صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







لا "أرض موعودة" ولا "أرض مقدسة"
ترجمة لمقال نشر في جريدة لوموند الفرنسية le monde، كتبه دافيد مايير David Meyer ،
على الصفحة 15، بتاريخ 9 يناير 2001، ودافيد مايير هو حبر يهودي.

دافيد مايير


بينما الأنباء اليومية القادمة من تل أبيب، القدس، غزة، الخليل وحتى واشنطن تجعلنا غالبا نيأس وأحيانا نأمل في إمكانية اتفاق سلام في الشرق الأوسط ، تبدو مسألة السيادة على الأماكن المقدسة باقية، فجر الألفية الثالثة، في قلب المأزق السياسي و النفسي الذي تعرفه هذه المنطقة من العالم منذ أكثر من خمسين سنة.

في قلب هذه الأماكن المقدسة، لهذه " الأرض الموعودة" ولهذه " الأرض المقدسة"، توجد القدس، المدينة "المقدسة"، المدينة المؤسسة لليهودية وللإسلام، رغم أنه بمقياس أقل بالنسبة لهذا الأخير، حسب البعض. مدينة " موعودة " و " مقدسة "، لكنها بالأخص مدينة حساسة، مادام أنه لا أحد، ليومنا هذا، يجرؤ اعتبارها كأداة لمفاوضات مستقبلية. فعلا! كيف يمكن التفاوض حول القداسة وحول الوعد الإلهي ؟

هذا الوعد وهذه القداسة هما مع ذلك، من منظور يهودي، مصبوغين بمفارقة عميقة. فخلافا للأفكار المتناولة ، فإن فكرة " أرض مقدسة " أوفكرة " وعد غير مشروط " بالنسبة لأرض إسرائيل لا وجود لها في التقليد اليهودي. من الممكن أن هناك شعب مقدس، تصرّف مقدس، لكن لا توجد هناك فضاءات قدسية أو مقدسة في حد ذاتها؛ ليس هناك لا " وعد غير مشروط " ولا " أرض مقدسة ".

في التقليد اليهودي، القداسة والقدسية، وحتى مفهوم الوعد الإلهي، مرتبطون بالتصرّف الأخلاقي للناس وليس بالقيمة الذاتية لقطعة أرض، كيفما كانت.

إذا كان كلامي قد يصدم ويبدو قريبا من الهرطقة، فيكفي الالتفات إلى مصادر الرواية الإنجيلية للإقتناع بالعكس. وعلى سبيل المثال، يمكننا الرجوع إلى الفصل الرابع من كتاب التثنية الذي، في هذا الصدد، يعبّـر بشكل واضح وجذريّ عن هذا التصور للوعد المشروط. إذا التزم الشعب خطّ سلوك مستقيم، فسيعيش على أرض إسرائيل. في حالة العكس، سيطرد منها بلا اعتبار : " والآنَ يا بـَني إِسرائيلَ. اَسمَعوا السّـُننَ والأحكامَ التي أُعلِّمُكُم إيَّاها لِتعمَلوا بها فتَحيَوا وتدخلوا وتمتَلِكوا الأرضَ التي يُعطيكُمُ الرّبُّ إلهُ آبائِكُم. (...) علَّمتُكُم سُنَنًا وأحكامًا، كما أمرَني الرّبُّ إلهي، لِتعمَلوا بها في الأرضِ التي أنتُم ذاهبونَ إليها لِتمتَلِكوها فاَحْفظوها واَعمَلوا بها لأنَّها تُظهِرُ حِكمَتَكُم وفهمَكُم في عُيونِ الأمَمِ (...).وإذا ولَدْتُم بَنينَ وبَني بَنينَ وطالت أيّامُكُم في الأرضِ، ففسَدْتُم وعَمِلْتُم تِمثالاً مَنحوتًا على شكلِ صورةٍ ما، وفعَلتُم ما هوَ سيِّئِّ في نظرِ الرّبِّ إلهِكُم وكدَّرْتُموهُ، فأنا مِنَ اليومِ أُشهِدُ علَيكُمُ السَّماءَ والأرضَ بِأنَّكُم تَبيدونَ سريعًا مِنْ على الأرضِ التي أنتُم عابرونَ الأردنَّ إليها لِتمتَلِكوها. لا تطولُ أيّامُكُم علَيها بل تزولونَ لا مَحالة،َ ويُشتِّتُكُمُ الرّبُّ فيما بَينَ الأمَمِ حتى تَبقوا جماعةً مَعدودةً في الأمَمِ الذينَ يسوقُكُمُ الرّبُّ إليهِم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! "
تعاليم هذا النص، وغيره من النصوص الأخرى، واضحة تماما : الأرض ليست ملكا للشعب اليهوي، ولا لأي شعب آخر أيضا. الوعد بامتلاكها يبقى مرهونا، لأن الأرض ملك للرب وله وحده؛ هو الذي يقرر إعطاءها لنا أو أخذها منا، وذلك حسب تصرفنا الأخلاقي.

بعد قرون من ذلك، جعل التقليد التلمودي من نفسه صدى لهذا التحذير. فبينما كان الشعب اليهودي قريب عهد بالنفي والمعبد قد دمّـر من طرف الجيوش الرومانية، كان الحكماء يقدّمـون هذا التدبر المؤلم في سبب هذا الوضع : " في يوم من الأيام، وفي رحبة معبد القدس، كان طفلان لحبرين يلعبان ويتشاجران أحدهما مع الآخر. أثناء لعبهما، كانا قد أخذا ببراءة سكينا يستعمل للأضاحي. وهما يتعاركان، وقعا أحدهما على الآخر فاخترق السكين بطن أحد الطفلين، الذي أخذ في الصراخ من الألم. منتبهين لصراخ الطفل، أسرع الأحبار إلى مكان المصيبة وأخرجوا الشفرة من بطنه، وهم مذعورون لرؤية الدم الذي يسيل، وأخذوا يتحدثون بشأن حكم النجاسة التي عليها سكين الأضاحي. أثناء حديثهم مات الطفل المجروح، فقرر الرب تدميرالمعبد ونفي بني إسرائيل من أرضهم".

هذه القصة الرهيبة توضح لنا أنه عندما تصبح القيم الأدبية والأخلاقية مقلوبة، عندما يصبح المظهر أهمّ من الجوهـر، عندما ثصبح الطهارة أوالقداسة قيما أعلى من احترام الحياة الإنسانية، يختفي مفهوما القداسة والوعد الإلهي. عندما لا يكون هناك معنى للأخلاق، لا يكون هناك لا " أرض موعودة " ولا " أرض مقدسة".

ألسنا اليوم في وضعية شبيهة بتلك الموصوفة في نص كتاب التثنية وفي المقطع التلمودي معا ؟. عندما تحذرنا التوراة من ممارسة نوع من الوثنية قد تجعل في خطر تواجدنا على أرض إسرائيل، ألا يجب علينا التفكير في هذا الشكل الجديد من الممارسة الوثنية الذي تشكله وثنية أرض إسرائيل، وثنية " إسرائيل الكبرى" ؟ وثنية أرض تقضم الفكـر الديني اليهودي، وتقدم مفهومي القداسة والقدسية قبل مفهوم احترام الحياة الإنسانية.

عندما يضع التلمود تحت تفكيرنا العواقب الوخيمة لقلب القيم الأخلاقية، ألا يجب علينا التساؤل حول الطغيان الذي أخذه، في عالمنا اليوم، مفهوم السيادة، على حساب احترام الحياة ؟ يبدو لي أن علينا بالأحرى أن نتذكر ذلك التعليم في "المدراش" midrash – تـقليد وعظي للأحبار- الذي قبل أن يبحث عن قداسة مدينة القدس فيما يسمى قربا من الحضور الإلهي، فإنه فضل أن يرى فيها مكان إنجاز القيم الإنسانية العليا : " كان هناك أخوان يعيشان، منذ سنوات طويلة، على أرض كنعان. كان لأحدهما أسرة وأطفال وكان الآخر عازبا. كان الإثنان يعملان في الحقول ويتقاسمان المحاصيل بينهما. وفي يوم من الأيام، قال الأخ ذو الأسرة في نفسه : " لست في حاجة إلى نصف المحاصيل، فأبنائي سيبلغون قريبا السن التي يمكنهم فيها العمل أيضا في الأرض، ويمكنهم إذا مساعدتي على توفير حاجياتي الشخصية. أما أخي، فهو وحيد، وعليه منذ الآن أن يبدأ في وضع احتياطات جانبا لأيامه المسنة، لأنه سيكون لوحده ولا أحد لمساعدته. سأذهب هذه الليلة إذا، لأحضر له الفائض من حصتي في المحاصيل وأضعه عنده. ". الأخ العازب، وفي نفس الوقت، جاءته الفكرة التالية : " أنا وحيد ولست بحاجة لنفس القدر من المحاصيل كأخي، الذي عليه ليس فقط إطعام نفسه، بل وعائلته أيضا. أستطيع العيش بأقل منه. سأذهب هذه الليلة إذا لأضع جزءا من فائض محاصيلي عنده".

في هذه الليلة نفسها، التقى الأخوان إذا، وكل منهما يحضر للآخـر الفائض من محاصيله. وهو يرى أفكار وأعمال هذين الأخوين، قال الرب مع نفسه : "هنا حيث نبت تفكير كهذا، أريد أن يشيّـد معبدي". علينا نحن أن نعرف كيف نعيد إنبات هذا النوع من التفكير في قلوبنا. عندها إذا ستكون هذه الأرض في مستوى آمالنا، أرض سلام وانسجام للجميع.

دافيد مايير


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل