صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







حوار حول الفكر الغربي والمصطلحات المعاصرة
مع الدكتور عبد القادر بن محمد الغامدي

أجرى الحوار : إسماعيل طه


في ظل ازدحام في المصطلحات لا يكاد الدارس المسلم فضلا عن المسلم العادي الوصول لتعريف صحيح لها أو ضبط لمختلف معانيها , فلا يكاد يميز الغث من السمين , لهذا تكثر الحاجة إلى وقفات لضبط الكثير من المصطلحات على ميزان الشرع , ومن محاولات نزع الالتباس عن المفاهيم والمصطلحات كان هذا الحوار مع الدكتور عبد القادر بن محمد الغامدي حفظه الله *

يهاجَم الإسلام اليوم هجوما فكريا بكل الوسائل من قبل الغرب والمستغربين ، ليشوهوا إسلامنا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ليقدموا لنا إسلاماً يريدونه هم ، فكيف ترى دور العلماء والمفكرين للرد عليهم ؟

ج. الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعبده نبينا محمد وعلى آله وصحبه , أما بعد ؛ فلا غرابة في هذا وهذه سنة الله في الخلق منذ أنزل آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله من الجنة , ليميز الله الخبيث من الطيب ويتخذ من عباده شهداء , ويتبين جمال الحق وجلاله , بكشف شبهات المضلين , فإبليس لعنه الله استعمل الطريقتين , تشويه الحق بقياسه الفاسد , وتقديمه الدين بغير ما أنزل الله بشرع ما لم يأذن به الله كما قال تعالى حكاية عنه : (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ) .

وقد وجد اللعين بغيته في مفكري الغرب خاصة , لكون الشرق منه انطلقت الرسالات والنبوات , فاتخذ المفكرين الغربيين جنوداً له , فساروا على نهجه , إلى هذا اليوم , لكن نصر الله الحق بالأنبياء عليهم السلام , فكانوا يأتون بالحق المبين , ويدحضون حجج اللعين ويبينون خطواته ويكشفون لمن أرسلوا إليهم شبهاته , ولم يبق له شبهة إلا وقد جاء الرد عليها وخاصة في أعظم هذه الكتب والمهيمن عليها , والذي جمع ما فيها وزاد عليها , والسالم من التحريف والزيادة والنقص وهو القرآن العظيم , فمن سار في الرد على إبليس وعلى جنوده خاصة المفكرين الغربيين طريقة القرآن فقد أزاح الشبهه وأراح الأمة .

ولا شك أن الواجب على أهل العلم كبير في التصدي لهذا الهجوم الكبير المليء بالحقد الدفين , فالواجب بل من أعظم أنواع الجهاد التصدي لذلك من الجهتين من جهة بيان الإسلام كما هو وكما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم , من غير تمييع أو مداهنة أو مداراة أو انهزام , وبه يندفع ما شوهوه به , ومن جهة إخراج ما أدخل فيه مما ليس منه ببيان مصادر التشريع الصحيحة , وطرق الاستنباط السليمة , وهي الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضوان الله عليهم وأتباعهم بإحسان , وكذا الإجماع والقياس الصحيح الذي هو الميزان , وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الدين الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم , وبتمييز الصحيح من الضعيف باستعمال طريقة علم علل الحديث الذي هو بحق مفخرة لهذه الأمة , وهذا العلم يضمحل أمامه علوم التكنولوجيا المعاصرة بسبب دقته المذهلة , وهو من العلوم التي بسببها يخضع لنا الغرب, وهو علم محتاج لتجديد , لأن المحدثين المتأخرين من ابن الصلاح ومن بعده جلهم ساروا في تصحيح الحديث وتضعيفه على طريقة الأصوليين لا المحدثين الأولين , وطريقة المتأخرين سهله لا تحتاج إلى ذكاء وتعب لذلك زهد فيه كثيرون .
فالتصدي للغربيين محتاج إلى عودة صادقة لهذا النهج المتين والعودة إلى هذه الأصول , والسير على نهجها في رد شبهات المبطلين , وبيان موافقة العقل والحقائق العلمية للنقل ودرء التعارض بينها , فالحق يؤيد بعضه بعضا من أي طريق عرف .
وهذا يلزم عنه معرفة أصول الباطل ودراسته دراسة عميقة فشبهات القوم خطيرة , ثم تمييز الحق من الباطل , ومن أعظم ما يرفع الله به العبد درجات كشف الشبهات لذلك قال تعالى عن إبراهيم بعد نسفه حجج المبطلين في زمنه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) , وفي الآية أيضا أن الحجج الصحيحة لرد الباطل توفيق من الله يجب طلبها منه وعمل أسبابها من العلم والعمل والصبر واليقين .

برأيكم أي منهج صحيح وعلمي لنقد الأفكار المنحرفة والهدامة التي تنتقد الإسلام؟

- المنهج الصحيح هو المنهج الذي سار عليه الأنبياء وأتباعهم , والقرآن الكريم كلام الله فيه الرد على كل شبهة إلى يوم القيامة كما قال تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) , والسنة شارحة للقرآن ومبينة له فلا غنى عنها في فهم القرآن , وقد كان سلفنا كما في كتبهم التي وصلت إلينا في العقيدة يرجعون عند ورود الشبهات إلى القرآن والسنة بالفهم السليم , وكانوا شديدي القرب من ذلك حتى كان أكثرهم يختم القرآن كل سبع , مع فهمهم العميق, وكثير منهم كل عشر , فيجدون الرد على أي شبهة ترِد , وأيضاً من أعظم طرق جهادهم بيان تناقضهم وإشغال بعضهم ببعض وبيان مواطن الضعف التي يشنع بها عليهم , فإن العقل السليم دائماً يؤيد الوحي , فلا تجد مبطلا يستدل بدليل صحيح من النقل أو العقل أو الحس إلا كان الرد عليه في نفس دليله , وكذلك فهم كلام المبطل فهماً سليماً , وذلك بالرجوع لكلامه مباشرة أو إلى الكتب التي يرجع إليها ويعتمدها , وفهم مصطلحاته وفلسفته , بحيث يقر أن هذا هو كلامه ومذهبه ولو باطناً , والإشادة بما يقوله من حق إن جاء بشيء من ذلك , لكن لما ابتعدنا عن هذه الطرق في رد الباطل ضعفت الحجج وتسلط الأعداء , كما تسلطوا بسبب المتكلمين وبسبب المغرورين الذين غرورهم يحول دون فهم القرآن , فاشتغلوا بكلام المتأخرين وبآرائهم الضعيفة التي لا ترى عليها أثر التوفيق , وقل الاستدلال بالآية والحديث وبكلام الأئمة الأولين الكبار إلا على خجل , ولرد الألسنة عنهم , واستدلوا بآراء هزيلة ضعيفة , وفي المقابل وجد من يستدل بالقرآن لكن بغير الفهم السليم , فوجد مفكروا الغرب وأذنابهم الطريق إلى نقد الإسلام ومنهج الصحابة والتابعين .

جدلية العقل والنقل لا تزال باقية في أوساط المسلمين, برأيكم كيف تعالج هذه القضية؟

ج . في رأيي أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يبق لهذه الشبهة مقالا , وخاصة في كتابه درء تعارض العقل والنقل , فقد بين هذه الحقيقة وهي عدم التعارض بين القطعي منهما , وبينها قبله سلفنا كما في كتاب الحيدة ورد الدارمي على المريسي , وكذا في كتب علم العلل وأصول الفقه الصحيحة وغيرها , لكن الأعداء دائماً يتعلقون بالعقل لتشكيك ضعاف العلم من المثقفين البعيدين عن سؤال أهل العلم عند ورود الشبهات , وإلا لم تبق شبهة في هذا الباب , وإنما نحن نحتاج اليوم لبيان درء تعارض الحقيقة العلمية والنقل , فهذه أهم ما يُردع به الغربيون ومفكروهم لأن التعارض عندهم هو سبب إلحادهم , وسبب التعارض دينهم المحرف , لا الدين الحق , وببيان أن الحقائق العلمية لا تعارض القرآن بل القرآن بين ما لم يصلوا إليه نكون قد مكرنا بهم المكر المبين .

