صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







من أصولي إلى ملحد : قصة انشقاق عبد الله القصيمي

فؤاد أبو الغيث


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بالمناسبة أيضًا مرة ثالثة !!!
يرافق هذا الخطاب عرض لرسالة دكتوراه في إحدى الجامعات الغربية عن تحول عبد الله بن علي المعروف بالقصيمي ، وقد كتبت في حياته وبعلمه ؛ إذ قابله الباحث سنة 1993م ، وسنة 1995م ؛ أي قبل موت القصيمي بسنة ، وهو العام الذي كتبت فيه هذه الرسالة .
وهذا العرض منشور في مواقع كثيرة غير منسوب إلى أحد أو منسوبًا إلى مركز المعلومات الذي كتبت هذا العرض لصالحه عام 1422هـ . وقد أرسلته إلى جريدة الوطن لما نشر هاشم الجحدلي في صحيفة عكاظ سنة 1423هـ مقالات عن عبد الله القصيمي يبدو أنها محاولة لتبرئته من حصاد قلمه ولسانه كما قال الأستاذ الفاضل محمد أحمد الحساني ، ولكنه لم ينشر .
أرجو أن يكون هذا المختصر مغنيًا عن الرجوع إلى الأصل ؛ فإني لم أغادر فكرة في الأصل إلا اختصرتها وأودعتها في هذا المختصر .

فؤاد أبو الغيث
 



من أصولي إلى ملحد : قصة انشقاق عبد الله القصيمي
( 1907 – 1996 )
رسالة دكتوراه
تأليف : يورغن فازلا
الناشر : دار الكنوز الأدبية : بيروت – لبنان
تاريخ النشر :2001
الطبعة : 1
عدد الأجزاء : 1
نوع التغليف : غلاف عادي
عدد الصفحات : 256صفحة
مقاس الكتاب : 24 × 17 سم
عرض : فؤاد ابن أبي الغيث
1422هـ = 2001م

تحتوي مقدمة المؤلف على الأمور التالية :

1- ذكر رسالته لنيل شهادة الماجستير وهي ” هذه هي الأغلال – النقد الذاتي الإسلامي لعبد الله القصيمي ” .
2- تقديم الشكر على المساعدات المالية التي قدمتها إليه ” جمعية الخريجين الجامعيين الألمانية ” لتغطية نفقات السفر التي مكنته من معالجة الموضوع بالشكل الذي هو عليه .
3- توجيه الشكر إلى مصادر البحث ومراجعه وفي مقدمتها القصيمي نفسه على المساعدات الأدبية والمعنوية التي أثرت بحثه وأكسبته قيمة كبيرة وأهمية بالغة .

مدخل :

تبتغي هذه الدراسة عرض حياة وأعمال كاتب كثيراً ما وصفت صيرورته الثقافية بتعابير الانحراف والارتداد والانشقاق . ومثل هذه الدراسة تثير الجدل ، فهناك مخاوف مستمرة من النقد الديني وشتم المقدسات والانشقاق عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي الذي يزعم أنه متمسك بالدين بجميع أفراده دون استثناء ، وهذا ما يحدث بالضبط في العام الذي كتبت فيه هذه الرسالة (عام 1995م ) خاصة حول التصريحات التي تتناول سلمان رشدي .
إن السير الحياتية الخارجة عن المألوف ليس لها مكانة كبيرة في الأدب الإسلامي فأسلوب الحياة الفردي المعقد ظاهرة تقتصر على المجتمعات الغربية الحديثة .
أما في تفكير المسلمين فلا تزال السير الحياتية النموذجية والمصاغة بصورة مثالية كالسيرة النبوية وسير الشخصيات الهامة في التاريخ الإسلامي وحتى الشخصيات السياسية في العصر الحاضر – لا تزال – تحتل مكانة رفيعة في الثقافة الإسلامية ، فهي تلح على التوافق والانسجام في السياسة والأدب والفن.
في الثقافة الإسلامية يفسر الانشقاق غالباً استناداً إلى أحكام الشريعة ، ويعد مخالفاً للمبادئ الدينية.
من المفيد أن نعالج أولاً الأشكال المختلفة للانشقاق الديني التي ظهرت خلال التاريخ الديني الإسلامي لكي نناقش بعدئذ حدود التسامح التي سنتطرق إليها دوماً وأبداً عند الحديث عن النقد الديني . وفي هذا الصدد يجب طرح السؤال المبدئي عما إذا كانت المحرمات الدينية في العالم الإسلامي قد ترسخت فعلاً في أعماق الناس أم أنها حُولّت إلى أدوات سياسية ؟!

ويعني المؤلف بأشكال الخروج على التعاليم الدينية المركزية :
- الزندقة .
- والإلحاد ، وقال عنه بأنه يمكن أن يحصل في الاستعمالات الحديثة على معنى إضافي مرتبط “بالتفكير الحر” .
- والكفر .
- والردة .
وإجابة على السؤال عن حدود خرق المحرمات داخل الثقافة الإسلامية ، يقول : إن فهم الشرع الإسلامي السائد لدى الجماعات الإسلامية . ولدى كثير من المستشرقين الغربيين على حد سواء ، يفترض جموداً خاصاً للمحرمات الدينية ، ومن هذا المنظور، ينظر إلى الإسلام كدين أبدي صالح لكل زمان ومكان ويمكن تعريفه بجمل قليلة بأنه : ” مجموع الحقائق العقيدية الموجودة فيه ” .
وحيث تبدو الثقافة الإسلامية بهذا الشكل كصورة مناقضة تماماً للغرب العلماني المتنور، فإن الانشقاق الذي يعتبر في المجتمعات أمراً بديهياً وضرورياً يبدو في العالم الإسلامي غير ممكن ويعتبر خرق المحرمات الدينية غير مسموح .
مع العلم أنه لا يوجد اتفاق حول المدى الذي يجوز أن يبلغه نقد الأسس الدينية للثقافة الإسلامية فما هو الثابت في الإسلام وما هو المتغير ، هذه المسألة لم تزل موضع خلاف ، وبالتالي لم يزل الخلاف قائماً حول حدود الإصلاح والتجديد المشروع وحدود النقد الذاتي المبرر ، وهناك خلاف أيضاً حول من يرسم هذه الحدود ومن يحدد التجاوزات ويعاقب مرتكبيها عند الحاجة ، فالحدود غير معطاة مسبقاً بشكل موضوعي إلى حد ما عن طريق الدراسة الإسلامية المعمقة للتقاليد الإسلامية .
وهذه المقارنة بين الإسلام والعلمانية الغربية غير مستغربة من المؤلف لأنه لا يعلم ولا يؤمن بدين الحق الذي شرعه خالق الخلق الحكيم العليم الذي خلقهم لعبادته ومحبته وهو العليم بمصالحهم كما قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق) .
أما الاختلاف في الدين فهو طبيعي ووارد شرعاً بضوابطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( افترقت النصارى على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ) رواه أبو داود وغيره وفي رواية عندهم ( كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ) وعنه عليه الصلاة والسلام قال : (لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) متفق عليه . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) . رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح . وقال فيما رواه مسلم وغيره : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً ) ، والمفهوم الشرعي للجماعة الذي يستنبط من مجموع النصوص الشرعية ، وآثار الأئمة العلماء يدور حول معان متقاربة ، تنتهي كلها إلى أن الجماعة شرعاً هم : أهل السنة والاتباع ، أهل الحق ، والفرقة الناجية، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة الهدى ، أهل العلم ، والفقه في الدين ، ومن اقتدى بهم واتبع سبيلهم من المؤمنين إلى قيام الساعة ، فهم الذين اجتمعوا على السنة ، وأجمعوا عليها ، واجتمعوا على الحق ، وعلى أئمتهم ، فجاء اسمهم ووصفهم مركباً من أهل السنة والجماعة ، فهم أهل السنة حقاً الذين نقلوها، وحفظوها ، وتمسكوا بها ، وتواصوا بها ، وعلموها ، وعملوا بها ، ورعوها حق رعايتها .
وقد رسم هؤلاء الإطار الذي يعتبر تجاوزه ردة وخروجاً عن الإسلام كما في نواقض الإسلام العشرة المتفق عليها بينهم والمجمع عليها عندهم.
بعد ذلك أضاف المؤلف قوله : وبغض النظر عن جمود المحرمات الدينية ، يوجد داخل التاريخ الفكري العربي تطور شامل بدأ بالحداثة الإسلامية ، وحاول إزالة التناقضات بين التدين الإسلامي والعقلانية العلمية الحديثة ، وأدت هذه المحاولة التوازنية ، مروراً في مرحلة علمانية في العشرينات والثلاثينات من القرن الحالي ، إلى اتخاذ الفكر الإسلامي موقفاً دفاعياً . أما في الوقت الحاضر فقد أصبحت الأيديولوجيا الإسلامية هي الأيديولوجيا السائدة وتمارس ضغطاً هائلاً لمنع الخروج على المعهود، وحتى المفكرون العلمانيون القياديون رضخوا لهذا الضغط .
هذا الاتجاه التطوري الذي عرضناه هنا باختصار شديد يمكن البرهنة عليه بالتأكيد ولكن ينبغي طرح السؤال عما إذا كان اتجاهاً كلي الشمول فعلاً . في بادئ الأمر يلفت الانتباه أن معالجة النقاش الإسلامي الداخلي الحديث في إطار الدراسات الإسلامية الغربية متأثرة إلى حد بعيد بإدراك الأمور إدراكاً انتقائياً جداً ، فمعظم المراجع الرئيسية للحياة الفكرية العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين تعرض الاتجاه التطوري المذكور دوماً وأبداً استناداً إلى نفس الكتاب ( من حداثة الأفغاني وعبده إلى ليبرالية طه حسين وهيكل والعقاد، حتى سلفية رشيد رضا ، وحتى الكتابات الإسلامية لحسن البنا والمودودي وسيد قطب )، ويندر أن توسع قائمة المفكرين المعتمد عليهم .
ولعل هذا التركيز على نماذج حياتية جامدة هو بالذات الذي يحجب النظر عن تنوع المشاريع الحياتية الحديثة في العالم العربي . والاعتراف بالتعددية الاجتماعية والثقافية فقط هو الذي يتيح المجال للتحرر من قيود التفكير النمطي المقولب . وبسبب ذلك ستنتقل السير الحياتية إلى مركز الانشغال الأكاديمي لمجتمعات الشرق الأدنى .
إن هدف هذا الكتاب هو تقديم تكملة وتوسعة لتاريخ الفكر العربي الحديث ، ولهذا الغرض سأقدم كاتباً ارتبطت سيرة حياته أكثر من سبعين عاماً بهذه الحياة الفكرية ، واتصل خلالها بجميع التيارات الدينية السياسية في العالم العربي ، ودخل معها في كثير من الأحيان في نزاعات حادة . والشيء المتميز في سيرة حياة الكاتب العربي السعودي عبد الله ابن علي النجدي القصيمي هو أن هذه السير تمثل نموذجاً متناقضاً كلياً لاتجاه الأسلمة . فلقد تطور القصيمي من مؤيد قوي لحركة التجديد الوهابية ، عبر الاقتراب من المواقف العلمانية ، إلى ممثل لأكثر أشكال النقد الديني تطرفاً وحدة ، وبشكل لم يسبق له مثيل على الإطلاق في العالم العربي .
وهذا العمل يعتمد على جمع المعلومات عن أعمال القصيمي ، وحصر ما كتب حوله أولاً ثم قراءة ذلك وتفسيره واستنباط الخلاصات المعقدة منه .
لقد شكل القصيمي مراراً كثيرة محور نقاشات إسلامية داخلية بالغة الأهمية إلا أن ذلك الكم الكبير من الكتابات باللغة العربية المتعلقة به ، يقابله فقر كبير في المعلومات البيوغرافية الموثقة التي تلقي الضوء على الأسباب الشخصية للتطور الفكري لدى القصيمي وعلى الظروف الخارجية التي رافقت سيرة حياته.
سأعرض في هذه الدراسة مضامين كتابات القصيمي وأفكاره من خلال عرض لسيرة حياته . وبما أن الكاتب اتخذ خلال تطوره الفكري مواقف دينية وعقائدية متباينة جداً فليس من الممكن النظر إلى أعماله وتلخيصها تحت معايير مضمونية . وبسبب الحجم الكبير لكتاباته فإن هذه الأطروحة لا تتسع لمعالجة مضامينها حسب التسلسل الزمني ، وكما جاء في كل منها على حدة . بل إن ما اهتمت به أكثر هو إبراز تلك المواقف التي كانت مهمة لترتيب القصيمي في كل مرة نظام إحداثيات التاريخ الفكري العربي الحديث. ولهذا السبب يبدأ أغلب الفصول حول مراحل حياة الكاتب بعرض مختصر للخلفية التاريخية والثقافية التي كان القصيمي يقف أمامها عند ممارسته للكتابة .
وسأسعى إلى تحقيق الهدف المنشود ، وهو بيان الأهمية التاريخية العامة لحياة فردية عن طريق ترك شخص القصيمي يتجول عبر تاريخ فكري يشمل أكثر من سبعين عاماً ، وأحاول في ضوء هذه السيرة الحياتية إظهار ظروف وأحكام وحدود نشاطه الفكري .

