوم التجريبية هي التي تقوم على التجربة والملاحظة والاستنتاج ، وليس كل العلوم تجريبية ، فعلم الفلك ليس تجريبياً ، هو عبارة عن ملاحظات وأنا أقول العلوم الكونية وتطبيقاتها.

شبكة التفسير : هناك كتابات للدكتور محمد أحمد الغمرواي ، ما رأيك فيها ؟
د. زغلول النجار : كتبه رائعة جداً وقيمة رحمه الله ، وقد كان معنا هنا في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً) ، كان عميداً لكلية الصيدلة ، ومن الناس الذين سعدت بصحبتهم هنا ، سنة 1378هـ وما بعدها ، وكان الغمراوي يدرس في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر في الثلاثينات سنه 1937م. رحمه الله. وله كتاب في سنن الله الكونية ، يدل على أن الأزهريين مهتمين بالعلوم ، وهذا أستاذ في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة ، كان يدرس كتاباً بعنوان ( في سنن الله الكونية ) وهو من أجمل ما كتب في هذا المجال.

شبكة التفسير : هل تعدون الكلام في الإعجاز العلمي من باب التفسير ؟ أم هو من باب التدبر في مخلوقات الله الكونية ؟ والأسرار المكنونة فيها ؟
د. زغلول النجار : البحث في الإعجاز العلمي في القرآن ليس تفسيراً بمعناه الدقيق ، وهناك فرق كبيرٌ جداً بين التفسير العلمي للقرآن الكريم، والإعجاز العلمي للقرآن الكريم . كيف ؟ في جانب الإعجاز نحن لا نوظف إلا القضايا التي حسمها العلم ، والتي انتهى منها ، والتي لا رجعة فيها ، وبما أن العلم لم يحسم كل قضية ، وهناك قضايا كثيرة لم تحسم بعدُ ، وقضايا ذكرها القرآن الكريم ، لا نستطيع أن نتحدث فيها بإعجاز ، ولكن نتحدث فيها بتفسيرٍ علمي ، والتفسير العلميُّ يجوز استخدام النظرية فيه حتى لو تغيرت ، لا توجد حقيقة متاحة لنا ، ولكن توجد أربع ، أو خمس نظريات ، فأنا أرجح إحداها بتفسير دلالة الآية ، ولا حرج في ذلك إن شاء الله ، إلا أني كما أشرت أن الذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا ، والخطأ في التفسير لا يُحسبُ على دلالة القرآن ، وإنما يحسب على جُهد المفسر وفهمه.

شبكة التفسير : لو سئلتم : لماذا لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضايا ، ولم يذكرها الصحابة والتابعون؟
د. زغلول النجار : الرسول صلى الله عليه وسلم عرض عليه أكثر من رأى من الصحابة في الآية الواحدة وأقر كلَّ واحدٍ منهم على رأيه ، واقرأوا السيرة النبوية ، سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن دلالة بعض الآيات فأحجم عن تفسيرها ، لأنها سابقة لزمن الناس بالمعرفة ، آيات كونية سابقة لعلم الناس في أمور كثيرة ، ولا يعيب الصحابي عدم معرفته بدلالة الآية الكونية أبداً ، هو رأى فيها معنى ، والمعنى قد يكون صحيحاً ، لكن ليس كل المعنى ، رأى جزئيةً من دلالة الآية.

شبكة التفسير : نحن كمتخصصين في التفسير ، عندما نأتي إلى قضية سواء سمينها علمية ، أو لغوية أو غيره ، إذا جئنا إليها وهي جديدة لم يذكرها السلف ، فأول قضية نبدأ بها أن نحرر كلام السلف ونفهمه ، فإذا حررناه وفهمناه وأثبتناه فهذه هي القضية الأولى.
والقضية الثانية إذا كانت تناقض قول السلف فإنا لا نقبلها.
والقضية الثالثة :إذا لم تناقض قول السلف وهي صحيحة في ذاتها ، والآية تحتملها ، فإنا نقول بها من غير أن نقصر معنى الآية عليها .فلو أردنا أن نطبق هذا المنهج على الخنس وما بعدها فإننا نقول في الآية ثلاثة أوجه:
الوجه الأول : أن الخنس هو بقر الوحش ، وهو معنى صحيح تحتمله الآية.
الوجه الثاني : هي النجوم وهو أيضاً وجه صحيح تحتمله الآية.
والوجه الثالث : هي هذه النجوم التي لم تعرف إلا في هذا العصر ، وهو أيضاً صحيح وتحتمله الآية.
فلا نكون بهذه الطريقة تركنا جانب التفسير ، ولا جعلنا أحداً يدخل علينا فيقول :أنتم بطريقتكم هذه قد ألغيتم كلام من جاء قبلكم ممن هم أدرى بمعاني كلام الله منكم.