بعض الناس يتهمون السلف الصالح بعدم اهتمامهم بالعقل , فهل السلف لا يهتمون بالعقل حفا ؟

ج. هذا يقوله من لم يقدر قدر السلف , ومن هو من أجهل الناس بعلومهم وأقدارهم, وقديماً وجد من يظن أن القرآن خال من الحجج العقلية , والحق أن في القرآن من الحجج العقلية مالا قياس بينه وبين ما جاء به الخلق من حجج عقلية صحيحة , وديننا يحث على التأمل , لذلك كان فيه القياس ولم يأت بدليل على كل فرع , بل بأدلة مجملة في كثير من المسائل , ليفهم العلماء الوحي ومقاصد القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم , ويتبين لهم من القرآن ما يحير العلماء إلى اليوم , من الأسرار والعقليات المذهلة , وكثير من الجهال منذ القدم أعرضوا عن فقه الصحابة واشتغلوا بكتب المتأخرين , ولو رجعوا إلى فقه الصحابة رضوان الله عليهم كفقه أبي بكر أو عمر أو علي أو عثمان أو ابن مسعود أو ابن عباس وغيرهم وتأملوا في فتاواهم لرأوا من الأدلة العقلية العجب العجاب وما لا يمكن أن يقرب منه من بعدهم من التابعين فضلاً عن غيرهم كما اعترف به فحول العلماء كالتابعين وتابعيهم وكالشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من أئمتنا الكبار , بل أمر مالك بن أنس باستتابة من قدم رأي النخعي على رأي عمر بن الخطاب في مسألة . مع أن إبراهيم النخعي هو أحد أفقه أربعة في التابعين , وما الفقه إلا الفهم والعقل والاستنباط , لكن الجاهل بالشيء عدو له , وبهذا أبعدونا عن المعقولات الصحيحة وعن النقل , وهنا أدعو العلماء وأساتذة الجامعات إلى بذل الجهد لجمع فقه الصحابة رضوان الله عليهم في رسائل جامعية متقنة أو غيرها كل صاحب على حدة إن أمكن يميز فيها بين الصحيح والسقيم , ثم يشرح ذلك الفقه ليعرف الجهال أي فقه تركوا .

مصطلح الفكر الإسلامي مصطلح جديد نسبيا , وبعض العلماء ينكرون هذا المصطلح ، فهل كان الشيخ ابن عثيمين – يرحمه الله - يحذر من مصطلح الفكر الإسلامي ؟

ج. الشيخ ابن عثيمين أحد أذكياء الفقهاء وكبار العلماء المعاصرين الذين جمعوا بين العقل والنقل , ولا أعلم رأيه في هذه المسألة , لكن من المعلوم أن الإسلام مأخوذ من القرآن والسنة , ولا يجوز تسمية القرآن فكرا , لأنه كلام الله وصفات الله توقيفية , والوحي معصوم فتسميته فكراً يقلل من قدره ولا يميز بينه وبين كلام العلماء , لكن لو سمي بذلك آراء الفقهاء فلا مانع عندي منه , لأن آراءهم غير المجمع عليها أداهم إليها فكرهم وتفكيرهم وتفكرهم في الوحي , ولا مشاحة في الاصطلاح , لكن اللفظ مجمل فليس كل من أطلقه قصد المعنى الباطل , فيستفصل من كلامه ويستبدل اللفظ بالأليق فيما يتعلق بالوحي , فما نقل عن شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هنا إن صح عنه قول قوي , لكن مع التفصيل في كلمة فكر إسلامي بين الوحي المعصوم وبين آراء المجتهدين المعتبرة والله أعلم .

فرنسيس بيكون له مقولة شهيرة (إن القليل من الفلسفة يميل إلى الإلحاد ، ولكن الكثير منها ينتهي بالعقول إلى الإيمان) فهل كثير من الفلاسفة لا يؤمنون حق الإيمان وهل إيمانهم مختلط بخرافات وشرك ؟