الفصل الأول
النشأة والسيرة التعليمية

تاريخ ميلاد عبد الله بن علي النجدي القصيمي غير محدد ، ويرجح القصيمي نفسه أن يكون عام 1907م ، بناء على معطيات تتعلق بالعمر التقريببي الذي كان فيه عند وقوع أحداث معينة في مجرى حياته …
أما محل ميلاده فهو قرية صغيرة اسمها (خب الحلوة) تقع في مدينة بريدة عاصمة منطقة القصيم ..
واختلفت الروايات في نسب القصيمي :
1- فقيل : إن عائلة القصيمي تنحدر في الأصل من نجد ذاتها .
2- وقيل : إن أجداده هاجروا من صعيد مصر إلى شبه الجزيرة العربية بعدما شن جيش إبراهيم ابن محمد علي باشا حملته على الوهابيين عام1816 / 1817م ، حيث استوطن جده هناك ، وفي الأعوام التالية لحق به بعض أفراد عائلته .
3- وقيل : إن أجداده من أصل تركي .
4- وقيل : إن القصيمي ينحدر من أسرة بدوية في شبه الجزيرة العربية هاجرت إلى صعيد مصر ثم عاد أبناؤها في وقت لاحق إلى نجد .
5- ونسبه بعضهم إلى شجرة عائلة يهودية ، وقيل : إن خصومة هم الذين ينسبونه إلى هذه الشجرة…
نشأ القصيمي في ( خب الحلوة ) في ظروف فقيرة للغاية ، وعندما كان في حوالي الرابعة من عمره انفصل أبواه عن بعضهما ، وبينما تزوجت أمه مرة أخرى في قرية مجاورة غادر أبوه نجد الفقيرة المتخلفة وهاجر إلى خليج عمان حيث استقر في ( الشارقة ) وعمل في تجارة اللؤلؤ .
وبقي عبد الله الصغير عند جده لأمه الذي لم يكن فيما يبدو قادراً على إعالته ، ولذلك تركه وهو في الخامسة من عمره يعمل على هواه في سوق المواشي وفي الزراعة .
ظل عبد الله حتى العاشرة يعيش في هذه الظروف الصعبة ، وبعد ذلك نضج في ذهنه التصميم على الهرب . وفي حوالي عام 1918م بدأ البحث عن أبيه معتمداً على نفسه . وقادته عملية البحث هذه إلى رحلة طويلة عبر الجزيرة العربية . في بادئ الأمر قادته إلى الرياض ، عاصمة الدولة السعودية الفتية، إلى مخيم للمهاجرين من نجد التي حل بها الجفاف والمجاعة ، وهناك وجد نفسه في مكان مكتظ بالناس ويفتقر إلى كل مقومات النظافة والعناية الصحية …
ظل وضع القصيمي على هذا الحال إلى أن سمع أن وفداً من إمارة ” الشارقة ” موجود في الرياض لإقامة علاقة دبلوماسية ، وتبين بعد ذلك أن رئيس الوفد صديق لأبيه؛ فطلب منه السماح له بمرافقته ليلتقي بأبيه …
يقول القصيمي يصف لقاءه بأبيه : ” لقد وجدته متديناً متعصباً بلا حدود ، لقد حوله الدين والتدين إلى فظاظة … أو لقد جاء هو بالتفاسير والأسباب التي جاء بها الدين أو جاء بالدين فظاً .. أو حاول أن يبدو كذلك لأن المجتمع يريد من الداعي إلى الله والفضيلة أن يكون كذلك ، أي فظاً عابساً ، ولا يراه رجل دين وداعية صادقاً إلا بقدر ما يجد فيه من العبوس والفظاظة ” …
عندما وصل القصيمي إلى ” الشارقة ” في العاشرة من عمره لم يكن قد حصل بعد على أي تعليم مدرسي منهجي . كان قد تعلم فقط في قريته على يد رجل مسن في السوق الأسس الأولية للكتابة، وخلال إقامته في الرياض تعلم من المشايخ الذين كانوا يرعون مخيم اللاجئين بعض سور القرآن والأحاديث النبوية . ولكن عندما التحق بأبيه في الشارقة التحق بمدرسة كان يعمل فيها أساتذة من نجد والعراق ، وكان بعضهم من خريجي الأزهر ، وممن شاركوا في الحلقات الدراسية لمحمد عبده ورشيد رضا ، وكان مؤسس هذه المدرسة تاجر اسمه ” علي المحمود ” من معارف أبي القصيمي.
وكتعويض عن التجارب التي مر بها في حياته السابقة فقد وهب نفسه للدراسة بتركيز غير عادي، وفي المدرسة التقى به تاجر اسمه ” عبد العزيز بن راشد ” فتأثر به، وقرر مرافقة القصيمي على طريقه التعليمي . بعد ذلك رافق القصيمي ابن راشد الذي يكبره عدة سنوات في رحلة إلى مختلف المؤسسات التعليمية في العراق ( حيث قضى في الزبير بضعة شهور ) والهند ( ودرس بها عامين ) وسوريا .. وغطيا تكاليف الرحلة من ميراث صغير كان أبو القصيمي تركة بعد موته عام 1922م من مرض عضال كان يعاني منه منذ لقائهما …
وفي التاسعة عشرة من عمره تقريباً سافر القصيمي عام 1927م برفقة ابن راشد ونجدي آخر اسمه ” عبد الله بن يابس ” من بغداد عن طريق دمشق إلى القاهرة لكي يلتحقوا بجامعة الأزهر …
وكان الالتحاق بجامعة الأزهر أمنية غالية تكاد تكون مستحيلة المنال بالنسبة للقصيمي…
بعد ذلك استطرد المؤلف في وصف الحالة السياسية في مصر في تلك الفترة وانعكاسها على جو الأزهر الذي أصبح كرة تتقاذفها التكتلات السياسية .. وبالتالي على القصيمي كما سيتضح لاحقاً…
ففي حوالي عام 1930 اتخذ القصيمي موقفاً من الخلاف الحاد الذي نشب بين الدوائر المؤيدة للوهابيين في الأزهر – والتي كان القصيمي محسوباً عليها بسبب منشئه وبسبب سيرة حياته حتى ذاك الحين _ وبين قيادة الجامعة التي كانت تتبنى خطاً ودياً تجاه التصوف، وكانت الأبواق الدعائية للطرفين المتخاصمين هي مجلة رشيد رضا ” المنار” ومجلة الأزهر ” نور الإسلام ” حيث كتب الشيخ يوسف الدجوي مقالات عدة في الدفاع عن شعائر تكريم الأولياء والصالحين ضد الهجمات الوهابية وفي تبريرها دينياً ، ومن ذلك مقال “التوسل وجهالة الوهابيين”و”التوسل والاستغاثة ” و ” توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ” كلها في مجلة ” نور الإسلام ” ؛ فتصدى له القصيمي في كتاب سماه ” البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية” صدر عام 1931م ضمّنه نقاشاً مستفيضاً لحجج الدجوي معتمداً على حجج محمد بن عبد الوهاب [ كما في كتابيه كشف الشبهات والقواعد الأربع ] كما استند إلى مواقف ابن تيمية وابن القيم من هذه القضايا ، وقد أدى هذا الكتاب إلى رد فعل قاس جداً لدى قيادة الأزهر التي فصلت القصيمي من الجامعة ، الذي بدوره ركز في الأعوام اللاحقة انتقاده على علاقة أزهريين قياديين بالصوفية والتدين العامي ، وكتب كتابين طور فيهما هجومه السابق على العلماء: هما ” شيوخ الأزهر والزيارة في الإسلام “) القاهرة 1931-1932م) ، وكتاب ” الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ” (القاهرة 1934م) تبنى فيها المواقف الوهابية بصورة أكثر قطعية من السابق .
وقد صاحب تلك المداولات اتهامات متبادلة بتآمر كل طرف مع نظام الحكم في بلده ضد نظيره الآخر .
وانعكست الضجة التي أحدثتها هذه القضية في أوساط الرأي العام سلبياً على الجامعة نفسها ، وأكسبت القصيمي شعبية في أوساط حركات التجديد الإسلامية التي تنتقد الأزهر. ويبدو أن المحاولات التي قامت بها قيادة الأزهر لفرض إجراءات رقابية ضد الكتاب الأول كان لها تأثير دعائي لصالح أفكار القصيمي ، حتى أصبح في عقد الثلاثينات بكامله يحتل مكاناً مركزياً في النقاش الإسلامي الداخلي .
ومما يلفت النظر فيما كتبه المؤلف في الفصل الملخص آنفاً أنه عرض موقف ما أسماه الدوائر المؤيدة للوهابيين في الأزهر وقيادة الجامعة من الموضوعات التي تضمنتها عناوين مقالات الدجوي عرضاً جيداً يدل على إدراكه لمحل النزاع وأسباب الخلاف في حين أن بعض المسلمين لم يتمكن من فهم تلك القضايا بهذه الصورة الجيدة .. ولكن لا يلزم من إصابة المؤلف في هذا التصور إطلاق الحكم بسداد رأيه وسلامة فهمه لكل ما يتناوله في دراسته ، وإنما يصح الحكم عليه نسبياً لا مطلقاً ، وقد يكون في صوابه شيء من الخطأ وفي خطائه شيء من الصواب ، ولعلهم سموا المناقشة بهذا الاسم لأنها تخرج الباطل من الحق كما يخرج المنقاش الشوكة من الجسم …

الفصل الثاني
الداعية الأول للوهابية في مصر
منشورات القصيمي في الثلاثينات

بدأ القصيمي سيرته الأدبية في وقت بلغ فيه التمايز والتأقطب الأيديولوجي أشده إذ شهد في القاهرة، وهو رجل شاب في العشرين من عمره ، جميع التيارات الأيديولوجية داخل الحياة العامة الإسلامية. وقبل أن نعرض كيف جرى اتصال القصيمي في الأعوام التالية بأغلب هذه التيارات ،وكيف كان يقع غالباً في نزاع معها ، يجب أن نذكر هنا باختصار التطورات الأيديولوجية التي حدثت عام 1930م ، والتي كانت مهمة بالنسبة للقصيمي .
ثم ذكر المؤلف أنه منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر أدى الاستعمار الأوربي للبلاد الإسلامية إلى ظهور اتجاهات إصلاحية ترمي جميعها إلى أن تكون على الصعيد الثقافي صور عصرية للعالم، وتصيغها بمفاهيم إسلامية.وكانت غالبية الدعوات الإصلاحية تنطلق من الفرضية القائلة بأن القيم التي تعد – عموماً – القاعدة التي يقوم عليها التفوق السياسي الأوربي – وعلى رأسها :العقلانية والعلمية وروح المجازفة – يمكن اشتقاقها من الدين الإسلامي . وتبعاً لذلك فإن جوهر الإسلام لا يختلف عن جوهر العقلانية الحديثة .
وكذلك الإدعاء الأوربي المرافق للاستعمار بحق احتكار الحداثة قد أحدث انقطاعاً مع قابلية التجارب الثقافية للترجمة بحيث أن العالم الإسلامي لم يعد يوصف منذ أواخر القرن التاسع عشر إلا بأدوات المقارنة التاريخية ،فلكي يحتفظ الأوربيون بمقولة عدم القابلية للمقارنة قاسوا المجتمعات الإسلامية دوماً وأبداً بالسؤال عن مدى ابتعادها عن المعايير الإسلامية المبكرة . بالمقابل أدى رد الفعل على هذه التجارب الاستعمارية في الشرق الأوسط إلى العمل على بناء الإسلام بشكله الأصلي المثالي ليكون الثقل المعاكس للهوية الأوربية، وبما أن عصر الاستعمار قد أدى بذلك إلى أن جميع أقوال المستعمرين تصنف دائماً إما تحت ” التغرب ” ( تبني أفكار الغرب وعاداته ) أو تحت ” الأصولية ” ، فقد تشكل فصل حاد بين أولئك الذين يعتمدون حصراً على الأفكار الأوربية وبين المثقفين الآخرين الذين أخذوا يضيقون باستمرار مفهومهم للكلاسيكية الثقافية .
وما ذكره المؤلف فيما سبق يجب تقييده بأن الدين الإسلامي مشتمل على العقلانية والعلمية حقاً ، فهي قيم نابعة من ديناميته أصلاً ، بدليل الحركات التجديدية السلفية التي ظهرت بعيداً عن الاستعمار الأوربي في الزمان والمكان ، ويؤكد ذلك أيضاً أن التجديد المعتبر – سواء كان أصيلاً أو ردة فعل ..- منسجم تماماً مع مبادئ الإسلام وقيمه المنصوص عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث لا تكلف فيه ولا ترقيع .
والحاصل مما ذكره المؤلف عن التطورات الأيديولوجية التي حدثت عام 1930م أنه قد نتج إثر الاستعمار الأوربي ثلاثة اتجاهات :
1- الاتجاه الليبرالي ( التقدمي التحرري ) وممن يمثله قاسم أمين وطه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وغيرهم.
2- الاتجاه الإسلامي التقليدي ويمثله علماء الأزهر .
3- الاتجاه الإسلامي التجديدي ، وممن يمثله محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم على خلاف بينهم في المراد بالسلف الصالح …
في هذه التشكيلة من النزاع بين التقليديين والحركات المجددة والليبراليين تدخل القصيمي في الثلاثينات بنشر عدد من المؤلفات . بعد فصله من الأزهر تابع انتقاده للعلماء التقليديين بضعة أعوام أخرى ، وانضم – وخاصة في ( الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفهم ) – إلى الائتلاف القائم بين سلفية رشيد رضا والإسلام الرسمي السعودي الوهابي . وفي عام 1935م في الوقت الذي عزل فيه الظواهري من منصب عميد جامعة الأزهر ، وأعيد إليه المصلح مصطفى المراغي ، توقفت الجامعة عن أن تكون الهدف الرئيسي لانتقادات القصيمي .ولا يعود السبب في استثناء القصيمي العميد الجديد من انتقاداته إلى اتجاهه الإصلاحي وحسب ، وإنما ربما أيضاً إلى العلاقات الخاصة بين المراغي والعائلة الملكية السعودية.
وبعد أن نشر القصيمي كتاباً عن تفسير الحديث ” مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها” سلط هجومه في بادئ الأمر على محمد حسين هيكل أشهر ممثلي الليبرالية المصرية . وكان هيكل قد نشر عام 1935م كتاباً عن السيرة النبوية ” حياة محمد ” وقد انتقده القصيمي ،ويتضمن الجزء الأكبر من ” نقد كتاب حياة محمد لهيكل ” هجوماً على تفسير هيكل للمعجزات النبوية، وبصورة عامة يتهم القصيمي هيكل بأنه ينكر أن يكون لمحمد القدرة على صنع المعجزات . ثم يعدد بدوره بالتفصيل معجزات النبي ، ويقدم أدلة على ذلك من القرآن الكريم والحديث، وكان أشد الانتقاد موجهاً إلى المثالين اللذين اختارهما هيكل نفسه لإيضاح موقفه من الظواهر الإعجازية ، وهما : الإسراء والمعراج وشق صدر محمد ، فيرى هيكل أن شق الصدر يتنافى مع طبيعة محمد الإنسانية ، وأن الصعود إلى السماء لم يكن جسدياً وإنما صعوداً روحياً ، ولا يعترف هيكل إلا بمعجزة وحيدة وهي نزول القرآن على محمد ، ويقرر أن سنة الله لا تعرف الاستثناء ، وأن جميع الأحاديث التي تتناقض مع رسالة القرآن العقلانية يجب رفضها .
وعندما يتجاوز هيكل التفسيرات العقلانية، ويتحدث عن علاقة محمد مع الله يستعمل غالباً تعابير صوفية .. ويتبنى التعبير الصوفي المشبوه جداً في دوائر حركات التجديد الإسلامية وهو ”وحدة الوجود”.
وبعد أن قيم القصيمي ” حياة محمد ” من النواحي العلمية واللغوية والفنية يلخص انتقاده ، بأن هيكل كتب عن محمد كرجل دولة وقائد عسكري ولم يكتب عن الناحية العظمى في حياته وهي كونه رسول ناقل للوحي .
وفي المقدمة يشكو القصيمي من أن شيوخ الأزهر الذين لا يدعون مناسبة تفوتهم إلا وينتقدون الوهابيين ، لم يصدر عنهم أي نقد للكتاب ، وبذلك كان يريد كما يبدو كسب تأييد السلفية والوهابية في هجومه على هيكل إلا أن تحول هيكل إلى الخطاب الإسلامي جعل بعض المثقفين الليبراليين يتهمونه بالارتداد الرجعي مما جلب له تأييداً غير متوقع من الدوائر السلفية فصار القصيمي متجاوزاً هذه المرة الإطار الأيديولوجي للتحزبات السياسية الدينية التي كان يلقى تأييدها بعد نشره لكتبه السابقة .
ولعل ردود الأفعال هذه ساهمت في جعل القصيمي يعود في الأعوام اللاحقة إلى موضوعات ذات أهداف إيديولوجية تلقى ملاحقته لها تأييداً أكيداً في الدوائر السلفية الوهابية .
بدأ أولاً عام 1936م العام الذي اعترفت فيه الحكومة المصرية رسمياً بالمملكة العربية السعودية ، بكتاب ” الثورة الوهابية ” وكان هدفه الدعوة إلى تأييد الدولة السعودية الفتية، وتحسين صورة الحركة الوهابية أمام الرأي العام المصري ، فبين حقيقة الثورة الوهابية، وعقد مقارنة بينها وبين الثورات الأخرى الوطنية ضد القوى الاستعمارية كما في فلسطين وسورية ومصر والهند ، وقال : إنها ثورة روحية لتحرير العقل البشري والدين الإسلامي عن الخرافات .. ودفع القصيمي التهم الموجهة نحو الوهابية –خاصة- قضية ” التكفير ” بتقرير مبدأ الولاء والبراء، وتأكيد أنهم لا يكفرون إلا من حكم الله ورسوله بكفره ، وهذا هو المصرح به في كتبهم ، إلا أن المؤلف عبر عن دفاع القصيمي بأسلوبه الخاص كما في قوله : ” ولتبرير الإجراءات القمعية ضد المخالفين يدعو القصيمي صراحة إلى الاقتداء بالدكتاتورين هتلر وموسوليني ، ويقول إنهما كليهما أدركا أن المبادئ الجديرة بالحماية لا يمكن المحافظة عليها إلا بخلق شعور جماعي متطور ( عصبية ) ” .
وبينما أدى كتاب ” الثورة الوهابية ” إلى تعزيز اسم القصيمي كداعية للمصالح السعودية في مصر يعتمد عليه ، أدى كتابه ” الصراع بين الإسلام والوثنية ) ” القاهرة 1353هـ – 1939م ) إلى تعزيز سمعته كمجادل صدامي من طراز رفيع، وهو رد على كتاب نشر للكاتب الشيعي السوري المعروف محسن الأمين العاملي بعنوان ” كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب ” ألفه العاملي بسبب قيام الوهابيين بهدم أضرحة الأئمة . ويتهمهم فيه باضطهاد الشيعة وتكفير جميع مخالفيهم في العقيدة.
ويعتبر رد القصيمي عليه أكبر المؤلفات المضادة للشيعة وهو مؤلف ضخم في مجلدين ويحتوي على أكثر من ( 1600 ) صفحة ، بيّن فيه كيف نشأ التشيع ، وعلاقة العقيدة الشيعية بالعقيدتين اليهودية والمسيحية ، كما بين حقيقة الإيمان وعلاقته بالعمل ؛ ورداً على اتهام محسن الأمين الوهابيين بأنهم يكفرون جميع مخالفيهم في العقيدة ، يقول القصيمي : إن الشيعة يكفرون حتى بعض كبار الصحابة مثل أبي بكر وغيره …

الفصل الثالث
تعدد الشخصيات
طريق القصيمي إلى الانشقاق

نشر القصيمي في الأربعينات كتابين بدا محتواهما مناقضاً تماماً لمواقفه السابقة . بدأ خروجه الأول عن نماذج التفكير المتبعة لدى حركات التجديد الإسلامية عام 1940م بنشر كتاب ” كيف ذل المسلمون” . وبينما كانت مؤلفاته السابقة يطغى عليها حتى ذاك الحين النقاش الإسلامي الداخلي ، فقد بدأ الآن يركز اهتمامه على الصورة التي كونها لنفسه عن التخلف الاقتصادي والسياسي للعالم الإسلامي تجاه أوروبا . فمنذ ذلك الحين أصبح تفكير القصيمي بكامله يدور حول هذا الموضوع .
كان النقد الذاتي الإسلامي الحاد ، كما جاء في ” كيف ذل المسلمون ” – وبصورة أشد في كتاب القصيمي ” هذه هي الأغلال ” الذي صدر عام 1946م – منتشراً على نطاق واسع منذ أواخر الثلاثينات وشارك فيه السلفية أيضاً .
لكن التفاؤل غير المحدود بالتقدم طغى على تفكير القصيمي حتى أصبحت مطالبته بتحرر الفرد من التصورات الدينية التي تعيق تفتح الشخصية أكثر جذرية ، وجعلته يقترب بصورة متزايدة من المواقف العلمانية .
وقبل إخضاع مضمون الكتابين – وخاصة كتاب ” هذه هي الأغلال ” – للعرض من المفيد أن نستعرض بشيء من التفصيل بعض التغيرات التي طرأت في منتصف الثلاثينات على الشروط الإطارية العقائدية السائدة في مصر ، ومما يلفت الانتباه أن القصيمي بدأ توجيه الانتقاد للخطاب الإسلامي في وقت بدأ فيه كثير من مثقفي مصر الليبراليين – الذين كان الإسلام حينئذ لا يلعب أي دور في تفكيرهم – بالاقتراب من هذا الخطاب .
وقد كتب تشارل د.سميث عن ” أزمة الليبرالية ” والأسباب التي آلت إليها ، يقول: إن التحول الفعلي إلى الخطاب الإسلامي لم يكن سوى تغيير الموضوع والطريقة؛ أما الموقف الأساسي لليبراليين فلم يتغير – خلافاً لروتراود فيلينت – كل ما فعلوه هو محاولة الوصول إلى نفس الأهداف بوسائل أخرى ؛ لأن مكانة الموضوعات الإسلامية لدى الرأي العام المصري تغيرت ، فما ذلك التحول إلا تنازل تكتيكي فرضته حاجات المجتمع المصري والوضع النفسي السائد فيه .
وحتى مطلع الثلاثينات كان كثير من اتباع الحركة التجديدية السلفية مستعدين أتم الاستعداد للتعاون مع أنظمة الحكم القائمة التي كانت خاضعة غالباً لسيطرة المستعمر، وكان هذا يعود إلى أنهم- فيما عدا ذلك- لم يكن لهم تأثير يستحق الذكر في الحياة السياسية كانوا مستعدين للتنازل للدولة عن حق السيادة الإسلامي في مجال القانون والشؤون الاجتماعية مقابل قبول اتباع السلفية في أجهزتها الإدارية ، وكان استعداد السلفية للاندماج يزداد بمقدار ما يضعف نفوذها السياسي .
ثم حدثت عملية انفصال السلفيين عن النظام التقليدي – الذي جاء منه هؤلاء السلفيون المستعدون للاندماج – بأن أخذوا يهاجمون التقاليد ويفسرون قيم المجتمع الاستعماري إسلامياً . وعندما ضعفت ، في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها على مصر قدرة المجتمع الاستعماري على الدمج والاستيعاب وأغلق الباب أمام الدخول إلى الوظائف العامة في أجهزة الدولة وقطاع الخدمات ؛ رد أتباع السلفية المتضررين على هذا الموضوع بتفسير جديد للمجتمع الاستعماري، ووصفوه بأنه ” نظام غير إسلامي ” ورفضوه ودعوا إلى مجتمع جديد خارج المجتمع الاستعماري هو المجتمع الحقيقي الوحيد .
وجدت هذه الانعزالية ، التي أصبحت تسمى في المؤلفات الحديثة ” السلفية الجديدة” تعبيرها التنظيمي في ” الجماعات الإسلامية ” التي تمثل لأتباعها عالماً مصغراً بالنسبة للمجتمع الإسلامي النموذجي ، ويمكن اعتبار ” جمعية الإخوان المسلمين ” التي أسسها حسن البنا عام 1928م مثالاً نموذجياً لمثل هذه المنظمات السلفية الجديدة .
وقد لقي التوجه الإيديولوجي والتنظيمي للسلفية الجديدة رفضاً واضحاً لدى القصيمي فقد رأى في القواعد الصارمة والمبادئ التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين شبهاً واضحاً مع الهياكل التنظيمية للفرق الصوفية .
ولم يكن هدفه أبداً الاندماج اجتماعياً ووظيفياً في المجتمع الكولونيالي (الاستعماري)، ويعود السبب في ذلك إلى تعليمه الديني الأولي الذي كان يحول دون توليه وظائف في قطاع الخدمات في الاقتصاد المصري المعلمن ، كما يعود السبب في ذلك إلى ما يتقاضاه من مخصصات شهرية من السفارة السعودية في القاهرة ، الأمر الذي يفسر أيضاً قلة اهتمامه بالمسألة الاجتماعية بعكس ما كان عليه سيد قطب مثلاً .
لم يقتصر النقد الذاتي الإسلامي لحركات التجديد الإصلاحية على نقد القصيمي المتواصل للصوفية وممارساتها . بل إنه أيضاً في هجومه على الخرافات وتكريم الأولياء والشعوذة والاعتقادات والتنسك ، وفي عودته إلى دوائر ضيقة من التراث تزداد ضيقاً باستمرار يبقى القصيمي وفياً لفلسفته السابقة . ومواقفه بخصوص التقييم الإيجابي للعلم والأولوية المطلقة للتعليم ، وكذلك آراؤه بتحرر المرأة ، هي أكثر تقليدية، وهي آراء تتبناها – عموماً منذ نهاية القرن التاسع عشر – جميع الحركات الإصلاحية الإسلامية. إلا أن رفعة الإنسان إلى مرتبة المنتصر على الطبيعة في إطار تقديس العبقرية ، والدعوة إلى التفاؤل غير المحدود بالتقدم ، وربط ذلك بالهجوم على النتائج الثقافية الهدامة للتعظيم الخاطئ للسلف، ثم مطالبته منذ عام 1940م بفصل الدين عن الدولة ، كل ذلك جعل القصيمي يتبنى مواقف كانت مقتصرة على ممثلي الليبرالية السياسية وأنصار العلمانية الجذرية .
هذا الخليط المؤلف من النقد الذاتي الإصلاحي من جهة؛ والهجوم على الطوباوية ( اليوتوبيا = الفلسفة المثالية الخيالية ) الاجتماعية لحركات التجديد من جهة أخرى،يشكل حالة من التوتر الداخلي في كتابات القصيمي في الأربعينات ؛ ولذلك فإن كتاب القصيمي ” هذه هي الأغلال ” أيضاً لا يشكل قطيعة كاملة مع مواقفه السابقة. بل إن كتابي ” كيف ذل المسلمون ” و ” هذه هي الأغلال” هما خط الوصل الفكري بين أيديولوجيا القصيمي الوهابية وهجومه اللاحق على كل ما هو ديني . ولتفسير هذا التطور الفكري غير العادي من ( الأصولية ) إلى ( العلمانية ) ثم إلى (الإلحاد) سنبين : أولاً : كيف أن القصيمي ظل في البداية يستعمل الحجة الدينية لكنه يضعها كاملة في خدمة التحديث العلمي والتقني والاقتصادي، وكان في أثناء ذلك يستثني دوماً مزيداً من المجالات الدينية من نظام القيم المنشود إلى أن أصبح في نهاية المطاف يعتبر معظم أشكال التعبير الدينية عائقاً في طريق التقدم .
وقبل أن يتحدث القصيمي عن عوائق التقدم؛ استعرض الوضع القائم المتمثل في تفوق أوروبا على البلدان الإسلامية في جميع المجالات ، ثم ناقش جميع النظريات التي تتحدث عن أسباب تخلف العالم الإسلامي والتفوق الأوربي ؛ فناقش القول بأن الظروف السياسية هي وحدها المسؤولة عن عجز المسلمين ، وكذلك القول بأن الاستعمار هو السبب الرئيسي في هذا التخلف ، وأخيراً ناقش نظريات السلالات التي تعزو ذلك إلى تفاوت الأعراق والتباين الجيني والفروق الدماغية .
وخلص إلى أن الموانع والعقبات التي تعترض طريق المسلمين ليست سوى عوائق فكرية وروحية واعتقادية تحملها نفوسهم وتؤدي إلى إضعافها .
ثم ذكر المؤلف أن القصيمي اقترب لأول مرة من المواقف العلمانية عام 1940م عندما تبين له أن الشعوب التي تتميز بجمع طرق التفكير الدينية والعلمية في وقت واحد ولكن بصورة مستقلة لإحداها عن الأخرى في الشخص الواحد هي أكثر نجاحاً. ويعيد هذه الظاهرة إلى ” نظريات تعدد الشخصيات” ، ويصف الموقف المعبر عن ذلك في كتابه ” كيف ذل المسلمون ” على الشكل التالي :
فإن هذه الشعوب قد تسنمت الذروة العليا في الصناعات والاختراعات والعلوم والآداب ثم في المجد القومي الذي أعجز جميع المناوئين والمنافسين مع ما في عقائدهم الدينية من الضلالات والسخافات والترهات ..لأن هذه الشعوب لم تبلغ ما بلغته في هذه الناحية القوية البارزة إلا بعد أن عزلت الدين جانباً عن كل ضروب حياتها الاجتماعية والفردية ، وبعد أن حصرته في بعض الحفلات الرسمية والأعياد القومية ، وبعض المظاهر الشعبية .. أما ما عدا ذلك فقد نحت عنه سلطان الدين بعيداً بعد أن علمت واقتنعت أن ما لديها من حقائق اعتقادية ونصوص دينية لا يمكن أن يساير العالم الطبيعي ، ولا أن يقضي على البحث الحر ، ولا أن يرضى بالثقافة الحرة المتناولة في كل مظاهر هذه الحياة وكل حقائقها.. فإن هؤلاء من هذه الناحية ملحدون إلحاداً لا يشوبه شوب من الدين والتدين ، ولأجل هذا احتاجوا إلى اختراع ” نظرية تعدد الشخصيات ” في الشخص الواحد الذي لا يتعدد ، فزعموا أن الإنسان الواحد يجب عليه أن يلبس شخصية المؤرخ فقط عند كتابة التاريخ ويتجرد عن كل شخصية أخرى ، وشخصية العالم فقط عند البحث العلمي ، وشخصية الأديب فقط عند الكتابة في الأدب ، وشخصية المتدين المؤمن فقط حين الكتابة في الدين والإيمان . وهكذا أوجبوا أن يكون لكل علم من هذه العلوم شخصية خاصة به .

