اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/mktarat/almani/95.htm?print_it=1

العقلانية

د.حسن الأسمري
عضو هيئة التريس بجامعة الملك خالد بأبها


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

تمتلئ الساحة الفكرية والثقافية بمصطلحات كثيرة، مثل: العلمانية والإنسانية والعقلانية والحداثة والديمقراطية والليبرالية والقومية والوطنية والمجتمع المدني والنقدية والعصرانية وغيرها من أمهات الأفكار، ومع كثرة هذه الأفكار في الساحة الثقافية فإنه يمكن إعادتها لثلاث، وهي: العقلانية والعلمانية والإنسانية (1)، وسيكون الحديث هنا عن العقلانية.

لقد كثر الحديث عن العقل والعقلانية، ومعظمه في غير موضعه، حتى من قبل بعض من ينتسب للحقل العلمي والثقافي، فما أكثر المشاريع التي تريد إعادة قراءة التراث وفق منهجيات عقلانية، وما أكثر ما يُعترَضُ على النصوص والأصول الدينية بحجّة العقلانية، وما أكثر ما ينقد الواقع بآراء عقلانية، وهكذا، فما حقيقة تلك العقلانية؟ هذه المقالة تنظر في المفهوم من زواياه الرئيسة، وبخاصة تلك التي لها علاقة بوضعنا الفكري والثقافي.

أولا:التعريف:


تقابلنا عدّة استعمالات لهذا المصطلح، أهمها أربعة: (العقل، العقلي، العاقل، العقلانية).

[أ] فالعقل الذي هو مدار الأمر، ومنه تتولد بقية الاستعمالات، لا نجد اتفاقا في تحديده، فما العقل -هذا- الذي تدور حوله كل هذه التيارات وما نبع عنها من خلافات؟ هل هو جوهر أو صفة؟ وأين مكانه؟ ولصعوبة الجواب عن ذلك قال أبو حامد الغزالي: (إنه لا يمكن حدّه بحد؛ لأنه يطلق بالاشتراك على عدّة معان)، وهذا يعني أن نقطة الانطلاق تعتبر إشكالية، فهي لم تحسم.

ومع ذلك لابد من التسليم ببعض معالم -هذا- العقل حتى نستطيع السير، فهو جهاز أو فعالية يستطيع الإنسان (به/بها) أن يتصور الأشياء ويحكم عليها(2).

[ب]
أما العقلي فهو المنسوب إلى العقل، فما كان مصدره العقل من علوم ونظريات ومناهج فهو عقلي، فمثلا: الرياضيات والهندسة تُعدّ من العلوم العقلية.

[ج]
وأما العاقل فهو المتصف بالعقل الذي يميزه عن الحيوان، يستطيع تصور المفاهيم والحكم على القضايا، وكذا يقال عن الذي يفكر تفكيرا صحيحا ويحكم حكما صادقا ويعمل عملا صالحا، والذي يعرف كيف يكبح جماح نفسه، والذي يتقيد بالقيم المقبولة في زمانه، فهو هنا وصف متسع(3).

[د]
وأخيرا العقلانية وهي أهم الأربعة، وهي القول بأولية العقل، ويراد بها عدّة معاني(4):

1-
أن كل موجود فله علّة في وجوده، فلابد من تفسير يقبله العقل لكل شيء، وغلاة أصحاب هذا الرأي لا يقبلون التفسيرات الغيبية حتى وإن جاء بها الوحي.

2-
المعرفة تنشأ عن المبادئ العقلية القبلية الضرورية لا عن التجارب الحسية، فالعقل يكون مزودا بتلك المبادئ التي يستطيع بها تكوين المعارف، وهذا هو المذهب العقلي (ديكارت ومن تبعه ثم هيجل) ويقابله المذهب التجريبي الذي ينكر وجود تلك المبادئ ويقول بأن العقل يكون صفحة بيضاء.

3-
الإيمان بالعقل، وبقدرته على إدراك الحقيقة.
يعود هذا الاعتقاد بقدرات العقل، إلى أصلٍ فكري مفاده: قوانين العقل مطابقة لقوانين الأشياء الخارجية، وبهذا فهو غير محتاج لأي عون خارجي، ويستبعد غلاتهم الوحي، فالحقيقة يكشفها العقل ولا حاجة عندهم للوحي، وهذا المعنى هو الذي تبناه أهل التنوير الغربي ثم الاتجاهات الإلحادية في الفكر الغربي.

4-
العقلانية عند بعض المنتسبين للدين: أن العقائد الإيمانية مطابقة لأحكام العقل، ولها ثلاثة أوجه:
- العقل شرط ضروري وكاف لمعرفة الحقائق الدينية.
- الإعراض عن جميع العقائد التي لا يمكن إثباتها بالمبادئ العقلية، إما بتضعيفها أو بتأويلها أو بتفويضها.
- الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية.

وهذا القسم مشهور في التراث الإسلامي، كما أن صوره المعاصرة أكثر نشاطا، بسبب المستجدات الفكرية والعلمية الحديثة، وغالبا ما يأتي هؤلاء إلى تلك المستجدات العقلية بنفس المنهجية التراثية لأسلافهم القائمة على اشتراط العقل في المعرفة الدينية، فما قبله العقل أخذوا به، وما لم يقبله: ضعّفوه أو أوّلوه أو فوّضوه، وبما أن المستجدات العقلية كثيرة للغاية فهذا يعني أن هناك تغييرات كثيرة ستطال الأمور الدينية، حتى أصبح الدين مع بعضهم ألعوبة.

ثانيا: صور اشتغال العقلانية:


يضع التصور الإسلامي من البداية الأسس السليمة لمفهوم العقل ولعلاقته بالوحي، وعندها تقوم العقلانية الإسلامية على أسس سليمة، فهي تعرف إمكانياتها وحدودها وعلاقتها بالوحي وعلاقتها بالواقع، فلا تعطيل للعقل ولا تكذيب بالوحي أو تحريف له، فعلاقة المؤمن بالوحي تقوم على الاستماع وعلاقته بالعالم الواقعي تقوم على تعقله لإدراك الحكمة من خلقه أو للانتفاع بمنافعه، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10] (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 44] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) [الحج: 46] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا باب واسع؛ ولهذا دعا الله الخلق إلى الاعتبار بالعقل، المستند إلى الحس، وبيّن أن ذلك موافق لما جاءت به الرسل من السمع. قال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53] فأخبر أنه سيرى الخلق من الآيات الأفقية والنفسية ما يُبيّن أن القرآن الحق، فيتطابق السمع المنقول وما عرف بالحس المعقول)(5)، وعندما ينحرف الناس في تصورهم عن العقل، أو عن علاقته بالوحي، يقع عندها الضلال في السبيل.

هناك عدد من الصور لاشتغال العقلانية التي تحتاج للاستيعاب؛ حتى نصل للمراد به في الفكر المعاصر، وأهم هذه الصور ثلاث: العقلانية العامة، والعقلانية المعارضة للدين، والعقلانية المنكرة للدين:


1-
المستوى الذي يميز الإنسان أو يميز اتجاهاً فكرياً أو أمة من الأمم وهي العقلانية العامة، رجل عاقل أو امرأة عاقلة، يفكر تفكيرا صحيحا ويحكم حكما صادقا على الأشياء، وعمله عمل صالح خيّر، ويعرف كيف يكبح جماع نفسه، ويبتعد عن المهلكات، يتقيد بالواجبات ويبتعد عن الأماني، ويتقيد بالعرف العام ولا يشذّ عن القيم المقبولة، وهذا المستوى يُسلِّم به الجميع، وهو علامة مدح للفرد أو لمجموعة أو لأمة، قد تذهب لبيئة فتجد الخرافة هي السائدة، وتذهب لبيئة أخرى فتجد العقلانية هي السائدة، وهذه قد تظهر حتى من الكفار عندما يهتمون بالعلم والمعرفة ويُنشِئون حياتهم عليها، فينجحون في حياتهم الدنيوية، ولكنها تكون فارغة خاوية بفقدهم للإسلام، فهي ظاهر لا باطن له، وكما قال الله تعالى عنهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7].