ج. الفلسفة لفظ مجمل , قد يراد به التفكير في الحسيات والملاحظة والتجربة وهو مجال العقل الذي تألق به فرانسيس بيكون , وهذا يقود إلى الإيمان , وكذا المنهج التاريخي التكويني وغيره من المناهج التي أصبحت تسمى المنطق الحديث , وهذا المنطق الذي مأخوذ من المسلمين أصلاً وهو محمود , وإن سمي فلسفة فلا مشاحة في المصطلح , وفرانسيس بيكون ينتقد التفكير والخوض بالعقل في الإلهيات وفي خارج حدوده انتقادا كبيرا حتى ألف كتابه الأورجانون الجديد وهو دمغ للأورجانون القديم الذي هو منطق أرسطو , وكان بيكون ينتقد كل الفلاسفة اليونانيين , وكذا الفلسفة الأوروبية الحديثة فالفكري منها الخالص إلحاد وزندقة, والمادي منه نافع كثير , فبيكون يقصد بالفلسفة التي تؤدي إلى الإيمان هي الفلسفة التجريبية بعيداً عن الإلحاد , والفلسفة التي تميل إلى الإلحاد هي الفكرية المحضة .
فالعقل إذا خاض في غير مجاله من الإلهيات , والقوانين التي تحكم البشر , ونظام الأسرة وغير ذلك مما يعجز عنه العقل أتى بما أتلف البشرية وسبب لها كل شر , وإذا خاض في حدوده أبدع وتألق , لكن الكبر في الفلاسفة والإعجاب بسبب ما أصابوا فيه من أمور الدنيا جعلهم يعرضون عن الوحي , ويقعون فيما وقعوا فيه , وإن كان قد يخالف بيكون في هذا بالنظر للفلسفة منذ عصورها الأولى قبل التاريخ .

للمسلمين الوحي الإلهي القرآن والسنة الصحيحة الثابتة ، وهما يغنيان المسلم عما سواهما , فلماذا لجأ عدد من علماء المسلمين إلى الفلسفة اليونانية ؟

ج. لم يلجأ أحد من علماء المسلمين إلى الفلسفة اليونانية وإنما جهال المسلمين ومبتدعتهم , أما علماء المسلمين كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة وكبار أصحابهم وجميع السلف منذ القدم مجمعون على التحذير من الفلسفة اليونانية بل ومن علم الكلام , والإجماع في هذا محفوظ مشهور وقد ندم كبار الأذكياء الذين لم يقبلوا نصيحة علماء الأمة واعترفوا بزلتهم كالجويني والرازي والغزالي مثلاً .

كثيراً ما نسمع مصطلح " الفلسفة الإسلامية " ، وبعض المفكرين يحاولون وضع مصطلحات أخرى مثل الحداثة الإسلامية ، وعلمنة الإسلام , فهل هذه المصطلحات مصطلحات علمية دقيقة ومعتبرة ؟

ج. المصطلحات ليست سواء , فهناك مصطلحات لا تدل على باطل وليست مجملة فيقال فيها لا مشاحة في الاصطلاح , وهناك مصطلحات مجملة يراد بها باطل كمصطلحات علم الكلام مثلاً , ولذلك حذر العلماء من علم الكلام لا لمجرد الاصطلاح . ومصطلح الفلسفة الإسلامية لفظ مجمل فإن أريد به أن في الإسلام فلسفة أو أن الإسلام يقر الفلسفة فلا , وإن أريد كما هو الواقع الفلسفة التي وجدت في الإسلام كفلسفة ابن سينا والفارابي وابن رشد فلا بأس , لكن اجتناب اللفظ المجمل هو التحقيق فليس بين الإسلام والفلسفة إلا السيف كما قال بعض قضاة المسلمين . وكثيراً ما يراد نشر الفلسفة بالتستر بالإسلام كما كان بعض الفلاسفة كالفارابي وابن عربي وغيرهم ربما استدلوا بالقرآن فراراً من سيوف المسلمين , ولذلك حاول بعضهم إيجاد جامع بين الفلسفة والإسلام بتكلف كابن رشد في فصل المقال , وهذا حال المنافقين , وإلا فيستحيل الجمع بين الضدين , وأما مصطلح الحداثة الإسلامية , فهو أيضا بسبب خوف الحداثيين من غضب المسلمين , أو لترويج بضاعتهم , فإن الحداثة كالفلسفة بل هي فلسفة لا التقاء بينها وبين الإسلام لكن هم يدلسون على الجهال ويخلطون المصطلحات ويوهمون أن الحداثة هي المعاصَرة وهذا من خطط إبليس المعروفة وهو زخرف القول الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
وأما مصطلح علمنة الإسلام فأسوأ مما سبق لأنه تصريح بتغيير الإسلام عما كان عليه, تصريح بتغيير الإسلام لا بتجديده بلفظ صريح غير مجمل . وهو لفظ كفري لا غبار على ذلك .
والمقصود أن من يرد تمييع الدين أو ترويج الباطل ويخاف من المسلمين يستعمل هذه الأساليب والمصطلحات الجديدة هذه , وهو من أخطر الأساليب , بل يستعمله السحرة أيضاً حين يخلطون في طلسماتهم الآيات بالخزعبلات والشركيات .

ما العلاقة بين الفلسفة وأصول الفقه ؟ وإذا لم يكن العلاقة بينهما ؟ لماذا يسمون أصول الفقه بالفلسفة الإسلامية ؟

ج. أصول الفقه بينه وبين الفلسفة أبعد مما بين السماء والأرض , فهو علم مقبول عند جميع العلماء المسلمين في جملته , والفلسفة كفر عند جميعهم فأين هذا من هذا ؟! , لكن يجتمع أصول الفقه مع الفلسفة من وجه هو أهم وجوه الفلسفة وهو التفكير العقلي الجامع , والبحث عن جوامع القواعد التي يندرج تحتها كثير من الفروع , وفي الفلسفة كثير من الآراء , لكن علم أصول الفقه مقيد بالكتاب والسنة لا يخرج عنهما وكل أصل فقهي خالف النص فهو مردود , - وقد دخل في أصول الفقه كثير من الأخطاء بسبب هذا وابتعد به كثير من أهله عن الكتاب والسنة وليس هذا المقصد منه- , أما الفلسفة فهي تأليه للعقل وعدم الاحتكام والرجوع لشيء غير العقل , وهذا يسبب الشقاء فإن الخلق مفطورون على التأله فترتاح الفطرة إذا وجد من يمنعها من بعض الأشياء لأنها مفطورة على ذلك والنقص ذاتي لها . ومع وجود التشابه بين أصول الفقه والفلسفة من ذلك الوجه فهذا قد لا يكفي لتسميته فلسفة , وأيضاً تسميته فلسفة إسلامية ربما أشعر بالتبعية , والواجب أن تكون مصطلحاتنا ومناهجنا متبوعة لا تابعة , لكن البعض كمصطفى عبد الرازق بتسمية أصول الفقه (فلسفة إسلامية) أراد أن يبين أن التفكير العقلي الجامع موجود عند المسلمين , ويحمد له هذا القصد .

ما هي أسس الفلسفة الإسلامية ، وما هي أصول الفلسفة اليونانية ، وهل بينهما فرق؟

ج. كما قلت لا يوجد فلسفة إسلامية , لكن الفلسفة التي وجدت في الإسلام كفلسفة الفارابي وابن سينا مع أنها ملحدة ومتأثرة كثيراً بل جلها بالفلسفة اليونانية , حتى قال رينان : هي فلسفة يونانية بحروف عربية , وقد أصاب , إلا أنها استفادت من متكلمة المسلمين فترجحت على فلسفة اليونانيين , وكان من أسباب زهد كثير من الأوروبيين في الإسلام ترجمة كتب ابن رشد فرأوا فلسفته هي اليونانية , فظنوا أن المسلمين لا إبداع عندهم , لأنهم نقلوا فلسفة أرسطو فقط , مع معرفة كبارهم بالحقيقة وبفضل المسلمين عليهم لكن يخفونها حسداً وحقداً , وإن كان وجد المنصف المعترف بالجميل . وعلى هذا فلا أسس للفلسفة الإسلامية , وأما أصول الفلسفة اليونانية , فلا أصول لها بل هي ريح لا خطام لها ولا زمام , كل فيلسوف له فكره الخاص , لذلك عجز مؤرخو الفلسفة أن يوجدوا تاريخاً للفلسفة , بل وهي حقيقة عجزوا عن تعريف الفلسفة عبر القرون الطويلة , واعترف حذاقهم حين حاولوا كتابة تأريخ الفلسفة أنها لم يوجد منها ثمرة يستفاد منها لكنها تبحث في المسائل التي لم تبحث بعد , لكن من غير خروج بفائدة مجرد أطروحات عقلية , وإذا ما تبينت حقيقة في مسألة ما خرجت عن كونها فلسفة , هذا ما اعترف به حذاق الفلاسفة , لذلك قال بيكون عن الفلاسفة اليونانيين أنهم : (يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب ( المثمر ) بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج) . ويقول في وصف دقيق ومشهور لفلسفة أفلاطون : (حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين ) , ويرى أن هذا الوصف ينطبق على جميع الفلاسفة اليونانيين المتأخرين , والفلسفة الأوروبية أسوأ من اليونانية .

علم المنطق له مكانة خاصة حتى أن كثيراً من كتب أصول الفقه كمختصر المنتهى ، وكتب الفقه مثل تحفة المحتاج والتفسير مثل تفسير البيضاوي ، وغيرهم فيها عبارات منطقية , فلماذا خلط المنطق بهذه العلوم ؟

ج. خلط المنطق بأصول الفقه وبكثير من كتب التفسير والفقه بدعة يجب تجريدها منه, وقد أزال المنطق حلاوة هذه العلوم وروحانيتها , وأدخل تعقيدات كثيرة , واليوم نسمع كثيراً بدعوات لتجديد أصول الفقه وإعادته كما كان في رسالة الشافعي وما سار على نهجها , وهذه البدعة غالباً من علماء الأشاعرة والمعتزلة لا من أهل السنة والجماعة , وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية في نقده للمنطق ورد على من زعم أنه لا يوثق بعلم من لم يعرف المنطق بما لا مزيد عليه رحمه الله , في كتابه : الرد على المنطقيين , وفي المجلد التاسع من فتاويه .

يقال : من تمنطق تزندق , فهل هذا صحيح ؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم يتزندق هؤلاء الذين أدخلوا المنطق في كتب أصول الفقه والتفسير ونحوها من علماء مسلمين؟

ج. نعم هذا صحيح , وأما لماذا لم يتزندق بعض هؤلاء العلماء لأنهم لم يتمنطقوا تمنطقاً كاملاً بل أخذوا ببعض ما في المنطق , ورفضوا كثير منه , فلم يقبلوه بجملته , وقليل منه صواب - وإن كان لا حاجة له لأنه فطري بدهي - ولو آمنوا به كله , وعملوا بقواعده لتزندقوا قطعاً , ذلك أن المنطق ليس في قواعده ومواد قياسه وبرهانه ما يستدل بها على الغيبيات , فإذا طبقت قواعده على الغيبيات لم يوجد عليها دليل , ولا يستدل به على شيء خارج الذهن , لأنه يتعلق بالكليات الذهنية فيقع المنطقي في الشك والنفاق والزندقة , لأنه درسه دراسة المعجب به , فلا ينتفع بشيء تزكو به نفسه , ففاقد الشيء لا يعطيه , بل لا ينتفع به في شيء من أمور الدنيا بل هو سبب التخلف لذلك كان المنطق الأرسطي سبب تخلف أوروبا طوال قرونها الوسطى , وكانت تسمى القرون المظلمة إلى أن احتكوا بالمسلمين فعرفوا سبب تخلفهم فأخذوا بما أسموه فيما بعد المنطق الحديث وقضوا على القديم الأرسطي فتقدموا فيما تقدموا فيه من الماديات , لذلك يقول بوشنسكي أحد المؤرخين المعاصرين الممتازين للفلسفة الأوروبية: ( الفلسفة الأوروبية الحديثة أهملت المنطق الصوري إهمالاً كبيراً ، حتى لقد سقط في زاوية النسيان المهين ) , وواضعو المنطق القديم وضعوه في بيئة وثنية مادية جاهلة , ولم يضعوه لإثبات الغيبيات أصلاً , لذلك هو مع تفاهته قليل الفائدة كثير الخطورة , لأن الشهادة بالنسبة للغيب كقطرة في البحر , فعجباً كيف يتأثر به المسلمون مع أن الله أغناهم عنه , وهو يشبه السحر سُحر به الناس ردحاً من الزمن واستُرهبوا بمصطلحاته ودقة بعض مسائله , والناس يعجبهم الذكاء , مع أن الذكاء قد يكون للمؤمن والملحد ولإبليس اللعين . ومع أن العلماء المسلمين الذين أخذوا ببعضه لم يتزندقوا لكن قل من سلم من آثاره السيئة ومن البدع .

نستطيع القول بأن الأدب من الطرق التي نشروا بها الفلسفة , خصوصاً الفلسفة الوجودية التي كان لها تأثيرات واسعة في الأدب الفرنسيّ وفي كثير من الأدباء الأوربيين مثل : فلوبير دستويفسكي ، والشاعر الألماني الرومانسي : هولدرلين الذي برز في أشعاره الحديث ... كيف نواجه هذا الطريق ؟ وهل يوجد لدينا الأدب الإسلامي المواجه لذلك ؟

ج. الأدب والشعر وخاصة مثل الشعر الرومانتيكي هما وسيلتان من أهم الوسائل التي اتخذها كبار الوجوديين لنشر الوجودية , وصار لها رواج وذلك بسبب طبيعة الشعر الذي يخاطب الروح , بعيداً عن طغيان المادة , لذلك وجدت الوجودية طريقها للمفكرين الغربيين فترة طويلة من الزمن , وهي أطول الفلسفات الحديثة عمراً - إلى أن زالت كحال كل باطل وحلت محلها البنيوية - لعنايتها بالعاطفة المماتة , لكننا - نحن المسلمين - لم يهمل ديننا الروح ولا الجسد , ففي ديننا مما يسبب طمأنينة الروح ما يكفي ويشفي ويغني , مع اعتدال مع حوائج الجسد , فشمول ديننا الإسلامي يجعله غنياً عن استيراد طرق غربية في بيئات خاصة , ولا يفعل ذلك إلا موتور يريد جمع أمشاج مختلطة مشوهة في بيئة غير قالبة لها , وأما الشعر فلا أجمل من الشعر العربي , في أسلوبه وعمقه ورونقه , لكنه من المباحات التي تسلي ولا ينبغي أن تشغل عن الوحي , لكن يستفاد منه في المنافحة عن الإسلام كما كان يفعل حسان رضي الله عنه , وإذا ابتعد الأديب عن القرآن والسنة لم ينتفع في آخرته بشيء كما جاء في ترجمة الخليل أنه لما توفي رئي في المنام قالوا : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي , قالوا : بماذا ؟ أبعلم النحو وبالعروض وباللغة ؟ قال: لا . والله ما نفعني ذلك شيئاً، ما نفعني الله إلا بسورة الفاتحة كنت أعلمها عجائز في قريتي .

بعض النقاد لفكر عبد الرحمن البدوي يتهمونه بالسرقة من الفلاسفة هل هذا صحيح؟

ج. عبد الرحمن بدوي مع أنه كان ملحداً لكنه عملاق المفكرين المعاصرين غير الإسلاميين , ثم بعد إسلامه لو كتب له طول عمر لرأينا منه العجب العجاب والله أعلم , ولم يجعل كل كتاباته قبل إسلامه في الوجودية بل كتب في غيرها أكثر بكثير مما كتب فيها بنفَس المؤرخ المحقق المتجرد للحقيقة عارضاً غير ناقد , فجاء بفوائد كثيرة , وكان دائما يبحث عن الحق لكن غُيِّب عن الحقيقة لأسباب كثيرة , وكان هو يبغض الكذب والسرقة والظلم والكسل وهذا وإن كان متعارضا مع أصول الوجودية لكن التناقض ملازم للباطل , لذلك إذا ما ابتعدت عن كتبه التي تتحدث في فلسفته تجد بغيتك , وبه يعرف سبب رواج كتبه مع وجوديته الملحدة , وهو تجرده للحقيقة التي كانت سبب إسلامه , ولأن جل كتبه في تاريخ الأفكار وسبب نشوئها. ولكل متألق حساد فحسده خصومه ورموه بالسرقة , وأنا لا أرى في كتاباته من سبقه إلى كثير من إبداعاته , ولو فرضنا جدلا أنه سرق بعض المقالات فما بقي من جهوده يكفي في بيان عبقريته وتقدمه على أقرانه في تخصصه , ففي رأيي أن رميه بالسرقة يردها كل من عرف شيئا من جهده , ولا يلتصق به هذا اللقب .

عبد الرحمن البدوي أبز الشخصيات البارزة أفنى عمره من أجل الفلسفة ثم رجع عنها وبدأ بالدفاع عن القرآن السنة ، ماذا تقول عن هؤلاء المشتغلين بالفلسفة ؟

ج. لما عرف بدوي الإسلام زهد في الفلسفة وأبغضها وبين حقارة قدرها , وندم على ما أفناه فيها , وهذه عبره قوية وموعظة بليغة لمن يترك علوم الإسلام ويشتغل بالفلسفة , والسعيد من وعظ بغيره .

وفي نهاية عمره رجع عبد الرحمن البدوي إلى الإسلام وكتب عدة كتب منها دفاع عن القرآن ضد منتقده ودفاع عن النبِي وما تقيمكم هذين الكتابين ؟

ج. الكتابان جيدان في الجملة وإن كان قد سبقه لبعض الردود غيره لكن أبدع في غيرها , ولكن يلاحظ عليه أنه يفسر القرآن بمجرد لغة العرب , بل بالرجوع لكتاب لسان العرب , وهذا خطأ , لكن ليست هي ملاحظة على ملحد مثله فقد كان حينها ملحداً , لكن يستفاد من الكتابين معرفة أهم شبه الغربيين في هذا الباب فهو دائماً يتصدى للكبار والأسس وأصول المسائل ويعرض عن المقلدين والصغار والفروع , وأيضاً يستفاد من أسلوبه في الرد على المستشرقين فكان يعرف أساليبهم .

قضية ابن رشد قضية شائكة في أوساط العلماء المسلمين ، حتى يقال أنه كتب كتابه " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " خوفاً من تكفيره ما رأيكم في هذا ؟

ج. ابن رشد أمره ملتبس هذا صحيح لكونه توارى خلف أرسطو , ولم يكد يصرح بما عنده , لكن التحقيق أنه فيلسوف منافق يدس نفاقه , ومن درسه من المحققين المعتنين بأمره كشيخ الإسلام ابن تيمية وعبد الرحمن بدوي وغيرهما اتفقا أن الرجل وقع في الكفريات المجمع عليها عند المسلمين كقوله بقدم العالم , والقول بالتخييل في المعاد , ويجيز التدين بأي دين من الأديان الثلاثة , ونحوها , وأيضاً هو متول لأرسطو, غير متبرٍّ منه , فهو غير كافر بالطاغوت , بل مناصر له ويرى أن أتباع أرسطو أفضل من أتباع الأنبياء وهذا نفاق صرف , فالتحقيق أنه منافق وفيلسوف ملحد , وقد فضحه شيخ الإسلام ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية) بما لا يدع مقالاً لقائل , وأما كتاب بداية المجتهد فالظاهر أنه منسوب له , وليس له , فالرجل معروف منذ ولادته باشتغاله بالفلسفة كما في ترجمته عند عبد الرحمن بدوي وغيره , وبعضهم يرى أنه كان فقيهاً وارتد لكن هذا في نظري بعيد وكذا رأي من يرى أنه كتبه خوفاً من المسلمين والله أعلم .


== ==
* الشيخ حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراة من جامعة أم القرى ويعمل مدرسا في معهد الحرم المكي الشريف
ومن مؤلفاته :
1- كتاب (عبد الرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي ومنهجه في دراسة المذاهب عرض ونقد ) وهو رسالة الدكتوراة , مطبوع في مكتبة الرشد .
2- كتاب (صفة النزول الإلهي ورد الشبهات حولها) رسالة الماجستير .
3- كتاب ( تهذيب مناقب الإمام أحمد لأبي الفرج ابن الجوزي ) مطبوع في دار طيبة الخضراء .
4- تحقيق كتاب ( الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم ) والكتاب للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مطبوع في مكتبة الرشد
وله عدة بحوث أخرى منها مطبوع ومنها تحت الطبع .

 


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

لقاءات الشبكة

  • لقاءات عبر الشبكة
  • لقاءات عبر المجلات
  • الصفحة الرئيسية