د. زغلول النجار : هذا كلام صحيح ، وأنا أعرض قول سبعة أو أكثر من المفسرين في شرح هذه الآية ، فلا ألغي آراءهم؟ ثم أذكر رأي بعد ذلك.

شبكة التفسير : نشكركم يا أستاذنا الكريم على تلبية دعوتنا لهذا اللقاء ، ونسأل الله أن يوفقكم لما يحب ويرضى.
د. زغلول النجار : جزاكم الله خيراً ، وأنا أشكركم على هذا اللقاء ونتمنى لكم كل توفيق ، واسمحوا لي أن ألخص بعض النقاط المهمة نختم بها :

- أنا أحب التأكيد إلى أن الآيات القرآنية الكونية لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً في إطار اللغة وحدها ، وهذا أمر في غاية الأهمية لو لم نخرج من هذا اللقاء إلا به لكفى.

- أدعو الجامعات والأقسام العلمية المتخصصة في الدراسات القرآنية إلى العناية بجانب دراسات الإعجاز العلمي ، وعدم إهماله بحجج كثيرة غير مقنعة.

- أدعو أبنائي طلاب الدراسات العليا إلى البحث في هذه الجوانب في رسائلهم العلمية ، وعدم التوجه للتحقيق على حساب الدراسات العلمية التي يحتاجها الناس وينتفعون بها ، أكثر من الانتفاع بتحقيق كتب قيمتها العلمية ليست كبيرة ، ولا تعود على الباحثين بفائدة كبيرة.

- أدعو طلاب العلم إلى مراجعة كتب التفسير القديمة ، والبحث في ما ذكروه في تفسيرهم للآيات الكونية ، ومقارنته بما توصل إليه العلماء في العصر الراهن ، فسيجدون مادة علمية طيبة.

- يؤسفني أن كثيراً من طلاب العلم يظنون أن قضية الإعجاز العلمي قضايا شخصية ، وأننا نتحمس لها على حساب كلام السلف ، وأنا أحب أن أؤكد أن كلام السلف هو المقدم ، وأن اللغة هي كرجع ومصدر للتفسير ، والبحث في الإعجاز العلمي ، ومحاولة إظهاره للناس باب من أبواب العلم ، أتمنى أن أدرب طلاباً يحملون هذه الرسالة ، لتستمر ، لأن غالب من يهتم بها من كبار السن من أمثالي ، ونسأل الله التيسير. وأتمنى من الجامعات أن تفكر في إنشاء شعبة أو نحوها للعناية بموضوعات وأبحاث الإعجاز العلمي ، لتكون البحوث والكتابات منضبطة ومؤصلة.

شبكة التفسير : هل من كلمة أخيرة .
د. زغلول النجار : أنا أشكر لكم في شبكة التفسير والدراسات القرآنية هذه الضيافة الكريمة ، وسعدت بلقائكم جميعاً ، وأسأل الله أن يكون هذا اللقاء في ميزان حسناتكم وحسناتنا إن شاء الله ، وأرجو أن يؤخذ الأمر بجدية ، وأن يفكر كل مهتم بالأمر في المساعدة بطريقة أو بأخرى ، حتى يكون هذا اللقاء مثمراً ، وأوصيكم بالاطلاع والقراءة في غير تخصصاتكم ، ولا تقتصروا على تخصصاتكم ، بل اقرأوا في العلوم الأخرى كالفك وغيره


http://www.tafsir.net/

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

لقاءات الشبكة

  • لقاءات عبر الشبكة
  • لقاءات عبر المجلات
  • الصفحة الرئيسية