قال سيد قطب في كتابه (ظلال القرآن):
(..(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:6]، ولو بدا في الظاهر أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة؛ ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ... ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر؛ ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه.
وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير، مهما بدا للناس واسعاً شاملاً، يستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة....
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود؛ ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى؛ ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها. وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود؛ وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس. ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.
(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)... والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل؛ وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم؛ فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصوراً صحيحاً؛ ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض....
ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها ، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها.
لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة؛ ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال....).

2-
العقلانية ذات الصلة بالدين والمعارضة له: تتركز في العلاقة بين النقل والعقل، أو بين الوحي والعقل، الشريعة والحكمة، الدين والفلسفة، وكانت قضية شائكة في أوروبا لقرون، ووقع نزاع واسع بسببها، وكانت معروفة عند المسلمين بعد ظهور أهل الأهواء وضعف العناية بالعلم الشرعي.

لقد عُرِفت تعارضات كثيرة قديمة، منها المعارضات الدنيوية: في السياسة والاقتصاد، والمعارضات الذوقية والباطنية: مع المتصوفة والباطنية، والمعارضات العقلية: الكلام والفلسفة، وقد ظهر في العصر الحديث معارضات جديدة؛ أخطرها: المعارضة العلمية، ويقصد بها غالبا العلوم البشرية: رياضية أو طبيعية أو اجتماعية...

عندما ظهرت المشكلة في التراث الإسلامي اكتست أغلب الأجوبةِ صبغةً عمومية، أو جاءت وفق منهجيات منقادة لكثير من المسلمات الفلسفية، أو ضعيفة لم تنجح في الإقناع، ولأبي حامد الغزالي جهود معروفة في ذلك ولكنها لم تكن كافية، حتى جاء ذاك الجهد الواسع والعميق مع شيخ الإسلام ابن تيمية، ويمكن القول أن نشاطه العلمي الأكبر كان في معالجة مشكلة التعارض بين العقل والنقل، فمن رجع لكُتُبه الكبار وجدها تناقش مشكلة العقليات المزعومة التي قدمها أصحابها على النصوص والأصول الإسلامية.

وقد وجد -رحمه الله- بعد طول نقاش وتحليل ونقد أن مزاعم التعارض مبنية على مسلمات باطلة، هذه المسلمات قادت القطار الفكري في سكة إجبارية لكنها لا توصل للهدف الصحيح، فبدأ من تلك المسلمات، ومنها:

قولهم بأن النقل لا يفيد اليقين بأدلة عشرة قدموها، ففند هذه المسلمة.
قولهم أن العقل يفيد اليقين مطلقا، فبين الصواب فيها.
قولهم أن العقل مقدم على النقل مطلقا عند التعارض، فحقق القول فيها.

ففي الأولى، كشف أن النقل منه اليقيني القطعي ومنه ما دون ذلك.
وفي الثانية، كشف أن العقل منه اليقيني القطعي ومنه ما دون ذلك.
وفي الثالثة، وهي مترتبة على المقدمتين السابقتين، وصل لحلٍ حقيقي، وهو أن المُقدَم منهما هو الأصوب.

والأهم من ذلك إثباته أن دعوى التعارض غير صحيحة، فمتى جاء النقل الصحيح الصريح وقابله العقل الصحيح الصريح فلا يمكن تعارضهما.

بل وأكبر من ذلك، فقد أكدّ رحمه الله أن النقل الإسلامي قد جاء بأعظم الأدلة العقلية وأعلاها، وقد أثبت ذلك بأمثلة عديدة (6).

