بسم الله الرحمن الرحيم

دمــاء فـي المحـراب
بقلم الشيخ تيسير رجب التميمي


قال تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون "آل عمران 169-170 .
في مثل هذا اليوم الجمعة الخامس عشر من رمضان قبل عشرة أعوام ؛ خطَّت يد الغدر في ذاكرة الأيام ؛ سطوراً حمراء ؛ وسفك الحقد الصهيوني المسعور أزكى الدماء ، ففي صباح رمضاني عابق بالإيمان ؛ وعلى أريج ذكريات المجد التي سطَّرها المسلمون في بدر ؛ ارتكب المجرم السفاح باروخ جولدشتاين مجزرة دموية نكراء في الحرم الإبراهيمي الشريف ؛ سقط فيها المصلّون العزّل مضرجين بدمائهم ، فاختلطت رائحتها العطرة برائحة المسك المنبعثة من غار أبي الأنبياء ، وتعطرت بها جنبات الحرم الشريف ؛ قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك " رواه مسلم .

كانت المجزرة مسلسلاً من القتل استباح الدم الفلسطيني ؛ ابتدأ في المحراب وامتد إلى مداخل الحرم والسُّلَّم المؤدي إليه ووصل إلى الشوارع والطرقات ومحيط المستشفيات ؛ فطال رصاص الظلم والغدر مَن هبُّوا للتبرع بالدم وإنقاذ الجرحى ونقل المصابين ، حتى المقابر صارت ساحات للموت فلم يسلم منه الذين شيَّعوا الشهداء بل دُفنوا معهم بعد لحظات ؛ فبلغ عددهم اثنين وأربعين ؛ نحسبهم ممن يتخذهم الله شهداء ويغفر لهم بأول قطرة دم تراق ؛ قال صلى الله عليه وسلم ذاكراً خصال الشهيد " يغفر له بأول دفعة من دمه " رواه الطبراني ، أما الجرحى والمصابون فقد تجاوزوا المائة .

ويتنصل جيش الاحتلال من دوره في الجريمة ؛ لكن كل الأدلة والأحداث وإفادات الشهود حتى من اليهود أنفسهم تؤكد مسؤوليته الكاملة عمّا جرى ، فقد كان الرصاص ينهمر على الناس من كل صوب ؛ ولم يقدم الجنود أية مساعدة للمصابين بل أعاقوها فلم يسمحوا لسيارات الإسعاف بالوصول إلى مداخل الحرم ؛ ومنعوا المصلين من نقل الجرحى والمصابين ، كما أن استعراض الأحداث والاستفزازات التي سبقت الحدث تدل على التخطيط المبيت لارتكابها ، والأحداث بعد المجزرة أيضاً تدل على ذلك ؛ فقد عوقب أهل الخليل التي ارتقى أبناؤها البررة إلى العُلا بالاعتقالات ومنع التجول وفرض الحصار ، أما المجرم جولدشتاين فقد كوفىء وأقيم له نصب تذكاري واعتبر بطلاً قديساً .

يوم لا ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن الباسلة التي خرجت غاضبة ثائرة ؛ وخرجت معها جماهير شعبنا الفلسطيني في كل مكان في القدس والضفة وفي غزة ؛ وامتدت الشرارة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48 ، وتفجر بركان الغضب واشتعلت المدن ناراً تحت أقدام الطغاة الغاصبين ؛ في مسيرات ومظاهرات ومواجهات دامية ، فتصدت لهم قوات الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح وعرباتهم العسكرية المجنونة ؛ وفتحوا عليهم الرصاص والنار فسقطت كوكبة جديدة من الشهداء غيلة وغدراً .

مجزرة جديدة ضد شعبنا ترجمت الحقد الصهيوني على القيم الأخلاقية والشرائع الإلهية والقوانين والمعاهدات الدولية ؛ وجريمة اهتز لهولها كل صاحب ضمير حي ؛ واعتداء صارخ انتهكت فيه قداسة المكان والزمان وجلال الصلة بالله عز وجلّ ؛ فالمكان هو الحرم الإبراهيمي الشريف مثوى الأنبياء وبيت الله المقدَّس ؛ والزمان هو شهر رمضان المبارك شهر الصيام والقيام ، وأما الصلة بالله تعالى فقد انتهكت بذبح المصلين الركّع السجود بين يديه سبحانه في صلاة الفجر التي تشهدها ملائكة الرحمن .

إن الحقد الغاشم لم يراعِ قدسية لمكان ولا حرمة لزمان أو عبادة ؛ فقد صب حميم نيرانه على المدنيين الآمنين ؛ فسقط عشرات الشهداء والجرحى في جريمة خطط لها فكر صهيوني استيطاني وعسكري ، له تاريخ حافل بالمجازر قبلها وبعدها ضد شعبنا الصامد المرابط ؛ فلا نزال نشهد في كل يوم مجزرة جديدة تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ ؛ وتطال البشر والشجر والحجر وكل مظاهر الحياة ؛ سقط فيها من الشهداء والجرحى عشرات الألوف .

لقد ارتكبت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف لهدف اتَّضحت معالمه هو تهويد مدينة الخليل ، فبعد انقضاء فترة حظر التجول الذي فرض على المدينة واستمر أكثر من شهر ؛ للحفاظ على أمن المستوطنين ولضمان حياتهم ؛ وبعد إغلاق للحرم في وجه المصلين المسلمين دام أكثر من شهرين ؛ فوجىء أهل الخليل بإجراءات تهويد الحرم الإبراهيمي فقد استغلت قوات الاحتلال هذه الفترة بتقسيمه وتهويد الجزء الأكبر منه ؛ وتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إليه ؛ بينما يسمح لليهود بالدخول والخروج متى شاءوا .

ثم تواصلت المؤامرات على هذه المدينة الأبية حتى اليوم ، فقد غُرست فيها البؤر الاستيطانية وأغلقت شوارعها ، وارتكبت فيها أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان : فقتلت فيها الأنفس وأزهقت فيها الأرواح البريئة ، وحظر التجول على أهلها يستمر فرضه لفترات طويلة ، والحصار الاقتصادي المتواصل أدى إلى شلّ الحركة التجارية في أسواقها ، والاعتداء مستمر على ممتلكات أهلها بهدم المباني الأثرية والتاريخية في أبشع مذبحة تستهدف طمس معالمها الحضارية وتغيير هويتها العربية الإسلامية ، وبفتح طريق استيطاني يربط بين مستوطنة قريات أربع والحرم الإبراهيمي الشريف وجميع البؤر الاستيطانية لتحويلها إلى مدينة يهودية .

لكن هذه المدينة الصامدة التي شهدت مذبحة الفجر وعاودت الوقوف بثبات ؛ ستبقى عربية إسلامية بجهود أبنائها المخلصين الأوفياء ؛ الذين يعاهدون الله على التمسك بها والدفاع عنها ، ومواصلة إعمارها والتسوق من أسواقها والمواظبة على الصلاة في حرمها الإبراهيمي الشريف ليبقى مسجداً عامراً بالمؤمنين يصدع من على مآذنه صوت الحق الله أكبر . فلن تزيدهم المجازر إلا إصراراً على رفض الانكسار ، فإنهم موقنون بأن الحياة الطبيعية لمدينة الأنبياء والصالحين لن تعود إلا برحيل آخر مستوطن وجندي محتل عن أرضها الطهور .
 

الصفحة الرئيسية      |      فلسطين والحل الإسلامي