ثم استعرض المؤلف الأغلال التي بينها القصيمي في كتابه وهي ما يمكن اختصاره بالعناوين التالية :
1- الإيمان بأن الإنسان بطبيعته منحط وعاجز ولئيم بدل الاعتقاد بأنه يمتلك مواهب وقدرات غير محدودة .
2- عداء الثقافة الإسلامية للتعليم ، لأن التعليم يعد تحدياً للخالق ، ويحد من قدرته الكلية ، ويضعف الطاعة والانصياع ، ولذلك يدعو الحكام ومشايخ الصوفية إلى إهمال التعليم والمعرفة؛ لأنهم يريدون المحافظة على سلطتهم وضمان نفوذهم الثقافي والفكري في المجتمع .
3- اضطهاد المرأة بحصرها في العمل المنزلي والفصل بين الجنسين وحرمان المرأة من التعليم لأسباب غير معقولة .
4- عدم الإيمان بالسببية ، والتواكل ،والاستسلام للفشل ، والاعتقاد بالجبر ، والإيمان بتأثير الأرواح والجن والعين في تعطيل القوانين الطبيعية .
5- الفهم الخاطئ للعبادة والزهد ، والنظرة المعادية للحياة والجمال ، والفصل غير الطبيعي بين الحاجات الروحية والحاجات المادية .
6- نشر الأفكار الصوفية بواسطة خطب الجمعة ، كما حمل القصيمي المؤثرات غير العربية المسؤولية عن جميع التطورات التاريخية السلبية في الشرق الأوسط بما حملته معها من بقايا أصفادها وأغلالها وتصوفها وزهدها ورهبانيتها واستسلامها وكل ما كانت فيه إلى الدين والثقافة العربية . وقد اضطرب موقفه من هذه الأفكار ذات الطابع القومي؛ فيتبناها أحياناً كما هنا، ويتخلى عنها أحيانا،ً حتى تخلى عنها كلياً كما سيأتي .
7- الجمود والتقليد ومحاكاة الماضي ، بناء على الفهم الخاطئ الشائع الذي يقول : إن ذروة التطور البشري موجودة في الأزمنة الماضية . كما يعتقد الأطفال أن قدرات آبائهم وأجدادهم أكبر من قدراتهم هم . ومن هنا تنبع الرغبة الطبيعية في تقليد الناس الذين يحملون عنهم هذه التصورات .وبما أن الأطفال متعلقون بالبالغين في جميع حاجاتهم فهم يعتقدون أن البالغين يتمتعون بالكمال ويركزون؛ بناءً على ذلك، جميع رغباتهم وآمالهم عليهم . فالعقل الإسلامي ما زال في مرحلة الطفولة !! . ويتبنى القصيمي بذلك تفسيراً قريباً جداً من التفسيرات الفرويدية ، فقد نقل المؤلف عن فرويد في كتابه ” مستقبل وهم” أفكاراً بالغة الشبه بما قاله القصيمي، وفي حديث للمؤلف معه رفض الإجابة على ما إذا كان متأثراً بالترجمة العربية لكتاب فرويد .وعند لفت انتباهه إلى التشابه الكبير في المضمون ، قال : ” إن الأفكار البشرية الحقيقية الصحيحة تعبر عن نفسها دون أن يكون لذلك علاقة بالشخص أو الزمان أو المكان”.
توضح أساليب المحاججة التي عرضها المؤلف من خلال ما سبق أن القصيمي يحاول دوماً بناء انتقاداته لظروف العالم الإسلامي على أسس دينية وتدعيمها ببراهين من القرآن والسنة. ويتضح المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في استعماله الدين أداة للمحاججة في تفاؤله المتطرف بالتقدم الذي يدعو إليه حيث يصف في العديد من الشروحات الإضافية المسهبة نشوء العالم وتطور الحضارة البشرية بأنه الطريق إلى الكمال . وهكذا تصبح حججه الإسلامية في نهاية المطاف مجرد وسيلة لتبرير الفكر الوضعي وفلسفة التطور .
أحدث كتاب ” هذه هي الأغلال ” ضجة هائلة في الأوساط العامة ، ويعود السبب الرئيسي في هذه الضجة إلى منشأ القصيمي وتاريخه السابق .
وقد انقسمت ردود الفعل التي أحدثها الكتاب إلى : موافقة – مطلقاً أو في الجملة – ومعارضة ؛ فممن وقف بكل صراحة ووضوح إلى جانب ” هذه هي الأغلال ” مجلة المقتطف الليبرالية المعروفة ، وتمثل ذلك الموقف فيما كتبه الكاتب المصري “إسماعيل مظهر” وشيخ الأزهر الشاعر ” حسن القياتي” ومصطفى عبد الرزاق وأمين الخولي وأحمد حسين من الحزب الاشتراكي التقدمي .
وممن اتسم موقفه بالاتفاق مع القصيمي من ناحية المبدأ وبالاختلاف معه في التفاصيل عباس محمود العقاد .

وممن عارضه :
1- عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، حيث نشر كتاباً مضاداً له تحت عنوان ” تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله ” ( القاهرة 1946) .
2- عبد العزيز السويح النجدي ، رد على القصيمي في كتاب ضخم يحمل عنوان “بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال ” ( في مجلدين ، القاهرة 1949م ) .
3- عبد الله بن يابس ( صديق القصيمي ورفيقه في السفر ) وقد رد عليه في كتاب سماه “الرد القويم على ملحد القصيم ” ( القاهرة بدون تاريخ “حوالي 1947).
4- سيد قطب انتقده في السوادي ( القاهرة 11 /11/1946، ص 3) .
5- محمد عبد الرزاق حمزة كتب ضد ” هذه هي الأغلال ” ” الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال ” ( القاهرة 1949 م) .
6- أنور الجندي انتقد القصيمي في كتاب نشر بعد عشرات السنين من صدور ” هذه هي الأغلال ” وهو كتاب ” معالم الفكر العربي المعاصر ” ( القاهرة ،بدون تاريخ “على الأرجح في السبعينات ” ).
وفيما يأتي نعرض باختصار شديد أهم ما جاء في أضخم تلك الردود وهو كتاب إبراهيم بن عبد العزيز السويح ” بيان الهدى من الضلال …” :
يتهم القصيمي المسلمين بأنهم يفهمون الدين ويطبقونه بطريقة خاطئة، ويضرب أمثلة على ذلك من ممارسات الناس البسطاء والمتصوفين، ويستند إلى أحاديث نبوية ضعيفة وهو ينطلق من أشكال التعبير الخاطئة هذه – التي يعتبرها المسلمون على وجه العموم بدعة- هي الحالة الطبيعية المعتمدة في الإسلام، وهذا دليل على أنه غير قادر على التمييز الدقيق بين الأشياء. وهو يخلط بين مجالات مختلفة ، ويصف المسلمين بصفات يعتمد في عرضها على مصادر غير إسلامية، و ينطلق من أن المسلمين يتوصلون دائماً في جميع المسائل إلى حكم موحد .
القصيمي مغرور ومتعجرف ، فكل تفسير وكل حديث لا يناسب آراءه يعتبره بكل بساطة باطلاً وغير مقبول ، وهذه المبالغة في تقدير الذات تجعله يعتبر الحضارة الإسلامية كلها خلال الألف عام الأخيرة سائرة في طريق بعيد عن الصواب . وهو يتجاهل مؤلفات أجيال كثيرة من العلماء المسلمين ولا يستشهد مرة واحدة بأقوال العلماء والفقهاء الكبار ويرفض إعطاءهم صفة العالم . وبذلك ينعت كامل المدارس التعليمية الإسلامية بالجهل والضلال . لا بل إنه يعتبر الإجماع على الاقتداء بالسلف الصالح باطلاً مرفوضاً .
إنه ينتقد الجماعات الإسلامية والسلفية فقط لكي يفسح الطريق أمام الزندقة والكفر . إنه يشتم المسلمين لأنهم يؤدون واجباتهم الدينية ، وبينما يعتبر خطبة الجمعة مخدرة ومثبطة للهمم ، يسكت عن انتشار أشكال السلوك المخالف للدين كالرقص والبغاء وغير ذلك.
وهو يسخر من المؤمنين وأخلاقهم ويتناسى أن عدد الذين يذهبون اليوم إلى السينما أكبر من عدد الذين يذهبون إلى الجامع .
ينفي القصيمي الموقف الإيجابي للدين الإسلامي من العلم ، وينسى أن الإسلام بحث المسلمين على الاهتمام بجميع مجالات العلم والمعرفة .
إنه مادي متطرف ، فهو يرى أن القوانين الطبيعية وحدها هي المفتاح إلى القوة والتقدم وهو لا يرى في القيم الدينية إلا الخرافات والجهل والتخلف . وبزعمه أن العلوم الطبيعية متفوقة على الفكر الديني ينسى تماماً قدرة الخالق الذي يقف وراء الطبيعة ويسيرها؛ وبذلك ينفي القصيمي قدرة الله ومخلوقية الإنسان . وثقته غير المحدودة بالقوانين المادية ورفضه للقضاء والقدر يعنيان ضمناً عدم وجود قوة فوق القوانين الطبيعية .
ولم يقتصر الجدل حول ” هذه هي الأغلال ” على مستوى النشر وحده . بل إن العديد من الجمعيات الإسلامية طالبت أيضاً بطرد القصيمي من مصر . وعندما لم تلق الحملة المضادة للقصيمي سوى صدى ضعيف لدى الجهات الرسمية المصرية حاول أصحابها تحريض الحكومة السعودية عليه . إلا أن الباحث الدمشقي خير الدين الزركلي تدخل في القضية – كما يقال – مدافعاً أمام الملك السعودي عن مؤلف ” هذه هي الأغلال ” .
كما تلقى القصيمي الدعم من بعض المؤسسات والمجموعات السياسية كالحزب الاشتراكي التقدمي الذي ينتمي إليه أحمد حسين .
أما في بلد القصيمي المملكة العربية السعودية فكانت ردود الفعل عن الاتهامات الموجهة له متباينة، فقد طالبت أكبر شخصية دينية في البلاد وهي ” شيخ المشايخ ” محمد ابن إبراهيم بإجراء بالغ القسوة: طالب بـ(غسل العار) الذي ألحقه القصيمي بالدين الإسلامي والأخلاق ، وأصدر فتوى أباح فيها دمه . أما موقف المؤسسة السياسية في المملكة العربية السعودية فقد أرسل الملك ابن سعود برقية إلى الوزير المفوض السعودي في القاهرة فوزان السابق طلب منه فيها التنصل من القصيمي .
وقد اعتبر المؤلف هذا موقفاً لا مبالياً ومناقضاً تماماً لموقف المؤسسة الدينية الوهابية ويبدو أنه فهم أن فتوى المؤسسة الدينية بإباحة دم القصيمي ملزمة للمؤسسة السياسية وليس الأمر كذلك . [ ثم رأيته صرح بذلك المفهوم ، ص207 ] .