ولا شك أن الفكر الإسلامي المعاصر مطالب بجهد كبير لاكتشاف تلك المنهجيات، والأدلة العقلية الإسلامية التي تعالج الحيرة الفكرية البشرية السائدة اليوم بسبب العقليات الوضعية التائهة.

وإن كانت أغلب كُتُبه تعالج هذه المشكلة، إلا أنه خصص لها واحدا من أشهر كتبه، وهو "درء تعارض العقل والنقل"، وقد بلغ إعجاب "ابن القيم" بذاك الكتاب مبلغه، فقال فيه:
فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني
أعني أبا العباس أحمد ذلـ ... ـك البحر المحيط بسائر الخلجان
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثان

ومن تأمل سقف المشكلات بين النقل والعقل الذي عرفه العالم آنذاك ثم تأمل في النقاش الموسع الذي قدمه شيخ الإسلام؛ علم صدق مقولة ابن القيم رحمه الله، وعلم أن نقده لتك الدعوى/الإشكالية لم يكن فقط بالرد الإجمالي والرفض العام، الذي يقوم على عدم قبولها أو تكذيبها فقط، فهذا لا يسمى نقدا وإنما هو إهمال ورفض، أما النقد المعتبر فهو قدرة الناقد على إثبات بطلانها في ذاتها، وإقناع من تأثر بها بعدم صحتها، وإزالة الافتتان بها، بحيث يتحقق في الرد مجموعة مستويات (من تقرير المسألة بالدليل النقلي والعقلي، وإماطة ما يعرض من الشبه على المسألة، وتحيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المفازة)(7)، فمثل هذا الرد وبهذه المستويات يكون المشروع النقدي ذا قيمة وأثر.

واليوم تتلبس هذه المشكلة لبوسا جديدا، ويتزعمها تيارات فكرية كثيرة، من العصرانيين ومن المتغربين، وهذه بالذات قد لُبّس فيها على كثير من الناس؛ لأن الكثير من الشبهات المثارة غير معهودة في التراث الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى يزعم أهل الأهواء الجديدة أنهم عندما يُقدِّمون المعقولات الجديدة ويرفضون نصوص الوحي، فهم يقتدون في ذلك بالأسلاف من المسلمين عندما قدموا العقل وأوّلوا النقل أو فوّضوه أو ضعّفوه.

3-
العقلانية الحديثة والمعاصرة واستبعادها للوحي: فهم لا يقصدون المعنى الأول ولا الثاني؛ ففي الأول يشترك فيه البشر، أما الثاني فلأنهم في الغرب قد حسموا موقفهم من التعارض، وذلك بعد نجاح العلمانية، وعزلها الدين عن الحياة العامة، فاستقل العقل بنشاطه، وتأسست عقلانيتهم بعيدة -في الغالب- عن الوحي وعن الغيب، وقيل غالباً؛ لأن تلك العقلانية لم تخل من غيبيات خاصة بها.

وقد وجدت العلمانية ودعاتها من الزنادقة وغيرهم مبررا لرفض الدين في تلك الطوام التي يحتوي عليها الدين اليهودي والنصراني، ومعلوم أن الإسلام هو من أعلن الانحراف الشنيع الذي لحق بدين أهل الكتاب، وبيّن بالحجج القطعية وجود الكذب في أخباره والانحراف في شرائعه وقيمه، وذلك مما فعله أحبارهم ورهبانهم وقادتهم، وقد قال ابن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

ابتدأت هذه العقلانية الفكرية مع "ديكارت"، وقد كانت عقلانية مسالمة، ولكنها أخذت مساراً متطرفاً مع مفكري عصر التنوير، وهو مسار غير عقلاني رغم دعاوى العقلانية، حيث ظهر عصر عبادة العقل، ومقولتهم الشهيرة: (الإنسان يستطيع الاستقلال بعقله عن كل عونٍ خارجي).

توازى معها ظهور اكتشافات علمية مهمة في العلوم الطبيعية: من فيزياء وكيمياء وميكانيكا وما نتج عنها من أمور صناعية وبخاصة في اكتشاف الآلة البخارية ومن ثمَّ الآلة عموما.

لقد تجاهلوا دعوى/مشكلة التعارض بطريقة غير عقلانية، قامت فقط على الإقصاء التام للدين، وعلى الزعم بقدرة العقل على الاستقلال، وكلا الموقفين: الإقصاء أو الإعلاء يقومان على منهجية غير عقلانية.

قامت العقلانية العلمانية الإلحادية المتطرفة على مسلمات، أهمها:

- العقل هو الملجأ الوحيد، وكما أنه أبدع العلوم والصناعات ومستمرٌّ في الاكتشافات، فهو قادر على غيرها، وبهذا يتحقق الاكتفاء به.
- العقل هو الحقيقة الوحيدة، فلا معرفة خارجة عنه، وهنا جاء استبعاد الوحي.

جاءت بعدها معالم مهمة للعقلانية، أشهرها الانعطاف الكبير مع "كانت" وطلابه وبخاصة "هيجل"، في ألمانيا، ومع الاتجاه الحسي التجريبي والنفعي في بريطانيا، ومع الوضعية الكونتية في فرنسا، وغيرها من المدارس المشهورة، وقد كانت النتائج المباشرة لها مع الدين والوحي والغيب، هي المزيد من الاستبعاد لها.

استمرت هذه العقلانية الإلحادية المتطرفة الاستئصالية ثلاثة قرون، وبخاصة في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، ثم حدثت تحولات فكرية ذات دلالات.

فمن المعروف أن نشاط العقلانية المتطرفة نجح مع العلمانية في إقصاء الدين عن مناشط الحياة العامة، وتأسيس تلك المناشط على العقل فقط، وما زالت، ولكن هناك معارضات من هنا وهناك، وأهما يرجع لثلاثة مسارات:

1- مسار جمع تيارات فلسفية كبيرة تقول إن العقلانية لم تحقق سوى التقدم الدنيوي.
2- ومسار جمع تيارات ثائرة على العقل، وازدهرت في الأدب والفن، تزعم أنها تُلطّف قسوة العقلانية بمراعاة الروح والإنسان ولكن بآداب وفنون وفلسفات معارضة للدين منفلتة من القيم، وهذه هي التي تحمّس لها المتغربون العرب فترجموها للعربية وتمثلوها في حياتهم الفكرية.
3- علم النفس وبخاصة مدرسة التحليل النفسي، فهي تقول إن ما ينتجه الشعور، وهو الجانب العاقل من الإنسان، يرجع إلى عالم اللاشعور، أي أن الإنتاج العقلي مصدره جانب مظلم في حياة الأفراد، جانب غير عقلاني.

يأتي سؤال هنا ما الفرق بين الثانية والثالثة؟


قد تعترف الثانية بالدين وبالوحي، ولكنها تقدم العقل في الفهم والتفسير والتأويل والاستدلال، فكأنّ الدين مصدر احتياطي، ويبقى في الأمور التي لا إشكال حولها، أما إذا وقع ما يتوهمونه تعارضا؛ عند ذلك يقدّمون ما يزعمونه عقليا، وقد يصحّ ذلك مع أغلب ما يُسمّى ديناً مع أنه ليس بدين الحق، فالدين الحق هو دين الإسلام، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: 19]، وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85]، وقد برزت هذه المنهجية مع الاتجاه العصراني أو مع بعض المتغربين.

بخلاف الثالثة، فهي لا تعترف بالدين، حوّلته إلى الإنسانيات/الأنثروبولوجيا، أو الأساطير/ الميثولوجيا، ومما أغراهم بذلك: دراساتهم المقارنة للأديان، فنظروا لها بمنظار واحد، وهذا من فشل العقلانية العلمانية في التفريق بين المختلفات، إنها تريد قسر كل الأديان لتتوافق مع ما تصوّروه، وتدرسه فقط في هذا الإطار، وقد كانت في بدايتها ذات توجه ربوبي مزعوم يقول أصحابه: نحن نؤمن فقط بوجود الرب الذي خلق هذا العالم ولكننا لا نؤمن بالنبوات، ومع ذلك فقد تحوّلت سريعا نحو إلحادٍ صريح، لدرجة اندماج الإلحاد بالعقلانية وبالعلمية، وأصبح الإلحاد مفخرة للعقلاني والعالم في العلوم الدنيوية(8).

والعالم الإسلامي يعرف الاتجاهين، فهناك قوم منهمكون في التأويل بحجة تطوير الدين ليعيش العصر، وهو اتجاه يضمر أصلا خطيرا، مفاده: أن الدين يتعارض مع العصر، ومع كل عصر جديد، لهذا فهو في حاجة مستمرة للتأويل.

وهناك طوائف متغربة، تبجحت بعقلانية مزعومة ذات نَفَس إلحادي يظهر بصراحة في منتديات العلمانيين العرب، ويتوارى في الدراسات الفكرية والكتابات الأدبية.

والآن نرجع إلى دعوى المتغربين ومن تبعهم وتأثر بهم، فهم يقولون: لا نقبل من التصورات حول المواضيع المختلفة ولا من الأحكام المتعلقة بها، إلا ما وافق العقل، ويستبعدون أي مصدر غير العقل أو يجعلونها مصدرا تابعا للعقل، حتى ولو كان من الوحي.

فلما قيل لهم: أي عقلٍ تقصدون؟ عندها تجد حيرة أكثرهم، فهم أهل أهواء وأراء ذاتية غير محكومة بمعيارية يمكن التحاكم إليها، يقدم أهوائه ثمّ يلبسها لباس العقل والعقلانية وهي أبعد ما تكون عن ذلك، وأما أحسنهم حالا، فاختلفت إجاباتهم، ولكن أهمها جوابان:
الأول : نقصد بالعقل، ما يتفق عليه طائفة من المفكرين، إما في عصر واحد، أو في مذهب واحد، وفق منهج. فمثلاً: نجد طائفة اتبعت الماركسية على أنها هي العقلانية؛ لاتفاق طائفة من المفكرين عليها هم الماركسيون، بمنهجية معروفة هي الجدلية المادية والجدلية التاريخية.
الثاني : نقصد بالعقل، ما وافق العلم، والعلم عندهم لا يخرج عن علمين، وهما: الرياضي الاستنباطي، والطبيعي التجريبي الاستقرائي، ويدخلون في التجريبي العلوم الاجتماعية.

ويغلب على المتغربين عند طرحهم للجوابين السابقين أنهم يطرحونهما كبديل عن الدين، أي أنهم يطرحونها بقصد استبعاد الوحي، لا يريدون العودة لمستوى دعوى التعارض، إلا من أجل إثبات عدم صلاحية الوحي.

فغاية ما عند أصحاب الجواب الأول هو التقليد، والتقليد في حقيقته جهد عقلي ناقص، فالمقلد لا يستطيع إدراك كل مكونات الجهاز الفكري الذي قلّده، فلا يعرف صوابه من خطأه، ولا يعرف مناسبته للبيئات المختلفة، ومن ثمّ فهي عقلانية منقوصة.

أما الجواب الثاني، فليس كل ما نُسب للعلم قد أخذ صفة العلمية، وما وجد شيء من العلم المحقق يمكن أن يتعارض مع الإسلام، وهذه مسألة طويلة تحتاج لنقاش لا تحتمله هذه المقالة.

ونختم بأن العقلانية التي يتكلم عنها المتغربون بكثرة، أي العقلانية العلمانية، تجد مراجعات كبيرة في الغرب ذاته، بعدما وجدوا أن لها سلبيات تعادل إيجابياتها، ولعبدالوهاب المسيري خلاصة جيدة، حول تلك العقلانية المادية العلمانية ذكرها في كتابه (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) [وهو موجود أيضا في موسوعته المشهورة]، نختم بها هذا الحديث:

يذكر بداية أن العرب المعاصرين يستخدمون العقل بشكل غير واضح، وإن كان يرجع في النهاية إلى العقل المادي القادر على الاستقلال، وهذا يعني أنهم لم ينتبهوا إلى أن تلك العقلانية أوصلتهم إلى اللاعقلانية وإلى مشكلات خطيرة، ومن المعالم المهمة هنا:

1) عقل ينجح فقط في الواقع المادي.
2) عقل ينجح مع المادة، فيصبح وكأنه مادي لا يستطيع تجاوزها.
3) يتحول هذا العقل إلى عدو للإنسان من حيث لا يشعر، فسبب نجاحه المادي واندماجه المادي ينساق للهجوم على الإنسان من دون أن يشعر، مع أنه يعلن الدفاع عن الإنسان؛ فهو يحوّل الإنسان إلى جزء من العالم المادي.
4) فشل في تحديد ما ينبغي.
5) يتحول بعد ثورته إلى رجعي محافظ منفذ ... مثل خضوع الغرب للواقع المادي ... للآلة وللتقنية .. لقد استعبدتهم مع ادعاءهم العقلانية..
6) بسيط لا يستوعب الأمور العظيمة ... الروح ومتطلباتها .. الغيب .. [وتافه وسطحي] يرتاح للمادة التي أمامه .. يراها سهلة، يشبهون عُبّاد الأصنام من جهة ارتياحهم للشيء المحسوس، ولذا كان المميز للمؤمن إيمانه بالغيب .. أما البسيط الذي خدشت فطرته وكذا الحيوان .. فهو غرائزي ولا يدرك إلا المحسوس.
7) عاجز عن إدراك (الشرائع - القداسة) ويراها فقط أدوات استعمالية ولا يتجاوز ذلك.

---------------------------
الهوامش:

(1) تختلف -قليلا- وجهات نظر المفكرين المعاصرين عن أمهات الأفكار الحديثة، وهذا الاختيار وجدته للمفكر المغربي "طه عبدالرحمن".
(2) انظر إحياء علوم الدين للغزالي، 1/85، وانظر مثلا: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، للتفتازاني، 2 / 328، الأشباه والنظائر، للسبكى، 2 / 17، شرح الكوكب المنير لابن النجار، حاشية المحقق، 1 / 79، العقل عند الأصوليين، د. عبد العظيم الديب، وانظر مبحث العقل عند الأصوليين عرض ودراسة، د. علي الضويحي، في مجلة جامعة أم القرى، وأما في المعاجم الفلسفية فانظر: المعجم الفلسفي لجميل صليبا، 2/84، موسوعة لالاند، 2/1163.
(3) انظر المعجم الفلسفي، 2/90.
(4) انظر المعجم الفلسفي، 2/90 بتصرف، وانظر مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، ص50، موسوعة المسيري، المجلد الأول، المفردات، (العقل).
(5) الصفدية، 1/227 بتحقيق. د. محمد رشاد.
(6) ينظر مثلا في (الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد)، د.سعود العريفي.
(7) مستفاد من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية، ص517-518، وانظر، ص269و276، بتحقيق حمد التويجري.
(8) انظر كلام بعض علماء العلوم الدنيوية في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم)، فهم يذكرون أنهم بداية دخولهم مضمار العلوم كانت هناك قناعات سائدة منتشرة تقول بأن الإلحاد هو قرين هذه العلوم، وأن العالِم الحقيقي هو الملحد، ثم كشفوا أن هذا المزعم لا علاقة له بالعلم والعقلانية الصحيحة.
 



 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية