بسم الله الرحمن الرحيم

حقائق حول عدم أحقية اليهود في أرض فلسطين
بموجب ما جاء في التوراة والإنجيل وفي آي التنزيل
إعداد: د/ ربيع بن محمد بن علي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية

 


ملحوظة مهمة:
يحق لأية دور نشر ولكل غيور أو فاعل خير أن يقوم بنشر هذا الكتاب وبترجمته لأية لغة في العالم شريطة مراعاة الدقة المتناهية، كما يحق لمن رغب في ذلك القيام بتوزيعه وطبعه للمرة الأولى وذلك دون الرجوع للمؤلف الذي احتسب الطبعة الأولى من هذا العمل لوجه الله تعالى طالباً منه الأجر والمثوبة والقبول، إنه وليّ ذلك والقادر عليه وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

الإهداء
إلى قدس المسلمين التي لا يجوز لأحد تاريخياً ولا دينياً- وبموجب ما جاء في الكتاب المقدس وفي آي التنزيل وعلى ألسنة جميع الأنبياء والمرسلين- أن ينازعهم فيها.
إلى عز الإسلام وفخر المجاهدين ومهد النبوات، إلى زهرة المدائن وعبق التاريخ ومهبط الرسالات.
إلى مهبط الملائكة الأصفياء ومبعث جلّ الرسل والأنبياء ومسرى الرسول ومعراجه إلى السماء.
إلى عزمات صحابة الصادق الأمين، وثمرة كفاح الفاروق أمير المؤمنين، وهمة الصدق في يمين الناصر صلاح الدين، وغضبة الق في سيوف الحفدة الميامين.
*
أول ما تستدعيه الذاكرة المؤمنة عندما تذكر فلسطين .. المسجد الأقصى والقدس الشريف، والسر في ذلك ببساطة شديدة يكمن في ارتباط هذين المكانين بمعتقدات المسلمين وبعباداتهم، وبجهادهم وبقرآنهم وبنبيهم, كما يَمْثل في ارتباطهما بوحدة الدين وانتقال السيادة والإمامة إلى أمة محمد  صلى الله عليه وسلم  لكونها ونبيها أولي الناس بإبراهيم عليه الصلاة والسلام , الذي طلب ذلك لذريته عندما قال له ربه (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي)، فأجابه سبحانه: (قال لا ينال عهدي الظالمين .. البقرة/ 124).
لكن وبتبجح منقطع النظير يتردد دائماً وأبداً علي ألسنة زعماء أبناء صهيون وحاخاماتهم, أن بيت المقدس ملك لشعب يهود, وأن القدس الشريف عاصمة دولتهم المزعومة, ونذكر ضمن هذه التصريحات ما جاء على لسان أحد رؤساء وزرائهم السابقين وهو إيهود باراك الذي لم يكتف بالقول بأن "ستكون هناك أورشليم أكبر مما كانت عليه منذ الملك داود, وستكون موحدة ومعترفا بها من العالم كعاصمة لإسرائيل"، حتى أتبع القول بالعمل فسمح وقت أن كان رئيساً للوزراء لزعيم الحزب المتطرف المعارض والذي أضحى رئيساً للوزراء فيما بعد آريل شارون، باعتباره أول زعيم يهودي يتعامل مع قضية القدس بجدية ويسعى للقضاء على الوجود العربي والإسلامي بها, بإرسال كتيبة من العسكر يبلغ قوامها ثلاثة آلاف, لحمايته أثناء اقتحام المسجد الأقصى في غرة رجب1421هـ الموافق 29سبتمبر لعام 2000م، أي في ذكرى تحرير صلاح الدين للقدس في رجب 583هـ سبتمبر 1187م، ومنذ تلك اللحظة والعالم يشهد - دون أن يحرك ساكناً- حرب الإبادة الجماعية الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني المسلم، وحجم التدمير الذي تتعرض له بلاده بكل همجية وعنصرية، كما يرقب الانحياز الأمريكي الأعمى والصمت الغربي المريب لإسرائيل وما تقوم به من أعمال عدوانية حتى على الأطفال والنساء والعجزة في بقعة هي من أطهر بقاع الأرض.
والأمر الذي ينبغي أن يعيه كل مسلم, أن رفع شعار (أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل الموحدة) والعمل من ثمّ على تحريرها من سكانها العرب والمسلمين .. إنما ينبع لدي أولئك الساسة ورجال الدين من منطلق عقدي هو أنها الأرض التي وعدوا بها على ألسنة رسلهم, وقد تم التخطيط لهذه الانطلاقة منذ بداية هذا القرن على يد (هرتزل) الذي فكر في إقامة دولة يهودية سياسية، ثم عدل عن ذلك لما بدى له معارضة مؤتمر الحاخامات, وعدم رغبة يهود العالم في النزوح عن بلادهم التي استقروا فيها, الأمر الذي دعاه لأن يعمل على تحويل الموضوع من قضية سياسية إلى قضية دينية يلهب بها عواطف جماهير اليهود, وقد رأى أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يناسب هذه الدعوة الجديدة, باعتبارها حسب ما تقضى به عقائد اليهود الباطلة (أرض الميعاد) .
وانتصرت فكرة (هرتزل) التي تضمنت – على ما جاء في وقائع المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في مدينة (بازل) السويسرية في سبتمبر من عام 1898 – قيام دولة إسرائيل في فلسطين بعد خمسين عاماً، وقيام إسرائيل الكبرى التي تشمل على حد زعمهم الحدود التاريخية والدينية الممتدة من النيل إلى الفرات بعد مائة عام- وهي ما تسعى الآن جاهدة في سبيل تحقيقه من خلال غزو العراق عن طريق حلفائها من الأمريكان والغرب المدعومين من حكام العرب الخونة وأنظمة حكمهم المستبدة المذعورة- ودعا هرتزل في سبيل تحقيق فكرته لإزاحة السلطان عبد الحميد الثاني خليفة المسلمين, الذي كان يمثل العقبة الكؤود أمام تحقيق الحلم الصهيوني، وكان لهرتزل فيما بعد ما أراد، فقد احتضن المؤتمر اليهودي العالمي فكرته عام 1905 أي بعد وفاته بسنة واحدة وعمل اليهود من ساعتها على تقويض الخلافة الإسلامية, و ساعدهم في كل هذا ولازالت قوى كبرى حاقدة على الإسلام والمسلمين.
ومن يوم أن وعد (بلفور) وزير خارجية بريطانيا يهود العالم بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين في 2/11/1917 ليعطي من لا يملك من لا يستحق، والأحداث تتواصل بسرعة مذهلة, فما أن أقامت إسرائيل دولتها في 15/5/1948 واعترفت بها روسيا بعد ثمان دقائق, وأمريكا بعد نصف ساعة, وقررتا أن إسرائيل خلقت لتبقى .. حتى دخلت في 5/6/1967م في حرب مع جيرانها من العرب, استولت خلالها على القدس الشريف والضفة الغربية وغزة وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان وأرض سيناء.
ثم ما لبث أن فجع العالم الإسلامي بعدها بـ (مناجم بيجن) يضيف إلى البعد السياسي الذي انتزعه الصهاينة دون أي مستند لوضع القدس، بعدأ آخر دينياً وذلك أثناء تعقيبه على خطاب الرئيس (السادات) أمام الكنيست حيث قال مؤكداً هذا الحق المزعوم:
"إن حق إسرائيل في فلسطين حق أبدى تاريخي تشهد له الكتب, ومنها القرآن نفسه"، وبعد استدلاله بقول الله تعالى على لسان موسى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين .. المائدة/ 21)، أردف يقول "إن الله فرض لنا الأرض المقدسة دون سائر الخلق فلا يجوز لأحد دينيا أن ينازعنا فيها" .
ونسى هذا وكل من يردد قوله أن (الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.. الأعراف/128)، ومصداقه في كتب القوم ما جاء في سفر (لاويون25: 23) من قول الرب في خطابه لبني إسرائيل: "والأرض لا تباع بتةً. لأن لي الأرض وأنتم غرباء ونزلاء عندي"، كما نسي هو وكل من قال بقوله أن سنة الله تقضى بألا يمكن إلا لمن يقيم العدل في الأرض، ويشيع الصلاح بين جنباتها، كي تنسجم حركه الكون مع من فيه، وبذا يعمر الكون بذكر الله، ويشدو من فيه بتوحيده، إذ الكون وما فيه ومن فيه ما خلق إلا لهذا (وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. الإسراء/44)، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.. الذاريات/56).
كما نسي هؤلاء أو تناسوا أن تاريخهم الأسود بماضيه البائس وحاضره اليائس، ملطخ بدماء الأبرياء ومليء بانتهاك حرمات رب الأرض والسماء، ومفعم بالتآمر على أنبياء الله والصلحاء من عباده ومترع بكتمان وتحريف الكلم عن مواضعه وحافل بضروب الظلم ومختلف الجرائم، وتلك أمور تحول- من دون شك ووفق سنن الله في خلقه- دون التمكين في الأرض أو التمايز عن الخلق، ذلك أن الذي فضلهم في وقت من الأوقات على العالمين، ووعدهم- إن هم أقاموا عهده- بالتمكين، هو الذي قضى على ألسنة رسله وفى جميع كتبه- ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه- ألا يمكن إلا لعباده الصالحين، وألا ينال عهده الظالمين، يقول الأعمش سألت سعيد بن جبير عن قول الله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .. الأنبياء/105)، فقال: الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور: الكتب التي نزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك، وبمثله قال ابن جرير والثوري ومجاهد .
وإذا كان أبناء صهيون يدَّعون أن نصوص كتبهم بل ونصوص قرآننا المتبرئ منهم ومن فعالهم تشير إلى وعد قطعه الله على نفسه أن يمكن لإبراهيم ولنسله من بعده في أرض فلسطين (أرض الميعاد)، فإن هناك مجموعة من الحقائق المهمة التي تجدر الإشارة إليها والتذكير بها وتتمثل في:

الحقيقة الأولى:
تعليق موعود الله لبنى إسرائيل على استيفاء شروط: إن وعد الله بالسيادة والإمامة كان بالنسبة لبنى إسرائيل وعداً مشروطاً بتنفيذ التعاليم، وبصون أوامر الرب وبحفظ العهود والمواثيق التي أخذت عليهم، وذلك بعد أن أتى الله إبراهيم رشده وكان عالماَ ببره وإيمانه، وبعد أن منحه أرض الميعاد وجعلها في بنيه وذريته من إسحاق وإسماعيل قائلاَ له .."اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض. فذهب أبرام كما قال له الرب".. هكذا كانت البداية على حد ما جاء في سفر التكوين- أحد أسفار العهد القديم في الكتاب المقدس- الإصحاح 12 العدد1-4.
ولقد أوضح القران ما أوضحته الكتب السماوية الأخرى، أن استخلاف الأرض - سيما أرض الميعاد- لأىٍّ، له ثمن لا بد من دفعه وتحمله، وينحصر ذلك الثمن- باختصار شديد- في عبادة الله وحده وصون أوامره واجتناب نواهيه، وذلك قوله سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.. النور/55)، ولا يبعد أن تكون الإشارة بالاستخلاف لمن قبلنا في الآية، لبني إسرائيل، بل هذا ما جزم به القرطبي وابن كثير وغيرهما وترجح لدى الآلوسي وغيره.
كما ذكر لنا المولى في غير ما سورة، تفاصيل ما كان لذرية إسرائيل بن إسحاق من تمكن إبان فترة صلاحهم، وكيف أن الله أورثهم - بعد أن كانوا مستضعفين-مشارق الأرض ومغاربها، وبوأهم - بعد ذل وقهر من فرعون وملئه- مبوأ صدق، ومكنهم من أرضهم وديارهم وجناتهم، وإن كانت بالنسبة لبني إسرائيل-على ما يبدو - تجربة قاسية وامتحاناً صعباً كشف عن جزعٍ ولؤمٍ في طباع سوادهم الأعظم أحس به موسى عليه السلام حينما بثوا شكواهم إليه من جراء ما عايشوه من بطش قال الله في شأنه: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون* قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين* قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون .. الأعراف/126- 129).
والقصة باختصار أنه لما طال مقام موسى – عليه السلام - ببلاد مصر وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون.. دعا عليهم بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاَ في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.. يونس/88).
وشاءت إرادة الله أن يجيب دعاءه فأمره أن يخرج ببني إسرائيل ليلاَ من مصر وأن يمضي بهم خفية حيث يؤمر، دون إذن من فرعون، الأمر الذي أثار حفيظته، وكان هذا الفرعون الجبار العنيد قد تسلط عليهم، يستعملهم في أخس الأعمال ويكدهم ليلاَ ونهاراَ في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع ذلك أبناءهم ويستحي نساءهم إهانة لهم واحتقاراَ، وخوفاَ من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه، فيكون هلاكه وذهاب دولته على يديه .
وقد كان، فقد أغرقهم الله في اليم الذي فرقه لموسى فجاوزه هو ومن معه من بني إسرائيل، وأقرّ أعينهم وهم ينظرون إلى فرعون وإلى جنده وقد أغرقوا في صبيحة يوم واحد، كما قال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم* وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون .. البقرة/49، 50)، وأورثهم بعد ذلك ديارهم وأموالهم وملكهم بعد أن أخرجهم الله منها كما قال تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون* وكنوز ومقام كريم* كذلك وأورثناها بني إسرائيل.. الشعراء/57-59)، وقال: (كم تركوا من جنات وعيون* وزروع ومقام كريم* ونَعمة كانوا فيها فاكهين* كذلك وأورثناها قوما آخرين.. الدخان25- 28)، وأسبغ الله عليهم - بعد ذلك- نعمه الظاهرة والباطنة والدينية والدنيوية، واستقرت الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها- وإن لم يعودوا إليها بعد خروجهم - وبلاد الشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه كما قال تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.. الأعراف/137)، وقال: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات.. يونس/93)، وتمت إرادة الله الحاصلة في تمكين أهل الحق وإهلاك أهل الباطل والماثلة في قوله سبحانه: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكن لهم في الأرض ونريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون.. القصص/5، 6) .
ولكن ظلت نفوس بنى إسرائيل مع كل ذلك مشرأبة ومتطلعة وطالبة بلاد المقدس التي قصدها من قبل جدهم إبراهيم عليه السلام، مهاجراَ من وطنه الأصلي بالعراق ووعدهم ضمن من وعدهم بها، وجاءت الأوامر إثر ذلك تتراَ على يد وعلى لسان نبيهم موسى عليه السلام على ما ورد في نصوص كتبهم من نحو ما جاء في الإصحاح 6 العدد17، 18من سفر التثنية أن "احفظوا (أي إن كنتم تريدون ذلك) وصايا الرب إلهكم وشهاداته وفرائضه التي أوصاكم بها . واعمل الصالح في عيني الرب لكي يكون لك خير وتدخل وتملك الأرض الجيدة التي حلف الرب لآبائك"، وما جاء في الإصحاح السابع منه في العدد11- 16"احفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها. ومن أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظون وتعملونها يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان اللذين أقسم لآبائك. ويحبك ويباركك ويكثرك ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك.. ونتاج بقرك وإناث غنمك على الأرض التي اقسم لآبائك أنه يعطيك إياها. مباركاً تكون فوق جميع الشعوب لا يكون عقيم ولا عاقر فيك ولا في بهائمك. ويرد الرب عنك كل مرض وكل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها لا يضعها عليك بل يجعلها على كل مبغضيك. وتأكل (أي وتفني) كل الشعوب الذي الرب إلهك يدفع إليك".
ومما يتضح منه كذلك أن الوصية بالوعد بتوريث الأرض مشمولة بالوعيد إذا انقلبوا، ما جاء في الإصحاح 4 من العدد 25-27من سفر التثنية "إذا ولدتم أولاداً، وأولاد أولاد، وأطلتم الزمان في الأرض وفسدتم وصنعتم تمثالاً منحوتاً صورة شيء ما، وفعلتم الشر في عيني الرب إلهكم لإغاظته. أشهد عليكم اليوم السماء والأرض أنكم تبيدون سريعا عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها. لا تطيلون الأيام عليها بل تهلكون لا محالة. ويبددكم الرب في الشعوب فتبقون عدداً قليلاً بين الأمم التي يسوقكم الرب إليها" ، وما جاء في الإصحاح8 العدد17- 20من نفس السفر: "لئلا تقول في قلبك: قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة. بل اذكر الرب إلهك أنه هو الذي يعطيك قوة لاصطناع الثروة لكي يفي بعهده الذي أقسم لآبائك كما في هذا اليوم. وإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة. كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم".
ونظير ذلك نطقت به التوراة السامرية ، وفيها على غرار ما جاء في نص العبرانية الأخير: "ولئلا تقول في سرك حيلي وعظم يدي اصطنعت لي الأيسار هذا. بل تذكر الله إلهك أنه المعطي لك القدرة على اكتساب الغنى حتى يثبت عهده الذي أقسم لآبائك، لإبراهيم ولإسحاق وليعقوب كاليوم هذا. وتكون إن نسيان تنسي الله إلهك فتضل في اتباع آلهة آخر وتعبدها وتسجد لها، أشهدت عليكم اليوم، أن هلاكا تهلكون. كالشعوب الذين الله مهلك من قدامكم كذلك تهلكون جزاء أن لم تسمعوا من أمر الله إلهكم"، وفى الإصحاح التاسع منها 4-6 "لا تقل في سرك إذ يدفع الله إلهك إياهم من بين يديك قولاً: لزكاتي أدخلني الله لوراثة الأرض هذه، ولفجور الشعوب هؤلاء الله قارضهم من بين يديك. ليس بزكاتك ولا بسلامة قلبك أنت داخل لوراثة أرضهم، بل لفجور الشعوب هؤلاء الله قارضهم من بين يديك وحتى يثبت الأمر الذي أقسم لآبائك لإبراهيم ولإسحاق وليعقوب. فاعلم أن ليس لزكاتك الله إلهك معطيك الأرض الحسنة هذه وراثة إذ شعب قاسى العرف أنت"، وفي العدد الأول من نفس النسخة والسفر والإصحاح: "كل الوصايا التي أنا موصيك اليوم تحفظون للامتثال حتى تبقوا وتكثروا وتدخلوا وترثوا الأرض التي أقسم الله لآبائكم".
وفي مثيلها من التوراة العبرانية: "جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم تحفظون لتعملوها لكي تحيوا وتكثروا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم"، وفي الإصحاح 11عدد8، 9تثنية: "احفظوا كل الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم لكي تتشددوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي انتم عابرون إليها لتمتلكوها. ولكي تطيلوا الأيام على الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيها لهم ولنسلهم أرضاً تفيض لبناً وعسلاً".
وفى سفر اللاويين 20: 22-24 "تحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي وتعملونها لكي لا تقذفكم الأرض التي أنا آت بكم إليها لتسكنوا فيها. ولا تسلكون في رسوم الشعوب التي أنا طاردهم من أمامكم، لأنهم قد فعلوا كل هذا فكرهتهم. وقلت لكم ترثون أنتم أرضهم وأنا أعطيكم إياها لترثوها أرضا تفيض لبناً وعسلاً، أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب".
وليس هناك أكثر صراحة في تعليق الجواب علي الشرط وتوقف التمكين - سواء الذي حدث لهم أيام موسى وما أعقبها أم في عهد سليمان- على أمر الطاعة وحفظ الوصايا، مما جاء في سفر الملوك الأول9: 3-9في مخاطبة الله لسليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وفيه: "قال له الرب قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعتَ به أمامي، قدستُ هذا البيت الذي بنيتَه لأجل وضع اسمي فيه إلي الأبد وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام. وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلب واستقامةٍ وعملت حسب كل ما أوصيتك وحفظت فرائضي وأحكامي. فإني أقيم كرسيَّ ملكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلمت داود أباك قائلأً: لا يعدم لك رجل عن كرسيّ إسرائيل. إن كنتم تنقلبون أنتم أو آبناؤكم من ورائي ولا تحفظون وصاياي – فرائضي- التي جعلتها أمامكم بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها. فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي ويكون إسرائيل مثلا وهزأة في جميع الشعوب. وهذا البيت يكون عبرة، كل من يمر عليه يتعجب ويصْفُرُ ويقولون لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت. فيقولون من أجل أنهم تركوا الرب إلههم الذي أخرج آباءهم من أرض مصر وتمسكوا بآلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوها، لذلك جلب الرب عليهم كل هذا الشر".
وفي سفر التثنية 30: 15-20على لسان موسى عليه السلام: "أنظر، قد جعلتُ اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر. بما أنى أوصيتك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها. فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها. فإني أنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلكون، لا تطيل الأيام على الأرض التي أنت عابر الأردن لكي تدخلها وتمتلكها. أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك. إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك والذي يُطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم إياها".
والسؤال: هل وفي بنو إسرائيل بعهودهم ومواثيقهم؟ وهل نفذوا تعاليم دينهم؟ وهل التزموا بأوامر أنبيائهم؟ وهل تغير حال أشياعهم .. في واقعنا المعاصر عن حال أسلافهم في الأزمان الغابرة؟.

الحقيقة الثانية
إخلال بني إسرائيل بشروط موعود الله:
إن الجواب المنصف عن الأسئلة ـ سالفة الذكر ـ والبعيد عن كل تعصب، يدعونا لأن نسوق ـ لإثبات نقض سوادهم الأعظم لجميع المواثيق وخرقهم لجميع العهود وعصفهم بجميع الأوامر وتآمرهم على جميع الأنبياء ـ طرفاً مما جاء في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم، ذلك أن ما أحدثه الله لبنى إسرائيل من نعم وتمكين ومن إنجاء وتفضيل على العالمين، كان ينبغي أن يقابل بالشكر والاعتراف بالجميل والانكباب على عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، لكن ما حدث منهم كان على العكس من ذلك تماماً فقد وقع منهم ما أحس به موسى عليه السلام وما تخوف منه، فما أن تجاوزوا معه البحر قاصدين ما اشرأبت إليه نفوسهم وتطلعت إليه أفئدتهم من دخول الأرض المقدسة، حتى تناسوا كل ما أوصاهم به ربهم على لسانه، وراحوا وهم في صحبته يؤملون أنفسهم بعبادة الأصنام بل وشرعوا- دون ما حياء ولا استحياء- يطلبون ذلك منه، وفي ذلك يقول سبحانه: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون* إن هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون* قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين .. الأعراف/138-140).
وبعد أن قال لهم موسى كلمته ووعظهم بأن ما يطلبونه يعد جهلاً فاضحاً يجب أن يربأوا بأنفسهم عنه، وبعد أن أوصاهم وأرشدهم لما فيه صلاحهم، تعجل الذهاب لملاقاة ربه تحرقا وشوقا وطلبا لرضاه، واستخلف عليهم أخاه هارون ورجاه الترفق بهم ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد، لكن أنى لهارون ولا لمئات أو حتى لآلاف من مثله أن تفلح دعوتهم مع قوم يجرى الكفر وإغاظة الرب به في نفوسهم مجرى الدم في العروق، لقد تحدثت جميع الكتب السماوية عما جرى من بنى إسرائيل عقب ذلك وذكرت أنه ما أن ذهب موسى لميقات ربه حتى أعلمه سبحانه من هناك بأن قومه اتبعوا السامري واتخذوا العجل معبوداً لهم من دون الله ، وذلك بعد أن فشلت معهم دعوة هارون وبعد قوله لهم: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري .. طه/90)، وبعد أن كان جوابهم له (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى .. طه/91)، الأمر الذي أوقع هارون في حرج مع أخيه موسى ظناً من الأخير أن هارون قصر في نهيهم عن عبادة العجل أو لم يحسن تنفيذ ما كلفه به في قوله: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين .. الأعراف/142)، أو خشية أن يقول له: (فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .. طه/94).
وكان حاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل! وذلك بعد أن صاغوه من الذهب والحلي الذي استلبوه من مصر واصطحبوه معهم، وكان هارون قد أشار عليهم أن يلقوا به في حفرة فيها نار فيجعلونه سبيكة واحدة حتى إذا رجع موسى عليه السلام رأى فيه ما يشاء ، لكن كان ما حكاه القرآن في قوله سبحانه: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً)، أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله، وقيل هو ما وعدهم به سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الأيمن، وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن، وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته، (أفطال عليكم العهد)، بنسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي .. طه/86) ، وكان الغضب الذي أصابهم بإرادتهم وافترائهم أن أذلهم الله ولم يقبل منهم توبة حتى يقتل بعضهم بعضاً كما قال تعالى: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم .. البقرة/54).
وجاءت تصريحات التوراة والإنجيل والقرآن بعبادة القوم ومن تلاهم من الأبناء والأحفاد لغير الله وبقتلهم الأنبياء بغير حق وبنقضهم المواثيق التي أخذها الله عليهم في معظم فترات حياتهم، مما يعنى أن ما حُكى عنهم في هذا الصدد مما لا يستطيعون إنكاره أو تكذيبه هو الذي أدي بهم إلى إيقاع وعيد الله بهم من تشتيت ومحق كانوا هم السبب فيه.
ففي سفر الملوك الثاني 17: 11- 20 "عملوا أموراً قبيحة لإغاظة الرب. وعبدوا الأصنام التي قال الرب لهم عنها لا تعملوا هذا الأمر. وأشهد الرب على إسرائيل وعلى يهوذا ـ أي بنيهما ـ عن يد جميع الأنبياء وكل راء قائلا: ارجعوا عن طرقكم الردية واحفظوا وصاياي- فرائضي- حسب كل الشريعة التي أوصيت بها آباءكم والتي أرسلتها إليكم عن يد عبيدي الأنبياء. فلم يسمعوا بل صلبوا أقفيهم كأفقية آبائهم الذين لم يؤمنوا بالرب إلههم. ورفضوا فرائضه وعهده الذي قطعه مع آبائهم وشهاداته التي شهد بها عليهم وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً وراء الأمم الذين حولهم الذين أمرهم الرب أن لا يعملوا مثلهم. وتركوا جميع وصايا الرب إلههم وعملوا لأنفسهم مسبوكات عجلين وعملوا سواريَ وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل. وعبّروا بنيهم وبناتهم في النار وعرفوا عرافة وتفاءلوا وباعوا أنفسهم لعمل الشر في عيني الرب لأغاظته. فغضب الرب جداً علي إسرائيل ونحاهم من إمامه ولم يبق إلا سبط يهوذا وحده. ويهوذا أيضا لم يحفظوا وصايا الرب إلههم بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها. فرذل الرب كل نسل بني إسرائيل وأذلهم ودفعهم ليد ناهبين حتى طرحهم من أمامه"، فهل بعد تحدي الرب وإغاظته وإعلان الكفر به وعبادة العجل والأصنام وجند السماء وغير ذلك من دونه، من ذنب؟.
وعلى لسان موسى كليم الله ورد في سفر التثنية 9: 23، 24 "عصيتم قول الرب إلهكم ولم تصدقوه ولم تسمعوا لقوله. قد كنتم تعصون الرب منذ يوم عرفتكم"، وفيه31: 27-30 يقول: "إني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة، هو ذا وأنا بعد حيّ معكم، اليوم قد صرتم تقاومون الرب، فكم بالحريّ بعد موتي. اجمعوا إلىّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليكم السماء والأرض .لأني عارف أنكم بعد موتى تفسدون وتزيغون عن الطريق ألذي أوصيتكم به ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم. فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه"، وأقام عليهم بذلك حجة الله.
وعلى لسان عيسى روح الله جاء في إنجيل متى 23: 31-33 "أنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء . فاملأوا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم".
وما بين هذين النبيين من أولي العزم، من زمن امتد بهم عشرات القرون، و ضم خلاله مئات بل آلاف الأنبياء، (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون .. المائدة/70).
ونذكر مما ورد على لسان بعض أولئك الأنبياء وفي أسفارهم ما جاء في سفر يشوع 7: 10-11من قول الله له: "قال الرب ليشوع: قم لماذا أنت ساقط على وجهك. قد أخطأ إسرائيل بل تعدوا عهدي الذي أمرتهم به بل أخذوا من الحرام بل سرقوا بل أنكروا"، وسفر الملوك الأول 19: 9-10من قول الرب لإيليا (إلياس عليه السلام): "ما لك ههنا يا إيليا. فقال: قد غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بنى إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها"، وسفر إشعياء وعلى لسانه 28: 14-15 في عبارات تحمل البشارة بمقدم النبي محمد صلي الله عليه وسلم منقذ البشرية من شرورهم: "اسمعوا كلام الرب يا رجال الهُزء ولاةَ هذا الشعب الذي في أورشليم. لأنكم قلتم قد عقدنا عهداً مع الموت وصنعنا ميثاقاً مع الهاوية، السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا لأننا جعلنا الكذب ملجأنا وبالغش استترنا"، "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع. لأن أيديكم قد تنجست بالدم وأصابعكم بالإثم، شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر. ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق يتكلمون على الباطل ويتكلمون بالكذب.. أعمالهم أعمال إثم وفعل الظلم في أيديهم. أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدماء الزكي، أفكارهم أفكار إثم، في طرقهم اغتصاب وسحق. طريق السلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة كل من يسير فيها لا يعرف سلاماً. من أجل ذلك ابتعد الحق عنا ولم يدركنا العدل" إشعياء59: 2-4، 6-9، وسفر إرمياء 2: 4-5-7-9-10 وعلى لسانه في عبارات تحمل أيضاً الإشارة والبشارة بمقدم رسول الرحمة وخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه ونبي من هم أهل لحمل رسالة الله وتنفيذ أوامره ووصاياه: "اسمعوا كلمة الرب يا بيت يعقوب وكل عشائر بيت إسرائيل.. ماذا وَجد فيّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا عني وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً .. وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها فأتيتم ونجستم أرضي وجعلتم ميراثي رجساً.. لذلك أخاصمكم بعد يقول الرب، وبني بنيكم أٌخاصم. فاعبروا جزائر كتيم وانظروا وأرسلوا إلى قيدار"، يعني جد النبي محمد من جهة إسماعيل، كناية عن إرساله- صلى الله عليه وسلم - وتحول النبوة إليه بدل بني إسرائيل، و(تكتم) اسم بئر زمزم سميت بذلك لأنها كانت اندفنت بعد جرهم، فصارت مكتومة حتى أظهرها عبد المطلب، وفي حديث زمزم: (إن عبد المطلب رأى في المنام قيل: احفر تكتم بين الفرث والدم) .
وفي أرميا 3: 20-21 حكاية عن جرائمهم: "حقاً إنه كما تخون المرأة قرينها هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب..عوّجوا طريقهم نسوا الرب إلههم"، وفي 5: 19- 21-22-23-25منه "تقولون لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه، نقول لهم كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم .. اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون. أإياي لا تخشون.. وصار لهذا الشعب قلب عاص ومتمرد، عصوا ومضوا .. آثامكم عكست هذه وخطاياكم منعت الخير عنكم"، وفي 19: 5-6- 7-11-15 منه "وبنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا أبنائهم بالنار- يعني جهنم لأنهم تسببوا لهم في ذلك- محرقات للبعل الذي لم أوصِ ولا تكلمت به ولا صعد على قلبي. لذلك ها أيام تأتي .. أنقض مشورة يهوذا وأورشليم في هذا الموضع وأجعلهم يسقطون بالسيف أمام أعدائهم وبيد ظالمي نفوسهم وأجعل جثتهم أُكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض .. هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يُكسر وعاء الفخاري بحيث لا يمكن جبره بعد، وفي توفة يدفنون حتى لا يكون موضع للدفن.. هاأنذا جالب على هذه المدينة وعلى كل قراها كل الشر الذي تكلمت به عليها لأنهم صلبوا رقابهم فلم يسمعوا لكلامي".
وفي سفر حزقيال 22: 3-9، 12، 15، 16خطاباً لمن سكن منهم أورشليم القدس: "أيتها المدينة السافكة الدم .. الصانعة أصناماً لنفسها لتتنجس بها. قد أثمت بدمك الذي سفكت ونجست نفسك بأصنامك التي عملت وقربت أيامكِ وبلغت سنيّكِ فلذلك جعلتكِ عاراً للأمم وسخرة لجميع الأراضي. القريبة إليك والبعيدة منك يسخرون منك يا نجسة الأمم يا كثيرة الشغب. هو ذا رؤساء إسرائيل كل واحد حسب استطاعته كانوا فيك لأجل سفك الدم. فيك أهانوا أباً وأماً، في وسطك عاملوا الغريب بالظلم، فيك اضطهدوا اليتيم والأرملة.ازدريتِ أقداسي ونجست سبوتي. كان فيك أناس وُشاةٌ لسفك الدم وفيك أكلوا على الجبال، في وسطك عملوا رذيلة.. فيك أخذوا الرشوة لسفك الدم، أخذتِ الربا والمرابحة وسلبت أقرباءكِ بالظلم ونسيتني.. أبددك بين الأمم وأذرِّيك في الأراضي وأزيلُ نجاستك منك. وتتدنسين بنفسك أمام عيون الأمم، وتعلمين أني أنا الرب"، وبداهة أن يكون الكلام لمن يقطنونها من بني إسرائيل.
وفي سفر دانيال وعلى لسانه9: 4-9، 11 جاء قوله "صليت إلى الرب إلهي، واعترفت وقلت: أيها الرب .. أخطأنا وأثمنا وعملنا الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك. وما سمعنا من عبيدك الأنبياء .. كل إسرائيل قد تعدى على شريعتك وحادوا لئلا يسمعوا صوتك، فسكبت علينا اللعنة والحلف المكتوب في شريعة موسى عبد الله لأننا أخطأنا إليه.."، وفي سفر هوشع وعلى لسانه 4: 1-3: "اسمعوا قول الرب يا بني إسرائيل، إن للرب محاكمة مع سكان الأرض لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض. لعنٌ وكذب وقتل وسرقة وفسق يعتنقون، ودماء تلحق دماء. لذلك تنوح الأرض ويذيل كل من سكن فيها مع حيوان البرية وطيور السماء، وأسماك البحر أيضا تنتزع".
وفي سفر عاموس2: 4 "رفضوا ناموس الله ولم يحفظوا فرائضه وأضلتهم أكاذيبهم التي سار آباؤهم ورائها"، وفي سفر يونان بن أمتّاي(يونس بن متى) عليه السلام 1: 1 قال له الرب: "قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه صعد شرهم أمامي"، وفي سفر ميخا 3: 9-11وعلى لسانه: "اسمعوا هذا يا رؤساء بيت يعقوب وقضاة بيت إسرائيل الذين يكرهون الحق ويعوجون كل مستقيم. الذين يبنون صهيون بالدماء وأورشليم بالظلم. رؤساؤها يقضون بالرشوة، وكهنتها يعلمون بالأجرة".
وفي سفر حبقوق 2: 12 "ويل للباني مدينة بالدماء وللمؤسس قرية بالإثم"، وفي سفر صَفَنْيَا 3: 1-4 "ويل للمتمردة المنجسةِ المدينة الجائرة. لم تسمع الصوت لم تقبل التأديب لم تتكل على الرب لم تتقرب إلى إلهها. رؤساؤها في وسطها أسود زائرة قضاتها ذئاب مساء لا يبقون شيئاً إلى الصباح .. كهنتها نجسوا القدس خالفوا الشريعة"، وفي سفر زكريا: 7: 9-12، 14 "اقضوا قضاء الحق واعملوا إحسانا ورحمة، كل إنسان مع أخيه. ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير ولا يفكر أحد منكم شراً على أخيه في قلبكم. فأبوا أن يُصغُوا وأعطوا كتفاً معاندة وثقلوا آذانهم عن السمع. بل جعلوا قلبهم ماساً لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود.. وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم، فخربت الأرض ورائهم لا ذاهب ولا آئب فجعلوا الأرض البهجة خراباً".
وفي سفر ملاخي 2: 8، 9، 17 وعلى لسانه: "أما أنتم فحدتم عن الطريق وأعثرتم كثيرين بالشريعة.. فأنا أيضا صيرتكم محتقرين ودنيئين عند كل الشعب كما أنكم لم تحفظوا طرقي بل حابيتم في الشريعة.. لقد أتعبتم الرب بكلامكم وقلتم بم أتعبناه، بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح في عيني الرب وهو يسرّ بهم. أو أين إله العدل"، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وعلى غرار ذلك وردت آيات كثيرة توضح هي الأخرى نقض بنى إسرائيل للمواثيق والعهود، بل وتنص على كثير مما تضمنته تلك المواثيق من بنود كم كانت ستعود عليهم بالخير والنفع في أمور دينهم ودنياهم وأخراهم لو أنهم أقاموا حكم الله فيها، لكن لتوليهم وعصيانهم عوقبوا من الله بما استحقوا، نذكر من ذلك قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون* ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين* ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين .. البقرة/63-65)، (وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون* وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون* ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان.. البقرة/83-85)، (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم.. البقرة/93)، (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً* فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيماً* وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.. النساء/154-157)، (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل* فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم .. المائدة/12-13)، والآيات في ذلك في القرآن وفي الأسفار أكثر من أن تعد، وحسبنا منها ما ذكرنا.
فأنى لقوم لم يحققوا في أنفسهم فعل الشرط أن يتحقق لهم من قِبل الرب أو ينتظروا منه جوابه وجزاءه؟.

الحقيقة الثالثة:
(موعود الله لبنى إسرائيل موقوت بفترة زمنية محددة)
وكما كان وعد الله لبنى إسرائيل مشروطا بوصايا وبعهود لم يصونوها، ومنوطا بتعاليم ومواثيق لم يراعوها.. فقد كان مرهوناً كذلك وموقوتا بفترة زمنية محددة، شاء الله لها أن تختم بنبي الله عيسى عليه السلام الذي تآمر بنو إسرائيل على قتله هو الآخر وصلبه- كما تآمروا على قتل غيره- لولا أن رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره.
لذا كان مجيء عيسى عليه السلام- بعد أن تناوب عليهم ومن بنى جلدتهم لكن دون جدوى عدد غير قليل من الأنبياء والمصلحين - كان مجيئه محاولة أخيرة لإرجاعهم إلى سابق عهدهم حتى ينزعوا إلى صبغة الله، ولا يرغبوا عن ملة آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وتمهيداً في الوقت ذاته لمرحلة جديدة يتوقف عندها وحي السماء إلى الأرض، وتستمر بالتالي إلى الأبد، الأمر الذي ينذر بخطورة ما وصل إليه القوم من ختم على القلوب من جراء غلقها أمام كل خير، ويؤذن بفقدان الأمل في إرجاع الأمر على يد هؤلاء مرة ثانية إلى ما كان عليه، ويعنى كذلك- وهذا هو الأهم- أن انتهاء مدتهم التي قدرها الله لهم لوراثة الأرض والنبوة له ما يبرر.
ويفسر لنا ذلك- أعني فقدان الأمل في إصلاح بن إسرائيل - سر تركيز دعوة عيسى عليه السلام على التبشير بنبي آخر الزمان ففي إنجيل يوحنا 14: 15-17، 26، 29، 30وما بعدها يقول لحوارييه: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم .. وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم... وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون. لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً لآن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء"، وفيه15: 26-27"متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء"، وفيه على لسان المسيح عليه السلام 16: 5-8، 12-14 "أما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم. لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن انطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يوبخ العالم .. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" .
فقول عيسى عليه السلام: إن الآب "يعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد"، إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر، ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم أنه بقاء شرعه وأمره، وهذا يبين أن المبشر به المشار إليه بقول عيسى: (معزياً آخر)، صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف المتحدِث بذلك وهو عيسى نفسه الذي أعلن عن انتهاء مهمته التي أوكلها إلى صاحب البشرى صلى الله عليه وسلم، كما يبين أن هذا الآخر المزمع مجيئه لم يكن معهم في حياة عيسى وإنما يكون بعد ذهابه وتوليه عنهم، وذلك كله- بالطبع- مما لا ينطق إلا على محمد صلوات الله عليه، القائل عن نفسه: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى)، كما ينطبق على أمته وعلى كل من آمن من أهل الكتاب بدعوته.
ومصداق ذلك فيما جاء في كتب القوم ما ورد في سفر التكوين49: 10 "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب"، أي يزول الملك من اليهود بأسرهم بعد فترة من الزمان وعلى وجه التحديد بعد تمام حكم موسى وعيسى - عليهما السلام- وإلى أن يتم ذلك فسيظل ملك اليهود في سلالة يهوذا أكبر أبناء سيدنا يعقوب وسيكون آخر عهدهم بالملك والنبوة على يد (المشترع) إشارة إلى المسيح عيسى- عليه السلام- فإذا جاء بنى الإسلام (شِيلون) الذي استعلن – بالفعل- من جبال فاران والذي اجتمعت إليه - حقاً - بعد انتظار، شعوب العالم، والذي خضعت له – صدقاً- عن طريق الفتوحات سائر الأمم .. يزول ملك بني إسرائيل ويبطل العمل بالتوراة .
وابتناء على ما سبق فإرسال محمد بن عبد الله عليه السلام يعد من دلائل صدق عيسى وموسى- عليهما السلام - ولو لم يظهر لبطلت نبوتهما بل ولبطلت نبوات الأنبياء لتبشيرهم جميعا بنبوته عليه السلام، وذلك قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ..آل عمران/81)، فظهور نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تصديق لنبوآتهم وشهادة لها بالصدق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله: (بل جاء بالحق وصدق المرسلين.. الصافات/37)، فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيؤه تصديق لهم إذ هو تأويل ما أخبروا به، كما أن تصديقه المرسلين شهادة منه بصدقهم وإيمان بهم، وعليه فصدقهم كان بمجيئه وبشهادته، ومثل هذا قول المسيح لبني إسرائيل: (إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يديه من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.. الصف/6)، فإن التوراة لما بشرت بعيسى عليه السلام وبنبوته، كان نفس ظهوره تصديقاً للمرسلين من قبله، ثم لما بشر عيسى عليه السلام برسول يأتي من بعده اسمه (أحمد) كان ظهور هذا الأخير المبشر به تصديقاً لعيسى، كما كان ظهوره تصديقاً كذلك للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق ، والله سبحانه لا يخلف وعده ولا يكذب خبره .
وقد أدرك هذه الحقيقة كل من آمن من أحبار اليهود وقساوسة النصارى وغيرهم من دعاة الحق والخير والصلاح والإصلاح بل وشهد لهذه الحقيقة ذاتها كل من أقر بنبوته ممن لم يدركه، أو سمع به وكان مانعه من الإيمان به الحقد والبغي والحسد، أو خوف ضياع الملك والسيادة .
ونذكر من ذلك فيما يخص قضية انتقال موعود الله لبني إسماعيل، ما جاء عن يونس بن بكير عن سلمة بن يسوع عن جده قال: قال يونس، وكان نصرانيا فأسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران: (بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران، سلم أنت، إني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد:- فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب.. والسلام)، فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به وذُعر ذُعراً شديداً، فبعث إلى رجل من أهل عمان يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان، ولم يكن أحد يدعى إلى معضلة قبله، فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه، فقال الأسقف: ما رأيك يا أبا مريم؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة .. إلى آخر ما جرى بينهما.
ونظيره ما جاء عن محمد بن سعد قال: أخبرنا علي بن محمد عن أبي عبيدة بن عبد الله، وعبد الله بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: سكن يهودي بمكة يبيع بها تجارات، فلما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم من مولود هذه الليلة؟ قالوا: لا نعلمه، قال: انظروا يا معشر قريش وأحصوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة أحمد، وبه شامة بين كتفيه فيها شعرات ، فتصدع القوم من مجالسهم وهم يعجبون من حديثه، فلما صاروا في منازلهم ذكروه لأهاليهم، فقيل لبعضهم: ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام وسماه محمداً فأتوا اليهودي في منزله، فقالوا: علمنا أنه ولد فينا غلام، فقال: أبعد خبري أم قبله؟ فقالوا: قبله واسمه محمد، فقال فاذهبوا بنا إليه، فخرجوا حتى أتوا أمه فأخرجته إليهم فرأى الشامة في ظهره فغُشى على اليهودي، ثم أفاق، فقالوا: ما لك؟ ويلك! فقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل وخرج الكتاب من أيديهم، ففازت العرب بالنبوة، أفرحتم يا معشر قريش؟ أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب" ، وهذا هو دأبهم مع الحق وأهله، يعرفون الحق ويكيدون لأهله بغياً وحسداً من عند أنفسهم غير مكتفين بكفرهم به.
وفي إنجيل متى 21: 33وما بعدها "كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى بُرجاً وسلمه إلى كرامين وسافر. ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً. ثم أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين، ففعلوا بهم كذلك. فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني. وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بألئك الكرامين. قالوا له: أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها. قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب، كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره".
فالكرم- كما هو بيّن في هذا المثل المضروب ومؤيد بنصوص أخرى في أسفار العهد القديم والعهد الجديد من الكتاب المقدس - كناية عن الأرض المقدسة، والكرامون والبناؤون هم بنو إسرائيل الذين أرسل الله أنبياءه (عبيده) إليهم المرة تلو المرة، فاعتدوا عليهم بالقتل والجلد والرجم، إلى أن أرسل الله عيسى عليه السلام الابن والوارث ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في الأرض المقدسة ليكونوا معه فيذعنوا له ويؤمنوا به ويتبعوه، لكنهم بدل ذلك أخذوه خارج الكرم وقتلوه بحسب فهمهم أنهم قتلوا المسيح.. والحجر الذي رفضه البناؤون كناية عن سيدنا إسماعيل وأولاده من أمة العرب التي على رأسها ومن خيارها محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك أن إسماعيل رفضته السيدة سارة امرأة أبيه رفضته هو وأمه، لكن الزمان يدور في نهاية الأمة الإسرائيلية ويعود بنو إسماعيل والمسلمون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيصيرون هم رأس الزاوية في الأهمية بالنسبة لله .
وهنا يستطرد السيد المسيح مصرحاً بذلك وكاشفاً عما يرمى إليه هذا المثل وموجهاً الكلام إلى تلامذته الذين هم من بنى إسرائيل، فيخبرهم بأن ملكوت الله المتمثل في إرث الأرض والنبوة سينزع من بنى إسرائيل ليعطى لأمة إسماعيل لتعمل أثماره ، ولتصير رأس الزاوية من قِبَل الرب، وفى ذلك بيان شافٍ كافٍ لمن يستحق الوعد ويخلف بنى إسرائيل فيه من بعد انقضاء مدتهم في مكنون علم الله سبحانه.
فهل يعقل معشر يهود وفى مقدمتهم أولئك الزاعمين ملكية بيت المقدس من الحاخامات ومن والاهم من المتعصبين والمتشنجين، هذا المثل المضروب لهم، فيكفوا عن المطالبة بما ليس لهم بموجب ما جاء في الكتاب المقدس وعلى ألسنة أنبيائهم؟ وهل حان الوقت لكي يعِ أولئك المعتدون على الحرمات والمقدسات وأصحاب الأرض، ما جاء في كتبهم وما شهد به كبراؤهم وأحبارهم ممن زامنوا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورأوا فيه من العلامات ما جعلهم يقرون ويعترفون بحقيقة الأمر؟ أم أن ما فشل فيه الأسلاف الذين رفضوا الإذعان لأمر موسى بدخول الأرض المقدسة- التي هي في الأصل أرض عربية- قائلين له: (أنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا أنا ههنا قاعدون .. المائدة/24)، يريد الخارجون على تعاليم الرب والمتمردون على أوامره من الأحفاد عن طريق القتل والتشريد والمذابح الجماعية وسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل أن يحرزوا بعد فوات الأوان قصب السبق في سلبه ونهبه؟.
على أن موعود الله لبني إسرائيل لم يكن مقصوراً على ذلك الوعد الموقوت بامتلاك الأرض وتوريث النبوة، الذي كان لهم قبل تحوله عنهم، فقد وعدهم الله كذلك بمحبته إن هم آمنوا به وحفظوا وصاياه، كما وعدهم إن هم فعلوا ذلك وآمنوا برسله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، بالرزق الوفير وبتكفير السيئات وبدخول الجنة، سواء كان ذلك قبل انتقال موعوده لهم بالأرض والنبوة وتحوله عنهم أم بعده، جاء ذلك على لسان كل من عاصرهم من الأنبياء، فغير ما ذكره موسى مما سقنا بعضه في صورة الشرط والجزاء، جاء على لسان عيسى عليه السلام في إنجيل يوحنا 14: 15 "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي"، وفي القرآن الكريم قوله جل ذكره: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم .. البقرة/40)، وقد نقل القرطبي عن الحسن وقتادة أن المراد بالعهد قوله: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار .. المائدة/12)، ونظيره ما جاء في قوله: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم .. المائدة/65، 66)، والجمهور على أنه عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه، ويدخل في ذلك – بالطبع- الإيمان بمحمد الذي ورد ذكره في التوراة والإنجيل والذي لا يصلح لهم إيمان بغيره ولا تكتب لهم نجاة بسواه .. وعليه فالذي كان من الواجب أن يكون محط اهتمام بني إسرائيل منذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يوم أن يرث الله ومن عليها سيما مدعي التدين منهم ممن هم الآن على قيد الحياة وأخص بالذكر منهم حاخاماتهم ومن أطلقوا على أنفسهم أمناء الهيكل، هو إنفاذ ما تبقى من هذه العهود والوفاء بها، حتى ينالوا الحظوة عند الله، بدلاً من أن يخسروا بفعالهم وعنادهم وجحودهم واعتداءاتهم أجري الدنيا والآخرة بل ويستحقوا مع ذلك وعيده لهم فيهما.

الحقيقة الرابعة:
تفضيل بنى إسرائيل كان مرده التمسك بعهد الله: نفيد مما سبق أن النصوص الدالة في آي الذكر الحكيم على تكريم بنى إسرائيل وتفضيلهم على عالمي زمانهم وتحقيق موعود الله لهم وجعلهم أو بعضاً منهم أئمة يهتدى بهم .. إنما جئ بها- على ما نطقت به آي التنزيل ونصوص الكتاب المقدس- في معرض الامتنان على بنى إسرائيل إبان التزامهم بما كان يأمرهم به الرب سبحانه، وفي غير أوقات انحرافهم أو إقامتهم على المعصية أو إعلانهم الكفر والتأبي على أحكام الله وأوامر أنبيائه .
كما جيء بها كذلك في معرض الحديث عن تميز الطائفة الظاهرة على الحق- والتي عادة ما تكون قليلة العدد- عن الكثرة المنحرفة، وذلك للإعلام- على ما يقتضيه العدل الإلهي والإنصاف- أنه بقدر غلبة الحق وانحسار الباطل والتمسك بعهد الله وميثاقه والإذعان لأوامره وأحكامه والكف عن معاصيه، بقدر ما يكون التفضيل والتمكين.
ومن الآيات التي يتراءى فيها جانب الاصطفاء وإسباغ النعم في ضوء ما ذكرنا، قول الله تعالى: (يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين.. البقرة/47)، وقوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى.. البقرة/57)، وقوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين.. المائدة/20)، وقوله: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.. السجدة/24)، وقوله: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين.. الجاثية/16).
ومن مظاهر تكريم الله لهم على ما ذكر المفسرون أن ناداهم باسم أبيهم الذي هو منشأ فخارهم وأصل عزهم، وأكثر فيهم الأنبياء والملوك وأعطاهم من الفضل والزيادة ما لم يعط غيرهم من شعوب الأرض حتى الأمم ذات الحضارات كالمصريين وسكان الأراضي المقدسة، ومن مظاهره أن جاوز بهم البحر وأخرجهم من مصر بعد أن أنقذهم من بطش فرعون وأشياعه العتاة، وما ذلك كله إلا لنفس الأسباب التي سبق ذكرها.
كما عمّهم سبحانه برحمته وبدعاء صالحيهم حتى في تيههم الذي استمر أربعين سنة والذي كان بين مصر والشام، وذلك عندما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم إثر أمر الله لهم بذلك بناءاً على رغبتهم في دخول الأرض المقدسة، بل وعقب قولهم لموسى بكل جرأة: (إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.. المائدة/24) .. وعندما شكوا إلى موسى ما أصابهم في الصحراء من حر شديد ومن قلة الطعام والشراب، أرسل الله إليهم الغمام يظللهم، وأنزل عليهم المنّ الذي يشبه العسل فكانوا يمزجونه بالماء ويشربونه، وكانت السُّمانى تأتيهم فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه إلى الغد، وأوحى الله إلى نبيه موسى أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم، ومع كل هذه النعم التي تستوجب الشكر والامتثال، فقد قابلوها بالنكران واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعلى الرغم من كل هذا فقد فتح لهم سبحانه باب توبته لهم ووعدهم إن هم دخلوا الأرض المقدسة سجداً طالبين المغفرة بأن يحط عنهم خطاياهم، إلا أنهم ظلوا على ما هم عليه من عدم مراعاة تعاليم الرب ووصاياه، بل استهزءوا بها، وبدل أن يدخلوا باب بيت المقدس منحنين خاضعين دخلوه على أستاههم زاحفين، وبدل أن يقولوا (حطة) أي (حط عنا خطايانا)، قالوا: (حنطة)، وارتكبوا من المعاصي على إثر ذلك ما حجب عنهم تمكينه تعالى من بيت المقدس، وكان ما أخبر الله به في قوله: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين* فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون .. البقرة/58، 59).
وفي النظم الكريم ما يشعر ويومئ من طرف خفي إلى تمايز القلة المتمسكة بأوامر الرب ووصاياه عن الذين ظلموا أنفسهم وبدلوا (قولاً غير الذي قيل لهم)، فقد قرر أهل التأويل أنه لم يدخل الأرض المقدسة المعبر عنها في الآية الكريمة بـ (القرية) من بعد موسى سوى قلة تمثلت- مع النواشئ من ذرياتهم- في يوشع ورجلين أنعم الله عليهما بالإيمان به تعالى والخوف منه، ولم يدخلها أحد ممن قال: (لن ندخلها أبداً)، بل لم يكتف سبحانه بأن حرم عليهم دخولها حتى أهلكهم بالطاعون الذي غدا بسبعين ألف منهم وقيل بأربعة وعشرين ألفاً فجعلهم أثراً بعد عين.
وهنا نبصر من خلال شواهد القرآن الأخرى المتعلقة بهذه الواقعة وكذا شواهد السنة الصحيحة عدل الله المطلق، حيث حرّم سبحانه دخول الأرض المقدسة على الذين نكصوا على أعقابهم على الرغم من أنهم كانوا في صحبة موسى وهارون عليهما السلام وعلى الرغم من دعوة هذين النبيين المباركين لهم ونصحهما إياهم بل وتحايلهما عليهم، في حين مكن ليوشع بن نون الذي قام بالأمر بعد كليم الله موسى عليه السلام فخرج ومعه من تبقى من بنى إسرائيل ممن تشجعوا لدخولها ولم يتفوهوا بما تفوه به سابقوهم، فقصد بهم بيت المقدس، بل وأحدث الله له ولهم من الكرامات ما أعانهم على دخولها في الموعد الذي أرادوه، حتى أن يوشع لما حاصرها بمن معه، وهم بافتتاحها ودنت الشمس للغروب، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، نادى الشمس وقال: إنك مأمورة وإني مأمور فوقفت حتى افتتحها ووجد فيها من الأموال ما لم يُر مثله قط .. وهكذا.
الأمر الذي يعني التنبيه علي أن سنة الله في التفضيل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل لكونه سبحانه لا يفضل بعد الإعذار إلا الفئة المؤمنة الصابرة، إذ حاشاه- جلت قدرته وتعالت حكمته- أن يساوي بين من امتثل لأمره ومن عدل عنه، أو أن يحابى أحداً على حساب أحد، وإنما يتأتى ذلك ممن اختلت عقولهم وموازين العدل عندهم من البشر.
وعليه فدعاوى السابقين من بنى إسرائيل أنهم أبناء الله وأحباؤه، واللاحقين منهم بأنهم شعب الله المختار على ما هم عليه هؤلاء وأولئك من كفر ومعصية، دعاوى زائفة ولا أساس لها في ميزان العدل الإلهي، لذا يقول سبحانه في دحضها: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير .. المائدة/18).
ومصداق ذلك فيما يدينون به ما جاء في سفر التثنية7: 6، 9-11 "لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض .. فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل. والمجازي الذين يبغضونه بوجوههم ليهلكهم، ولا يمهل من يبغضه، بوجهه يجازيه. فاحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها".
وفي الإصحاح الثامن من نفس السفر 1- 3 جاء في خطاب الله لموسى ولمن اعتزم صحبته إلى أرض الميعاد ما نصه: "جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم تحفظون لتعملوها لكي تحيوا وتكثروا وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم. وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يُذِلّكَ ويجرّبك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا . فأذّلّكَ وأجاعك وأطعمك المنّ الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك لكي يعلّمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان".
ولما كان ما كان من أمر نكوصهم "قال له الرب- يعني لموسى- هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينك ولكنك إلى هناك لا تعبُره. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب" تثنية 34: 4-5، أما من كانوا في صحبته عليه السلام فقد كان السبب في حرمانهم دخولها "أن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر حتى فني جميع الشعب رجال الحرب الخارجين من مصر الذين لم يسمعوا لقول الرب الذي حلف الرب لهم إنه لا يريهم الأرض التي حلف الرب لآبائهم أن يعطينا إياها، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. وأما بنوهم فأقامهم مكانهم"سفر يشوع 5: 6-7.
وعن مجازاته سبحانه لمن استنهضهم يوشع بن نون بما يستحقونه من موعوده، جاء في سفر يشوع 21: 43-45 "فأعطى الرب إسرائيل جميع الأرض التي أقسم أن يعطيها لآبائهم فامتلكوها وسكنوا بها. فأراحهم الرب حواليهم حسب كل ما أقسم لآبائهم ولم يقف قدامهم رجل من جميع أعدائهم بل دفع الرب جميع أعدائهم بأيديهم. لم تسقط كلمة من جميع الكلام الصالح الذي كلم به الرب بيت إسرائيل بل الكل صار"، وإنما كان لهم ما أرادوا- فيما يشبه النحو على آبائهم باللائمة أن خالفوا ما أمر به موسى عليه السلام- لأن الذين كانوا مع يشوع "أجابوا يشوع قائلين، كل ما أمرتنا به نعمله وحيثما ترسلنا نذهب. حسب كل ما سمعنا لموسى نسمع لك، إنما الرب إلهك يكون معك كما كان مع موسى. كل إنسان يعصي قولك ولا يسمع كلامك في كل ما تأمره به يقتل"، كذا هو نص يشوع 1: 16-18.

الحقيقة الخامسة:لا محاباة في أن عهد الله لا يناله الظالمين:
واتّباعاً لهذه السنة الماضية- سنة تفضيل الله وإنجائه للطائفة المؤمنة، قليلة العدد والعدة- واستكمالا للحديث عن الشق الثاني منها والذي جاء ذكره في مثل قول الله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.. الأنعام/116)، وقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين.. يوسف/103)، وقوله: (فأبى أكثر الناس إلا كفوراً.. الفرقان/50)، وقوله: (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين.. الصافات/71)، إلخ.. نقول أن جرائم بنى إسرائيل التي تعدت كل وصف وفاقت- كماً وكيفاً- كل حد، لا تخفى على ذي لب.
والسؤال ماذا يفعل الله بقوم تركوا ملة آبائهم التي أمروا ألا يعيشوا إلا في كنفها وألا يموتوا إلا عليها، وبدلاً من أن يقيموا التوحيد فيما بينهم، راحوا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وطفقوا يلتمسون الهدى في عبادة العجل تارة وفى العقائد الباطلة التي برأ الله منها ساحة خليله إبراهيم وبنيه من الأنبياء جميعاً، تارة أخرى، راغبين بذلك عن وصاياهم وضاربين بكلامهم جميعاً عرض الحائط؟.
يقول سبحانه مبيناً ما وصل إليه حال تلكم الكثرة من بنى إسرائيل: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين.. الأعراف/152)، (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به.. المائدة/13)، ويحكى عنهم سلفاً وخلفاً قولهم: ( كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا.. البقرة/135)، ويأتي الرد على ذلك والتحذير منه والتنديد به في قوله بعد: (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين* قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون* فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.. البقرة/135-137)، (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون.. البقرة/140)، قال الحسن البصري فيما رواه ابن كثير 1/188: "كانوا يقرءون في كتاب الله الذي آتاهم إن الدين عند الله الإسلام وان محمداً رسول الله وان إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برءاء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك" .
لقد ارتكبوا بصنيعهم هذا، الخيانة التي تستوجب استبدال غيرهم بهم، وأقيمت عليهم وبنص كتبهم الحجة، وقد علمنا قبلاً كيف "عملوا أموراً قبيحة لإغاظة الرب. وعبدوا الأصنام التي قال الرب لهم لا تعملوا هذا الأمر"، وكيف حذرهم موسى عليه السلام من مغبة ذلك قائلاً لهم: "ارجعوا عن طرقكم الردية .. فلم يسمعوا وصلبوا أقفيتهم كأقفية آبائهم الذين لم يؤمنوا بالرب إلههم. ورفضوا فرائضه وعهده الذي قطعه مع آبائهم وشهاداته التي شهد بها عليهم وساروا وراء الباطل.. وتركوا وصايا جميع الرب إلههم وعملوا لأنفسهم مسبوكات عجلين.. وعبدوا البعل" على حد ما جاء في سفر الملوك الثاني 17: 11وما بعدها، كما جاء في سفر التثنية32: 21 "هم أغارونى بما ليس إلهاً، أغاظوني بأباطيلهم، فأنا أغيرهم بما ليس شعباً، وبشعب جاهل أغضبهم"، وإليه الإشارة بقوله: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين.. الجمعة/2).
ويلا حظ في آيات سورة البقرة التي سبق ذكرها في الحقيقة الرابعة، تلك الآيات التي تناولت قصة دخولهم الأرض المقدسة وتحدثت عن تبديل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم، وكيف أن ذلك كله جاء في إطار الحديث عن مدى عفو الله وفضله، وعن حلمه سبحانه وصبره اللذين عادة ما كانا يقابلان بالمزيد من الإقامة على المعصية والاستهانة بأوامر الله وأحكامه، فقد جاءت الآيات عقب الحديث عن إنجائهم من آل فرعون الذين كانوا يذبحون أبنائهم ويستحيون نسائهم ويسومونهم سوء العذاب، فراحوا- بدل أن يشكروه- يتخذون العجل معبوداً لهم من دونه، وبعد اعتذارهم المشوب بالمكر وعدم الصدق في التوبة، وبعد عفو الله عنهم، أذن سبحانه لخيارهم بالخروج مع موسى فراحوا- وهم المختارون- يطلبون منه رؤية من لا تدركه الأبصار-سبحانه- وهو يدرك الأبصار، وبعد أن أخذتهم الصاعقة من جراء طلبهم ما يستحيل العقل إدراكه، بعثهم مرة أخرى لعلهم يشكرون، وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى ورزقهم من الطيبات، وكانوا في كل مرة كعادتهم يقابلون نعم الله بالجحود ويبدلون نعمة الله كفراً، ثم كلفهم فيما بعد ونزولاً على رغبتهم بدخول الأرض المقدسة فراحوا يتلكأون ويسيئون الأدب مع الله.. إلى آخر ما تبع ذلك من ليهم ومكرهم الذي عادة ما كان يقابل بحلم الله عليهم وقبوله توبتهم، بل وأحياناً بتفضيله لهم على سائر الخلق كلما بدت منهم سابقة خير وبادرة توبة.
ومن المواطن التي أشارت إلى هذا النمط في حياتهم ونصت على إصرارهم وصلابة رقابهم وعلى عنادهم وجحودهم كلما حلت بهم نعم الله، وعلى سعة رحمته بهم أملا في إصلاح أمرهم لكن دون جدوى.. ما جاء في مناجاة نبيهم نحميا عليه السلام في الإصحاح التاسع العدد11 وما بعده وفيه: "وفلقت اليم أمامهم وعبروا في وسط البحر علي اليابسة وطرحت مطارديهم في الأعماق.. ونزلت على جبل سيناء وكلمتهم من السماء وأعطيتهم أحكاما مستقيمة وشرائع صادقة..عن يد موسى عبدك. وأعطيتهم خبزاً من السماء لجوعهم، وأخرجت لهم ماء من الصخرة لعطشهم، وقلت لهم أن يدخلوا الأرض التي رفعت يدك أن تعطيهم إياها. ولكنهم بغوا هم وآباؤنا وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا لوصاياك. وأبوا الاستماع ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم وصلبوا رقابهم .. فلم تتركهم. مع أنهم عملوا لأنفسهم عجلاً مسبوكاً وقالوا هذا إلهك الذي أخرجك من مصر وعملوا إهانة عظيمة. أنت برحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرية.. ولم تمنع منّك عن أفواههم وأعطيتهم ماء لعطشهم. وعُلتهم أربعين سنة في البرية.. وأعطيتهم ممالك وشعوباً.. وأكثرت بينهم كنجوم السماء وأتيت بهم إلى الأرض التي قلت لآبائهم أن يدخلوا ويرثوها. فدخل البنون وورثوا الأرض.. فأكلوا وشبعوا وسمنوا وتلذذوا بخيرك العظيم. وعصوا وتمردوا عليك وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم.. فدفعتهم ليد مضايقيهم فضايقوهم، وفي وقت ضيقهم صرخوا إليك وأنت من السماء سمعت، وحسب مراحمك الكثيرة أعطيتهم مخلّصين خلّصوهم من يد مضايقيهم. ولكن لما استراحوا رجعوا إلى عمل الشر قدامك فتركتهم بيد أعدائهم فتسلطوا عليهم ثم رجعوا وصرخوا إليك وأنت من السماء سمعت وأنقذتهم حسب مراحمك الكثيرة أحيانا كثيرة. وأشهدت عليهم لتردهم إلى شريعتك، وأما هم فبغوا ولم يسمعوا لوصاياك وأخطأوا ضد أحكامك التي إذا عملها الإنسان يحيا بها، وأعطوا كتفاً معانِدة وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا".
وفي المزمور78: 40 وما بعده "كم عصوه في البرية وأحزنوه في القفر.. لم يذكروا يده يوم فداهم من العدو. حيث جعل في مصر آياته وعجائبه في بلاد صُوعن. إذ حوّل خلجانهم إلى دم.. أرسل عليهم بعوضاً فأكلهم وضفادع فأفسدتهم.. وهداهم- يعني بني إسرائيل- آمنين فلم يجزعوا.. وطرد الأمم من قدامهم.. فجربوا وعصوا الله العليّ، وشهادته لم يحفظوا. بل ارتدوا وغدروا مثل آبائهم، انحرفوا كقوس مخطئه. أغاظوه بمرتفعاتهم وأغاروه بتماثيلهم. سمع الله فغضب ورذل إسرائيل جداً..".
وفي سفر حزقيال20: 5وما بعده يقول الرب ممتناً على بني إسرائيل: "رفعتُ يدي لنسل بيت يعقوب وعرفتُهم نفسي أرض مصر ورفعت لهم يدي ..لأخرجهم من أرض مصر إلى الأرض التي تجسْستُها لهم تفيض لبناً وعسلاً هي فخر كل الأراضي. وقلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ولا تتنجسوا بأصنام مصر .. فتمردوا عليّ ولم يريدوا أن يسمعوا لي .. فقلت إني أسكب رجزي عليهم لأتم عليهم سخطي في وسط أرض مصر. لكن صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين هم في وسطهم.. فأخرجتهم من أرض مصر وأتيت بهم إلى البرية. وأعطيتهم فرائضي وعرفتهم أحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها.. فتمرد علىّ بيت إسرائيل في البرية، لم يسلكوا في فرائضي ورفضوا أحكامي .. فقلت إني أسكب رجزي عليهم في البرية لإفنائهم. لكن صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم.. ورفعت أيضا يدي لهم في البرية بأني لا آتي بهم إلى الأرض التي أعطيتهم إياها تفيض لبنا وعسلاً.. لأنهم رفضوا أحكامي ولم يسلكوا في فرائضي بل نجسوا سبوتي لأن قلبهم ذهب وراء أصنامهم. لكن عيني أشفقت عليهم عن إهلاكهم فلم أفنهم في البرية. وقلت لأبنائهم في البرية لا تسلكوا في فرائض آبائكم ولا تحفظوا أحكامهم ولا تتنجسوا بأصنامهم .. فتمرد الأبناء عليّ.. فقلت إني أسكب رجزي عليهم لأتم سخطي عليهم في البرية. ثم كففت يدي وصنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين أخرجتهم أمام عيونهم. ورفعت أيضاً يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم وأذريهم في الأراضي. لأنهم لم يصنعوا أحكامي بل رفضوا فرائضي ونجسوا سبوتي وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم"، وهكذا كان حالهم طوال تاريخهم ومع كافة أنبيائهم وبشهادة جميع كتبهم.
وإذا كان الجانب الآخر من الكبر يتمثل- بعد بطر الحق والكفر به- في غمط الناس وظلمهم، فان الناس الذين غمطهم بنوا إسرائيل ليسوا كأي أناس، لكنهم أنبياء مبلغون عن الله رسالاته، أي أنهم مصدر هداية لمن أرسلوا إليهم، ولو كان غمطهم إياهم اقتصر على مجرد التكذيب لهان الخطب، لكنه تعدى ذلك بكثير ووصل إلى ما هو أبعد من التكذيب بمراحل، فقد جاء في الحديث عن أبي عبيدة: "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلاً من بنى إسرائيل فأمروا مَن قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله عز وجل- يعنى في قوله: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم..آل عمران/21)"، كما أورد ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .. البقرة/61)، قول ابن مسعود: (كانت بنو إسرائيل تقتل ثلاثمائة نبي في أول النهار- يا لقساوة القلوب- ثم يقيمون سوق بقلهم في آخره) وأعقبه بالقول: "إنه لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوا من الكفر بآيات الله وقتلهم أنبياءه أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وكساهم ذلاً في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقاً" .
وحسبنا أن نستشهد هنا على تلك المذابح التي نصبوها لأنبيائهم بما ورد في سفر نحميا 9: 26 "وقتلوا أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليرُدَّهم إليك وعملوا إهانة عظيمة"، وسفر الملوك الأول 19: 10، 14 "وقتلوا أنبياءك"، وإنجيل متى 23: 31، 34-36 "أنتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء .. هاأنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة. لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن بَرَخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل".. وأن نشير كذلك إلى ما ورد في إنجيل متى في الإصحاح21 عدد33 وما بعده، مما سبق ذكره من أمر الكرامين الذين ما أن جاءهم عبيد صاحب الكرم ليأخذوا أثمار غرسه إلا وأعملوا فيهم القتل والجلد والرجم، ولم يكتفوا بذلك حتى فعلوا مثله مع كافة من أرسله إليهم ممن كانوا أكثر من سابقيهم، بل لم يكفهم كل هذا حتى تآمروا في نهاية المطاف على وارثه الذي أرسله إليهم، في إشارة واضحة إلى المسيح عيسى عليه السلام.. ورد مثله في إنجيل مر قس12: 1-12، وفي إنجيل لوقا20: 9-19 وأعمال الرسل 4: 11 .
الأمر الذي يعنى أن أمر اعتدائهم على الأنبياء لم يقتصر مجيؤه على القرآن بل تحدثت به أيضاً كتب القوم يهوداً كانوا أم نصارى، كما لم يقتصر على أنبيائهم بل طال خاتم الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولا عجب إن نحن عرفنا كراهيتهم للأنبياء أن تنشر إحدى مجلاتهم وتسمى (جاليليو) صوراً كلاسيكية للسيدة مريم العذراء وهي تحمل سيدنا المسيح عليه السلام بعد أن استبدلت رأسها برأس بقرة، وسيظل يوم السبت 28 يونيو 1997 محفوراً في ذاكرة المسلمين حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقد حدث في هذا اليوم أن قام عدد من المستعمرين اليهود في مدينة الخليل وبحراسة من الجيش، بلصق وتوزيع شعارات ورسوم تكيد للإسلام وللمسلمين، وقد ظهر في أحد هذه الرسوم صورة خنزير على رأسه كوفية فلسطينية كتب عليها اسم (محمد) بالإنجليزية والعربية وأمسكوا هذا الخنزير قلماً يكتب به كلمة (القرآن)، كما تلقت جهات فلسطينية رسمية عبر البريد الاكتروني رسماً مهيناً للنبي عليه السلام كتب عليه (محمد) وتحته خنازير صغار يرضعون منه وقد كتب عليها كلمة (فلسطينيون).
إنه وإزاء كفرهم بالله وتآمرهم وبغيهم على أنبيائه ورغبتهم عن ملة إبراهيم ومن صار على نهجه من النبيين، ولقاء ظلمهم وطغيانهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه، الذي يؤذن بألا صلاح بعده- على المدى القريب أو البعيد- لأمرهم ولا فائدة ترجى للبشرية من ورائهم، كان لابد حسب ما تقضي به سنن الله الكونية في الاستبدال والاستخلاف، من أن تتحول إمامة وخلافة وريادة هذا العالم إلى آخرين يحافظون على العهد ويصونون الأمانة ويحفظون الوصايا وينفّذون التعاليم، فيستحقون عندئذ وعد الله الذي لم يتحقق لغيرهم لا في الأرض المقدسة وحسب بل في إرث النبوة والأرض جميعاً، حيث يقول تعالى وهو أصدق القائلين: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.. الأعراف/28)، ويقول: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.. محمد/38)، "أي: ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره" كما قال: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.. الأنعام/133)، وقال: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على كل شئ قديراً.. النساء/133)، وقال: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز.. إبراهيم/19، 20وفاطر/16، 17)، أي يذهبكم إذا خالفتم أمره ويستخلف من بعدكم قوماً آخرين على غير صفتكم يعملون بطاعته، كما أذهب القرون الأولى وأتى بالتي بعدها وما ذلك عليه بممتنع ولا صعب بل هو سهل عليه يسير لديه .
الأمر الذي يعني أن سنة الله في خلقه وكونه، لا تتبدل ولا تتغير، بل إنها لتجري حتى في أمة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه ممن هم من نسل إسماعيل كما جرت فيمن هم من نسل إسرائيل، بمعنى أن المسلمين إذا تولوا عن نصرة ربهم ولم يقفوا على أمر دينهم فسيبتليهم الله بمن لا يرقب فيهم إلاً ولا ذمة كما ابتلى الأولون ثم يستبدلهم إذا لم يراجعوا أنفسهم (بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. المائدة/54).
ولعل هذا ما يومئ إليه قوله تعالى لمن هو أب لجمهور الأمم: (إني جاعلك للناس[كذا بما يفيد العموم] إماماً)، ثم قوله تعقيباً على عبارته (ومن ذريتي): (لا ينال عهدي الظالمين.. البقرة/124)، ولما اقتضت حكمة الله فيما يخص ميراث النبوة أن يجعل نبي بني إسماعيل خاتماً للأنبياء، فقد تعين أن يكون الابتلاء في حرمان أمته إن هي خالفت منهج الله قاصراً على ميراث الحكم والأرض والخلافة، إلى أن يقضي الله فيه أمرأً كان مفعولاً.

الحقيقة السادسة: الإيذان بتحول الإمامة كان في ليلة التتويج (ليلة الإسراء):
وعلى نحو ما كانت إمامة النبي ليلة الإسراء بإخوانه من الأنبياء عن طواعية وطيب نفس، إشارة واضحة إلى أن النبوات يصدق بعضها بعضا ويمهد السابق منها للاحق، وإقراراً مبيناً بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت كما هي على يد رسولنا صلى الله عليه وسلم بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين .. فقد كانت كذلك تتويجاً مشرفاً لهذا النبي الخاتم ولأمته وإنفاذاً مرتقباً لسنن الله الكونية والشرعية في الاستبدال والاستخلاف، وفي تحول الإمامة والقيادة والخلافة من بني إسرائيل الذين رغبوا عن ملة إبراهيم فسفهت بذلك نفوسهم، إلى إخوتهم وبني أعمامهم من بني إسماعيل الذين رغبوا فيها.
ولأن الله خلق الخلق لعبادته وقد تخلى بنو إسرائيل- أعنى أحفادهم ممن هم من صلبه- عن تأدية هذه المهمة، وفعلوا ما استوجب استبدال غيرهم بهم، فان الحكمة تقتضي وفق سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، أن يستعاض عنهم بآخرين، ولا بد أن يكونوا هنا من أبناء العم لكونهم ممن قال إبراهيم: (ومن ذريتي)، وأن يأتي من صلب إسماعيل الذي هو من نسل إبراهيم أيضاً، من يجدد هذه الملة ويرسخ معالمها ويقيم دعائمها ويرفع بنيانها ويعيد أمجادها ويعلي من قدرها، وهذا ما حدث بالفعل ليلة الإسراء التي انتقل فيها إرث الملك والنبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أمته بعد فترة تمهيد استمرت قرابة العشر سنوات.
الأمر الذي يعنى ضمناً أن هذه الأمة هي وحدها المؤهلة لوراثة أرض النبوات أرض الميعاد- بيت المقدس وسائر الأراضي الفلسطينية- وليس هذا في شريعة المسلمين فحسب بل وفي كتب اليهود والنصارى أيضاً، فقد ورد في سفر حجي2: 6-9 "قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة. وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً.. مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود، وفى هذا المكان أعطى السلام" انتهي النص، ومشتهى كل الأمم المذكور فيه، أصله العبراني (حمدون) أي محمود الأمم، وهذا بصريح نبوة حجي ينطبق على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لكون اسم (محمود) هو من ضمن أسمائه، ويتضح من النبوءة أن المراد من البيت بيت المقدس، وحين أسري إليه برسولنا- صلوات الله وسلامه عليه- في حياته زاد ذلك من شرفه ورفع من مكانته، ومن ثمّ توجهت إليه أنظاره وأنظار الموحدين الذاكرين الممجدين لله من أمته فكان أولى قبلتي المسلمين، وهذا ما يوافق عبارة "أملأ هذا البيت مجداً"، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد قام المسلمون بفتحه وفى هذا المكان أعطى رب الجنود السلام الذي أتى به رسول الرحمة والسلام ونشره الخليفة عمر بن الخطاب في ربوع هذه البلاد المقدسة، فقد أعطى رضوان الله عليه الأمان لبيت المقدس ولبطريرك المدينة بل ولسائر أهلها بعقد المعاهدة وتوثيق شروط الصلح، والملفت في قوله "في هذا المكان أعطى السلام" انه لم يقل (وأعطي مشتهى الأمم السلام)، أو غير ذلك من عبارات تفيد أنه عليه السلام بنفسه الذي يتولى تسليم بيت المقدس ونشر الإسلام فيه، لعلم الله أزلاً أن الذي سيتولى هذه المهمة هو واحد من أخلص خلصائه، وقد كان ذلك- بالفعل- لأمير المؤمنين عمر بمحضر ومشهد من أصحاب مشتهى الأمم صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه ورضي الله عنهم وأرضاهم .
وتحكي كتب التاريخ أنه لما أذل الله الروم وتكامل للمسلمين فتوح الشام واستقر أمرهم على فتح بيت المقدس وحاصر المسلمون أهله قرابة أربعة أشهر في أشد قتال، نظر أهل بيت المقدس إلى شدة الحصار ورأوا ما حل بهم ووقفوا بين يدي البطرك وقالوا: قد عظم الأمر ونريد منك أن تشرف على القوم وتسأل: ما الذي يريدون؟ فإن كان أمراً صعباً فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم، فإما أن نقتل عن آخرنا أو نهزمهم عنا، فأجابهم البطرك إلى ذلك، وصعد في السور واجتمع القسيسون والرهبان حوله ونادى رجل: يا معشر الفرسان، عمدة دين النصرانية قد أقبل خاطبكم، فليدن منا أميركم، فقام أبو عبيدة يمشي ومعه جماعة من أصحاب رسول لله، فلما وقف بإزائهم قال: ما الذي تريدون؟ قال البطرك: إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة لم تصلوا إلى فتح بلدنا، وإنما يفتحها رجل ليس معكم، فقال أبو عبيدة: وما صفة من يفتح بلدكم؟ قال: لا نخبركم بصفته، ولكن قرأنا أن هذا البلد يفتحه صاحب لمحمد يعرف بالفاروق لا تأخذه في الله لومة لائم، ولسنا نرى صفته فيكم.
فلما سمع أبو عبيدة كلام البطرك تبسم وقال: فتحنا البلد ورب لكعبة، ثم أقبل على البطرك وقال: إن رأيت الرجل تعرفه، قال: نعم، وكيف لا أعرفه؟ قال أبو عبيدة: هو والله خليفتنا وصاحب نبينا، قال البطرك: فإذا كان الأمر على ما ذكرت فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك فإذا رأيناه وتبيّنا نعته فتحنا له البلد وأعطيناه الجزية، فلما بعث أبو عبيدة في طلبه وأقدم عليهم عمر بمرقعته ونظر إليه البطرك زعق وقال: هذا والله الذي صفته في كتبنا وخرج ومن معه يسألونه العهد.
وكان مما فاه به البطرك من قبل عندما أخبر بجيش المسلمين يقوده أبو عبيدة: ما هذه الضجة التي أسمع؟ قالوا: قد قدم أمير المسلمين ببقية المسلمين، فلما سمع ذلك تربّد وجهه وقال: إنا وجدنا في علمنا الذي ورثناه أن من يفتح الأرض هو الرجل الأحمر، صاحب نبيهم (محمد) فإن كان قدم عليكم فلا سبيل إلى قتاله، ولابد أن أشرف عليه وانظر إلى صفته فإن كان هو أجبته إلى ما يريد وإن كان غيره فلا بأس عليكم.. فلما رأى أبا عبيدة نظر إليه ملياً ثم قال: ليس هو الرجل فأبشروا وقاتلوا عن دينكم وحريمكم، ثم كان من ما حكيناه مما مر ذكره.
وليس ثمة ما يدل على هذا التحول والانتقال عندنا معاشر المسلمين أعظم من إمامته صلوات الله وسلامه عليه لجميع الأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى وذلك عندما حان وقت صلاة الفجر من صبيحة ليلة التتويج المباركة، وفى هذا يروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله إلىَّ انظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلى فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلى أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم- يعنى نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم .. الحديث) ، وفي رواية ابن مسعود عند مسلم: (وحانت الصلاة فأممتهم)، وفي مسند أحمد من حديث ابن عباس [2324]وإسناده صحيح، بلفظ (فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي فالتفت ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه)، وفي كيفية ذلك وهيئته أخرج الطبري عن أنس من طريق قتادة بلفظ (ثم أُتيت بدابة يقال لها البراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه منتهى طرفه فحُملت عليه ثم انطلقنا- يعني هو وجبريل- حتى أتينا إلى بيت المقدس فصليت فيه بالنبيين والمرسلين إماماً ثم عرج بي إلى السماء)، وفي رواية ثانية أوردها عنه من طريق شريك بن أبي نمر بلفظ (ثم ركب البراق فسار حتى أتي به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنبيين والمرسلين إماماً ثم عرج به)، وفي ثالثة أوردها أيضاً عنه من طريق عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة لكن بلفظ: (ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء فأمّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة)، وجاء في أخرى من طريق يزيد بن أبي مالك: (ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء فقدمني جبريل حتى أممتهم)، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: (ثم أقيمت الصلاة فدافعوا حتى قدموا محمداً)، وقد ذكر ابن حجر في حديث الإسراء وباب المعراج 7/158، 164 وابن كثير في صدر تفسيره لسورة الإسراء بعض هذه الروايات، ومما أورده الأخير في شأن إمامته عليه السلام ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود من طريق قتادة التيمي وفيه: (ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى فنزلت فربطت الدابة في الحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها، ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، قال: ثم أُتيت بكأسين من عسل ولبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال أصبت الفطرة ورب الكعبة، قال: ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ..) .
إنها الإشارة الواضحة إلى تحول المسار وإسلاس القيادة من قِبَل أصحاب الرسالات جميعاً بلا استثناء لإمامهم وإمام البشرية جمعاء صلوات الله عليه وسلامه، كما أنها الإشارة الواضحة إلى استحقاقه وأمته دون غيرهم إرث بيت المقدس ليعلم أهل الأرض جميعا أن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وأن كتابه مهيمن على جميع الكتب، وأن إمامته إمامة لجميع أمم النبيين، وأن رسالته هي الرسالة العامة لسائر الخلق أجمعين، ويومئ ابن كثير 3/2 إلى هذا المعنى فيذكر أن الأنبياء "جمعوا له هناك كلهم فأمهم صلوات الله عليه، في محلتهم ودارهم فدل على أنه الإمام الأعظم والرئيس المقدم"، ويقول أبو عبد الله المنهاجي: يسر الله النبياء كلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم في بيت المقدس" .
ولعل فيما سبق ما تؤيده عبارة ابن القيم التي ذكر فيها ما نصه: "وقد قال الله في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب: (إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد أخوته)، وهم بني إسرائيل، وهذه بشارة بنبوة ابنه محمد الذي طلب فسطاطه وملك أمته في وسط بلاد بني إسرائيل وهي الشام التي هي مظهر ملكه" .
ومن النصوص الصريحة الدالة علي تحوّل الإمامة وإرث الملك والنبوة إلي محمد صلي الله عليه وسلم وأمته ما جاء في سفر التثنية32: 19-21 من التوراة السامرية بعد أن ذكر موسى من مساوئ بني إسرائيل ما تقشعر منه الأبدان وتشيب لهوله الولدان وتزول من مكره الجبال: "فينظر الله ويرفض من كيد خواصه وخصيصاته. ويقول: أحجب رضواني عنهم لأنظر ما آخرتهم، إذ جيل متقلب هم، بنون ليس أمين فيهم. هم أسخطوني بغير قادر، أكادوني بهبائهم، وأنا أغيرهم بغير قوم ، بشعب ساقط أكيدهم"، إذ المراد بالشعب الساقط هنا- حسب نظرة اليهود إليهم وعلى ما أفادته النسخة المترجمة عن العبرانية- الأميين الذين قال الله في شأنهم وفي شأن نبيهم: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. الجمعة/2)،على أن أمية ذلك الشعب لا تتنافى بحال -على خلاف ما توحي به عبارة الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها- مع عظمته، وذلك طبقا لما جاء في كتب القوم من نحو ما ورد في سفر التكوين17: 20حيث قال الله لخليله إبراهيم: "وفي إسماعيل استجيب منك، هو ذا باركته، وأثمره، وأكثره جداً جداً، اثنا عشر رئيساً يولد وسأجعله شعبا عظيماً"، ونظيره في الإصحاح21: 18من نفس السفر من التوراة العبرانية.
والذي تجدر الإشارة إليه أنه ما إن تحمل هذا الشعب العظيم وذاك النسل المبارك من صلب إبراهيم عليه السلام، أمانة الدين وعبء المسئولية إلا وانساح في كل مكان من أرض الله يدك معاقل الشرك ويقوض برسالة التوحيد أركان الوثنية التي فشل أتباع الرسالات قبلها في القضاء عليها، وانطلق هذا الجيل الفريد لا يبالي ولا يتوانى عن تنفيذ ما نُدب إليه حتى تم على يديه إطفاء نار فارس وإجلاء الرومان عن المنطقة بأسرها، وحقق وعد الله في أقل من عشر سنين وأقام شريعته في المنطقة وما يليها في اقل من قرن من الزمان.

الحقيقة السابعة:
التواصل الإيماني هو الأصل والأساس: إن الأصل في عمارة الكون الذي لا يعبأ بنو إسرائيل به كثيراً - لا سلفاً ولا خلفاً- هو التواصل الإيماني، وما التواصل النسلي إلا تبعاً لهذا الأصل، وفرعاً عن ذاك الأساس، وما كان تبرأ إبراهيم من قومه بل ومن أبيه آزر عندما تبين له أنه عدو لله، إلا دليلاً على تأكيد وترسيخ هذا الأصل وإعماله- فيما بعد- في بنيه وعقبه.
وهذه المقدمة تجعلنا نؤكد أن لا صحة لما فهمه كتبة العهد القديم من نصوص تشير إلى أن وعد إبراهيم بأرض فلسطين، إنما كان قاصراً على أولاده وأحفاده من نسل إسحاق، هكذا دون قيد بزمن أو شرط بالتزام، كما تجعلنا نؤكد أن لا حجة فيما استدلوا به من نحو ما جاء في سفر الخروج6: 2-4 ".. ثم كلم الله موسى وقال أنا الرب. وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء.. وأيضا أقمت معهم عهدي أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها"، ونظيره ما جاء في سفر التكوين35: 5.. لأن هذا- على ما سبق أن ذكرنا بالدليل- ليس لهم الآن، وإنما كان لهم إبان المدة المقررة والمقدرة لهم أزلاً.
ويدل على ذلك من غير ما ذكرنا ما أفادته النصوص من أن ما وعدوا به في سفري الخروج والتكوين وغيرهما قد تحقق لآبائهم وأسلافهم على يد يوشع وداود وسليمان عليهم السلام، وقل مثل هذا فيما وعدوا به قبل خروجهم من مصر مع موسى على ما أفادته نصوص كتبهم، ففي سفر الخروج6: 6وما بعدها في خطاب الله لموسى: "قل لبنى إسرائيل أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة. وأتخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً .. وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي في أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثاً، أنا الرب. فكلم موسى هكذا بني إسرائيل ولكن لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية"، ونصه في السامرية: "قل لبني إسرائيل أنا الله سأخرجكم من أوقار المصريين وأخلصكم من خدمتهم وأفككم بقدرة بسيطة وبأحكام كبار. واتخذكم لي شعباً وأكون لكم ولياً.. وأحضركم إلى الأرض التي أقسمت بقدرتي لإعطائها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وأعطيها لكم وراثة أنا الله. وخاطب موسى كذلك بني إسرائيل، فلم يسمعوا من موسى من ضيق الصدر ومن الخدمة الشاقة وقالوا لموسى انقطع الآن عنا لنخدم المصريين إذ خير لنا خدمة المصريين من موتنا في البرية".
كما يدل عليه أن ذلك كائن لنسل إسماعيل الأطهار، كما هو كائن لنسل إسرائيل قبل مبعث نبي المسلمين محمد عليه السلام، ففي سفر التكوين17: 20 لما قال الله لإبراهيم "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه هاأنذا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جداً اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أمةً كبيرة" كان مراده من هذا التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه الذي عظمه الله جداً جداً وصيره إلى أمة كثيرة حتى أربت في كثرتها على نسل إسحاق، ولا ينكر ذلك إلا جاحد مكابر، سيما بعد قول الله في سفر إشعياء 54: 1-3 "لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل.. ويرث نسلك أمماً ويعمّر مدناً خربة".. وحين قالت سارة لإبراهيم: "اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق"، قال الله لإبراهيم: "بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك" سفر التكوين21: 10، 12، 13وبنحوه في رسالة بولس لأهل غلاطية 4: 30-31.. ولما رأت هاجر أن تسكن بعيداً عن سارة ظناً منها أن الله قد خص درتها وابنها إسحاق بالبركة، ناداها ملاك الله بقوله: "مالك يا هاجر، لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة" سفر التكوين21: 17-18.
فهذه النصوص وما جاء على شاكلتها تعني ألا تعارض بين ما أفادته نصوص كتبهم من جعل الوعد في أولاد إسرائيل من نسل إسحاق بن إبراهيم، وجعله- بعد أن تنتهي مدة البركة الممنوحة من الله لبنى إسحاق- في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم، سيما وأن ليس في العهد القديم ولا الجديد- رغم ما اعتورهما من تحريف- ما ينفى هذا الانتقال ولا ما يفيد أن هذا الوعد سيظل إلى الأبد حكراً على بنى إسرائيل، بل إن العكس- على ما رأينا في النصوص السابقة- هو الصحيح.
يؤيد هذا ويؤكده أنه لم يأت من نسل إسماعيل بن إبراهيم نبي ولن يأت سوى محمد عليه وعليهما الصلاة والسلام، كما يؤيده ويؤكده أن كلمة (الأبد) ما جاءت في التوراة والإنجيل إلا في حقه وفى حق هذه الأمة المنتسبة إليه، ومما ورد من ذلك ما جاء في سفر أشعيا 26 :2-4 "افتحوا الأبواب لتَدخلَ الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكن .. توكلوا على الرب إلى الأبد"، وقد ثبت عدم وجود هذه الصفات في أمة يعقوب .. وبنحوه في تأكيد ما سبق ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان يسوع14: 16 "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر(أي معلماً) ليمكث معكم إلى الأبد"، ولم يبعث بعد عيسى عليه السلام نبي عدا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي المزمور 45: 2، 6، 16، 17، "باركك الله إلى الأبد.. كرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور.. عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض. اذكر اسمك في كل دور فدور، من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد" ناهيك عما جاء في العهدين القديم والجديد من صفته وصفة أمته.
ومما يدل على المثلية في منح الوعد من الله لأبناء إسماعيل وأن ذلك كائن على أساس من الإيمان وتوحيد الله على غرار ما كان منه مع أبناء إسرائيل، أن إسرائيل حين وصى بنيه بعبادة الله وحده، لم يطمئنه إلا إعلامهم إياه أنهم سيستمرون على العهد في عبادة إلهه وإله آبائه من الأنبياء، وفي ذلك يقول سبحانه: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون.. البقرة/132، 133)، فالآيتان تقرران أن يعقوب (إسرائيل)، وصى بنيه بما وصي به إبراهيم، وصاهم بأن يعبدوا إلها واحداً هو إله إبراهيم (جده) وإله إسحاق (أبيه) وإله إسماعيل (عمه)، فهي إذن دعوة مشتركة وملة واحدة تعاهد عليها الأبناء وجمعت بين جميع آبائهم من الأنبياء من ذرية إبراهيم وعلى رأسهم إسرائيل بن إسحاق وإسماعيل الذي هو كإسحاق تماماً لكونهما من ظهر إبراهيم وصلبه، وهو في معنى ما جاء في قول الرب لإبراهيم عقب ولادة هاجر لإسماعيل تكوين 17: 5، 7 "أجعلك أباً لجمهور الأمم.. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك"، وقوله بعد عن سارة تكوين 17: 16 "وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً وملوك شعوب منها يكونون"، ويلاحظ هنا كلمة (أيضاً) الواردة في الأخير من هذين النصين، وما تفيده من المثلية في منح البركة- المبشر بها إبراهيم- لإسماعيل أولاً يعني من قبل أن تكون في إسحاق على الرغم من أسبقيته الزمنية.
وإذا كان الأمر كذلك فلا غرو ولا عجب عند إخلال بني إسرائيل بوصية أبيهم يعقوب وجدهم إبراهيم- المخاطب بجعل الأمر في نسله دون تحديد ولا تمييز- أن ينتقل الأمر إلى إخوتهم وبني عمومتهم من نسل إسماعيل ليتم التواصل الإيماني في هذه الشجرة المباركة، وإلا عُد عدم انتقاله وتحوله عن بنيهم مع إصرارهم على مغايظة الرب ومواصلتهم فعل المعصية والاعتداء على الذين يأمرون بالقسط من الناس، محاباة يتنزه عنها الرب الذي أمر الجميع دون ما مفاصلة بألا يعبدوا سواه وبأن يمثلوا أوامره وينتهوا عن مناهيه.
كما يدل على هذه المثلية في تحقيق موعوده سبحانه لنبي إسماعيل على غرار ما كان من قبل لبني إسرائيل ما ورد في سفر التثنية18: 18-19 في مخاطبة الرب لموسى: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" أي أقتص منه، ونصه في التوراة السامرية: "نبياً أقمت لهم من جملة إخوتهم مثلك ، وجعلت خطابي بفيه فيخاطبهم بكل ما أوصيه. ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه الذي يخاطب باسمي أنا أطالبه"، والنص الأخير عينه تكرر في السامرية دون العبرية، وجاء تحديداً في سفر الخروج 20: 21، وشبيه به ما ورد في العهد الجديد في أعمال الرسل3: 22-23وفيه: "فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به. ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب" .
وقد فسر عيسي عليه السلام عبارة (أنا اطالبه) الواردة في النصوص السابقة، بالعذاب الشديد لمن لم يطع ويسمع ويؤمن بهذا النبي المنتظر المبشر به وهو أحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا لمن لا يقر ويؤمن بتحول موعود الله في الملك والنبوة له ولأمته من بعده، يشهد لهذا ما أورده لوقا12: 16-21على لسان المسيح عليه السلام ونصه": "وضرب لهم مثلا قائلأ: إنسان غني أخصبت كورته. ففكر في نفسه قائلاً ماذا أعمل لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري؟"، فقال لنفسه: "استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون. هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله".
وهذا يعنى أن ذاك الغبي المعرض عن الله المغتر بدنياه، الذي ما عمل لأخراه ولا آمن برسل الله، وشح بماله الذي صيره من أحرص الناس على حياة، هالك لا محالة ومعذب في النار ، لأنه ما تصدق ولا صلى ولكن كذب وتولى، وعليه فهو ليس أهلا للاستخلاف ولا لوراثة الأرض والنبوة، كما يعنى التهديد الواضح والوعيد الصريح بأنه عقب الانتقام الدنيوي لهذا الذي لا يسمع لذلك النبي الآتي إلى العالم - بله الأخروي- يباد، ليتأسس على أنقاض ملكه، ملك جديد يقوم على أساس من الإيمان، ويكون إلى الأبد.
وهذا ما يحدث بالفعل، فما أن رُفع عيسى عليه السلام بعد أن تآمر اليهود على قتله، حتى سلط الله عليهم- بعد أن كانوا في نعمة ومنعه - من يضطهدهم ويسومهم سوء العذاب، بل وحتى بعد أن هاجر فريق منهم إلى بلاد العرب وصارت لهم فيها ديار عظيمة وحصون منيعة وزروع وثمار، ذلك أنه ما أن ظهر الإسلام ونقضوا العهد مع رسول الله غير مبالين بتحول موعود الله عنهم لسوء صنيعهم ولجرائمهم المتلاحقة، حتى دمرها الله عليهم وحاربهم صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم وأجلاهم من المدينة، ثم مهد- بغزو الروم في مؤتة وتبوك وبعزمه على إرسال سريته التي مات عنها وجعل على رأسها أسامة بن زيد- للاستيلاء على الأرض المقدسة المحببة إلى نفوسهم، تلك التي كتبها لهم إبان مدتهم ، فكتب أصحابه عليهم الرضوان كتاب صلح لبطريرك النصارى واتفقوا جميعا على ألا يدخلها يهودي أبداً ، وقضى بذلك على ملكهم وأزيلت دولتهم وانمحت بركة إسرائيل في الأمم إلى الأبد لتحل محلها بركة إسماعيل ممثلة في محمد صلى الله عليه وسلم وفى أمته "إلى الدهر وإلى دهر الدهرين" على حد ما جاء في المزمور44: 18 ، وإلى "مجئ يوم الرب. اليوم العظيم والمخوف" على حد ما جاء في سفر ملاخي4: 5.
ومما يعضد من شأن هذا التحول، ويقوي من أمر استحقاقهم لما حل بهم ما جاء في سفر التثنية32: 26من قول الرب لأولئك الذين أغاظوه بأباطيلهم وأغاروه باتخاذ العجل والأصنام وكثير ذلك مما ليس إلهاً: "أبددهم إلى الزوايا وأبطل من الناس ذكرهم"، ونظيره في النسخة السامرية من نفسي السفر والإصحاح والعدد: "أزويهم أعطل من الملأ ذكرهم"، وفى سفر التثنية 28: 63-64من النسخة العبرانية: "كما فرح الرب لكم ليحسن إليكم ويكثركم، كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها. ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها.." إلخ .
وفيما سبق من قول موسى- عليه السلام - مما ورد ذكره في سفر التثنية18: 18 "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك"، مع ما أوضحناه في الحقيقة الثالثة بشأن الأبدية الحاصلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمبشر بها هو وأمته، ما يكشف زيف ما تزعم من يهود من أن تلك الأبدية إنما هي أمر خاص بهم وبنسل نبيهم إسرائيل على ما تُفهمه عبارة سفر التكوين17: 19وفيها: "بل سارة امرأتك تلد لك - والخطاب هنا بداهة لإبراهيم عليه السلام - ابناً وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي أبديا لنسله من بعده"، إذ لا يتأتى بحال من الأحوال أن يكون الأمر كذلك مع وعد الله لموسى أن يقيم لهم نبياً من وسط أخوة يعقوب، كما لا يصح أبداً ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن يقال إن بنى إسرائيل إخوة لبني إسرائيل وبني تميم أخوة لبني تميم، بخلاف قولك: بنو إسماعيل إخوة لبني إسرائيل وزيد أخو بني تميم، وهود أخو عاد وصالح أخو ثمود أي واحد منهم، فهو أخوهم في النسب والأصل يعني من ناحية الجد، ولو قيل عاد أخو عاد، وثمود أخو ثمود، ومدين أخو مدين لكان نقصاً وخطأً صريحاً .
كما يكشف ذلك الزيف ما جاء عقيب النص السابق مباشرة ـ التكوين 17: 20وفيه عن إسماعيل: "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، هاأنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدأ، اثني عشر رئيسا بلد وأجعله أمة كبيرة"، وذلك صريح في انتقال موعود الله في الملك والنبوة إلى بنى إسماعيل على ما سبق ذكره، لأن عبارة (كثيرة جداً) تعني في اللغة العبرانية (بماد ماد) كما تعني عبارة (شعبا عظيماً)، (لجوي جدول) على ما أجمع عليه علماء اليهود السامريين والعبرانيين، وهما تدلان بحساب الجمل على اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الآتي من نسل إسماعيل، إذ مجموع كل منهما اثنان وتسعون وهو بعينه مجموع حساب الحروف في (محمد) تماماً .
ولا غرو أن يكون مسماه صلوات الله وسلامه عليه في الإنجيل والكتب السالفة (أحمد)، لأنه كان كذلك "قبل أن يكون (محمداً) كما وقع في الوجود .. وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس، وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس"، كذا ذكره ابن حجر في الفتح 6/641 عن القاضي عياض، وتفسيره أنه عليه السلام أحمد الناس لربه فهو من ثم أحق الناس وأولاهم بأن يحمد لما له من كثير الخصال التي يستحق أن يحمد عليها في الدنيا والآخرة فصار من أجل هذا محمداً، فالاسمان واقعان على المفعول ويفيدان المبالغة بيد أنها في محمد للكثرة والكمية، وفي أحمد في الصفة والكيفية وكل في موضعه أبلغ في مدحه عليه السلام وأكمل في المعنى.
يضاف لما سبق من إيماءات نصوص التوراة، أن دلالة نص أشعياء9: 7-9 "لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابناً، وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسيً داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد، غيرة رب الجنود تصنع هذا".. على محمد بن عبد الله أظهر وألزم من دلالته على غيره فانه الذي رئاسته على عاتقه وبين منكبيه من جهتين: من جهة أن خاتم النبوة على نغض كتفيه وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء وشهده لفيف من كبراء الأحبار والرهبان ممن عاصروه، ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه بين يدي الساعة، وهذا يشير إليه قوله: "أبا أبديا رئيس السلام. لنمو رياسته"، يعنى لكونه المؤيد المنصور، رئيس السلامة ، فان دينه الإسلام ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه، ثم إنه - على ما تقرر- الذي سلطانه هو السلطان الكامل الذي ليس له فناء إلى آخر الدهور .
ولا يقدح في ذلك كون إسماعيل ابناً لهاجر المقصاة ،لأن الكل في النهاية أولاد لإبراهيم الذي هو أب لجميعهم بنص كتبهم، ففي خطابه لإبراهيم في سفر التكوين17: 5 يقول الرب: "أجعلك أباً لجمهور من الأمم".
كما لا مجال للتعجب الذي ورد في عديد من نصوص كتبهم كالمزمور118: 22، 23وإنجيل متى ومرقس ولوقا وأعمال الرسل بالإصحاحات 21- 12- 20- 4على الترتيب، من أن الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأساً للزاوية من قِبل الرب.. لأن ذلك أمر معلوم من قبل، فإبراهيم الذي تبرأ من أبيه وقومه لما تبين له أنهم أعداء لله- كما جاء في القرآن- أطلعه ربه بأمر أولئك البناءين الفجرة من بنيه اللذين رغبوا عن ملته وارتدوا، وأخبره "أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة" ، فقال سبحانه له: (لا ينال عهدي الظالمين.. البقرة/124)، فكان من الطبيعي لشيخ الأنبياء عليه السلام أن يمهد بوحي من ربه للبديل ولذلك الحجر الذي سيصير يوماً ما رأساً للزاوية، وأن يتبرأ من أولئك الرافضين للحجر لكونهم الذين فعلوا في أنفسهم- بظلمهم وبتخليهم عن ملته- ما استوجب ذلك الاستبدال من قِبَل الرب.
وهذا يعنى أن الأبوة المقصودة في خطاب الله لإبراهيم: "أجعلك أباً لجمهور من الأمم"، تكوين 17: 5 وكذا البنوة المرادة من قول إبراهيم عليه السلام: (ومن ذريتي.. البقرة/124)، ليست هي مجرد أبوة أو بنوة نسب بل هي مع ذلك وقبله أبوة وبنوة إيمانية، الأمر الذي يعني أن أبناء إبراهيم حقاً هم الذين يتبعون ملته، وفي ذلك يقول عز من قائل: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين.. آل عمران/68)، ولقد تجسد الولاء والتوادد الإيماني مع الولاء والتوادد النسلي في محمد الذي ينتهي نسبه كإسرائيل تماماً إلى إبراهيم عليهما وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. فما وجه الغرابة إذاً؟

الحقيقة الثامنة: تقصية هاجر كان بمثابة التمهيد لإيجاد البديل المستحق لموعود الله:
لقد أراد الله أزلاً من هذه التقصية التي ورد ذكرها ضمن نصوص العهد القديم والجديد، تحقيق وعد آخر لإبراهيم الخليل، ذلك أن عليه السلام لما وضع زوجه هاجر وابنها منه- إسماعيل- بأمر الله في جزيرة العرب توطئة لرفع قواعد البيت الحرام، وإيذانا بأعمار هذا المكان، وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود، جأر إلى ربه ودعا- على نحو ما نطق القرآن - ضمن ما دعا: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم.. البقرة/129).
وقد وافقت هذه الدعوة التي أجيبت بعد حين، قضاء الله الأزلي في تعيين محمد عليه السلام رسولاً في الأميين، بل والى سائر الأعجميين من الأنس والجن، فكانت هذه الرسالة العامة وهذا التحول المشرف.. ليس إجابة لدعوة إبراهيم فحسب، ولا إنفاذاً لبشارة عيسى وإعمالاً للميثاق الذي قطعه الله عليه وعلى سائر الأنبياء بأن ينصروه ويؤمنوا به ويأمروا بذلك أقوامهم.. وفقط، بل إنقاذاً في المقام الأول للبشرية وللكون من الوهدة التي سقطا فيها، والذي سببه لهما إفساد بنى إسرائيل في الأرض، وفي شأن ذلك من نصوص التوراة الدالة على هذا التواصل الممتد في سلالة إسماعيل والممهد لإيجاد البديل المستحق لوعد الله، جاء في سفر ملاخي4: 5-6 "هاأنذا أرسل إليكم إيلياء النبي قبل مجيء يوم الرب. اليوم العظيم والمخوف. فيرد قلب الآباء على الأبناء. وقلب الأبناء على الآباء لئلا آتى وأضرب الأرض بلعن".
والمعنى واضح في أن المراد: أرسل إليكم قرب الساعة النبي محمد عليه السلام، فيرد بنى إسماعيل من العرب لحقيقة وحي الأنبياء والمرسلين، ويرد قلوب اليهود والنصارى إلى دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام، والعجيب أن تأتى هذه البشارة في آخر ما في كتب العهد القديم، وكأنها كلمة الله ووصيته الأخيرة لبني إسرائيل بل ولغيرهم من أهل الكتاب وصدق الله القائل حكاية عمن غيروا وبدلوا وحادوا عن الحق: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين* قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.. البقرة/135، 136)، والقائل في خطابه لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.. النحل/123)، ولأمته: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس .. الحج/78).
وفي سفر أشعياء42: [1، 2 ،11-13]،"هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي وضعت روحي عليه فيُخرج الحق للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمَع في الشارع صوته.. لترفع البرية ومدنها صوتَها الديارُ التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا. ليعطوا الرب مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر. الرب كالجبار يخرج، كرجل حروب يُنهض غَيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه" ، وهذا واضح أيضاً في الكلام عن نبي يظهر في بلاد العرب ويكون من سلالة قيدار أحد أبناء إسماعيل، وهذا النبي قد اختاره الرب ليعلي مجد الإسلام ويعلن الحرب على أعدائه، ويجدد دعوة أبيه إبراهيم في الناس بالحج والدعاء على رؤوس الجبال في عرفات والمزدلفة ومنى بمكة محل مساكن قيدار، ومعلوم أنه لم يكن عند الإسرائيليين حج كما لم يكن عند المسيحيين حتى يقال أن المراد بهذا النص وما جاء على شاكلته غير المسلمين من ذرية إسماعيل.
وقد سبق أن ذكرنا من نصوص العهد الجديد في هذا الصدد- على سبيل الاستشهاد- ما به تقام الحجة، وإلا فبشارات التوراة والإنجيل بصفاته وبمقدمه عليه الصلاة والسلام أكثر من أن تحصى .
ونرمق تأييد القران لما نطقت به الكتب السابقة في مثل قوله تعالى على لسان إبراهيم حين أودع زوجه وولده إسماعيل بواد غير ذي زرع (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الأخر.. البقرة:126)، (ربنا أنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.. إبراهيم/37)، ناهيك عن دعائه الصريح بأن يبعث في ذرية من أودعه عند بيته المحرم من به- على أساس من منهج الله- يستمر صلاح الكون، وتستقيم حركة الحياة والأحياء، ويتحقق موعود الله له بوراثة الأرض وإمامة من عليها.
وإذا كان القرآن قد قص لنا من دعاء إبراهيم إبان إيداعه زوجه هاجر وابنها منه عند البيت الحرام، ما يومئ إلى نقل موعود الله إلى بني إسماعيل .. فقد جاء ما يفيد ذلك أيضاً ويومئ إليه في سفر التكوين 22: 16- 18رغم ما انتابه من تحريف، وذلك أنه لما هم إبراهيم بذبح خصيصه وابنه الوحيد، سر الله من قوة إيمانه وأرسل إليه ملاكاً ناداه ثانية بقوله: "بذاتي أقسمت يقول الرب إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه . ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي"، وقبلها 22: 11-13جاء ما نصه: "فناداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم إبراهيم فقال: هاأنذا . فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني . فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسَكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده مُحرقةً عوضاً عن ابنه"، ويدرك أي منصف أن الذبيح هنا هو إسماعيل، إذ لا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاد إبراهيم وأنه الذي ظل وحيد أبيه أربع عشرة سنة كما جاء التصريح بذلك في سفر التكوين 16: 1، 2، 4، 15، 16"وأما ساراي امرأة أبرام فلم تلد له وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر. فقالت ساراي لأبرام هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة أدخل عليّ جاريتي لعلي أرزق منها بنين فسمع إبرام لقول ساراي .. فدخل على هاجر فحبلت ولما رأت أنها حبلت صغُرتْ مولاتها في عينيها .. فولدت هاجر لأبرام ابناً ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر، إسماعيل. كان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام".
وبعد أن قال الرب لأبرام تكوين 17: 4-9"هو ذا عهدي معك وتكون أباً لجمهور من الأمم. فلا يدعى اسمك بعدُ أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أباً لجمهور من الأمم. وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمماً وملوك منك يخرجون . وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم"، في إشارة لما جاء في قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. البقرة/131، 132).. "قال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة. وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً وملوك شعوب منها يكونون . فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه هل يولد لابن مئة سنة وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة"تكوين 17: 15-17.
ولا معنى لهذا إلا أن يحكم على من ادعى من كتبة العهد القديم بـ "أن الله امتحن إبراهيم .. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المُريّا.. فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هناك إبراهيم المذبح ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء .. فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني" تكوين 22: 1-2، 9-12، بواحد من اثنين إما أنه يستخف بعقول قراء العهد القديم وإما أنه يهرف بما لا يعرف، لأن من كان وحيد إبراهيم ساعة إقدامه على ذبح ولده وبنص التوراة هو إسماعيل لا إسحاق الذي ما ذهب إلى أرض الحجاز قط، وبالتالي يكون ما جاء في التوراة من قول الرب: "إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك . أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه"، تكوين22: 16-17هو من نصيب ولد إسماعيل بعد تحول موعود الله إليهم، بقرينة لفظة "وحيدك" التي تكررت مراراً وبدليل ما يومئ إلى هذا التحول من قول الرب: "ويرث نسلك باب أعدائه"، إذ لا معنى له إلا أخذ ميراث الحكم والنبوة ممن لم يحافظوا عليهما من ولد إسرئيل ممن عادوا الله ورسله وإعطائه لأهله ممن حفظوا وصايا الرب وشرائعه من ولد إسماعيل.
لكن معشر يهود مع اعترافهم بهذا وزعمهم الإيمان بما أنزل عليهم وتمحكهم في تسمية دولتهم باسم نبي الله يعقوب، يجادلون ويحسدون أبناء عمومتهم على ما حباهم الله من شرف، ويأبى الله إلا أن يرجع الفضل في ذلك لأهله، وهذا كتاب ربنا ينطق عليهم بالحق حيث يقول رب العزة سبحانه: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .. البقرة/146)، ويقول: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل .. الأعراف/157)، ولقد وصل علم معشر يهود بمقدم نبي بني إسماعيل ومعرفة أوصافه لحد أن كانوا يتوعدون الأوس والخزرج بقرب قدومه ويقولون لهم: سنتبعه ونقاتلكم به قتل عاد وإرم، تماماً كما كانوا يستفتحون به على الذين كفروا (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .. البقرة/89)، ولحد أن "قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفاته"، ولما قيل للحبر اليهودي عبد الله بن سلام: "أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته وإني لا أدري ما كان من أمه" ، يعني من أم ولده.
إنها القلوب المريضة القاسية والعقول المارقة الشاردة والنفوس الحاسد الحاقدة التي طالما ابتغتها عوجاً والتمست الهدى في غير طريق الله المستقيم بغياً وعدواً ومكابرة وعناداً، ففيما رواه إسحاق من حديث سلمة بن سلامة بن وقش وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريقه قال: "كان لنا جار من اليهود بالمدينة، فخرج علينا قبل البعثة بزمان فذكر الحشر والجنة والنار، فقلنا له: وما آية ذلك؟ قال: خروج نبي يبعث من هذه البلاد وأشار إلى مكة، فقالوا: متى يقع ذلك؟ قال: فرمى ببصره إلى السماء وأنا أصغر القوم، فقال: إن يستنفِذ هذا الغلام عمره يدركه، قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى بعث الله نبيه وهو حيّ، فآمنا وكفر هو"، وفي الخبر عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: (لما قدم الرسول صلي الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء، غدا عليه حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب.. فهششت إليهما فما التفتُ إلي أحد منهما مع ما بهما من الهمّ، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي أهو هو (أي المبشر به في التوراة)، قال: نعم والله، قال أتثبته وتعرفه؟ قال: نعم قال فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت أبداً) ، فتلك شهادة بأنه هو عينه الموجود ذكره وصفته في كتب القوم، والشهادة إذا جاءت من العدو انتفت عنها تهمة التحيز وكان لها مزيد فضل لكونها شهادة حق على ما جاء في قول بعضهم: ومليحة شهدت لها ضراتها * والفضل ما شهدت به الأعداء، وآخر: شهد الأنام بفضله حتى العدا * والفضل ما شهدت به الأعداء.
والحق أن نفوس يهود المريضة طفحت بهذه العداوة حتى قبل مبعثه، ويظهر ذلك في قول بحيرى الراهب لعمه حين اصطحبه في بعض قوافل الشام وذلك بعد أن تفرس في وجهه عليه السلام ورأى فيه شيئاً من علامات النبوة فأشار على عمه بقوله: "ارجع بابن أخيك إلى بلده واحترز عليه من يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنّه شراً فأسرع به"، وإنما حدا ببحيرى لأن يفعل ما فعل وينصح بما نصح لما عرفه عن يهود من حقد وغدر وخوف من أن ينتقل موعود الله ويتحول عنهم إليه وإلى أمته، يعضد هذا ما أفاده ابن إسحاق حين ذكر أن زُريراً وتماماً ودريساً – وهم نفر من أهل الكتاب – كانوا قد رأوا في رسول الله ما ارتآه بحيرى، فأرادوه فردهم عنه بحيرى وذكرهم بالله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوه به لم يخلصوا إليه وخوفهم من أهله وعشيرته، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال فتركوه وانصرفوا عنه .
ويبقي بعد كل هذا وعلي الرغم منه، عتاب الله لهم ودعوته إياهم على لسان ذاك الذي يجحدون فضله (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)، (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون.. إلى آخر الآيات46-71من سورة آل عمران).

الحقيقة التاسعة:أحقية ذرية إسماعيل في أرض فلسطين كما ترويه حقائق التاريخ والمنظمات الدولية وأدلة العقل والنقل:
المعهود لدى إسرائيل أنها لا تقيم وزناً للأعراف ولا للمواثيق الدولية، ولا للقيم ولا للمبادئ الإنسانية، ويشهد التاريخ كم هو حجم القوانين التي صدرت بحقها على امتداد أكثر من خمسين عاماً دون أن تلقي لها بالاً، ونذكر من جملة تلك القرارات التي تدين وتبطل جميع الأعمال التي تقوم بها إسرائيل بما في ذلك أعمال القتل والإبادة والتدمير ومصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير الوضع القانوني للقدس بالقوة:
قرار الأمم المتحدة رقم 2253 بتاريخ 4/7/1967، وقرارها رقم 2254بتاريخ 14/7/1967، وقرارها رقم 2851 بتاريخ 20/12/1971، وقرارها الصادر في أول ديسمبر عام 1996 وقرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ22/11/1967، وقراره رقم252 في 21/5/1968 ، وقراره رقم298 بتاريخ25/9/1971، وقراره رقم 338 بتاريخ22/10/1973، وقراره رقم 476 الصادر في يونيو عام 1980، وقراره رقم478 في 20/8/1980 الذي يقضي بعدم الاعتراف بقانون القدس الذي أصدره الكنيست في 30/7/1980بشأن توحيد القدس (الشرقية والغربية) وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، كما دعا الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في هذه المدينة المقدسة إلى سحب هذه البعثات، وأكد المجلس في قراره أن قانون الكنيست يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ويتعارض مع اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في 12/8/1949 والمتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب، وقد سبق هذا القرار سالف الذكر، القرار رقم 267 بتاريخ 3/7/1969 المؤكد لعدم قبول مبدأ الاستيلاء على الأرض بالغزو العسكري وأبدى أسفه لعدم احترام إسرائيل لقرارات المجلس والجمعية العامة وشجب بشدة جميع الإجراءات المتخذة لتغيير وضع القدس واعتبرها باطلة، ودعا إسرائيل مجدداً إلى إلغاء جميع هذه الإجراءات وقراره رقم 592 في 8/12/1986، وقراره رقم681 في 30/12/1990، وقراره الصادر في 16/5/1996، وقراره الصادر في 14/7/1998، وقراري منظمة اليونيسكو 15م/3342، 15م/3343 في خريف عام 1968، وقرارها رقم/3422في نوفمبر 1972، وقرار لجنة حقوق الإنسان رقم4 بتاريخ 14/3/1973، وما صدر مؤخراً من محكمة العدل الدولية بشأن عدم أحقية إسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20/ 7 / 2004 بأغلبية 150 صوتاً ضد 6أصوات منها بالطبع الولايات المتحدة وامتناع 10 عن التصويت بهدمه وإرجاع الأراضي المغتصبة التي بني عليها لأصحابها، وما ذكر هنا في الحقيقة يعد قليلاً من كثير غير أن جميع هذه القرارات من كل هذه المنظمات الدولية لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، ولم تفكر أي من هذه المنظمات الدولية في معاقبة هذه الدولة المدللة والقائمة على الإرهاب واغتصاب أراضي الغير والتي تدافع عنها أمريكا باستماتة، بأي من تلكم العقوبات التي تستخدم ضد الدول الإسلامية والعربية للا سبب أو لأتفه الأسباب أو عقب اختلاق أسباب، حتى وصل حال إسرائيل الآن والمسلين- الذين تداعت عليهم الأمم بسبب إعراضهم عن منهج ربهم فأضحوا كالأيتام على مائدة اللئام- إلى ما وصل إليه.
وإذا كان يهود عصرنا لا يكفون عن دعوى أحقيتهم في أرض الميعاد بل وفى قبلة المسلمين الأولى (المسجد الأقصى) فيعملون- جاهدين وجادين لإثبات هذا الحق المزعوم والوعد المكذوب- على نقضه وطمس معالمه لحد أن صار هدمه لا قدر الله مسألة وقت على ما ذكرت صحيفة (هاآرتس) الإسرائلية في 12/ 8/ 1969، فإن الثابت شرعاً وتاريخ:
1- أن سليمان الذي يريدون أن يرفعوا على أنقاض المسجد الأقصى هيكلا له خالوه، عمل على تجديد هذا المسجد العتيق المبارك الذي بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاماً.. ، وذلك بعد أن اندرست معالمه عبر القرون المتطاولة، فكيف بمن يجدد مسجداً هو ثاني مسجد بنى على وجه الأرض، وله من المكانة ما له، أن يبنى مكانه أو أسفله أو حتى بجواره هيكلا تتنافى رسالته مع رسالة المسجد تنافيا يصل إلى حد أن يبنى أحدهما على أنقاض الآخر كما تزعم يهود؟.
2- إن الملاحظ في حديث المؤرخين القدامى من أمثال ابن الأثير ت630هـ في كتاب (الكامل) وابن كثير ت 747هـ في كتابه (البداية والنهاية) وغيرهما ، أنهم لم يعرضوا سوى لبناء المسجد وإتمامه علي يد داود وسليمان عليهما السلام ولم يتطرقوا للحديث عن الهيكل ، بل إن الذين كتبوا في هذا الموضوع من الباحثين التوراتيين والإفرنج ومن ساندهم من حراس الفكر الآسن العربي في جامعاتنا ومراكز أبحاثنا ممن أشاروا إلي وجوده لم يقدموا دليلاً أو مصدراً واحداً يكشف عن حقيقة هذه المفردة كما خالها معشر يهود سوى التوراة، إذ لم تسهم المخلفات الأثرية في إثبات ذلك كما لا توجد مصادر تاريخية تدعم السجل التوراتي، وممن قرروا تلك الحقيقة من علماء الآثار في الجامعة العبرية وغيرها (أمنون بن ثور) و (طومسون) و (روني ريك) و (ميللر) و(غاريبيى) و(ليتش) و(فلاناغن) وغيرهم، ومن ثم بدأ الإجماع في السنوات الأخيرة علي أن فكرة مملكة سليمان وهيكله المزعوم في فلسطين تتداعي تدريجياً وقد أسهم هذا الغياب للأدلة والآثار، بقوة في إسقاط ماضي هذا الهيكل المتخيل، وإن كانت فكرته لا تزال تهيمن علي خطاب الدراسات التوراتية على الرغم من أن التوراة باعتبارها نصا مقدسا ليست مرجعاً ولا تعكس بالضرورة الحقائق التاريخية، والأمر فيها- علي ما يبدو- لا يعدو أن يكون محاولة ممن صاغوا التوراة في القرن الثاني ق. م لإثبات تواجد لليهود بأي شكل في أرض الميعاد .
3- وتدعيماً لما سبق تقريره من عدم وجود أي أثر يدل على وجود الهيكل نقول: إنه ومنذ أن وطئت أقدام الاستعمار الأوربي الأرض العربية في القرن التاسع عشر، والمستشرقون وعلماء الآثار ما انفكوا يتوافدون على القدس باعتبارها مهد المسيح ومكان دعوته وأيضا بوصفها أرض التوراة، وقد استغلت الحركة الصهيونية هذا الأمر في خططها للترويج لدعوى عودة اليهود إلي الأرض المقدسة، مستفيدة من أطماع القوى الأوربية الاستعمارية في الشرق وكونت من أجل العثور على أي أثر يثبت حقها للعودة، جمعيات ومؤسسات ومدارس بحثية كان من أهمها:
صندوق استكشاف فلسطين وهو هيئة بريطانية أنشئت عام 1865م، جمعية الاستكشاف الفلسطينية وهي جمعية يهودية أمريكية تأسست عام 1870م، جمعية الآثار التوراتية وهي جمعية بريطانية أنشئت عام 1870م، والجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية أنشئت عام 1877م، والمدرسة الفرنسية للدراسات التوراتية والأثرية أنشأت عام 1892م، والجمعية الألمانية للدراسات الشرقية أنشأت عام 1879م، والمدرسة الألمانية للأبحاث الشرقية للقدس تأسست عام 1900م وهي تعرف الآن باسم مدرسة أولبرايت نسبة لاسم العالم التوراتي وليام فولبرايت يهودي الأصل، والمعهد البروتستانتي الألماني للدراسات التاريخية في الأرض المقدسة أنشأ عام 1902م، وقد باءت كل مساعي هذه الجمعيات بالفشل الذريع في إيجاد دليل أثري واحد يثبت وجود بقية للهيكل أسفل الحرم القدس الشريف أو المسجد الأقصى.
وخارجاً عن نطاق العمل المنظم والكثيف لهذه الجمعيات ووريثاتها من المؤسسات الإسرائيلية فقد عملت في مدينة القدس تحديداً، للبحث عن بقايا هيكل سليمان، عدة بعثات أثرية معنية بالحفائر، انطلقت جميعها من فرضية صحة ما جاء في التوراة من معلومات تاريخية وحضارية كان أهمها:
حفائر باركلي المبشر الأمريكي وكانت عام 1839م، حفائر شارلفروارن الضابط الإنجليزي وكانت عام 1867م، حفائر بلبيس وهي فيما بين عامي 1893و1896م، حفائر الكابتن واركر ضابط إنجليزي وكانت عام 1911م بناء على طلب وتمويل المليونير اليهودي روتشيلد، حفائر ماكاليستر الإنجليزي 1923- 1926م، حفائر كروفوت عام 1927، حفائر المدرسة الإنجليزية للآثار عام 1961م، حفائر مصلحة الآثار الإسرائيلية عام 1967م تحت إشراف دهنس، الحفائر المشتركة بين الجامعة العبرية وجمعية الكشف الإسرائيلي منذ 1968م، ولم تسفر كل هذه الحفائر كذلك عن أي شيء سوى تشويه معالم الآثار والحضارة الإسلامية .
4- بل ومما يدعم ما سبق تقريره من عدم وجود أي أثر للهيكل المتخيل.. ما أعلنه العالم الأثري الإسرائيلي (زئيف هرتسوغ) حديثاً، وذلك في تقريره المثير للجدل الموسوم بـ (التوراة: لا إثبات على الأرض) .. ذكر "أنه بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق، ولم تحتل فلسطين، ولا ذكر لامبراطورية داود وسليمان"، ويأتي تقريره هذا- بالطبع- بعد أن استفرغ الدارسون التوراتيون والآثاريون ومنهم إفرنج ومنتسبون إلى دائرة الآثار الإسرائيلية الرسمية كل ما في وسعهم، وبعد أن بحثوا في كل مكان ورد اسمه في التوراة التي جعلوها في يد والمجرف في اليد الأخرى، وكانت المفاجئة أن ما وجد يؤكد بطلان ما جاءت به التوراة ويوجب قراءة التاريخ العربي عامة والفلسطيني خاصة قراءة جديدة وموضوعية .
5- كما يدعمه شهادة الدكتورة (كاتلين كابينوس) مديرة الحفائر في المدرسة البريطانية للآثار بالقدس التي قررت سنة 1968م ضمن فريق من علماء الآثار المسيحيين عدم وجود أي أثر لهيكل سليمان، وشهادة فريق المهندسين العالميين الذين درسوا التربة التي يقوم عليها المسجد الأقصى في وقت لاحق، وتعمقوا فيها، وخلصوا إلى أنه لا يوجد في ذلك المكان أي دليل أو شبهة لأي أثر من الهيكل الذي تدعي الصهيونية أنه مدفون بجوار حائط البراق الغربي بالمسجد الأقصى .
6- وكما عجزت تقارير وشهادات الصهاينة ومن والاهم عن إيجاد أي أثر للهيكل وعن إثبات أي دليل تاريخي يؤكد وجوده، فقد عجزت كذلك عن إثبات أي أثر أو دليل يقطع بأن حائط البراق الذي يسمونه بـ (حائط المبكى)، جزء من سور كان حول هيكل سليمان، بل إن اللجنة الدولية المتفرعة عن عصبة الأمم المتحدة التي تكونت سنة 1929برئاسة (وولترشو) للنظر في الخلاف حول ملكية المبكى ومكثت شهراً كاملاً في فلسطين من 19/6: 19/7/1930 واستمعت لأحد عشر محامياً من مسلمين ومسيحيين من مختلف دول العالم كما استمعت لأقوال 22 شاهداً قدمهم الجانب اليهودي، أثبتت من خلال وثيقة فندت فيها إيماءات الإسرائيليين بحقهم التاريخي في القدس، بأن الحائط وقف للمسلمين العرب ولا يجوز لأحد أن ينازعهم فيه، ومن ثم لم تقر هذه اللجنة وجهة النظر الصهيونية وما تخطط له من إخراج 10 آلاف مسلم من القدس القديمة بأي شكل وبمختلف الأساليب وإحلال 5000 يهودي مكانهم، ومن إزالة الأبنية التاريخية والآثار الإسلامية الملاصقة لسور المسجد الأقصى من الجهة الغربية وتوسيع حائط المبكى، ومن فتح أنفاق تحت المسجد، وحكمت لجنة (وولترشو) الدولية بعد دراسة وافية لكافة الوثائق، بإبقاء الحال على ما هو عليه ومنع اليهود من إدخال أي تغيير فيه .. وبنحو ذلك فعلت منظمة اليونسكو التي أدانت بقراريها 82، 83 في 1970 إسرائيل على إحراق المسجد الأقصى وعلى استمرارها في الحفريات كما دعتها للالتزام فورأً بالقرار 17م/3422الصادر في نوفمبر 1972 القاضي بالكف عن تغيير معالم القدس، الأمر الذي يؤكد من جديد عدم وجود أية أدلة مادية تشير من قريب أو من بعيد إلى الهيكل المزعوم وبالتالي كذب الادعاء اليهودي بالحق التاريخي لهم في أرض فلسطين.
7- كما يؤكده موقع المسجد الأقصى نفسه، ذلك أن من أبرز المعالم التي تميز الحرم الإسلامي الشريف أنه مستطيل ويأخذ الاتجاه من الشمال إلى الجنوب في اتجاه قبلة مكة المكرمة على خلاف الهيكل قبل إبادته وتدميره ومحوه ـ إن صح ما ورد في هذا الصدد ـ فإنه ـ كما أفادت دراسة الأثرى الفرنسي (دي سولس) في كتابة (تاريخ الفن اليهودي)- كان يأخذ الاتجاه من الغرب إلى الشرق، وهذا في حد ذاته ينفي نفياً قاطعاً الرأي القائل بأن الهيكل يقوم مكان الحرم الإسلامي الشريف ، إن افترضنا جدلاً وجود هيكل في الأصل.
8- ثم إن القول بثبوت أحقية اليهود في بلاد المسلمين المقدسة بحجة الهيكل وبمجرد انتسابه لنبي الله سليمان الذي يعدونه نبياً من أنبيائهم، قول خاطئ ومجاف للحقيقة، ذلك أن سليمان وجميع آبائه وأجداده من النبيين ما كانوا قط في يوم من الأيام يهوداً أو نصارى أو عابدين لعجل أو وثن، والعقل والنقل يقضيان بهذا، فجميعهم كانوا على ملة أبيهم إبراهيم حنيفاً مسلماً، والشرك أبغض ما يكون إلى قلوبهم، وهم ما بعثوا إلا لترسيخ عقيدة التوحيد التي هي في الأساس ملة إبراهيم ووصيته إليهم، واليهودية والنصرانية ما ظهرت وما وجدت إلا فيما بعد، فأنى له أن يكون هو أو أحد من أبنائه كذلك (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده..آل عمران/65)؟، وعليه فعندما يقرر القرآن حقيقة (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.. آل عمران .. /67)، يكون قد وافق العقل في تقرير ما كان عليه أبو الأنبياء وما كان عليه أبناؤه بالطبع من التوحيد الخالص، وما عند القوم من دليل يثبت أنهم أو أن واحداً منهم سواء سليمان أو غيره كانوا على غير ذلك، ومن هنا ساغ لرب العزة أن يوجه خطابه مستنكراً وقائلاً: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون.. البقرة/140)، وإذا كان الجواب عن هذه التساؤلات بالنفي فـ (إن أولى الناس بإبراهيم، للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا.. آل عمران/ 68)، ذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه هم الذين اتبعوا الملة الإسلامية التي هي وصية إبراهيم أبي الأنبياء كما أنها وصية نبي الله إسرائيل نفسه اللتين جاء ذكرهما في قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. البقرة/132)، فاتبعها محمد واتباعه وخالفها ولا يزال أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وهكذا كان الحال في أمر اتّباعها من دونهم بالنسبة لسليمان عليه السلام، وماذا بعد أن صار الخلق والطير المسخر له دعاة لدينه الإسلام، فلقد جاءه الهدهد- بعد أن استعرض عليه السلام ملكه ولم يجده ـ جاءه مستنكرا لما تفعله ملكة سبأ قائلا: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم .. النمل/24-26)، وبعد محاورة ومداورة بينها وبين سليمان (قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .. النمل/44).
ولقد جاء أمر الله واستنكاره لأولئك الزاعمين أنهم على درب هذه الصفوة من الخلق المتمحكين فيهم على الرغم من براءة هذه الصفوة منهم، وذلك في قوله سبحانه: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .. البقرة/136)، ولكن (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين ..آل عمران/86).
ونخلص من هذا إلى أمرين مهمين لا تقل إحداهما أهمية عن الأخرى،الأول: أن الديانات لا تقوم على الأعراق أو النزعات، وأن الإسلام ما كان قط للعرب وحدهم وإلا كانت الديانات السماوية حواجز تحول دون التقاء الشعوب. والأمر الثاني: أن المسلمين من سلالة إسماعيل هم الوارثون الشرعيون لتراث الأنبياء لأنهم الذين آمنوا برسالاتهم الحقة بعد أن كفر بها غيرهم وهم الذين ورثوا بيت المقدس وسائر المقدسات الإبراهيمية والموسوية والسليمانية بعد أن تسبب غيرهم في خرابها، وهم الذين حافظوا ـ على مدار الأحقاب والأزمان- على تيك المقدسات واعتبروها جزءاً لا يتجزأ من تراثهم الديني والروحي بعد أن شوه غيرهم معالمها بالحفائر والجرافات، ألا يدل كل هذا ـ بعد أن عرفنا أن القدس بأنبيائها ورسلها تنتمي إلى الإسلام قلباً وقالباً من قديم الحقب ـ على أحقية المسلمين في هذه المدينة المباركة، سيما وأنه لا يوجد أي معلم أثرى لليهود في أرجائها؟ وألا يدل ذلك أيضاً وفي ظل ما يحدث للمسلمين هناك وفي بلادهم من انتهاكات لهم ولمقدساتهم على أنهم أولى الناس في الحفاظ على الممتلكات والأرواح والمقدسات؟.
9- وإذا كان الخليل إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد البيت الحرام بصحبة ابنه من هاجر إسماعيل عليه السلام، وكانت المدة الزمنية بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى على نحو ما ورد في الصحيح أربعين عاماً.. فمن المعقول ـ سعيًا وراء تحقيق موعود الله لشيخ الأنبياء عليه السلام ـ أن يكون إسحاق عليه السلام ابنه من سارة، هو الذي أسس بإيعاز من أبيه أو بأمر من الله المسجد الأقصى في الأرض التي بارك سبحانه فيها وحولها، وعليه فليس لداود وسليمان من عمل سوى رفع قواعده وتجديده.
وإذا كان هذا المسجد هو عينه الذي أسرى برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليه وقد رآه ـ بالطبع ـ على الحال الذي كان عليه، وإلا لما أطلق عليه القرآن مسجداً، ولما تسنى للرسول أن يصفه للمشركين عندما جادلوه في أمره صبيحة أسرى به إليه.. فإن هذا يعني أن المسجد الأقصى خلال هذه المدة الطويلة التي استمرت من عهد إسحاق الذي كانت ولادته في القرن العشرين قبل الميلاد إلى مبعث النبي محمد سنة610 على الأرجح، وإسرائه صلى الله عليه وسلم إليه بعيد ذلك، مروراً بعهد داود ثم سليمان الذي توفي سنة 930ق.م وبحكم البابليين والفرس واليونان والبطالمة والرومان لم تطله يد التخريب والإبادة، الأمر الذي يشكك في وجود هيكل أصلاً بل وفى مصداقية ما جاء في التوراة بشأنه، إذ كيف يتأتى أن يكون ثمة هيكل قد دمر على نحو ما ورد في الكتاب المقدس – سفر الملوك الثاني 24: 13، 25وما بعدهما، وإرميا 52: 30- وهو في مكان المسجد الذي ظل طوال هذه المدة وسيظل شاهداً على كذب وادعاءات اليهود في زعمهم أن الهيكل المزمع بنائه الآن من جديد، يقع أسفله أو بجواره، أو حتى في محيطه؟، إن الجواب المتعقل يقضي بأن لو كان الأمر على نحو ما يدعون لتم تخريب الأقصى هو الآخر لوقوعه في زمام البلاد التي طالها التدمير سيما وقد قيل إن آخر تدمير لحق المدينة كان بعد ميلاد المسيح بـ 138عاماً أي قبل تشريف النبي صلى اله عليه وسلم له وللبقعة المباركة من حوله بزمن ليس بالبعيد.
10- وحين هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة عقد بعد الهجرة مباشرة عقداً مع يهودها أقرهم فيه على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم، فلو كان هناك هيكل بحق كما يزعم يهود عصرنا لما خفي ذلك عن أسلافهم ممن عاصروا رسول الله وساكنوه، بل ولطالبوه صلى لله عليه وسلم به ولأثبتوا أحقيتهم له أو لنصوا على الأقل على ملكيتهم إياه إن لم يتظاهروا بشأنه ويحتجوا على ذهابه إليه، سيما وقد عرفوا بإسرائه إليه ومعراجه منه للسماء، منازعته إياهم فيه.
11- ثم إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يكره التشبه باليهود والنصارى حتى قال قائلهم: إن محمدا لم يدع لنا شيئاً نحن عليه إلا وخالفنا فيه، فهل يعقل أن يحط رحل النبي عليه السلام ليلة الإسراء في موضع كان في يوم ما معبداً أو مكاناً معظماً لدى يهود؟ وهل يُظن بالنبي أن يقع فيما تورع أحد أصحابه وهو عمر أن يقع فيه؟ وهل يتصور وجود هيكل تتنافى رسالته مع رسالة المسجد الذي بني عليه في مكان اعترف اليهود- قبل وبعد تحويل قبلة المسلمين إلى الكعبة- بأنه قبلتهم في صلاتهم مع علمهم واعترافهم كذلك بأنه صلى الله عليه وسلم وصحابته ما كانوا يتجهون في صلاتهم أيضا إلا إلى المسجد الأقصى؟.
12- وعند فتح المسلمين لبيت المقدس سنة636 من الهجرة وإعطاء عمر وثيقة الأمان لأهلها تضمنت الوثيقة: "ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"، فلو كان هناك هيكلاً كما يزعم يهود الشتات لنص عمر عليه في هذه العهدة الشهيرة ولأمّنَه باعتباره مكاناً مقدساً، إذ هو عينه الذي أمن النصارى على كنائسهم وصلبانهم، وهو عينه الذي رفض أن يصلي في كنيسة القدس عندما دعاه مطرانها لذلك، خوفا من أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعة لأن يستولوا عليها ويحولونها بعدئذ إلى مسجد، بحجة أن عمر صلى فيها.
13- وعلى الافتراض جدلا أن ثمة هيكلاً بُنى ودمر مرتين كما يقال، فما الذي يمنع أن يكون محوه من الوجود قد تم عقوبة من الرب لبني إسرائيل على جرائمهم وتخليهم عن تعاليمه ووصاياه كما نُص على ذلك في كتبهم، فيكون الواجب عليهم مراجعة حساباتهم مع الله لا المزيد من استجلاب سخطه وغضبه، وفي فعل ما هو على العكس مما ينبغي عليهم فعله مما ذكرنا؟، جاء في سفر الملوك الأول9: 1-10أنه "لما أكمل سليمان بناء بيت الرب.. وكل مرغوب سليمان الذي سُرّ أن يعمل.. تراءى- الملك- لسليمان ثانية .. وقال له الرب: قد سمعت صلاتك وتضرعك.. قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد، وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام .. إن كنتم تنقلبون أنتم أو أبنائكم من ورائي ولا تحفظون وصاياي فرائضي التي جعلتها أمامكم. بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها. فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب. وهذا البيت يكون عبرة كل من يمر عليه يتعجب ويَصفُر ويقولون لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت. فيقولون من أجل أنهم تركوا الرب إلههم الذي أخرج آباءهم من أرض مصر وتمسكوا بآلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوها لذلك جلب الرب عليهم كل هذا الشر"، ولا يختلف في إغاظة بني إسرائيل للرب ولا عبادتهم للعجل ولا انتهاكهم ومن شايعهم إلى يوم الناس هذا لسائر حرمات الله اثنان، وعليه فلا عجب أن يحل عليهم غضب الله وأن ينزل بهم وعيده وأن يصبح هيكلهم في المرتين اللتين ورد ذكرهما في سفر الأخبار وسفر عزرا على ما سيأتي، أثرا بعد عين.
فقد جاء في سفر أخبار الأيام الثاني36: 14-20 أن تدميره في المرة الأولى تم على يد ملك الكلدانيين بخنتصر الذي أمر جنده فـ "أحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وأحرقوا جميع قصورها بالنار وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة. وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيدا" وذلك بعد أن "أكثروا الخيانة حسب كل رجاسات الأمم ونجسوا بيت الرب الذي قدسه في أورشليم.. وكانوا يهزأون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بأنبيائه".
وبعد عودة عزرا ونحميا إلى أورشليم في أيام كورش ملك فارس، وخضوع فلسطين للدولة الفارسية وكان ذلك عام 536ق.م، ثم إعادة بناء الهيكل وتدوين التوراة على نحو ما جاء في سفر عزرا، 1: 1-4 ولما حادوا عن الحق دمره سبحانه عليهم للمرة الثانية وأباده من الوجود هذه المرة إلى الأبد، وذلك حين بطش بهم القائد الروماني تيتوس سنة 70 من الميلاد.
وعليه فما يسعى إليه بنو إسرائيل الآن من عربدة ومن إهلاك للبلاد والعباد في محاولة منهم لإعادة الهيكل يعد تمادياً لمخالفة أوامر الرب من ناحية، كما يعد اعتراضاً على حكم الله وعدم رضاء لما قضي فيه بأمر- سيما بعد تحول موعود الله عنهم- من ناحية ثانية، كما يُعد تمرداً ومخالفة لما تنبأ به عيسى عليه السلام آخر أنبياء الله ورسله إليهم من ناحية ثالثة.
ومن النبوءات التي أشير فيها صراحة بتدمير الهيكل وإبادته ومحوه من الوجود بحيث لا تقوم بعده قائمة وجاء ذكرها على لسان عيسى- عليه السلام- الذي تآمروا على قتله وقتل غيره من الأنبياء، ما ورد في إنجيل متى23: 37 -39 "يا أورشليم يا أورشليم - يريد سكانها من اليهود- يا قتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا، هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب".. وما ورد في إنجيل لوقا 21: 20-22 من قوله- عليه السلام- لبعض تلاميذه فيما سيؤول إليه أمر أورشليم والهيكل: "متى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها .. لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب".
ولا يخفى ما في هذين النصين وغيرهما على ما سيأتي من تلميح إلى قرب نهاية بنى إسرائيل ومبعث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم الذي سيؤول إليه أمر موعود الله سبحانه في الملك والنبوة، ومن تلك النبوءات أيضا ما جاء من مخاطبة عيسى لأورشليم في إنجيل لوقا 19: 43-46 قائلاً: "ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويُحدّقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر.. ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه. قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"، ثم راح يضرب المثل لأولئك المخاطبين من الكهنة والكتبة ووجوه الشعب الذين تآمروا على قتله، ويذكرهم بأمر الكرّامين الذين رفضوا الحجر الذي صار فيما بعد رأس الزاوية، في إشارة وبشارة واضحتين بخاتم النبيين وآخر المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الأمر الذي يعني أن يسوع وحوارييه كانوا يتوقعون ما سيحدث لمعشر يهود، كما يعني كذلك الإيذان بأنه لا عودة لأولئك الأنكاد لضياع كيانهم إلى الأبد بعد أن منحهم الله الفرصة تلو الفرصة، لكن دون جدوى، على أن ما جاء في الكتاب المقدس هو على نحو ما ذكرنا قبل أن يصبح الهيكل- بآية من الله وبسبب ما اقترفه معشر يهود- أثراً بعد عين، وعليه فلا تعارض بين ما جاء في التوراة في هذا الصدد على افتراض القول بصحته وبين القول بعدم وجوده البتة على ما هو متضح.
14- لقد صرح (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) أن ما يسمى بالهيكل ما هو إلا أكذوبة، كما صرح الكاردينال (اسطفانوس الأول) بطريك الأقباط الكاثوليك في جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة 22/8/1969- أي عقب إحراق اليهود للأقصى في 12/8/1969 الذي أدانه مجلس الأمن بالقرار رقم 271في 15/9/1969 - مستنطقاً ما ذكرناه في الأسطر القليلة الماضية بأن "إحراق إسرائيل للمسجد الأقصى تحد لكل النبوات والكتب المقدسة"، وأردف يقول: "إذا كان اليهود لا يؤمنون بذلك فليرجعوا إلى التاريخ وليروا ما صنعه أجدادهم في عهد الإمبراطور (يوليانوس) الذي بنى على أنقاض مدينة القدس، إيلياء عام 62ميلادية، حين حاولوا إعادة بناء هيكل سليمان فهبطت ألسنة النار وزلزلت الأرض وأزالت كل ما صنعوا ".
سبحان الله إنها إذاً الإرادة الإلهية والانتقام الرباني ولا شئ غير ذلك، وعلى معشر يهود إن كان عندهم إيمان بذلك وبأسفارهم، أن يكفوا عن عبثهم بالمقدسات وألا يزيدوا بذلك وبسحل الأبرياء وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس والنساء والأطفال وإهلاك الحرث والنسل، من سخط وغضب الرب أكثر ما هو عليه الآن، وأن يسلموا بقضاء الله فيهم ويتمثلوا أوامره ويؤمنوا بخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ويعترفوا له بالإمامة والريادة وموعود لله له ويوقنوا بألا نجاة لهم في الدنيا والآخرة إلا بذلك إن كانوا يريدون لأنفسهم نجاة.
15- إن الفكرة الصهيونية السياسية التي نادى بها ليوبنسكر الطبيب اليهودي الروسي سنة1881م والتي تنادى بوجوب تهجير اليهود من المجتمعات التي يعيشون فيها إلى إقليم يمتلكونه ليكوِّن أمة يهوديةً، وتبعه فيها هرتزل الذي رشّح لتحقيق هذا الغرض أرض فلسطين باعتبارها الموطن الأصلي لهم، ولهم-على حد زعمه- الحق الشرعي في أن يعودوا إليه .. هذه الفكرة وإن أفلحت بفضل مسايرة الانتداب البريطاني لتدعيم هذا الاتجاه، إلا أنها حملت في طياتها الزيف والكذب والزور والبهتان .. ذلك أن الكثرة الغالبة من اليهود الذين نزحوا إلى فلسطين في العصور الحديثة لا يمتّون بأدنى صلة ليهود فلسطين القدماء، ومن ثم فليس لهم حق تحت أي مبرر فيما يغتصبونه من أراضي الغير إن صح الزعم بأن ليهود فلسطين حق شرعي أصلاً في تلك الأراضي المقدسة، سيما وأن أولئك النازحين ينتمون إلى أجناس غير سامية اعتنقت اليهودية في فترات متباينة عبر التاريخ، فقد كان من اليهود الذين طردهم الملك الكاثوليكي فرديناند من أسبانيا ليستوطنوا أرض فلسطين كثير من المواطنين الأسبان الذين تهودوا وانتشروا في إيطاليا وفرنسا والشرق الأوسط، ومثل ذلك يقال عن يهود طائفة الأشكيناز وهم يهود شرق أوربا ووسطها فهم أحفاد الخزر الذين عاشوا في جنوب روسيا واعتنقوا الديانة اليهودية في القرنين السابع والثامن الميلاديين، بل إن معظم الصهاينة أوربيون وليس هناك أي رابط عضوي بين أجداد هؤلاء جميعاً وبين الأسباط .
فأنى لقوم لا يمتّون لموطن بأدنى صلة أن يُخرجوا منه أهله بعد أن يهدروا دمه ويستحلوا باسم الدين العيش فيه على حساب من أخرجوهم من ديارهم بغير حق، وأي دين وأي عقل وأي منطق وأي قانون وأي شريعة ـ باستثناء قانون الظلم وشريعة الغاب ـ يرضى بهذا؟ والسؤال الذي يلح في فرض نفسه هو: لمَ لمْ يقم من تبنوا هذه الفكرة من الأوربيين والأمريكيين وغيرهم ممن تتقاطر قلوبهم شفقة ورحمة على أولئك الذين مزّقهم الله الرحيم بخلقه كل ممزق بعد أن قطعهم في الأرض أمماً وهاهم قد أتوا من كل حدب وصوب.. لمَ لا يقومون بهذا المعروف الذي لن ينساه لهم الرب ولا التاريخ فيقتطعون من بلادهم جزءًا يؤونهم فيه، ولن تعدم بريطانيا مقاطعة ولن تعدم أمريكا ولاية تفرغها لأولئك البؤساء المطرودين والضحايا المساكين، على الأقل ليوفروا على أنفسهم هذه الأموال الطائلة والجهود المضنية والإمدادات المكلفة التي يبعثون بها إليهم من أقاصي البلاد ومن أدانيها، وليست بلادنا بأسعد حظاً ولا أحسن حالاً من بلادهم فبلادهم رمز التقدم والحضارة، ومبعث الرقي والثقافة.
16- ومن الأمور الثابتة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوقف في أرض الخليل أول وقف وجعله للصحابي الجليل تميم بن أوس الداري وقد عرف هذا الوقف حتى الآن بالوقف التميمي نسبة إليه، كما أوقف الخليفة عمر بن الخطاب وقفاً آخر في جبل أبي غنيم للصحابي الجليل عياض بن غنم وقد عرف هذا الجبل ولا يزال باسمه، وعلى الرغم من أن الوقف الإسلامي لا يجوز أن يباع ولا أن يشترى إلا أن اليهود الذين يجيدون فنون التزوير والتزييف احتلوا هذه الأماكن وادعوها لأنفسهم وقد تبرع اليهودي (زيمسكوفيتش) بـ 600مليون دولار لبناء مستوطنة في جبل أبي غنيم ضارباً هو وقومه بكل القوانين والشرائع السماوية عرض الحائط، الأمر الذي أثار حفيظة علماء المسلمين في أنحاء المعمورة وكان من توصيات المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية في 22من ذي الحجة 1389هـ الموافق 28من فبراير 1970م أن بيت المقدس وما حوله إنما هي أرض أوقاف أوقفها المتبرعون منذ القدم على مصلحة المسلمين ومن ثم فهي ملك للمسلمين جميعاً واغتصاب شبر منه تحت أي مبرر يفرض عليهم السعي لتحريره لاتفاق أهل العلم على (أن شبراً ديس من أرض المسلمين بالمشرق وجب على أهل المغرب أن يسعوا لاسترداده)، وأكدت التوصيات على (أن الجهاد بالأموال والأنفس أضحى فرض عين) (وبما أن الأرض المقدسة والقدس الشريف والمسجد الأقصى ملك للمسلمين كلهم يتحتم على المسلمين في كل مكان أن يبادروا إلى تحمل واجباتهم في الجهاد والعمل على إرسال المجاهدين إلى ساحات القتال)، (ومن يتخلف عن تحمل أعبائه فقد سلك سبيلاً غير سبيل المؤمنين)، لكن الخيانة من قبل حكام المسلمين الذين هادنوا أعداء الله ونصبوا حروبهم ضد المجاهدين حالت دون إتمام هذه الصفة مع الله وأبت أنظمتهم ولا تزال إلا أن تسلك غير سبيل المؤمنين، فإلى الله وحده المشتكى وإنا لله وإنا إليه راجعون.

17- يضاف لكل ما ذكر من أدلة في عدم أحقية بني إسرائيل في القدس الشريف بما فيها ساحة المسجد الأقصى وما يدعونه من أمر الهيكل، أن كافة المنظمات الدولية تشهد بعدم أحقيتهم في أي من هذه الأراضي المقدسة وبالتالي عدم أحقيتهم في الاعتداء على أهلها ولا في إحداث أية تغييرات تحدث على الأرض.. ولعل أهم قرار اتخذه مجلس الأمن في هذا الشأن القرار رقم 672في أكتوبر عام 1990 والذي طالب فيه إسرائيل بصفتها قوة احتلال بالوفاء بمسئولياتها القانونية وأدان بالإجماع ارتكاب إسرائيل لأعمال العنف التي جرت ضد الفلسطينيين في ساحة المسجد الأقصى في 8/10/1990، وعندما رفضت إسرائيل تنفيذ القرار أصدر المجلس قراراً آخر برقم 673 في 24/10/1990 أكد فيه إصراره على أن تمتثل إسرائيل للقرار السابق ، وفي هذا كله فضلاً عما سبق ذكره دلالة غير مباشرة من المجتمع الدولي على عدم وجود ما يدعيه اليهود من أمر الهيكل.

18- فإذا ما أضفنا إلى تلك الأجوبة المنطقية أن أول من بنى مدينة القدس منذ ثلاثين قرناً قبل الميلاد هم اليبوسيون وهم من العرب القدامى على ما جاء التصريح به في سفر إرميا 25: 24 "وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية"، وسفر حزقيال 27: 21 "العرب وكل رؤساء قيدار.. في هذه كانوا تجارك"، وسفر أخبار الأيام الأول 11: 4" وذهب داود وكل إسرائيل إلى أورشليم أي يبوس وهناك اليبوسيون سكان الأرض"، وسفر أخبار الأيام الثاني 9: 14 "وكل ملوك العرب وولاة الأرض كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان"، وسفر يشوع 15: 63 "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم"، وسفر القضاة 19: 11، 12 "وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جداً قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبت فيها. فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا"، وعندما أراد داود أن يبني هيكلا للرب في القدس قام بشراء البيدر الذي كان ملكاً لرجل يبوسي يدعي أرونة على ما جاء في سفر صموئيل الثاني 24: 21- 25إلى غير ذلك مما يكشف من النصوص التوراتية ذاتها عن حقيقة أن القدس (يبوس) مدينة العرب اليبوسيين وأنهم الذين أقاموا وتعاقب على حكمهم فيها ملوك العرب دون أن يشاركهم في سكناها أحد من بني إسرائيل وأنها كما وصفها سيد الغلام الإسرائيلي بالنسبة إليهما ولكل إسرائيلي من باب أولى (مدينة غريبة).
19- وأضفنا إلى كل ذلك أن الحفائر الأثرية التي جرت حول المدينة كشفت أنه في العصر البرونزي 2600-1800ق.م كانت المنطقة عامرة وما حولها باليبوسيين .. وأن الفتح الإسلامي جاء والمدينة خالية تماماً من اليهود لأنها كانت محرمة عليهم، وهم من بعد موسى ومن بعد الغزو البابلي والروماني، قد قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزّقهم كل ممزق .. وأن وجودهم المتقطع على مدار هذه الفترة كان وجوداً طارئاً لم تقم لهم خلاله ملك ولا دولة ، تأكد لنا عدم أحقيتهم لا في مدينة القدس فحسب بل ولا في أي شبر من أرض فلسطين .. وأصبح لزاماً على كل مسلم أن يطلع بدوره في السعي الدائم لأن تظل هذه القضية ساخنة ومحور اهتمامه وفي عدم الرضوخ لما يسمى بسياسة الأمر الواقع وعدم المبالغة في وصف قوة العدو والإعداد له بكل ما أوتي من قوة ورفض التطبيع معه، وفي استشعار الهم واستثمار كل الطاقات لخدمة القضية وبث روح الأمل والتفاؤل وتمني الشهادة في سبيل الله والعمل على تربية جيل النصر المنشود، وأن يستحضر معنى ما جاء في قوله تعالى: (فلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المصير .. آل عمران/196، 197)، وقوله: (هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.. الحشر/2) .. بل وعرفنا أن ما فعله عمر عشية تسلم مفاتيح بيت المقدس حين اشترط عليه أهل إيلياء وأقرهم على ذلك بطريرك القدس ألا يسمح لليهود بدخولها أو الإقامة فيها، لم يأت من فراغ، وازداد يقيننا بوجوب أن يظل العهد العمري محترماً ومعمولا به لأن المسلمين مأمورون أن يتبعوا سنة الخلفاء الراشدين المهديين ولا ريب أن عمر أحدهم .
وعلى نصارى العالم أيضاً أن يثبتوا فوراً وعلى الملأ ولاءهم لقساوستهم فيمضوا ما عاهد عليه بطريركُ بيت المقدس (صفرنيوس) أميرَ المؤمنين عمر في عدم مساكنة يهود الشتات للمسلمين العرب أصحاب الأرض في هذه البقاع المقدسة، فليس من المعقول أن يشترط بطريرك بيت المقدس على عمر ألا يسكن بهذه البقاع المقدسة يهودي وتظل خالية منهم منذ عهد عمر وحتى خلافة السلطان عبد الحميد العثماني ثم نرى نصارى هذا العصر هم الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة لتمكين اليهود من القدس وقد تمثل ذلك في وعد بلفور سنة 1917 ثم في تمكين بريطانيا إبان فترة الانتداب على فلسطين لليهود من الهجرة إليها وتشجيعها الميلشيات اليهودية كالأرجون وعصابة شتيرن بقيادة بيجن وشامير على بث الرعب والإرهاب وإهلاك الحرث والنسل في القرى والمدن الفلسطينية، كما يتمثل في قيام أمريكا بالدفاع عن اليهود وعن ممارساتهم المنافية لأبسط مبادئ الإنسانية ضاربة بجميع العهود والمواثيق الدولية عرض الحائط.
وعلى نصارى العالم أن يثبتوا كذلك ولاءهم لكتابهم المقدس فيعملوا جاهدين على إنفاذ حكم الإنجيل في إجلاء أولئك اليهود من ديار المسلمين لأنهم ولا يزالون يحقرون الأنبياء ويهينونهم بنسبة ما لا يجوز إليهم، وهم ولا يزالون كذلك يغضبون الرب ويغيظونه بقبيح فعالهم، سيما وأن دماء السيد المسيح عليه السلام الذي تآمروا على قتله والذي أعلن عدم رضائه عنهم ولا عن وجودهم في هذه البلاد المقدسة لا تزال تلاحقهم، ففي حقهم وعلى لسان يسوع حين رأى هذه الإهانات: "أترون هذه الأحجار العظيمة؟ لا يترك حجر على حجر إلا وينقض"، وفي إنجيل متى 24: 30-33، 35-39 وعلى لسانه أيضاً: "تقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء. فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملئوا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم.. يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم إن هذا كله يأتي على هذا الجيل. يا أوشليم يا أوشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب"، ولقد جاء على لسان هذا المبارك الذي جاء- فيما بعد- باسم الرب فكفروا به وهو محمد صلى الله عليه وسلم أن الله قد أخذ (ميثاق الذين أوتوا الكتاب من قبل لتبينه للناس ولا تكتمونه.. آل عمران/187).
ولعلنا ندرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن دين الله الخاتم يحتم على المنتسبين إلى محمد وإسماعيل عليهما السلام والراغبين في ملة أبيهم إبراهيم، أن يحرروا تلك البقاع المباركة باعتبارهم وحدهم أصحاب الحق الشرعي والتاريخي فيها، والمؤتمنين عليها وبخاصة أن التاريخ يشهد ولا يزال سيل الفظائع التي يرتكبها معشر يهود في حقها وفى حق أصحابها المقيمين بها، كما يشهد ما أصابها عندما احتلها الصليبيون من قبل وقتلوا وذبحوا فيها وفى مسجدها- باسم المسيح نبي الرحمة والمحبة الذي هو منهم براء- ما يقرب من السبعين ألفاً من المسلمين دون تمييز بين شيخ أو امرأة أو عالم دين أو طفل أو مقاتل، وبقيت ترزح تحت أيديهم تسعين عاماً أهلكوا خلالها الحرث والنسل إلى أن حررها القائد المسلم صلاح الدين عام 1187م.

الحقيقة العاشرة: عاجل مستقبل أرض الميعاد وآجله يحدده الشرع الحنيف وسنن الله الكونية لا أمزجة البشر:
وابتناءً على ما سبق فإن موقع النزاع الآن بين بنى إسرائيل وبنى إسماعيل على تحقيق وعد الله لا محل له، لأن هذا الوعد قد قضى الله فيه بـأمر، وقد قضى سبحانه ضمن ما قضاه ألا حق لبنى إسرائيل في هذا الوعد بعد بزوغ فجر الإسلام، لا لأنه كان موقوتاً بمدة معينة انتهت وفقط، بل ولأنهم مع ذلك تعدوا- باحتيالهم على محارم الله ومخالفتهم وصاياه وشريعته، وباجترائهم على أنبيائه والصلحاء من عباده- وفي أثناء مدتهم وفترة تحققه فيهم، حدود اللياقة مع الله ورسله.
ولو أنهم استقاموا على الطريقة لظل موعود الله لهم ومعهم إلى أن أسلموه لأبناء أعمامهم عن طواعية اقتداءً بحال أنبيائهم مع نبينا ليلة الإسراء، ولكان لهم في ذلك أيضا الشرف أن لم يخرج هذا الأمر إلى أحد من غيرهم، بل ولما سلط الله عليهم ومن قبل ذلك بزمن طويل وإلى يوم القيامة من يسومونهم من كل أمة سوء العذاب.
يقول ابن كثير في تفسير قول الله تعالى (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب .. الأعراف/167): "إن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية" ، إنه الملخص الأمين والشديد الإيجاز لتاريخهم الحالك السواد.
لقد ذهب وعد بنى إسرائيل- بعد أن كثر فيهم الخبث وافتقد فيهم الأمل - إلى غير رجعة، وإذا كان حال أكثرهم مع موسى هو ما ذكرنا فقد (خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه.. الأعراف/ 169)، ولقد وصل الأمر بهذا الخلف الممتد إلى يوم القيامة على الرغم من أنه ورث التوراة عمن سبقه، لأن يصير حاله أسوأ من حال من سبقه، وأن يعتاض عن بذل الحق ونشره، بعرَض الحياة الدنيا، وكلما لاح له معصية واقعها ولا يبالي ، وما اتباع كل الوسائل الرخيصة في تحقيق مأربه وانتهاج مبدأ الغاية تبرر الوسيلة بخافٍ على أحد، ناهيك عما جبل عليه من عنصرية تجسدت في الاعتداء على الآخرين بعد هدم منازلهم وإخراجهم من ديارهم بغير حق واستحلال أموال ودماء الغير وتعطش لانتهاك حرمة هذا الغير دون مراعاة لأية مبادئ أو قيم، وقد شاءت إرادة الله أن تنكشف (بروتوكولات حكماء صهيون) لتبدي حجم المؤامرة الجهنمية التي اجتمع عليها أبالسة الأرض وأجمعوا والتي تهدف إلى إفساد العالم وانحلاله لإخضاعه في النهاية لمصلحة اليهود ولسيطرتهم دون سائر البشر.
لأجل ذلك كله استحق هذا الخلف بموجب سنن الله الكونية في إهلاك من كثر الخبث فيهم ولا يتناهون عن منكر فعلوه.. وعيده لا وعده، حيث يقول سبحانه: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم* وقطعناهم في الأرض أمماً .. الأعراف/167، 168)، إذ أنى لقوم هذا حالهم أن تقوم لهم قائمة أو تقم لهم دولة، اللهم إلا إذا تساووا مع عدوهم في المعصية فحينذاك تظل لهم الغلبة لكونهم حسب ما تقضى به قوانين الحياة المادية أكثر عدة وبأشياعهم وبمن سيطروا على عقولهم أكثر عدداً، وفي ذلك يقول عز جاره وعظم سلطانه: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً* إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً* عسى ربكم أن يرحمكم وان عدتم عدنا.. الإسراء/7، 8).
لقد أوضح الحافظ ابن كثير (3/26)، أن المراد بقوله: (فإذا جاء وعد الآخرة): "أي أفسدتم الكرة الثانية"، كما ذكر ذلك الآلوسي في (روح المعاني) من المجلد التاسع، وفيما ذكراه- على ما سيأتي- ما يؤكد ربط الإفسادة الثانية بالكرة الثانية وربط الأخيرة بقوله: (جئنا بكم لفيفاً) وربط ذلك كله بما يحدث لليهود الآن.
فبموائمة ما ذكره الحافظ والآلوسي وغيرهما مع ما جاء في صدر السورة من قوله سبحانه: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً .. الإسراء/8)، وبضميمة هاتين إلى الوعيد المترتب على الإفساد في قوله: (لتفسدن) والتعبير عنه بالمضارع وباللام الموطئة للقسم والممحضة لوقوع ذلك في المستقبل يعني- فيما ترجح لدينا- بعد نزول الآية وتحول الموعود لتكون الحجة لهم ألزم وأدوم إلى قيام الساعة.. وإطلاق لفظ (عباداً لنا) الذي ليس ثمة أولى وأحق بالوصف به من النبي وصحابته الذين على أيديهم قامت خلافة الله الراشدة وكذا من ستعاد على أيديهم قرب الساعة .. يظهر بوضوح أن الإفسادة الثانية هي المتمثلة الآن فيما يقع لليهود من علو وهيمنة وانفراد بالسلاح النووي وإشاعة لروح الخلاعة عن طريق الأفلام والإباحية، وتبنيهم للنظام الربوي العالمي ونشرهم للنوادي المخربة للعقائد، وانتهاكهم للحريات وإهدارهم للحقوق وسفكهم للدماء، وإعلانهم الصريح والجريء للحرب على كل المبادئ والقيم وعلى الإسلام وكتابه ونبيه وأهله، وتحريقهم للمسجد الأقصى الأسير، والعمل على تخريبه بالحفر أسفله وبحصاره والتضييق على المصلين بوضع القيود لدخوله ومنعهم أحياناً من تأدية صلاتهم فيه بحرية بل والاعتداء عليهم بالقتل أحياناً أخرى، وما حادث اعتداء المجرم المدعو (جودمان) تجاه الركع السجود بشكل عشوائي في 11/4/ 1982 والذي أسفر عن مقتل أحد حراس المسجد وجرح سبعة، وما محاولة زرع قنابل في رحابه بغرض تدميره أكثر من مرة بخاف على أحد .
الأمر الذي يعني أن ما عدا ذلك مما وقع لهم سواء على أيدي مسلمين أو كفار هو مما يصدق عليه قوله تعالى: (وإن عدتم عدنا .. الإسراء/8)، وقوله: (ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين .. آل عمران/127).
وسيتحقق عقب إفسادتهم الثانية وعيد الله بتأديبهم وعقوبتهم وتسليط المسلمين عليهم كما سلطوا عليهم عقب الإفسادة الأولى التي كانت على ما ترجح لدينا بُعيد البعثة المحمدية حين كاد بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وأهل خيبر، وبغوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وغدروا بمعاهداته وحاكوا له المؤامرات ودسوا السم في طعامه وألبوا عليه وعلى أصحابه الأحزاب، ولقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، فمكن سبحانه له ولأصحابه من أهل الحق وردوا يهود المدينة على أعقابهم وأجلوهم من يثرب عن بكرة أبيهم بعد أن أعملوا فيهم القتل والسبي وضرب الذلة والمسكنة ، ثم قاموا بتحرير الأرض المقدسة من دنسهم بعد أن تعاهدوا مع أهلها ألا يدخلها ولا يسكنها أحد من اليهود.
ولعل ما يؤيد هذا الاتجاه في تحديد الإفسادتين الواردتين في صدر سورة الإسراء ما نراه حاصلاً الآن، ومتفقاً مع ما جاء في قول الله متحدثاً عن نهاية بني إسرائيل بعد الإفسادة الثانية: (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً.. الإسراء/104).
فما التف بنو إسرائيل طوال تاريخهم الطويل بمثل ما التفوا الآن فقد بدءوا ينسابون إلى أكناف بيت المقدس في غفلة من المسلمين، وكان تعداد أول من هاجر منهم في أعقاب سنة 1882-على الرغم من إصدار الحكومة التركية العثمانية قانوناً يحرم على اليهود دخول فلسطين- خمساً وعشرين ألف مستوطن، أضيف إليهم خمسون ألفاً من اليهود الأوربيين تسللوا سنة 1895م تحت جنح الاستعمار الإنجليزي، حتى ارتفع عددهم بعيد وعد بلفور سنة 1917إلى 300 ألفاً يعني بما يعادل10 % من نسبة سكان فلسطين على مسافة تقدر بـ 2% من المساحة، ثم إلى 400 ألف عام 1936، ثم إلى 650 ألفاً على مساحة تقدر بـ 80% من أرض فلسطين بعد أن تم تشريد 800 ألف من سكانها عام 1948، وتتابعت فيما بعد الهجرات من كل أنحاء العالم حتى أربى عددهم الآن إلى الأربعة ملايين من أكثر من سبعين جنسية ومن مجموع عشرين مليون هم يهود العالم في أصقاع الأرض، تجمعوا في زمن قياسي واستوطنوا البلاد بعد أن أخرجوا منها أهلها بغير حق، وأنشأوا فيها المدائن والمدارس والمصانع وراحوا "ينفثون سمومهم في أرجاء الأرض ليدمروها ويحتلوها ليتوجوا الدجال – المسيح الأعور- لأورشليم القدس" ، بعد أن أوتوا من الآلة العسكرية والقوى التدميرية والهيمنة السياسية والاقتصادية ما لم يؤتوه من قبل وما يفوق الوصف والخيال مصداقاً لقول الله تعالى: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً .. الإسراء/6)، وليكونوا بعد ذلك هدفاً للإهلاك والتدمير على يد عبادٍ لله يسلطون عليهم فيقهرونهم ويجبهون وجوههم بالمساءة والمذلة ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار ويدخلون المسجد الأقصى ويحررونه كما حدث على عهد عمر وعلى ما جاء في قوله عز من قائل: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ولتبروا ما علوا تتبيراً ..الإسراء/104).
ويشهد كل من له أدنى بصيرة مدى استحكام العداء من قِبل معشر يهود تجاه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فما من بلاء يقع فيه المسلمون في شرق أو غرب إلا ولليهود اليد الطولى فيه، مما يؤذن بأن المواجهة حاصلة لا محالة.
ومما يشعر بطعم الراحة وبرد اليقين أن هذا العداء والإفساد الذين يصدران ويحدثانه بنوا إسرائيل خاصة ما يقع منهما في أرض المعراج، شرطان ضروريان لكي يتحقق وعيد الله فيهم لينزل بهم عقابه وعذابه، أما الإفساد في الأرض الذي لم يقع لهم إلا بعد علو وتمكين يمكّناهم من قهر عدوهم وتدمير حياتهم بصورة يجد المغلوب على أمرهم من أصحاب الحق والأرض أثرها ألماً في نفوسهم ومرارة في حلوقهم، فهذا يشعر به أهل الأرض جميعاً، وقد وقفنا على بعض مظاهره وأما العداء المستوجب لحتمية المواجهة فهو باد للعيان وبأدلة الشرع لكل ذي عينين.
ومن الأدلة المنبئة بحدوث المواجهة بين هذه القوة الغاشمة وأهل الإيمان الذين سيتحقق على أيديهم بمشيئة الله وعد الله بالنصر والتمكين رغم كل ما ذكرنا من هيمنة عدوهم، ما أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول الحجر: يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله) وفي رواية لأبى هريرة بلفظ (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر.. لحديث ، وقد حدث- وأيم الله- ما تنبأ به وأنبأ عنه رسول الله الذي (ما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى .. النجم/3، 4)، فقد طالعتنا مجلة الأزهر في عددها الصادر في ربيع الآخر لعام 1424الموافق لشهر يوليو لسنة 2002نقلاً عن جريدة (آفاق عربية) المصرية بتاريخ 9/5/2002 من حديث للشيخ أحمد ياسين -عليه رحمة الله- عبر الهاتف موجهاً كلمته لمؤتمر نقابة الأطباء الرابع بمحافظة الغربية إحدى محافظات مصر وسمعه مئات الحاضرين: "إن بشائر النصر قد رأيناها بأعيينا حيث إن رجال المقاومة في (رام الله) ظلوا يطاردون أحد المستوطنين حتى اختفى عن أعينهم خلف الأشجار فأنطق الله الشجر وقال لهؤلاء الأبطال: (هذا اليهودي ورائي)، ويذهب الشباب إليه خلف الشجرة ويقتلونه".. ثم يختم الشيخ كلامه قائلاً: "إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن الأدلة المرجحة لاعتبار الإفسادة الأولى ما كان على يد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ما جاء في قوله تعالى: (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد .. الإسراء/5)، إذ ما من شك أن الأجدر لجعل الغلبة لهم على اليهود، والأحق- في ذات الوقت- بوصفه تعالى (عباداً لنا) هم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، لا ذاك المجوسي الكافر (بختنصر) ولا غيره ممن أهانوا القدس ودمروه .. ومنها ما جاء عن اليهود الذين حزبوا الأحزاب لاستئصال شأفة الإسلام بعد أن (ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب.. الحشر/2): (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كل شئ قديراً .. الأحزاب/26، 27).
لقد رسمت آيات سورة الإسراء أمامنا الصورة واضحة وشخصت ما نحن فيه الآن وأوقفتنا على ما لنا وما علينا، فهذه القلة المتمردة التي ابتلينا بها وتسعى لأن تجمع نفسها بعد أن نزل بها من بأس الله ما نزل، قد يجعل الله لها الكرة إذا تساوى من يريد التصدي لها معها في المعصية والابتعاد عن منهج الله، ولا ولن تتمكن الأمة المسلمة حتى وان كانت كثيرة العدد- كغثاء السيل- من هذه القلة التي تملك من الأسلحة المحرمة وغير المحرمة ما تملك، إلا إذا أذعنت للحق وأقامت شريعة الله وخلافته في الأرض ونزعت عن نفسها ثوب الوهن المتمثل في حب الدنيا وكراهية الموت وأعادت لنفسها الإمامة والريادة وحققت العبودية لله بكل معانيها، والى أن يحدث ذلك فتُخرج من بين أظهرها (عباداً لنا أولى بأس شديد.. الإسراء/5)، يتحقق لهم موعود الله ونصره المؤزر وتعود لهم خلافتهم الموعودون بها في قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد في مسنده [14/273]: (تكون النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء أن تكون ثم يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.. فسيظل الصراع مستمراً إلى يوم القيامة بين قوى الشر وقوى الخير التي لن تعدم على أي حال جنوداً أوفياء يقفون على أكناف بيت المقدس لقهر عدوهم كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات عن أبى أمامة: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء (أي من أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل يا رسول الله. وأين هم قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )، وكذا ما رواه أبو يعلي من حديث أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق، إلى أن تقوم الساعة) ، وما رواه الطبراني عن خريم بن فاتك الأسدي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم به ممن يشاء من عباده، وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم ولا يموتوا إلا هما وغماً) .
ومما جاء في السنة المطهرة مشيراً إلى محق الباطل وأهله ضمناً، وإلى تحقيق موعود الله لهذه الأمة صراحة قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن ثوبان: (إن لله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وقوله فيما أخرجه أحمد في مسنده (17082) عن تميم الداري: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مَدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر).
والله نسأل أن يستخلفنا ولا يستبدلنا وأن يجعلنا ممن يُعز بهم الإسلام وأن يلحقنا بمن في أكناف بيت المقدس ممن هم ظاهرون على الحق وأن ييسر لنا سبل الوصول إليهم، وأن يجمعنا وإياهم في الدنيا على محبته ورفعة دينه وفي الآخرة في مستقر رحمته..اللهم آمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخاتمة:
يحق لنا بعد كل ما تقدم أن نقول بكل ثقة ويقين مرددين ما ذكره الدكتور أحمد عصام البشري المفكر السوداني وعضو المجلس الوطني، في مجلة القدس العدد 24ص 6:
إن الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين والزعم بأن إسرائيل ما جاءت لتحتل أرضاً بل لتسترد حقاً، فرية شوهاء وكذبة بلقاء لا تقوم على ساق ولا تنهض بها حجة، وهي أوهى من بيت العنكبوت، كما أن القول بأن لليهود حقاً دينياً في فلسطين بدعوى أنها تُعد الآن امتداداً لمملكة داود التي قامت في القرن العاشر قبل الميلاد، لا يقوى أمام التحقيق العلمي، وكذا ما استطاعوا أن يؤثروا به على الغرب المسيحي من الاعتقاد بأن عودة المسيح مرهون بتجميع اليهود في أرض فلسطين، والإعلان بأن تأسيس الكيان الصهيوني تحقيق للنبوءة التوراتية التي تقول: إن الله وعد إبراهيم (بأن يعطي نسله أرض فلسطين. وكذلك وعد ابنه إسحاق وحفيده يعقوب ..)، كل ذلك وهم كبير، ذلك أن (أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا .. آل عمران/68)، كما أن الإمامة لا تنتقل بالوراثة وإلا شابها الجور والظلم الذي لا يرضى عنه رب العزة القائل لإبراهيم عندما (قال ومن ذريتي) طالباً إياها لبنيه ولبني بنيه من بعده، فكان الجواب من الله (قال لا ينال عهدي الظالمين .. البقرة/124).
وأضيف أن ادعاء يهود للحق الديني في أرض الميعاد إنما تبخر جراء مواقفهم المتمردة على أوامر الله وفعلهم الشر في عيني الرب وإغاظته، وبارتباط أكثر من ألف مليون مسلم الآن وأضعاف أضعاف ذلك من قبل ومن بعد إلى قيام الساعة بمنتهى مسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم ومفتتح معراجه إلى سدرة المنتهى، كما تبخر ادعاؤهم بحقهم التاريخي بأسبقية العرب في هذه البلاد بألفي عام، وبغربتهم عن هذه البلاد منذ وقت امتلاكهم لها أيام داود كما جاءت بذلك نصوص التوراة [سفر القضاة 19: 11-12و صموئيل الثاني 24: 21-25] وإلى زوال دولتهم على أيدي الآشوريين والبابليين وهي فترة لا تزيد في جملتها عن مائة عام، والتاريخ وعموم الكتب المقدسة تشهد أنهم عاشوا فيها غرباء كما تشهد وتسجل أنهم عندما دخلوها لم يجدوها فارغة وعندما رحلوا عنها لم يتركوها فارغة، لقد كان فيها أهلها الفلسطينيون (الكنعان) المذكورون في التوراة والذين لا يزالون سلفهم الممتد إلى يوم القيامة على الرغم من محاولات تغيير معالم الأرض بعد اغتصابها واتباع كافة أساليب الإخراج، تلك المحاولات والأساليب التي يتبعها معشر يهود وتشهد بأنهم أعظم وأشد الناس معاداة للسامية.
وعليه فإن ثمة خيانة تلحق العرب والمسلمين إن هم فرطوا في شبر واحد من أرض فلسطين قاطبة أو في قدسهم الشريف على وجه الخصوص، وذلك بموجب الوثيقة العمرية التي أُمرنا من المعصوم صلى الله عليه وسلم بأن نعض على سنة صاحبها بالنواجذ، تلك الوثيقة التي نصت على ألا يسكن أرض إيلياء (فلسطين) يهودي واحد، والتي جاء في آخرها: "وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين".. بل وبموجب نصوص التوراة نفسها التي باسمها ينتهكون العرض ويحتلون الأرض ويريدونها من النيل إلى الفرات، إذ التوراة عينها هي التي انتزعت منهم حقهم في العودة إلى أرض فلسطين- التي هي في الأساس ليست لهم- وذلك بعد أن عاودوا أغاظوا الرب بمعبوداتهم الباطلة وتآمروا على أنبيائه وحرفوا الكلم عن مواضعه، وبعد أن خالفوا شرائعه ووصاياه، فاستحقوا بذلك أن يبددهم إلى الزوايا ويبطل من الناس ذكرهم [سفر التثنية32: 26]، ويذلهم ويستأصلهم من الأرض التي وعدهم من قبل بامتلاكها ويشتتهم في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها [سفر التثنية4: 25-27، 8: 17-20، 28: 63، 64، 30: 15-20، 32: 26وسفر الملوك الأول 9: 3-9 وسفر الملوك الثاني 17: 11-20وإرميا 25: 23].
ألا فليذهب أولئك الأنجاس وليرحلوا عن ديارنا ومقدساتنا، وليبحثوا عند من منّوهم بالرجوع إلى فلسطين، عن مكان آخر، أو فليعودوا من حيث جاءوا.. فلا مكان لهم بيننا وللبلاد المقدسة أهلها، ويتوجب عليهم حتى يقضي الله فيهم أمراً كان مفعولاً، أن يكفوا عن ظلمهم وبغيهم وعبثهم بالحرمات والمقدسات وإلا فـ (فليعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .. الشعراء/27)، (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار.. الرعد/42).
ولله من وراء القصد وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
انتهى في رجب الأغر من عام 1425من الهجرة المباركة.
 

أهم مراجع البحث
إتحاف الأخصا بفضائل الأقصى لأبي عبد الله محمد بن شهاب الدين أحمد بن علي المنهاجي السيوطي- الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة 1398 ط 1.
1ـ إظهار الحق لرحمت الله الهندي.تحقيق د.محمد مكاوي. دار الحرمين تحت إشراف الرئاسة العامة الإفتاء بالرياض.ط2 سنة 1413هـ.
2ـ الامبريالية والصهيونية والقضية الفلسطينية. د. بشير موسى نافع. دار الشروق ط1 سنة 1420هـ.
3ـ البداية والنهاية للحافظ ابن كثير مكتبة المعارف بيروت ط1 سنة1966م.
4ـ تاريخ الطبري. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط2 دار المعارف بمصر سنة1962م.
5ـ تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير. مكتبة مصر بالفجالة.
6ـ تفسير القرطبى الجامع لأحكام القرآن ط/دار الغد العربي بالقاهرة.
7ـ التوراة السامرية ترجمة أبي الحسن الصوري ونشرد.أحمد حجازي السقا. دار الأنصار بالقاهرة ط1 سنة1398هـ.
8ـ الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح للإمام الألوسي البغدادي. دار البيان العربي.
9ـ خطط الشام لمحمد كرد علي. ط/ دار العلم للملايين بيروت سنة1389هـ.
10ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم للإمام الألوسي ط/ دار الفكر سنة1417هـ.
11ـ السيرة النبوية لابن هشام تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي.ط2 مؤسسة علوم القرآن.
12ـ عروبة بيت المقدس د. إسحاق موسى الحسيني من مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية العدد 67 لسنة1421هـ.
13ـ علامات النبوة لعبد الملك علي الكليب مكتبة القدس بالمنوفية ط1لسنة1415هـ.
14ـ فتوح البلدان لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري تحقيق د.صلاح الدين المنجد مكتبة النهضة المصرية
15ـ في الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين لمحمد عزت الطهطاوي ط/ دار التراث سنة1399هـ.
16ـ(القدس) تقرير شهري يصدر عن مركز الإعلام العربي.أعداد .32,28,24
17القدس عربية. من مطبوعات الهيئة العامة للاستعلامات في جمهورية مصر العربية .
18ـ القدس عربية إسلامية د.فرج راشد. من مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة 2000م.
19ـ القدس قضية كل مسلم د. يوسف القرضاوي.مكتبة وهبة ط2 سنة2000م.
20ـ القدس مدينة السلام عبر التاريخ. من مطبوعات الجمعية الرئيسية بالقاهرة.
21ـ الكامل في التاريخ. لعز الدين أبي الحسن المعروف بابن الأثيرط/ دار صادر سنة 1402هـ.
22ـالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.ط دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط عن الترجمة اليونانية سنة 1865م.
23ـ لسان العرب. لابن منظور.ط/دار المعارف بالقاهرة.
24ـ محمد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن. لمحمد عزت الطهطاوي. مطبعة التقديم.
25ـ المسجد الأقصى ومعركة النصر والفتح للشيخ عبد اللطيف المشتهري ط/دار الاعتصام.
26ـ نهاية اليهود لأبي الفداء محمد عزت عارف. دار الاعتصام بالقاهرة.
27ـ هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى. للإمام ابن القيم تحقيق د. أحمد حجازي السقا دار الريان ط/ الدار السلفية.
28ـ الوفا في أحوال المصطفى. للإمام ابن الجوزى تحقيق مصطفى عيد الواحد.ط1 سنة1386هـ دار الكتب الحديثة بعابدين.القاهرة.

هذا الكتاب: يفند أكاذيب معشر يهود وافتراءاتهم التي يزعمون من خلالها أحقيتهم في بيت المقدس خاصة وفي أرض فلسطين عامة، كما يتضمن الحقائق الدامغة التي لا يتطرق إليها أدنى شك لكونها مستقاة من كتابهم المقدس ومتكئة على ما استقر عليه الأمر في كافة الشرائع والأعراف والمواثيق الدولية، وهو رد على ما يثيره الدهماء والغوغاء من مسلمي ونصارى العالم الذين تخفى عليهم حيل وأساليب قوى الاحتلال الإسرائيلي وإعلامه المضلل من الزعم بأن أرض فلسطين هي ملك آبائهم وأجدادهم، ومن الادعاء بأنهم الأمة المفضلة وشعب الله المختار المستحق لأرض المسلمين من النيل إلى الفرات، وهو ما تنفذه الآن وبكل ما أوتيت من قوة أمريكا وتحالفها البغيض .. (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً).
كما أنه رد على هذه التفرقة والتقسيمة العجيبة التي ارتضى بها المجتمع الدولي تحت ضغط من القوى الاستعمارية وجراء سكوت العرب وضعف المسلمين، وأعني بذلك التفرقة ما بين ما قبل سنة 1967مما يزعمون أنه ملك لهم، وما بعد ذلك مما يقرون بأنه احتلال ولا حق لهم فيه.
وغاب عن منظمات هذا المجتمع الدولي- التي جاملت اليهود كثيراً ولا زالت تجاملهم بسكوتها عن جريمة انفرادهم بأسلحة الدمار الشامل دون سائر بلدان المنطقة وتغض الطرف عن فعالهم القبيحة ضد أصحاب البلاد بشكل يومي من قتل لأفرادهم وتدمير لديارهم ومن احتلال لأرضهم وأسر لشبابهم - غاب عنها أن هذه الجرثومة التي زرعت في أرض المسلمين بدون وجه حق، خطر على سائر دول العالم حتى وإن لم تكن في بلدانه، وأن أساس فكرة الاستيطان التي بدأت بعد وعد بلفور إنما بنيت على مبدأ إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق، وأن فترة بقائهم المحدودة أيام نبي الله داود عليه السلام إنما كانت فترة احتلال واغتراب على ما نطقت بذلك كتبهم التي بين أيديهم، وأن هذا الوضع الاستعماري لا يرضاه العرب ولا المسلمون لأنفسهم، تماماً كما لا ترتضيه أية دولة لنفسها فضلاً عن أن يرتضيه لها المجتمع الدولي الذي الأصل فيه أن يكون عادلاً ولا يكيل لبني البشر بمكيالين.
 

الصفحة الرئيسية      |      فلسطين والحل الإسلامي