الفصل الرابع
الضياع بين مختلف الاتجاهات
الفراغ الأيديولوجي

لكي لا يعرض القصيمي نفسه لمزيد من الهجمات انسحب من الحياة العامة ، وقد أفاد القصيمي نفسه أن شاباً كان مكلفاً بقتله لكن سرعان ما أدى لقاء الشاب مع ضحيته المنتظرة إلى جعله يتخلى عن مشروعه بعد أن أقنعه القصيمي بصحة حججه وجعله من المؤيدين المتحمسين لأفكاره .
في الأعوام التالية اقتصر القصيمي على حلقة نقاش تجري في أوقات دورية في مقهى تحت قلعة القاهرة اسمه ” كافتريا العمدة ” ويحضرها عدد من الأصدقاء ، وكان يشترك في هذه الندوة السلفي عبد الحميد الغرابلي ، والعالم السعودي محمد نصيف والكاتب خالد محمد خالد وغيرهم ، وكان الأخير متأثراً جداً في ذلك الوقت بأفكار القصيمي .
في عام 1950م انتقل القصيمي من منزله الصغير قرب القلعة إلى منزل أكبر في ضاحية حلوان جنوب القاهرة . وعلى أرجح الظن لعبت الظروف العائلية أيضاً دوراً في مسألة تغيير المسكن؛ ففي هذه الأثناء كان القصيمي الذي تزوج في مطلع الأربعينات امرأة مصرية ، قد أصبح أباً لابنين ( محمد وفيصل) وابنتين ( عفاف ونجلاء ) مما دعاه للبحث عن مسكن أكبر .
وإلى جوار مسكن القصيمي الجديد كانت تسكن مجموعة من الطلاب اليمنيين المبتعثين للدراسة في المؤسسات التعليمية المصرية ، منهم عبدالله جزيلان الذي لعب دوراً عاماً في الثورة ضد الإمامة في اليمن ( عام 1962م ) .
وفي وقت لاحق قامت مجموعة كبيرة من الطلاب اليمنيين بزيارة جارهم الذي عرفوه من خلال كتابه ” هذه هي الأغلال ” ثم أخذوا يلتقون معه دورياً كل جمعة في “الحديقة اليابانية” في حلوان . كان يُنظر بعين القلق والحسد إلى اتصالات القصيمي بأولئك الشباب، وعندما سمع خصوم القصيمي – من تلك الدوائر التي كانت تطالب منذ عام 1946م باتخاذ إجراءات عقابية ضده – باجتماعاته الدورية مع اليمنيين ، أرسلوا عام 1954م رسالة إلى الإمام أحمد أخبروه فيها بأن القصيمي يدعو الطلاب اليمنيين في حلوان إلى إسقاط الإمامة في اليمن .
وحدث تحالف غير عادي بين الدوائر الإسلامية والضباط الأحرار المصريين واليمنيين – المعارضين للإمامة- والأسرة الحاكمة في اليمن ؛ وذلك بسبب تشابك مصالحهم فقد كان الضباط الأحرار في أمس الحاجة إلى الدعم من الإخوان المسلمين وغيرهم من المنظمات السلفية الجديدة من أجل المحافظة على حكمهم وتعزيزه . كما كانوا بحاجة إلى الحصول على اعتراف دولي بنظام حكمهم، والتكاتف مع الدول العربية ضد بريطانيا ونفوذها في العالم العربي ، وفي العام نفسه 1954م توترت الأوضاع على الحدود بين اليمن الإمامي والمحمية البريطانية ( عدن ) ، مما جعل السياسي المصري صلاح سالم يقوم بزيارة رسمية إلى اليمن وغيره من دول شبه الجزيرة العربية كانت نتيجتها إصدار مذكرة دبلوماسية ضد بريطانيا ، ويقال بأن الإمام أحمد طلب رسمياً خلال هذه الزيارة ترحيل القصيمي من مصر .
وبالفعل تم ترحيل القصيمي إلى بيروت في صيف عام 1954م ، ولم يسمح له أثناء ذلك بالاتصال مع عائلته، ولا بالاعتراض على قرار طرده أمام أي جهة قضائية ، كما لم يسمح له أن يأخذ من النقود والأمتعة إلا ما يكفي لشراء بطاقة الطائرة إلى بيروت .
وعندما وصل القصيمي إلى بيروت لم يكن يعرف أحداً إلا أنه تذكر أن أحد معارفه القدامى جداً يعمل في السفارة السعودية في بيروت ، فسعى إلى لقائه ، ثم لقيه وشرح له وضعه؛ فقام الدبلوماسي السعودي بمساعدته حتى وجد أصدقاء آخرين – عرَّفه عليهم لاحقاً – تولوا من بعده هذه المهمة .
ومن أولئك الأصدقاء شخصيات قيادية في الحياة الثقافية في لبنان كان كتاب القصيمي “هذه هي الأغلال ” يلقى في أوساطهم تقديراً عالياً ، حصل القصيمي منهم على التشجيع والدعم لمتابعة التأليف والنشر ، لكنه تلقى دعماً خاصاً من ناشرين لبنانيين قدما له باستمرار حقلاً جديداً للعمل هما: سهيل إدريس صاحب مجلة ” الآداب ” والناشر قدري قلعجي الذي أعطى القصيمي في وقت لاحق زاوية خاصة في مجلة ” الحرية” التي بدأ صدورها عام 1956م .
ثم استعرض المؤلف ما تناولته المقالات التي نشرها القصيمي في تلك الفترة ، وبين أنه تناول وضعه الشخصي ككاتب مرفوض ومطرود من جهة ، وطور من جهة أخرى بعض المواقف الفلسفية التي أصبحت في الستينات مواضيع كتبه . إلا أن هذه الكتابات لم تكن آنذاك قد اصطبغت بعد بذلك الطابع المتشائم أبلغ التشاؤم الذي تميزت به كتاباته المتأخرة، وقد عرض المؤلف مضامين المقالات التالية:
- حرية الرأي .
- الصدق خيانة وهزيمة .
- لا تشتموا الأعداء .
التي كتبها القصيمي في مجلة الحرية عام 1956م .
وفي تلك الفترة أيضاً نشرت صحيفة ” الجريدة ” البيروتية مقالات انتقد فيها القصيمي موقف المملكة العربية السعودية من النزاع الناشب حول واحة البريمي مؤيداً موقف التحالف المكوَّن من عُمان وبريطانيا وأبوظبي ضدها ، وقد أدت هذه المقالات إلى توقف الدعم المالي الذي كان يتلقاه القصيمي من القصر الملكي السعودي طيلة حكم الملك سعود بن عبد العزيز ، إضافة إلى ذلك يذكر أن الملك سعود طلب من الحكومة المصرية السماح للقصيمي بالعودة إلى القاهرة كي يُمنع بهذه الطريقة من متابعة نشاطاته الصحفية في بيروت ويكون تحت عين الرقابة المصرية .
وبالفعل ألغت الحكومة المصرية في يناير 1956م أمر إبعاد القصيمي وسمحت له بالعودة إلى أسرته في القاهرة .
ولما كان من المحتمل أن يتعرض القصيمي لضغوط في مصر ، ويُطلب منه التعهد بعدم متابعة النشر؛ بعث رجال الفكر اللبنانيين البارزين قبل عودة القصيمي إلى مصر رسالة إلى الأديب المصري المشهور طه حسين تضمنت الدعوة إلى تسهيل عودة القصيمي ليلعب دوراً مهماً في الحياة الفكرية العربية .
في بادئ الأمر لم تتحقق الرغبة التي أُعرب عنها في هذه الرسالة ؛ ففي الأعوام التي تلت عودته إلى العاصمة المصرية لم يكتب القصيمي في الصحف اللبنانية إلا نادراً وبصورة غير منتظمة ، وكان يتفادى اتخاذ موقف من المشاكل المختلف عليها في السياسة العربية . كانت المقالة الأولى التي نشرها من القاهرة تعبر عن الاستسلام واليأس تحت عنوان ” الكاتب لا يغير المجتمع ” ( مجلة الآداب ، السنة 5 ، ع10أكتوبر 1957م ، ص 18 ) .
إن العلاقة بين قبول المؤلفات الأدبية من جهة ، والظروف الاجتماعية والأحداث السياسية من جهة أخرى ؛ ثبتت صحتها في الكتابات اللاحقة للقصيمي .
سيتناول الفصل التالي الشروط العامة السياسية والفكرية التي أدت إلى جعل القصيمي يحظى باعتبار كبير في الستينات ثم يتعرض إلى العزلة التامة منذ السبعينات .

الفصل الخامس
من الشعبية الواسعة إلى الاستسلام اليائس
أعمال القصيمي المتأخرة ( منذ 1963)

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان الخطاب الإسلامي ،ومعه غالبية الموضوعات التي تناولها القصيمي، قد فقد كثيراً من وزنه و أهميته ؛ ذلك أن أولوية المسائل الاجتماعية والتركيز على المشاكل المتعلقة بقضية الاستقلال الوطني أدت في النقاش العام إلى إرغام التيارات الأيديولوجية الإسلامية إلى الانضواء تحت لواء ثقافة الدولة المفروضة من فوق في إطار وضع دولي جديد .
كما أن الانقلاب العسكري في مصر عام 1952 وضع حداً للجدل بين القطبين المتناقضين الإسلامي السلفي و العلماني الليبرالي حيث تعرض دعاة الأول لملاحقات شديدة ، وأصبح خطاب الثاني المتأثر بالثقافة الاوروبية غير مقبول في مرحلة التحرر من الاستعمار وأزمة السويس …
وبصورة عامة أخذ نظام الحكم المصري في العهد الناصري يسيطر بصورة متزايدة على جميع النشاطات الثقافية ، وقد وضعت منذ عام 1960 تحت رقابة الاتحاد الاشتراكي الذي كان أعضاؤه وحدهم المخولين بذلك .
هذا المزيج المؤلف من القمع من جهة، والتعبئة الأيديولوجية من جهة أخرى؛ أجبر القصيمي على التصرف بمنتهى الحذر عندما قرر عام 1963 التوجه إلى الرأي العام بكتاب جديد. ومن الممكن أن يكون لعودته إلى الكتابة علاقة وثيقة بوضعه العائلي ؛ فمنذ عودته من لبنان عام 1956 واجه مشاكل كبيرة في تمويل الدراسة الجامعية لابنيه محمد و فيصل؛ لأن الحكومة السعودية في عهد الملك سعود لم تعد تحمل تكاليف دراستهما في الجامعات المصرية ، لكن هذا الوضع تغير في عهد الملك فيصل حيث ساءت العلاقات في الستينات بين المملكة العربية السعودية ومصر ؛ وبناء على ذلك أوفد بعد عام 1963 جميع الطلاب السعوديين الذين كانوا يدرسون في الجامعة المصرية للدراسة في البلدان الغربية على نفقة القصر الملكي .
وبعد أن تخلص الأب بهذه الطريقة من هم تمويل ابنيه أصبح في وسعه العودة إلى تركيز اهتمامه بالكتابة، وعلى أرجح الظن مارست شخصيات من الدائرة الضيقة المحيطة بالقصيمي تأثيرها عليه وطالبته بإلحاح كي يعود إلى النشر وهم : طالب الحقوق المصري إبراهيم عبد الرحمن، وكان ينسخ من مخطوطات القصيمي نسختين : نسخة تبقى عنده ، ونسخة يتولى الشخص الثاني وهو أحمد محمد نعمان الدبلوماسي اليمني نقلها إلى بيروت حيث يتولى الشخص الثالث وهو قدري قلعجي مهمة النشر.
كان الكتاب الأول الذي نشره القصيمي بالطريقة المذكورة أنفاً كتاب “العالم ليس عقلاً” عام 1963.
وبعد ثلاثة أعوام توجه القصيمي مرة أخرى إلى الرأي العام عبر كتابين هما ” هذا الكون ما ضميره ” و” كبرياء التاريخ في مأزق ” .
ولم تلق هذه الكتب أصداء واسعة ، ولكن وقع بين عام 1967 وعام 1972 حدثان نقلاه إلى مركز الضوء في الحياة العامة اللبنانية من جهة ، ومهدا الأرض لقبول آرائه ومواقفه من جهة ، وهما : طرد القصيمي من لبنان ، ومواقفه من الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة عام 1967م .
وذُكر في تفاصيل الحدث الأول أن رئيس الوزراء اليمني المؤقت محسن العيني التقى بالقصيمي في بيروت- في إحدى الإقامات القصيرة التي كان يشرف خلالها على طباعة كتبه ، وكان العيني قادماً من دمشق حيث أجرى محادثات مع حزب البعث – وقال له : إن المخابرات السورية أبلغته بأن قتله مأجورين من المملكة العربية السعودية وصلوا إلى بيروت لكي يقتلوه ، ولذلك طلب منه أن يأتي معه إلى دمشق لأن الحكومة السورية هي الجهة الوحيدة التي تستطيع حمايته وهي مستعدة لإعطائه وظيفة تناسب كفاءته . إلا أن القصيمي رفض هذا العرض لأنه لم يكن يريد أن يصبح أداة دعائية في يد حزب البعث .
وفي الليلة التالية جاء ضابط من المخابرات اللبنانية إلى فندقه لكي يبلغه أيضاً عن وجود مخطط لاغتياله ويطلب إليه مغادرة لبنان فوراً؛ لأن أمنه في بيروت لم يعد مضموناً . وبعد وقت قصير أصدرت السلطات اللبنانية أمراً رسمياً بطرده من البلاد على الرغم من محاولات الزعيم الدرزي كمال جنبلاط ، التوسط لإلغاء هذا الأمر . وهكذا نقل القصيمي بمرافقة الشرطة إلى المطار ووُضع رغم إراداته في طائرة متوجهة إلى القاهرة . وفي العام التالي أصبح كمال جنبلاط وزيراً للداخلية في لبنان فعمل على إلغاء الأمر القاضي بمنع دخول القصيمي إلى لبنان .
وعن أسباب الطرد – حسب القصيمي نفسه – أنه يشكل خطراً على فكر لبنان ونظامه وقيمه .
وفي مقالة نشرت بعد وقت قصير فنَّد أنسي الحاج ا لاتهامات الموجهة إلى القصيمي تحت عنوان ” طرد القصيمي خيانة عظمى ” ، وقال : إن اتهام القصيمي بممارسة نشاطات سياسية هو بالتأكيد اتهام مفتعل ولا معنىله ، لأنه ينطبق على عشرات الأجانب في لبنان ، إضافة إلى ذلك يرفض الحجة القائلة بأن إبعاد القصيمي هو خدمة له ، لأنه يرمي إلى حمايته من مؤامرة على حياته ، ويقول :إن الحجة مرفوضة لأن الإبعاد يتم ضد إرادته .
أصبح القصيمي- بسبب طرده من لبنان ونتيجة الصدى الذي أحدثه الطرد وخاصة ما نشر عنه في ملحق النهار- معروفاً لجمهور عريض في لبنان .
ومما أدى إلى زيادة الاهتمام بموافقه : الهزيمة العسكرية الكارثية التي منيت بها في العام نفسه الدول العربية ضد إسرائيل، وانعكاساتها على الحياة الفكرية في العالم العربي؛ فقد انطلقت موجة من النقد الذاتي عمت العالم العربي بأسره ، وألقيت المسؤولية عن الهزيمة على عاتق عوامل مختلفة على رأسها أشكال التعبير وممارسات الدين الإسلامي والعقلية العربية والتاريخ والتقاليد .
في مثل هذا المناخ الثقافي يمكن أن تجد فلسفة تحطيم الصور والمفاهيم الدينية والسياسية التي تدعوا إليها كتب القصيمي أرضاً خصبة للازدهار والانتشار ، فلأول مرة في تاريخ حياته الأدبية يصيب القصيمي عصب الزمن بمنتهى الدقة .
وعلى هذه الخلفية أصدر قدري قلعجي عام 1967طبعة جديدة موسعة من ” العالم ليس عقلاً ” في 3 أجزاء . ثم تبعها عام 1971م ” أيها العار .. إن لك المجد” و “فرعون يكتب سفر الخروج ” إلى جانب ذلك نشر القصيمي عدداً من المقالات في المجلات الأدبية في بيروت . ومن الممكن القول بأن القصيمي كان بين عام 1967وعام 1972 فيلسوف المرحلة الذي تنوقلت أفكاره على نطاق واسع.
وقبل التحدث عن الأسباب التي جعلت هذا الوضع ينقلب إلى استسلام ثم في وقت لاحق إلى عزلة تامة تقريباً أود أولاً عرض المضامين الرئيسية للكتب التي نشرها منذ الستينات والدراسات النقدية التي كتبت حولها .
وصف المؤلف في بداية العرض أسلوب القصيمي في الكتابة وطريقته المتبعة في عرض أفكاره بما يلي :
- تكرار الأفكار ، واللف والدوران حول المضامين نفسها ، والإطناب الشديد في شرح الموضوعات…
- انتقاء الكلمات وصف المترادفات .
- الاستطراد والقطع المستمر للتسلسل المنطقي لأفكاره .
- التعليق على الذات واستكمال الأفكار الأساسية ( تسجيل الملاحظات ثم بناء كامل المبنى الفكري عليها ) .
- الأسلوب الخطابي باستعمال صيغة النداء، ومخاطبة القارئ مباشرة أو توجيه أسئلة لشخص افتراضي ثم الإجابة عليها نيابة عنه .
- استعمال السجع .
- المبالغة والتهكم .
- استعمال الجمل الاعتراضية للتنبيه .
أما الموضوعات التي كان القصيمي يضعها في مركز اهتمامه من جهة ، والتي لقيت الاهتمام الأكبر لدى النقاد من جهة، فهي :
1- تقييم الإيمان والتدين كتعبير حياتي أولي يعود – حسب رأي القصيمي – إلى طبيعة النفس البشرية وحاجاتها . وفي ذلك يقول القصيمي : ” الدين هو أنين لا غناء .. هو ألم لا بهجة ..إنه ليس بحثاً عن الجمال وإنما هو تعبير عن الضعف والبشاعة والألم ” (صحراء بلا أبعاد ص180) وهو يتفق في ذلك مع الفيلسوف الألماني نيتشه !! فليس مستغرباً أن وصف بأنه ” نيتشه العربي ” . ويطرح الفكرة نفسها في قوله : ” إن الخوف من الله ليس خوفاً من الله ، وإنما هو قلق وتعب ذاتي ، وهذا يحدث حتماً سواء أخفنا من الله أم لم نخفه “ ( صحراء بلا أبعاد ص 323) . أما قوله : ” ليس ممكناً بالنسبة لي أن أعني بالله أو الآلهة خالق الكون الذي يمنحنا القدرة على الإيمان به ، وإنما أعني بذلك الأصنام والطغاة وعبث الطبيعة المنسوب إلى الخالق والأوهام ” فهل يعني الاعتراف بوجود خالق للكون (بائن منه) أم يعني أن خالق الكون هو نفسه ؟ وإذا كان يعني الأول فإنه على ما يبدو من أقواله لا تأثيرله غير الخلق ولا علاقة له بالكون سوى التكوين وبالتالي فلا فرق مؤثر بينه وبين المعنى الثاني وهو أن خالق الكون هو نفسه . وكانت له تبعاً لتقييمه للإيمان والتدين آراء في الوحي والجزاء والجهاد على النحو التالي :
أ‌- رأيه في مصدر الوحي والنبوة : يقول : ” إن الأنبياء هم الناس الذين أحسوا بصورة مؤلمة بشكل خاص بصعوبة الحياة وعبثية الوجود؛ فعجزهم عن تحقيق حاجاتهم ورغباتهم في هذه الدنيا جعلهم معرَّضين بشكل خاص لما يسمى (الإلهام ) . إذ أن الناس النشطاء الأكفاء القادرين على تحقيق أهدافهم وحاجاتهم داخل المجتمع الذين يعيشون فيه يندر أن يكونوا من متلقي الإلهام . وبالمقابل يهرب الناس العاجزون عن التصرف وعن تحقيق أهدافهم في المجتمع من الواقع الذي يعيشونه ويلجئون إلى تصورات يظنون أنهم يستمدونها من خارج هذا العالم ” ( أيها العقل من رآك؟ ص 199 ). ويقول : ” المرضى والشاعرون بالخيبة والظلم والعاجزون عن أن يصنعوا لهم دنيا حقيقية في عالم الواقع ، والذين لا يجدون متنفساً لمواهبهم .. هؤلاء وأشباههم هم أقرب الناس إلى الإلهام ، وإلى تلقي الوحي الذاتي [ وهما معنيان يصعب التفريق بينهما – حسب القصيمي – ] وقد يتطور هذا الشعور الباطني حتى يصبح أشباحاً وأصواتاً تُرى وتُسمع …” ) أيها العقل من رآك ؟ ص 198).
ب‌- رأيه في الجزاء الأخروي : يقول : ” والأهوال الفظيعة التي تصورها الملهمون عقاباً لأعدائهم ومخالفيهم .. تلك الأهوال التي ليس لها مثال موجود ، والآلام التي لا انقضاء لها راجعة إلى أنهم كانوا عاجزين عن إيقاع العقوبة السريعة بأعدائهم ومخالفيهم ، فأعدوها لهم في عالم آخر . لقد عجزوا عن أن يفعلوا فتصوروا ..”(المصدر السابق ).
ت‌- رأيه في الجهاد : يقول : ” وهكذا أعطى البدو العرب ، على سبيل المثال ، لأنهم لم يكونوا قادرين على السيطرة على الطبيعة بالوسائل السليمة وكنتيجة لظروفهم المعيشية التي تميزت بالعوز المادي – أعطوا – إلههم صفات حربية ، وتصوير الإله بهذا الشكل كمقاتل يدعو إلى الحرب ، وجد حتى في آيات القرآن مكاناً له . فالقرآن يتحدث عن القتل والحرب أكثر بكثير مما يتحدث عن السلام ، فقد فرض على الناس الحرب كقانون أكثر من الدعوة إلى السلام ” (عاشق لعار التاريخ ص26) .
2- تصوير الخالق في الديانات التوحيدية كمرآة للإنسان ومجتمعه ، وهذا الموضوع مثل الأول والمقالة السابقة تصلح مثالاً له؛ ولذلك فقد أوردها المؤلف تحت هذا الموضوع .
وقد يتساءل القارئ لأقوال القصيمي عن كيف يمكن التوفيق بين أقواله التي تشير إلى الإيمان بالله وبين الصورة المعادية للدين ، وعن الدور الذي يمكن أن يلعبه في هذه الصورة أي تصور للإله من أي نوع كان .
طرح المؤلف هذا التساؤل ، وذكر في سياق الإجابة عليه أن ذلك أمر معهود في تاريخ الفلسفة الأوروبية ، ويمكن اعتبار أعمال لودفيغ باخ أفضل مثال على هذا الاتجاه نظراً إلى أن التفكير بصيغ دينية منتشر على نطاق واسع في جميع أرجاء العالم ؛ بحث فوير باخ عن تطابق التصورات الدينية مع المكونات الأساسية للطبيعة البشرية ومع حاجات الإنسان .
في كتاباته الفلسفية يؤكد فوير باخ أن الملحد يجب عليه قبل غيره أن يسأل عن الدافع إلى الإيمان بالله ، وذلك لكي يتمكن من تحويل هذا الانتاج الفكري البشري المغرق في القدم إلى شكل متمايز من أشكال المعرفة .. فالإيمان بالله في كتابات القصيمي مطروح – فيما يبدو – عن هذه الفلسفة الإلحادية، فالله عنده مجرد تعبير ، كما يقول بعض الصوفية : الله عبارة لمن فهم الإشارة !!‍‍
ولذلك يقول القصيمي : ” إني لابد أن انتظر له حينئذ صياغة إله جديد ليعطي صياغة كون جديد. إنه لاشيء يحتاج إلى صياغة جديدة مثل الإله ، مع أنه لاشيء متروك دون أية محاولات لتجديد صياغته مثل الإله ، ومع أنه لا شيء مثل الإله يحتاج إلى صياغة جديدة ، إلى تغيير صياغته، إلى تغيير الإله بأية صياغة أخرى ” (أيها العار إن لك المجد ص170) .
3- مواقف القصيمي السياسية الاستفزازية ، وعلى الأخص مما يلي :
أ‌- القومية العربية ، فالقصيمي يصف العرب بأوصاف سلبية ، وقد صعَّد وصفه السلبي للعرب إلى درجة أنه قال : إن المرأة العربية والإسلامية لا تلد إلا كائنات أقل شأناً من الأطفال الآخرين فيما يتعلق بمستواهم الذهني والنفسي وبقدرتهم على الإبداع . ( انظر يا كل العالم .. لماذا أتيت ؟‍ ص 390) .
ب‌- الثورات : يقول القصيمي : ” إن كثيراً من الناس لا يتوقعون أن تؤدي الثورة إلى تطور تقدمي، ولو كان الأمر كذلك لكان من واجب كل مجتمع أن يبني معابد للتعليم في فن التحول من نظام إلى نظام .. ولكن التقدم والتطور لا يتحققان بإثارة العواطف الأيديولوجية ، وإنما فقط بالمشاركة في الحضارة الصناعية العلمية الغربية ، وبالتأثر بهذه الحضارة التي تحتل العالم ” ( عاشق لعار التاريخ ص 68) .
ت‌- الوحدة العربية : فهو يشكك في جدواها كالسؤال التالي : ” هل من الخير أن يعود النبي محمد أو خلفاؤه الراشدون ليقيموا دولة عربية واحدة تفتح كل العالم ، وتسترق كل العالم ، كالذي حدث يوماً ما .. ؟ ” ( أيها العار إن لك المجد ص174) .
ويقول في مقال له بعنوان ” لئلا يعود هارون الرشيد ” نشر في مجلة الموقف ( ع 1 أكتوبر 1968) ” يا دولة العرب الواحدة الكبرى .. إني أخاف مجيئك ، لأني أخاف مجيء هارون الرشيد الجديد ” .
دارت المناقشات النقدية للكتب التي نشرها القصيمي بين عام 1963 وعام 1977 في المقام الأول على صفحات المجلات اللبنانية ، وعلى رأسها ” العلوم ” و ” الآداب ” والملحق الأدبي لجريدة النهار ” ملحق النهار ” إلى جانب ذلك أدلى بدلوهم نقاد من شبه الجزيرة ومن عرب المهجر . إضافة إلى ذلك صدرت دراستان نقديتان ضد بعض أعمال القصيمي . أما في مصر فلم تلق كتاباته في الستينات والسبعينات أي اهتمام تقريباً؛ لأن الكاتب حرص منذ عام 1947 على تفادي الرأي العام السياسي والأدبي في موطنه المختار .
وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في الخلفيات الأيديولوجية والدينية والسياسية للنقاد هناك بعض السمات المشتركة في ما كتبوه . لم يقتصر أي من هذه المواقف على مناقشة مضمون كتب القصيمي حصراً، وعند تقديم مقاطع من كتبه فإن هذه المقاطع تكون غالباً مقتضبة ومفصولة عن السياق العام الذي وردت فيه ، وبدلاً من ذلك كان ما يحرك النقاد دائماً- تقريباً -السؤال عن موقع ومكانة القصيمي في الحياة الفكرية العربية الحديثة ، وتركز الاهتمام على التأثيرات المحتملة لكتابات القصيمي على القارئ العربي وعلى توجهه الاجتماعي والديني .
[والظاهر أن النقاد المخالفين يعتبرون أعمال القصيمي خالية من المضمون الذي يستحق المناقشة].
وبما أن قراءات مؤلفات القصيمي المتأخرة تعبر في كل مرحلة عن وضع النقاش حول حدود حرية الرأي في الثقافة العربية الإسلامية في تلك المرحلة ؛ يفضل أن نتناولها حسب التسلسل الزمني لنشرها:
1- عندما أصدر القصيمي عام 1963م ” العالم ليس عقلاً ”.

وردت عنه القراءات التالية :
1- محمد جواد مغنية ( أحد ممثلي الشيعة البارزين في لبنان ) نشر في مجلة ” الآداب ” مقالة رد فيها على مقالة ” العالم ليس عقلاً ” ( السنة 12، ع 1 ،يناير 1964 ) .
ثم جرت بينهما مداولة ومناظرة فكرية في الأعداد التالية من المجلة نفسها .
2- ميخائيل نعيمة ( الكاتب اللبناني ) وهو مسيحي أرثوذوكسي تدور مؤلفاته حول مشاكل البحث عن الإله ومغزى الوجود ، تبنى رأياً مشابهاً تجاه تحطيم الصور في رسالة مفتوحة نشرتها ” العلوم ” (السنة 9العدد 4 ،إبريل 1964) تحت عنوان ” أردت كتابك نفياً لوجودك وكل وجود فجاء تثبيتاً رائعاً لوجودك ولكل وجود “.
3- عبد الكريم قاسم ( السياسي العراقي ) أعرب عن تضامنه مع القصيمي وتقديره البالغ لكتابه في مقال بعنوان : ” العالم ليس عقلاً.. رياضة تمردية ” نشر في مجلة العلوم ( السنة 9 العدد 5 ، مايو 1964 ) .
2- عندما صدركتابا القصيمي ” هذا الكون ما ضميره ” و ” كبرياء التاريخ في مأزق” عام 1966 .

وردت عنهما القراءات التالية :
1- يوسف الحوارني ( الكاتب اللبناني ) وقد تلقاهما بقبول حماسي ، وكتب في ” ملحق النهار ” (31 يوليو 1966 ) . ” أرشح القصيمي للموت حرقاً ” .
2- أنسي الحاج ( ناشر ملحق النهار ) كتب دراسة نقدية عن الكتابين المذكورين أشاد فيها بهما وعنوان الدراسة ” الرجل القادم من الصحراء ” ( ملحق النهار ، 28 أغسطس 1966) .
ولعل هذا الدعم الحماسي الذي لقيه القصيمي في الصحافة اللبنانية هو الذي دفع الكاتب السوري صلاح الدين المنجد إلى كتابة ” دراسة عن القصيمي ” صدرت في بيروت عام 1967م . توصل فيها إلى أن القصيمي رجل مشهود له بالفشل ، فهو لم يحقق في حياته كلها أي شيء مما يبتغيه ، فلجأ إلى مدارس فكرية هدامة أملاً في تحقيق ذاته هناك .
وركز هجومه على تشابهات – وصفها المؤلف بأنها مزعومة !! – بين النقد الديني للقصيمي والفلسفة المادية لماركس ، فكلاهما داعيا إلى رفض الدين والوحي والنبوة والتخلي عن العقيدة ، وكلاهما يعلل نكرانه للإله بأن الكون قد نشأ من ذاته عبر عمليات وقوانين مادية ، وهما لا يريان في القيم الأخلاقية سوى أوهام لا معنى لها والبناء الفوقي الفكري للمجتمع ، وهذا بدوره هو السبب في أن كليهما يعتبران الدين مسؤولاً عن الضعف والتخلف .
ويقول المنجد : إن كتب القصيمي جميعها تنشر بذور اليأس والتشاؤم . وبينما ينقل هجومه على الدين والأخلاق من كارل ماركس يستمد يأسه من كتب شوبنهاور . ولا يمكن اعتبار أعمال القصيمي إلا وثائق تدل على جنون مرضي هدام.
وقد رد القصيمي على كتاب المنجد برسالة مطبوعة وزعها على أصدقائه ومعارفه اختار فيها أسلوب السخرية والتهكم وسيلة للتعامل المباشر مع خصمه .
كما تطرق كميل سعادة في قراءة نقدية لكتاب القصيمي ” الإنسان يعصي .. لهذا يصنع الحضارات ” ( بيروت 1972) إلى هجوم المنجد على مؤلفاته ، وجاء في هذه القراءة : إن من يهاجم القصيمي بسبب شجاعته دون أن يراعي هدفه وهو تحرير العرب من الأيديولوجيا السائدة فإنه يظلمه أشد الظلم …
3- مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان توقف التقدير الإيجابي الذي كان يحظى به القصيمي في الساحة الأدبية في بيروت . فمن الكتب الثلاثة التي نشرها أواخر السبعينات وفي الثمانينات لم يلق اهتماماً عاماً سوى كتاب واحد وهو ” العرب ظاهرة صوتية ” الذي صدر عام 1977.
1- فلقد نشر- مثلاً- قراءة نقدية لهذا الكتاب في الصحيفة اليومية السعودية ” الرياض ” يتهم كاتب الدراسة ، وهو شاب سعودي اسمه فهد العرابي الحارثي – يتهم – القصيمي بأنه مصاب بمرض ” الدونكيشوتية الفكرية ” .. وأن القارئ العربي هو الذي يمهد لمثل هذه الولادات المشوهة لأنه يُسر بمن يعارضونه ، حتى لو كان يرفض ذلك في داخله ، وهذا يغري القارئ العربي إلى أقصى الحدود ، فالمبتدئون وغير الناضجين يغريهم المجرمون واللصوص وقطاع الطرق على الرغم من أنهم شخصياً يدينون القاتل ويقطعون يد السارق ويشوهون قاطع الطريق .. ولم يزل الإنسان يحب ” الفرجة ” وهو مدعو كل يوم للتمتع بعروض المشعوذين البدائيين التي يقدمها له أحد المرتدين من ” المثقفين ” العرب .. ولكن لا تنسوا أن هناك مواقف مسؤولة ومحترمة يجب أن نلتفت إليها ونمنحها أقصى درجات الأهمية .
يرفض الحارثي رفضاً قاطعاً مضمون كتاب القصيمي ، ويرفض أيضاً النظر إلى هذا الكتاب من باب النقد الذاتي الذي يدعو إلى الإصلاح ؛ لأنه يفتقر – حسب رأيه – إلى أدنى المتطلبات العلمية والثقافية. ويقول : إن قراءة الصفحات الأولى من الكتاب تكفي لفهم الباقي ؛ لأنه ملئ بالتكرار والعبارات الجوفاء ، وهو يولد الانطباع بأنه قد أملى في آلة تسجيل ثم نقل عنها بشكل ما دون تصحيح. ويُذكِّر القصيمي بمذيع سيئ طُلب منه أن يشتم في برنامج دعائي رئيس بلد مجاور . وبما أن القصيمي لا يؤخذ على محمل الجد ككاتب بسبب أسلوبه السيئ وميله إلى الديماغوجيا ( سياسة تملق الجماهير ) ، فإن كتابه لا يشكل أي خطر على تفكير المسلمين لا بل يتمنى المرء لو أن جميع الملحدين يكتبون كتباً سيئة مثله ، ولا يتجاوزن عروضه الاستفزازية المضحكة . ( انظر جريدة الرياض ، العدد 3908 ، 5/8/1398هـ ، ص 7 تحت عنوان “هم والتاريخ وحساسية الخطيئة ” ).
2- ورد كاتب آخر اسمه أحمد محمد الشامي على الكتاب نفسه رداً هجائياً بلغة الشعر .. ” ماذا يريد القصيمي ” ( بيروت 1980 ) .
3- وانتقد الكتابَ أيضاً الكاتبُ اللبناني يوسف الخال في مقال بعنوان ” أفكار على ورق ” في ” المنار” ( لندن ، 26 نوفمبر 1977 ، ص 20 ) ، يقول الخال : إنه عندما أصدر القصيمي كتاب ” العالم ليس عقلاً ” كانت صرخة الاحتجاج الواردة فيه لها وقع منطقي, ولكن مع مرور الزمن وازدياد حدة المرارة لدى القصيمي ازدادت قسوة لهجته في هجائه للعرب الذي يغمرهم بموسوعة من الصفات المليئة بالكراهية ؛ وبذلك أصبح عبد الله القصيمي نفسه ” ظاهرة كلامية ” .
ستار الصمت عن مصير منشق ( 1972 – 1996) :
في السبعينات أيضاً لم تقتصر ردود الفعل على هجوم القصيمي على المحرمات المركزية للثقافة العربية والمجتمع العربي – كما كان الحال عام 1964 – على مجال الكتابة والنشر. بل أن مجرد ظهور الكاتب في وسائل الإعلام اللبنانية الليبرالية لقي أشد الانتقاد. ففي عام 1971م هاجم مقالُ نشر في صحيفة البلاغ الكويتية الملحقَ الأدبي الأسبوعي لصحيفة النهار- المحبوب في الكويت أيضاً -لأنه ” يسلط الضوء على بعض الكتاب الذين يبثون سمومهم المفسدة بين الصفحات بطريقة دقيقة ” من أمثال : صادق العظم ، وعبد الله القصيمي …
وفي عام 1972 منعت سلطات الرقابة اللبنانية جميع كتب القصيمي لفترة مؤقتة ، وقامت الشرطة اللبنانية بمصادرتها من جميع محلات بيع الكتب والمكتبات ودور النشر . لكن هذه الإجراءات لم تكن تعني عزل القصيمي عن قرائه ، فقد تابع ملحق النهار نشر مقالاته ولام الناشرين اللبنانيين لأنهم لا يملكون الشجاعة لمتابعة نشر مؤلفاته . ويقال بأن كثيراً من محلات بيع الكتب اللبنانية خبأت كتب القصيمي حتى توقفت محاولات المصادرة .
في بادئ الأمر رد القصيمي على هذه الأحداث بسخرية لاذعة . تحت عنوان ” أنا القصيمي سأحرق كتبي ” في ” ملحق النهار ” ( 17/1/1973).إلا أن ما دفع القصيمي إلى العزلة أكثر من جميع العداوات وإجراءات الرقابة هو انهيار الوسط الثقافي والفكري بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية حيث فقد المنبر الوحيد الذي بقي يخطب عليه منذ بداية الستينات .
ولم يكن عبد الله القصيمي ينتمي إلى ذلك الفصيل من المثقفين اللبنانيين الذين يجيدون عدة لغات ؛ وتمكنوا بالتالي من خلق منبر جديد لهم في لندن أو باريس ؛ لأنه لم يكن يتكلم أي لغة أجنبية.
إلا أنه كان مضطراً أيضاً إلى نشر الكتب الثلاثة التي ألفها بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية لدى دور نشر عربية في باريس . وفي هذا المجال أيضاً ساعده مرة أخرى أحد أفراد دائرة أصدقائه اليمنيين في القاهرة واسمه ” أحمد عبد الرحمن جابر ” وكان هذا الصديق في أواخر السبعينات الأمين العام لمكتب رئيس الجمهورية اليمني ، فاستغل زيارته الرسمية لفرنسا ليأخذ معه نصوص القصيمي إلى باريس ولإجراء الاتصالات مع دور النشر هناك .
كان الكتاب الأول الذي نشر بهذه الطريقة كتاب ” العرب ظاهرة صوتية ” وقد سبقت الإشارة إلى ردود الفعل التي نتجت عنه . أما الكتابان الآخران : كتاب ” الكون يحاكم الإله ” ( باريس 1981)، وكتاب “يا كل العالم .. لماذا أتيت ؟ ” باريس 1986م) فلم يلقيا أي اهتمام حيث لم تنشر أي قراءة نقدية لهذين الكتابين- حسب علم المؤلف – .
وكانت ظاهرة التجاهل الكامل هذه توصف في الوسط الشخصي المحيط بالقصيمي بأنها ” ستار الصمت ” الذي أسدل على الكاتب منذ عام 1980م تقريباً ؛ بهذا الانعزال عن الرأي العام العربي المهتم بالشؤون الأدبية بدأت مرحلة انسحاب القصيمي إلى الحياة الخاصة . فبعد أن كان حتى نهاية السبعينات يشارك بين وقت وآخر في نقاشات عامة في القاهرة ، ومن ضمنها مجادلة حادة مع الشيخ الشعراوي الواعظ التلفزيوني المصري المشهور والكاتب الإسلامي الواسع الشعبية؛ طرح فيها القصيمي على الشعراوي بعض الأسئلة الاستفزازية عن وجود الله ثم سأله عما يحصل – حسب رأيه – في الجنة مع زوجات المسلمين طالما أن للرجال الحق في أن يمارسوا الجنس مع عدد غير محدود من النساء .. بعد هذا السؤال غادر الشعراوي الجلسة غاضباً . تجنب القصيمي بعد ذلك التاريخ الظهور في المحافل العامة؛ فمنذ أعوام طويلة – وخاصة بعد وفاة زوجته المصرية ( 1990 ) – لم يغادر مسكنه في القاهرة إلا نادراً جداً .
هنا طرح المؤلف السؤال عن سبب مآل القصيمي إلى هذه العزلة التامة ، ثم نفي أن يكون انتهاك المحرمات المركزية للحضارة الإسلامية أو مخالفة أحكام الشرع الإسلامي وحده السبب في ذلك ، بدليل أنه لم تطبق أبداً أحكام الشريعة ضد عبد الله القصيمي الذي اعتبر الكثيرون من معاصريه نقدَه للدين كفراً وارتداداً عن الإسلام .
وأرجع المؤلف السبب في ذلك – إضافة إلى أنه لم يدخل أبداً منذ العشرينات موطنه الأصلي المملكة العربية السعودية – إلى انسحابه المزدوج من الحياة العامة المصرية ، فمن الناحية الأولى كان منذ السبعينات قد قطع كل صلة بالأوساط الثقافية هناك بعد تسييس الدين، وتحويل السياسة والمجتمع بذلك إلى محرمات ومحللات ، وقد نجح القصيمي في عزل نفسه إلى درجة أنه لم يكن على بال أحد إطلاقاً في الثمانينات والتسعينات.
ومن الناحية الثانية وضع نفسه بنوع الانتقاد الذي يمارسه خارج إطار الخطاب السائد لأن موقفه الراديكالي ( الاجتثاتي ) لا يصل – بسبب أسلوبه ومضمونه- إلى جمهور عريض من الناس .
وذكر المؤلف بعض الأمثلة على أن الهجوم على شرعية المؤسسات الدينية والرسمية تكون له عواقب أقسى من الاستفزازات الموجهة إلى أسس العقيدة الدينية .
وقد تركز نشاط القصيمي ودائرة تأثيره خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية (1980-1995) على محيطه الشخصي عبر ندوة أسبوعية تعقد في غرفة الجلوس بمنزله . إلا أن الشيء المدهش هو اتساع دائرة المشاركين في حلقة النقاش هذه . إذ أن حضور شخصيات سياسية هامة من مختلف أرجاء العالم العربي، وخاصة من شبه الجزيرة العربية ، بصورة دورية ومنتظمة وحلولهم ضيوفاً على القصيمي ، يتناقض تناقضاً صارخاً مع انسحابه ، فيما عدا ذلك ، انسحاباً كاملاً تقريباً من الحياة العامة . لم يكن بين هؤلاء الزوار أدباء أو كتاب إلا ما ندر . وإذا ما كان بعض ممثلي الحياة الثقافية المعروفين ، أمثال الكاتب العلماني المصري سيد القمني وزوجته الكاتبة البحرانية فوزية رشيد ، قد وجدوا طريقهم إلى ندوة القصيمي فإن زيارتهم لم تكن منتظمة وإنما برفقة وسطاء كانوا يشاركون في الندوة بانتظام .
وكان هناك بعض المشاركين القادمين من المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة الذين قد يكون اهتمامهم بالقصيمي نابعاً من إغراء الممنوع، أي رغبتهم في التعرف على مفكر راديكالي كتبه ممنوعة في بلدانهم ، فكانت زيارة قصيرة لندوة القصيمي تشبه التمتع بإحدى المتع غير المسموحة في أوطانهم، والتي تقدمها العاصمة المصرية للشباب القادمين من شبه الجزيرة العربية بوفرة كبيرة !!
أما الرجال الأكبر سناً من دائرة معارف القصيمي الكبيرة من نفس المنطقة فكانت لزيارتهم المستمرة للقصيمي دوافع أخرى . كانت تربطهم بالكاتب علاقات حميمة تتجاوز جميع خطوط الفصل الأيديولوجي ، فقد كان هؤلاء الأصدقاء يكررون دائماً القول إنهم يرفضون من ناحية المضمون النقد الديني للقصيمي ، لكنهم معجبون أشد الإعجاب بالشجاعة والرجولة اللتين يواجه بهما المقاومات والعداوات والمحرمات !!
ويظهر هذا التناقض على أشده عندما يتعلق الأمر بعلاقات القصيمي مع أفراد العائلة الملكية السعودية .
وقد سبق بيان الفهم الخاطئ الذي بنى عليه المؤلف هذا الاستظهار .
وأضاف المؤلف : إن الاتصالات المتكررة بين القصيمي وبعض أفراد الأسرة المالكة السعودية تجعل من المستبعد أن تكون بمحض المصادقة ، وتؤيد عوضاً عن ذلك الفكرة القائلة بأنها تعود- من جهة – إلى القرابة الشخصية و- من جهة أخرى – إلى الصراع المستتر بين المؤسسة الدينية والعائلة المالكة في المملكة العربية السعودية .
لكن المؤلف لم يبين الدلائل الأخرى على ما وصفه بالصراع المستتر !! أما الاستدلال بالاتصالات المتكررة ؛ فلا يلزم منها وجود صراع خفي. بل الظاهر أنها تعود إلى أن القصيمي كان على علاقة جيدة بالملك عبد العزيز، وكان يعظمه, ويعتبره أعظم حاكم معاصر ، وحتى عندما حدثت ضجة عام 1946 بعد نشر ” هذه هي الأغلال ” تدخل خير الدين الزركلي في القضية ودافع عن القصيمي أمام الملك مستشهداً بتاريخ القصيمي، وما يشير إلى ولائه للأسرة الملكية السعودية .
وأغلب الظن أن منشأ فكرة وجود صراع مستتر بين المؤسسة الدينية والعائلة المالكة في المملكة العربية السعودية هو الجهل بأن مجرد وقوع المخالفة من المسلم ولاسيما العملية لا يلزم منه رفض الإسلام والخروج عن مسماه …

وفاة القصيمي :

توفي القصيمي في 9 يناير 1996م في مستشفى بحي عين شمس في القاهرة . ولم تبق وفاته دون اهتمام في العالم العربي ، فقد نشرت الصحف إثر إعلان نبأ وفاته مقالات كثيرة في رثائه ، كما أشار إلى ذلك المؤلف ص 208 .

كلمة ختامية :

ختم المؤلف كتابه بكلمة ختامية لخص فيها أسباب تراجع القصيمي عن مواقفه السابقة ، ونتائج القراءات النقدية لكتبه ، ومواقف الناس منه .
ذكر في بداية كلمته أن الأسباب القطعية لذلك التراجع لم يكن من الممكن كشفها كاملة ولا في الأحاديث الخاصة التي أجراها مع القصيمي ؛ لأنه كان يرفض الحديث عن ذلك .
وبسبب عدم توفر معلومات بيوغرافية صادرة عن الكاتب نفسه فلا سبيل لتفسير مرحلة انتقال القصيمي من النقد الداخلي للإسلام إلى النقد المعادي للإسلام بل لكل ما هو ديني ، سوى الاعتماد على ما يأتي :
1- وجهات النظر الواردة في كتبه .
2- التجارب الحياتية التي تعرض لها كشخص وعلى محيطه الاجتماعي والمعيشي .
فيما يخص جانب المضمون يقف على الأرجح وراء هذا التطور خط فكري يربط بين عملية لا هوتية راديكالية للتطهير الذاتي ترمي إلى تخليص الدين من جميع الشوائب والبحث عن الخلاص العاطفي والروحي من جهة ، وتكوين صورة للعالم مضادة للدين من جهة أخرى ، وفي سياق هذه العملية تخضع في كل مرة مجالات جديدة من المجالات الدينية للنقد العقلي، وترفض في كل مرة إمكانات جديدة من إمكانات التوسط مع ما وراء المحسوس حتى يصل الأمر أخيراً إلى إخضاع أقدس المقدسين ( الله والوحي) للنقد أيضاً .
هناك علاقة محتملة تفهم من السؤال عما إذا كانت مقولات ماكس فيبر عن ” نزع السحر عن العالم ” التي تعتبر غالباً الأساس الذي تقوم عليه الصيغ البيوريتانية ( التنقوية التطهيرية التصفوية ) الكالفينية من المذهب البروتستانتي ، يمكن تطبيقها أيضاً على بعض الاتجاهات الوهابية الرامية إلى تخليص الدين من الشوائب ، والتي أثَّرت على القصيمي تأثيراً حاسماً في مطلع حياته ؛ هي التي فتحت الباب أمام عملية نزع السحر هذه ، وشكَّلت بالتالي الخطوة الأولى على طريق تراجعه في وقت لاحق عن الصورة الدينية للعالم .

أما ما يتعلق بالعوامل الخارجية لانتقال القصيمي من النقد الذاتي الديني إلى رفض الفكر الديني رفضاً كاملاً ، فيمكن تلخيصها فيما يلي :
1- اعتزاله جميع التيارات الفكرية والسياسية الهامة ، دون أن يكَّون لنفسه وسطاً فكرياً واجتماعياً جديداً. لا بل إن إصراره الشديد على الاستقلالية الفكرية لمواقفه جعله ينكر وجود أي تأثير غريب على فكره . على الرغم من أنه استشهد بغوستاف لوبون و اوغست فوريل ، واعترف بأنه قرأ نيتشه، وتبنى حرفياً مقولات من النقد الديني الفرويدي؛ فقد كان ينفي نفياً قاطعاً أي تأثير لمؤلفاتهم عليه .
2- الهجوم الحاد الذي تعرض له اعتباراً من عام 1946بعد نشر ” هذه هي الأغلال ” فبينما كان لا يزال يعتبر النقد الذاتي الإسلامي الراديكالي الذي ورد في هذا الكتاب موقفاً إسلامياً داخلياً؛ لم يبق أي أثر لمثل هذه الإشارات في أعماله اللاحقة . كما أن امتناع القصيمي عن الكتابة عدة أعوام بعد عام 1946م يشير أيضاً إلى أن الرفض الذي لقيه آنذاك هز صورته عن العالم ، التي كانت لم تزل ترتكز على قاعدة دينية ، هزاً عنيفاً دعاه إلى تغييرها ؛ ولذلك يتحدث السباعي ( الذي درس فكر عبد الله القصيمي في أطروحة غير منشورة لنيل شهادة الدكتوراة في كلية الفلسفة في جامعة الروح القدس ، الكسليك لبنان 1979م )- يتحدث – مصيباً عن ” أزمة الشك ” التي مر بها الكاتب في هذه المرحلة من تطوره ، ثم ازدادت حدة هذه الأزمة الداخلية بإبعاده عن مصر في الخمسينات وعيشه في المنفى السياسي ، مما أدى في النهاية إلى رفضه الجذري لكل ما كان ذو معنى بالنسبة له في السابق .
وفي القراءات النقدية لكتبه أيضاً ، يبدو القصيمي – رغم شعبيته الكبيرة العابرة في الستينات والسبعينات – وحيداً إلى أبعد الحدود ، فهو لم يؤسس أي ” مدرسة فكرية ” ولا يمكن نسبته إلى أي مدرسة من المدارس الفكرية المعروفة ، ويعود السبب في ضآلة درجة تأثيره إلى الطريقة غير المنهجية التي يعرض بها القصيمي بناءه الفكري ، والأسلوب الشديد الإطناب، والتكرار المستمر لنفس الأشياء ، والطابع الحكمي لكتاباته ، كل ذلك يجعل من الصعب على القارئ فهم ما يقرأ أو ينفره عن التعمق في دراسة مضمون مؤلفاته – هذا أولاً – .
3- يضاف إلى ذلك أن القصيمي لم يحاول أبداً طيلة حياته إلحاق نقده الراديكالي باقتراحات إصلاحية وحتى مطالبته بالمشاركة في الحضارة العالمية المهيمنة ذات الطابع الغربي لم تكن مبنية على معرفة كوسموبوليتية ( عولمية ) تدرك الترابط العالمي للعلاقات ؛ فقد ظل ” الغرب ” عند القصيمي صورة نقيض غير واضح المعالم وإنما له فقط بعض الملامح الخارجية السطحية ؛ ذلك أن تعليمه الإسلامي التقليدي وتربيته الدينية البحتة كانا عائقاً دون وضعه تصورات مستقبلية يمكن أن تكون بديلاً لصورته الدينية السابقة عن العالم .
4- أظهرت القراءات النقدية لأعمال القصيمي المتأخرة أن مناقشة مضمون هذه الكتابات لم يكن سوى دور ثانوي جداً . بل كان الأهم من ذلك الشخص الذي توصل إلى مثل هذه الأقوال .
5- وضع الكاتب نفسه بسبب وضعه اللامنتمي ، والعزلة التامة لمواقفه ، وكذلك عرضه لها بطريقة غريبة ، خارج إطار الخطاب السائد . ولقد سمينا في موقع سابق من هذا الكتاب موقف القصيمي هذا من الخطاب الإسلامي الشائع داخلياً ” حرية المجانين ” .
6- أن الخلافات القائمة داخل الدول العربية وفيما بينها تتيح للمنشقين مساحة معينة من الحرية .
7- أن الآراء التي يعلنها الشخص والآراء التي يحملها فعلاً يمكن أن تكون في كثير من الأحيان شديدة التباين ، كما أن الصداقات والعلاقات الشخصية يمكن أن تكون خارج إطار المواقف الأيديولوجية .
8- أن الحياة الفكرية والثقافية في العالم الإسلامي ليست بأي حال متطابقة مع الإسلام ، أو دينية بلا قيد أو شرط ، أو راكدة فكرياً …
ثم ألحق المؤلف بالكتاب قائمة بمؤلفات القصيمي وأخرى بما كتب عنه حسب تسلسل صدورها .

وبعد فقد بذل الباحث جهداً كبيراً حتى تمكن من وضع بيوغرافيا كاملة تقريباً عن أعمال القصيمي، وكتابة سيرة حياته بصورة خالية نسبياً من الثغرات .
وقد تحلى بالموضوعية- رغم حساسية الموضوع - إلا في بعض الجوانب التي وقع التنبيه عليها في حينها، وهي غير مستغربة من مثله … لكننا نستغرب إعجاب مترجم الكتاب بالقصيمي .. ومع ذلك يجب ألا ننسى أنه قام بعمل جيد ، وإن كان هناك تفاوت في مستوى الجودة ولاسيما في ترجمة النصوص التي لم تتوفر له أصولها … كما أن هناك ملاحظات حول بعض التواريخ وأسماء الأعلام والكتب الواردة في الترجمة؛ فمثلاً :
- ذكر ص 40 : أحمد بن حنبل ، وكتب إلى جواره ( المتوفي عام 558هـ) وهذا خطأ والصحيح لغة وتاريخاً ( المتوفى 855م ).
- ووقع في (ص 82 ) : الفقيه الشعري ( 873- 935) ، والمراد الأشعري أبو الحسن .
- ووقع ( ص 84 ) : فلقد كتب الصوفيون من أمثال البستاني ( المتوفي 874 أو 857 ) وابن أبي الدنيا 0 (المتوفي عام 894 ) عدداً لا حصر لها[كذا ] من الكتب التي تحمل عناوين ، مثل ” إدانة العلم ” أو كتاب” الزهد ” أو ما شابه في هذا الاتجاه . ولعل المراد بـ ” البستاني ” ” الحارث!! المحاسبي ” ( المتوفى 857 م ) ، ولعل المقصود بالكتاب الذي يحمل عنوان ” إدانة العلم ” إدانة العالم، وبالتالي ” ذم الدنيا” ، أما ” إدانة العلم ” حقيقة فلا يوجد - حسب اطلاعي - للمذكورين أو غيرهما من المشاهير كتاب بهذا المعنى ، وإنما هناك كتاب للحارث المحاسبي بعنوان ” العلم ” ( انظر تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين مج 1 ج 4 ص 117) ولابن أبي الدنيا كتاب بعنوان ” ذم الدنيا ” وكتاب بعنوان ” العقل وفضله ” ( انظر مؤلفات ابن أبي الدنيا في مقدمة تحقيق محمد خير رمضان يوسف كتاب الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ) .
- ووقع ص 112 : وهناك رد آخر على ” هذه هي الأغلال ” يلفت الانتباه بضخامته قبل كل شيء وهو من تأليف الكاتب السعودي عبد العزيز السويح النجدي ( المتوفي عام 1369هـ – 1949/1950م) ويحمل عنوان ” بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال ” .
وفي قائمة المراجع عن القصيمي وردت تسميته هذا المؤلف : إبراهيم بن عبد العزيز السويح النجدي، وهذا هو الصحيح كما في كتاب ” علماء نجد خلال ثمانية قرون ” لعبد الله بن عبد الرحمن البسام (1/334 ) ” .
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك .

ملحوظات :

1- أورد المؤلف في آخر كتابه ثبتاً بأسماء مؤلفات القصيمي مرتباً حسب تسلسلها الزمني مع توثيق طبعاتها المختلفة .
2- اعتمد المؤلف في كتابه على عدد من المصادر الهامة من أهمها دراسة جامعية سابقة بالإضافة إلى مصادر شفوية مختلفة شملت الشخصية المدروسة وأهم من أحاط بها في الفترة الأخيرة .
3- يمكن اعتبار مؤلف الرسالة متخصصاً في دراسة شخصية القصيمي إذ كتب رسالته لنيل درجة الماجستير عن أحد أهم كتب القصيمي وهو كتاب ( هذي هي الأغلال ).
4- حدث تصرف في النشرة العربية في عنوان الكتاب فبعد أن نشر بعنوان ( من أصولي إلى ملحد… ) نشر مرة أخرى بعنوان ( القصيمي بين الأصولية والانشقاق ) بدون أدنى إشارة ، مع أن العنوان الأول هو الموافق للنشرة الألمانية للكتاب – الأصل – ، بل يبدو أن الأمر وقع على عجل إلى درجة أن الناشر لم يغير الغلاف الداخلي للكتاب فبقي كما هو بدون تغيير !

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية