اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/mktarat/iraq/75.htm?print_it=1

واقع العراق وأثر النفاق في تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين

د محمد الدسوقى بن على


في هذا المنعطف الخطير من تاريخ الأمة الإسلامية وفي هذا الوقت العصيب الذي تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.. يستشعر المتأمل في واقع المسلمين عامة والمتابع لمجريات الأحداث على الساحة العراقية بخاصة، لماذا يتأخر النصر عن المسلمين؟ ويدرك - وربما أكثر من أي وقت مضى- أن أعظم معوق لإحراز النصر لأمة الإسلام هم المنافقون، وكيف أضحوا غصّة في حلوق المجاهدين الشرفاء، وشوكة في طريق المدافعين والمناضلين والساعين لتحرير أرضهم وديارهم، وكيف صاروا هم أخطر أثراً وأشد ضرراً على الإسلام وعلى أمة الإسلام من أعداء الإسلام، وأضحى مكر عدو الله وعدو المؤمنين لا يساوي بجانب مكرهم شيئاً .. كما يلحظ كيف يتزلفون ويذلون أنفسهم ويفصّلون منها نعالاً وأحذية في أرجل أهل الكفر، ينفذون مخططاتهم ويقومون بما يعجز الأعداء عن القيام به بل ويكفونهم في كثير من الأحيان مئونة الاقتتال، يستجلبون عطفهم ورضاهم ويطلبون منهم العون لقتل ذويهم وبني قومهم ويوالون ويعادون عليهم ويحبون ويكرهون لأجلهم، ولا نبالغ إذا قلنا أنهم في سبيل جلب رضاهم يساهمون في تخريب بلادهم وإهلاك حرثهم ونسلهم، ناهيك عن دورهم المشبوه في حجب نور الله وإقامة دينه والتمكين في مقابل ذلك لأعداء الإسلام.
يلمس المتابع لما يجري على أرض الرافدين وكل غيور على عروبته حريص على دينه، حجم الضرر الناتج عن أولئك الذين أصبحوا دمىً تحركهم أمريكا كيف تشاء، وكيف يسارعون في أهل الكفر يتكلمون بلسانهم ويتقدمونهم ويفدونهم بأنفسهم ويسهلون لهم مهمتهم في تكريس الاحتلال وفي قتل المسلمين وتعذيبهم وكشف عوراتهم واغتصاب نسائهم حتى صاروا حقراء حتى عند من قدموا ذلك لهم وفعلوه لأجلهم.. كما يلحظ كيف أضحوا عقبة كأداء في تحقيق موعود الله بالتمكين وسبباً مباشراً وحقيقياً في تأخير ما أوجبه الله وأحقه على نفسه في قوله: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، وما وعد به عباده المؤمنين في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً).
ولقد أوضح لنا القرآن أن أبرز علامات المنافقين وأخص ما يميزهم عن غيرهم هو ولاؤهم للكافرين وأعداء الدين، وذلك في مواضع عديدة نذكر منها قوله جل جلاله في سورة النساء الآية الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين بعد المائة: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، كذا بمجيء صفتهم بطريقة الموصول ليفيد علة استحقاقهم العذاب الأليم، وأنهم اتخذوا الكافرين أولياء وآثروا صحبتهم في مضادة المؤمنين والتربص بهم، لا لقناعتهم بما هم عليه من كفر وإنما ليَقوُوا بهم من ضعف ويَعزوا بهم من ذل، ظناً منهم أن أعداءهم هم الأعزاء الأقوياء وأنهم بذلك يدفعون عن أنفسهم وعمن يوالونهم من أهل الكفر شر أهل الإيمان المتوقع منهم، وهنا يأتي الاستفهام المنبئ عن التوبيخ والإنكار (أيبتغون عندهم العزة) "إيماء- على حد ما ذكر الطاهر بن عاشور- إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة"، وإلا لهان الخطب في اتضاح أمرهم وانكشاف طويتهم، بل اتخذوهم ليلتمسوا منهم ما لا يملكونه مما أخبر الله عنه في قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.. المنافقون/ 8)، وفي ذلك نهاية التجهيل والذم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم أتي جواب الله على هؤلاء بأسلوب التأكيد في قوله: (فإن العزة لله جميعاً)، إذ "لا عزة إلا به لأن الاعتزاز بغيره باطل، كما قيل: من اعتز بغير الله هان.. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية"أ.هـ
وتأتي هذه البشارة التهكمية- المنبئة بالسخرية والاستهزاء والمناسبة لتهتكهم بأهل الإيمان- عقب نداءين محببين للمؤمنين أحدهما يأمر بالعدل الذي يعم الأحوال كلها، إذ العدل في الحكم وأداء الشهادة على وجهها على ما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم)، هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عنه إلى الجور مفض إلى فساد متسلسل، وما ذلك إلا لأن العدل يقتضي عدم محاباة الظالمين، تماماً كما يقتضي عدم مجاراتهم أو الركون إليهم ولو كانوا من أهلنا أو من أهل ملتنا أو حتى من أقرب الناس إلينا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .. التوبة/ 23)، (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .. الممتحنة/9)، فما بالك بمن لم يكتف بمحاباة وتولي الكافرين حتى شاركهم في بغيهم على المسلمين فجمع في نفاقه واقتراف ما نهى الله عنه بين ظلم نفسه والركون إلى أهل الكفر ومقاتلة أهل الإيمان، والنداء الثاني: يأمر بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل)، وما ذلك إلا ليداوموا على ما أمر الله ويحذروا مآرب ما يخل به.
وجاء عقب تلك البشارة التهكمية سالفة الذكر وفي معرض إقامة الحجة، نداء ثالث لأهل الإيمان يصب في نفس الإطار ويحذر من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم وطريقة استحواذهم على المنافقين بقصد أذى المسلمين، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً)، وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة أهل الكفر على اختلاف مللهم وبما فيهم أهل الكتاب، ومن موالاة المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان ولم يوالوا أهله بل ناصبوهم العداء وراحوا يطيعون فيهم اليهود والنصارى، فهي تشهير بالنفاق وتحذير من الاستشعار بشعاره والتدثر بدثاره، وتسجيل على المنافقين أن لا يقولوا: كنا نجهل أن الله لا يحب موالاة الكافرين، لذا كان التذييل الذي مراده أنكم إذا استمررتم على ذلك جعلتم لله حجة واضحة على فساد إيمانكم.
وهنا يأتي الحسم لمصير هؤلاء الذين استهانوا بتحذير الله ولم يبالوا به: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) فلم يشُبْه بتردد ولا تربص بانتظار من ينتصر من الفريقين فإن كان للمؤمنين (فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)، أي وصولاً إليهم بهزيمة أو غلبة.
وفي سياق مماثل للنظم الوارد بسورة النساء، وفي ثنايا التصريح في سورة المائدة بكفر النصارى الذين قالوا: (إن الله هو المسيح ابن مريم) والذين قالوا: (إن الله ثالث ثلاثة)، وبلعن اليهود الذين (عصوا وكانوا يعتدون) والذين هم (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، والتنويه بكذب مقولة هؤلاء وأولئك (نحن أبناء الله وأحباؤه) .. يستمر حديث القرآن وتحذيره من مؤازرة أهل الكتاب أو التعاون معهم أو إحسان الظن بهم فضلاً عن مناصرتهم في قتال المسلمين وفتح المجالات أمامهم لتحقيق مآربهم، وذلك حتى لا يشكك أحد في مشروعية قتال هؤلاء أو أولئك عندما ينحاز الجميع لحرب المسلمين، أو يتهاون تحت أي مبرر في شأن التحذير والنهي عن موالاتهم .. يتواصل حديث القرآن عن ضعاف النفوس- فيما يشبه أن يكون درساً قاسياً في أيامنا لجميع مرضى القلوب من المسلمين حكاماً ومحكومين- وعما يظهرونه من خوف وهلع لبشر أمثالهم تكون نتيجته في نهاية المطاف الندم لكن بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم، وما يبدونه تجاه من (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) من ود ووفاق يطمّع فيهم أعداء الإسلام إلى حد أن يجعل منهم أداة طيعة يضربون بها أهل الإيمان، ومن حب ووئام عادة ما يكون على حساب مبادئ الإسلام، ومن تفان وإخلاص دائما ما يكون ثمنه دماء المؤمنين وأشلاء ضحاياهم واحتلال بلادهم، إذ في ذلك ضرر وأي ضرر.
وحتى لا يعمى الأمر أو يختلط لدى أصحاب القلوب المريضة من المنافقين، وحتى تتميز لديهم بالدليل القاطع صفات أهل الإيمان الذين لا يجوز التعدي عليهم ولا تسليمهم ولا خذلانهم ولا معاداتهم ولا مناصرة عدوهم، عن صفات أهل النفاق الواضح أمر نفاقهم بمسارعتهم في أهل الكفر، والبين أمر موالاتهم لعدو الله وعدوهم.. أفصح القرآن عمن تجب موالاتهم ومناصرتهم والوقوف بجانبهم ومؤازرتهم وعدم تسليمهم أو خذلانهم فقال في محكم آياته بأسلوب القصر موجهاً خطابه لمن بقي منهم على الإيمان وجهل حقيقة أمره: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.. المائدة/ 55)، فموقع هذه الجملة- على ما أفاده أهل التفسير- موقع التعليل للنهي عن معاونة أعداء الله أو اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، إذ الأصل أن تكون ولاية أهل الإيمان لله ورسوله مقررة عندهم بموجب ما أظهروه من إسلام، وبالتالي يكون ولاؤهم للمسلمين، لأن من كان الله وليه لا يكون أعداء الله أولياءه، وتفيد هذه الجملة تأكيد النهي عن ولاية اليهود والنصارى.. فهي جملة خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد فيها من (إنما) قصر حقيقي، وإجراء صفتي (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وكذا جملة (وهم راكعون) للثناء عليهم، ومعنى أن يكونوا أولياء للذين آمنوا أن يناصرونهم ويعاضدونهم ويكونون منهم ومعهم ضد عدوهم كالبيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فهو في معنى قوله تعالى: (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض).
ويجئ هذا الأسلوب القصري على غرار ما جاء في سورة المائدة عقب نداءين محببين لأهل الإيمان، أولهما: أتي بعد تهيئة النفوس لقبول النهي عن موالاة أهل الكتاب الذين بدت محاولاتهم في تضليل المسلمين والنيل منهم، فيشبه من تولاهم في استحقاق العذاب بواحد منهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كذا في صورة الشرط والجواب، وقد استحق هذا الذي أضحى واحداً منهم أن يكون كذلك، لأنه كما ذكر القرطبي "خالف الله ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم"، فإنه ومن كان على شاكلته على حد قول الآلوسي: " بالموالاة يكونون كفاراً مجاهرين"، "وهذا- كما في تفسير الرازي- تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين"، يقول ابن عطية: "من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلالٍ بالإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم"، ويدخل فيما ذكره أهل التأويل- بالطبع ومن باب أولى- ما يحدث في أيامنا من مشاركة لهم في حربهم لمسلمي الفلوجة والموصل وأفغانستان وكل من كان على دينهم من أهل الإيمان، ومن إدلائهم على عورات المسلمين، ومن فتح أيٍّ من مجالات بلدان المسلمين برية كانت أو بحرية أو جوية أمامهم، ومن وضْعِ الحواجز ومنع المتناصرين من حربهم، ومن إنفاذ مخططاتهم في إهلاك حرث المسلمين ونسلهم، ومن إضفاء شرعية على الحكومات الموالية لهم .. إلى غير ذلك مما تقع فيه الأنظمة العربية والإسلامية وبمساندة أحيانا من علماء سلطاتهم، فإن هذا كله لا يتأتى إلا من ضعاف إيمان ومرضى قلوب (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) والدائرة المخشية هنا هي خشية انقضاض المسلمين على المنافقين، والأرجح أنها خشية "أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم- على حد ما ذكر ابن كثير- أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك"، وما ذكره الحافظ هو ما يشهد له في أيامنا سطوة الباطل وهيمنة أهل الكفر كما أنه المتناسب مع واقع المسلمين الآن ومع ضعفهم.
وتفيد كلمة المفسرين أن قول (نخشى أن تصيبنا دائرة) صدر عن عبد الله بن أبي بن سلول وذلك حين عزم صلى الله عليه وسلم على قتال بني قينقاع الذين كانوا أحلافاً لابن سلول ولعبادة بن الصامت فلما رأى الأخير منزع رسول الله جاء فقال: (يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أولي إلا الله ورسوله)، وكان عبد الله ابن أبي حاضراً فقال: (أما أنا فلا أبرأ من حلفهم فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر)، وما قالاه وفعلاه إنما يمثل الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق في كل عصر فليس العبرة بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، والتاريخ دائماً وأبداً ما يعيد نفسه، ويؤكد موقف ابن سلول، أن المنافق لا دين له ولا عهد وأن تأرجحه بين الإيمان والكفر إنما هو لأجل الدنيا فهي ذاته ودائرته التي يعيش لها ويميل معها حيث مالت ويدور معها حيث دارت.
وقد اقتضى تحذير أهل الغفلة والنفاق من أعدائهم الذين يبغون صرفهم عن دين الله، ألا يخرجهم من دائرة الإيمان وأن ينبههم سبحانه من خلال نداء ثان على أن صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك وإنما يعود نفعه عليهم، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لن يضر الله شيئاً وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
كما دعا اعتراض هذا النداء بين ما قبله وبين جملة (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، مناسبة الإنذار في قوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، في إشارة إلى أن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء طريق وذريعة مؤدية إلى الارتداد، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق، فأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان إن هم اختاروا طريق الموالا ة المنهي عنها، بأن الإسلام غني عنهم .. وأتى بجملة (فسوف يأتي الله بقوم.. إلخ)، لبيان أن وعد الله آت لا محالة، ولإظهار الاستغناء عن المنافقين الذين في قلوبهم مرض وقلة الاكتراث بهم، وتطمين المؤمنين بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيراً منهم، وطمأنتهم- فيما يشبه المحصلة من ذلك- بأن(من يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.. المائدة/ 56)، واستغنى هنا عن جواب الشرط وهو الإيذان بوعد الله وبأن هذا الدين لن يعدم أتباعاً بررة مخلصين، بذكر ما يتضمنه للإشعار بأن للشرط جوابان.
ويتوالى النداء عقب التحذير من موالاة أهل الكفر وضرورة التمسك بموالاة الله ورسوله وكل ما هو منهما بسبب: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء).. ليكون بمثابة التأكيد لمضمون الكلام الذي قبله والتحذير من عدم امتثال ما نهى عنه ولتكون الحجة ألزم فلا يبق بعدها عذر لمعتذر، وفي ذكر الشرط استنهاض للهمة في الانتهاء، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنهم مؤمنون لأن شأن المؤمن دائماً الامتثال.
هذا بعض ما جاء في شأن النفاق والمنافقين في مسألة اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إنما أردنا من خلاله معالجة هذا المرض المفضي إلى تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين، والذي يفتك بالقلوب ويعصّيها حتى يجعلها أقسى على ذوي القربى من الحجارة، وإلا فآيات سورتي التوبة والمنافقون في كشف المزيد من حيلهم ماثلة للعيان، وهي في نهيهم عن اتخاذ الكافرين أولياء أكثر من تعد ونذكر منها قوله عزمن قائل: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.. آل عمران/28)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ .. آل عمران/118، 119)، وقوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً .. النساء/ 89)، وقوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. المجادلة/ 22)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .. الممتحنة/ 1، 2).
والسؤال المطروح الذي يفرض نفسه على كل من يحمل السلاح في وجه الأهل وأبناء الوطن الواحد مع أعداء الإنسانية ومدعي- كذباً وزوراً وبهتاناً- حقوق الإنسان وتحرير العراق ورافعي شعارات الحرية والديمقراطية في الوقت الذي يقتلون ويهلكون ويدمرون كل شيء .. ما يكون النفاق إن لم يكن ما ذكره القرآن من المسارعة في نجدة ونصرة هؤلاء اليهود والنصارى، وإن لم يكن التزلف والتقرب والمساعدة والمساندة والمعاونة بشكل أو بآخر والمشاركة لأولئك المحاربين الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليهتكوا العرض ويسلبوا الأرض ويقتلوا النفس ويهلكوا الحرث والنسل؟ وما يكون الرأي في تلك الجرائم التي فاحت وشاع أمرها والتي لم يرتكبها في حق أهليكم وإخوانكم وأبناء جلدتكم سوى الأمريكان والبريطانيين ومن حالفهم من معشر يهود ومن أهل الصليب؟ وأين أنتم وقد رفع هؤلاء شعار الصليب وأقروا بأن حروبهم (صليبية) واعترفوا أن العراق ستكون عاصمة دولة ربيبتهم المزعومة من النيل إلى الفرات؟ أين أنتم يا جنود الحرس الوطني والشرطة العراقية من دينكم الذي يحرّم قتل النفس المسلمة، ومن وعيد ربكم القائل في قرآنكم (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً.. النساء/ 93)، ومن تحذير نبيكم القائل (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة كتب بين عينيه آيس من رحمة الله)، والقائل: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والقائل: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)، والقائل: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليك كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)، ومن إجماع المسلمين على حرمة سفك دم المسلم ولو أكره القاتل وهدد بالقتل .. أين ذلك كله مما تفعلونه طواعية بحجة أكل العيش وعدم وجود فرص عمل؟ وهل هذا العمل الذي تتقاضون من أجله حفنة من الدولارات وتحرمون لأجله رحمة الله وجنته وتسهمون فيه بشكل مباشر أو غير مباشر في الإضرار بدينكم ووطنكم وأهليكم فتقتلون لأدائه طفلاً أو امرأة أو تحمون به مستعمرة أو تفادون من خلاله كافرًا أو تنتهكون به حرمة إلخ، يُعدّ في أي عرف وفي أي ملة وعند من له عقل أو ضمير عملاً شريفاً؟، وكيف تهنأون به وتقتاتون منه أنتم وأولادكم وقد دفعتم ثمنه دماء ذكية بغير حق ومساجد هدمت وحرمات انتهكت سواء كان ذلك بفعلكم أو بمعاونتكم؟ وإذا كان الصليبي الذي أشرك معه اليهودي والذي أتيتم أنتم لتشاركوهم في حرب إخوانكم وبني قومكم، جاء ليحقق هدفه في نهب ثروات بلادكم وقبض أثمان نفطكم وأخذ خيرات وأقوات أبنائكم، فما هدفكم أنتم وأين خدمتكم لدينكم وأين جهادكم في سبيل ربكم وأين دفاعكم عن عرضكم وذبكم عن نساء أهليكم، وأين نخوتكم ورجولتكم وقد جاءتكم الفرصة سانحة بعد أن دهم العدو أرضكم واغتصب زوجاتكم وأخواتكم وأمهاتكم وبناتكم وعماتكم وخالاتكم وبناتهن، أو فعل مثل ذلك في نساء إخوانكم في الدين والوطن؟، وألا كان حرياً بكم بدل أن تمكنوا لهذا المغتصب الآثم والمعتدي المجرم أن تسهموا مع إخوانكم في دفعه فتبتغون بذلك الأجر من الله وتدخلون معه في تجارة رابحة قال عنها: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين. يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله).
إليكم يا أبناء ديننا وعروبتنا وإلى كل من يحمل السلاح في وجه أهله وبني قومه ليحارب به مع أعداء الإنسانية، وإلى كل من يكرس للاحتلال - عن طريق انتخابات معلوم سلفاً نتائجها- ومستبقياً إلى ما لا نهاية الأوضاع على ما هي عليه الآن، هاكم فيما ذكرنا نماذج وبعضاً مما جاء في صحفهم وبشهادتهم وعلى ألسنتهم (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة): أفردت جريدة (روبنز بنورث) الأمريكية على صدر صفحتها الداخلية قصة اغتصاب 5جنود أمريكيين للفتاة العراقية (س) التي كانت متجهة لسوق البصرة لشراء احتياجات منزلها مخلفة وراءها طفلتين، وفي نهاية المقال يتساءل الكاتب: "أي أمن وأمان وديمقراطية أراد بوش أن يحققها في البلد العربي المسلم إنه يريد شيكاغو ثانية .. يريد أن يصرف أنظار مواطنيها عن دينهم وعبادتهم .. يريد بث الرعب وإنهاء حياتهم المستقرة"، كما ذكر الكاتب الأمريكي (ديفيد كول) عملية بشعة قام بها أربعة جنود أمريكان كانوا مخمورين يدخنون الماريجوانا ضد أسرة المواطن (ص ح ز) الذي اقتحموا منزله في ساعة متأخرة من الليل، ولما لم يجدوا ما يسرقونه التقط أحدهم ذراع الزوجة البالغة من العمر 27 عاماً ولديها طفلان، وبكل قسوة اختطفوها من بين أحضان طفليها الصغيرين اللذين كانا يرتعدان خوفاً وهلعاً من أصوات بنادق المحتلين، ثم اقتادوها بعد أن أشهروا السلاح في وجه زوجها الذي حاول دفعهم فأصابوه ليسقط مدرجاً في دمائه وسط بكاء طفليه.. الكاتب الأمريكي (وليام بود) لم يكن أقل صراحة وهو يروي في صحيفة (ويست بومفريت) الأمريكية في صدر صفحتها الأولى تحت عنوان (الاغتصاب الديمقراطي) تفاصيل جريمة بشعة ارتكبها جنود الاحتلال ويقول: "إن بوش قد ترك لجنوده أن يفعلوا ما يحلو لهم مع ضحايا سجنه الكبير في العراق، ترك (كول) و(ديفيد) اللذين يتميزان بالعدوانية الشديدة والهمجية يغتصبان نساء عراقيات بلغ عددهن وقتها26فتاة وضحية، يقومان بعد الثامنة مساءً باختطاف ضحيتهما من شوارع العاصمة دون تبرير ويجردانها من ملابسها أولاً ثم يُقدمان على تصويرها وإرسال هذه الصور المشحونة بأوضاع مخلة إلى أصدقائهما للاستمتاع بها وكأنهما ما حضرا إلى العراق إلا لهذا، فقط بنادقهم هي التي تتحدث وتتكفل بإسكات أي ضحية وبث الرعب في المحيطين بهم، عشرات الشكاوى وصلت إلى رؤسائهما ولم يتخذوا ضدهما أي إجراء يمكن أن يمنعهما عن هدفهما"، ويضيف الكاتب الأمريكي منتقداً: "هذه ليست ديمقراطية، يكفي تحقيق بعض الأهداف كالبترول والتوسع من أجل مصلحة الأعوان ولترحل أمريكا وترحم نساء وأطفال وشيوخ العراق".
فكيف- وهذه شهادة بعضهم- يتأتى لأبناء العراق الحبيب ولجنود شرطته وحرسه الوطني وللأنظمة العربية الذين مكنوا لأولئك الأوغاد أن يسكتوا عن هذا دون ما احتجاج فضلاً عن أن يغضوا الطرف عنه بل ويتعاونوا مع فاعليه وينفذوا مخططاته التي منها ضرورة إجراء انتخابات تحت نير هذا احتلال غاشم لا يبقي على شيء.
ولم يكن (بود) الذي ذكرنا شهادته هو آخر من انتقد الاحتلال وندد به فقد انتقده (وليام أركلين) وأفرد على صدر صفحات (ويست بومفريت) جرائم حرب لجنود أمريكان ارتكبوها في العراق، وذكر- بعد أن ندد بعمليات النصب والسلب التي يقومون بها- قصة جنود أمريكان راحوا يفتشون أحد المنازل وبقسوة قاموا بانتزاع صغيرتين من أحضان الأبوين وجردوهما من المشغولات الذهبية وحين تأخرت عملية تجريد إحداهما من قرطها انتزعه واحد منهم بشدة ليصيب الطفلة بجرح قطعي ولم يستطع أحد من أفراد الأسرة حمايتها خوفاً ورعباً من السلاح الفتاك الذي يحملونه.
وعن قتل المدنيين المتعمد حدثوا ولا حرج، وفي إطار الحديث عن بعض حوادث قتلهم وعن حجم الخسائر في الأرواح والضحايا التي سقطت على أيدي أولئك الذين يحصون عدد قتلاهم بالواحد- في الوقت الذي فيه لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة- نكتفي هنا بما أكدته مؤسسة مدنية قامت بمسح المستشفيات والمقابر والأسر العراقية من وجود آلاف المصابين ومن أن أكثر من 5000عراقي من المدنيين لقوا مصرعهم في الفترة ما بين 20/ 3/ 2004 وحتى إعلان انتهاء العمليات الرئيسية في1/ 5 يعني في غضون شهرين فقط، ناهيك عن عشرات المئات من القتلى التي تسقط بشكل يومي عند كل مداهمة لمدينة على نحو ما جرى في الموصل والرمادي وبعقوبة والفلوجة وغيرها، فماذا يا ترى تكون حصيلة القتلى منذ بداية وطوال فترة الاحتلال إلى يومنا هذا؟ يجيب عن هذا التساؤل (مارك ريزيكه) مؤسس منظمة اجتماعية أجنبية الذي صرح عندما سؤل عن عدد الضحايا المدنيين: "إن الجيش الأمريكي لا يتعقب أثر هذه الأشياء ولا يهمه عددها"، وكان مسئولون عسكريون قد أوضحوا أنه لا توجد لديهم أرقام دقيقة أو تقديرات عن عدد القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين حيث قالت المتحدثة الرسمية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) (جان كامبل): "إننا لا نحتفظ بالقائمة"، وبالطبع يغيب عن أمثال هؤلاء ما جاء في الحديث: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، وقوله عليه السلام: (لو اجتمع أهل الأرض على قتل مسلم لأكبهم الله جميعاً في النار).
لكن التبعة واللائمة تقع في المقام الأول على أهل النفاق الذين مكنوا قوى التحالف من إعمال القتل في أهليهم وذويهم رغم ما يتعرض له أولئك المنافقون أنفسهم، ورغم عجز قوى التحالف البيّن عن إحراز نصر بدونهم، الأمر الذي يؤكد إمكانية انتهاء الاحتلال منذ بدايته لولا مباركة أولئك المنافقين الذين قدموا على طائرات المحتل واستعانوا به بل وطلبوا- ولا يزالون- ذلك منه صراحة، كما يفسر إصرار أمريكا إزاء ضراوة المقاومة وشدتها على إجراء انتخابات بأي شكل .. لتخرج من هذا المستنقع الآسن وذاك الفخ الذي نصبته لنفسها- وقد حفظت ماء وجهها- رغم فداحة ما تكبدته في العدد والعدة .. ولتوقع أهل البلاد مع الحكومة التي ارتضتها لتحقيق مصالحها في بركة من الدماء.. ولتقف هي فيما بعد موقف المتفرج بعد أن توهم العالم أنها أدت مهمتها ووضعت العراق على بداية طريق الحرية والديمقراطية، فإياكم يا أبناء عراقننا الحبيبة وإنفاذ مخططاتها.
ولعله قد وضح الآن أن ما سبق أن ذكرنا بعضه مما يفعله أعداء الله وأعداء الإنسانية ومما جاء في فلتات ألسنتهم وهو قليل من كثير، مقصوده إقامة الحجة على أهل النفاق الذين يجدّون في البحث عن أسباب يغطون بها جرائمهم في حق دينهم ووطنهم وأهليهم، وقد وجدوها بالفعل فيما يردده أضرابهم من المرجفين خارج المدينة وداخلها من تسمية المقاومة العراقية إرهاباً .. وفيما أوحى لهم به أعداء الإنسانية من ضرورة ضبط الحدود وعقد مؤتمرات لدول الجوار للغرض ذاته ولمنع العناصر الأجنبية المتسللة (وهم لا يعنون بالطبع قوى البغي والعدوان الذين أتوا من أقاصي بلاد الدنيا وأدانيها عبر محيطات العالم وأجوائه ليحاربوا عرباً مثلهم ومسلمين في عقر دارهم ويغتصبوا نساءهم ويهلكوا حرثهم ونسلهم، ولا أولئك المرتزقة الذين أتوا بهم لتحقيق نفس هذه الأغراض من العجم، بل يقصدون بها حفنة من شباب البلاد العربية المجاورة عز عليهم أن يتركوا إخوة الإيمان وأصحاب الجنب الذين وصى الإسلام بهم وأمر بنصرتهم) .. كما وجدوها في إطلاق عبارات (متمردين) و (مسلحين) و(قوى الظلام) إلخ، (ويعنون بهم أهل البلاد التي احتلت أراضيهم وتهدمت بيوتهم ودمرت مساجدهم وأجهز على جرحاهم) .. ووجدوها كذلك فيما منّاهم به أهل الكفر من إشاعة الحرية وإقامة الديمقراطية وفي تهيئة المناخ الملائم لإجراء انتخابات علم سلفاً ما يكون مصيرها ومن سيحظى بها على غرار ما حدث في أفغانستان والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ومقصود ما ذكرنا كذلك، بيان أن ما يجري من مدافعة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ما هو إلا سنة من سنن الله التي أخبر عنها في قوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) .. وما هو إلا قتال في سبيل الله أمر الله به وأوجبه كما جاء في قرآن المسلمين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ... الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) .. وما هو إلا ابتلاء منه سبحانه لعباده المؤمنين ليعلم من ينصره ورسله بالغيب على ما جاء في قوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)، وقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)، وليميز به بين أهل النفاق وأهل الإيمان ويبين به درجته لدى كلِّ حتى لا يدعيه أي أحد كما جاء في قوله: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) .. ما هو إلا لبث روح الأمل لدى عباده المؤمنين لكونه اقتراب لما وعدهم به في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم وليمكنن لكم دينكم الذي ارتضى لكم) .. وما هو إلا تحقيق لما ساقه الله في قوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، وقوله: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد)، وقوله: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)، والنبي في قوله (تتداعى عليكم الأمم .. الحديث) .. ما هو إلا إجمال لما حدث في مكة وما حدث في أحد وبدر، هو (ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)، (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون).
ولا ينبغي أن نتهاون أو يفوتنا التنبه لما كشفت عنه آية آل عمران الأخيرة من جعل أهل النفاق أقرب للكفر من الإيمان، وما أكثر ما زاوج القرآن بينهما، ولنتأمل في ذلك قوله تعالى: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً.. النساء/ 140)، وقوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم .. التوبة /68)، وقوله: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً.. التوبة/ 97)، وقوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً ولئن قوتلتم لننصرنكم .. الحشر/ 11)، كما لا ينبغي أن يفوتنا أمر الله لنبيه بجهادهما معاً- كذا دون تفرقة- وذلك في قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم.. التوبة/ 73 والتحريم/ 9)، ونصحه بعدم طاعتهم والسير في ركابهم (ولا تطع الكافرين والمنافقين .. الأحزاب1، 48).. وعلى غرار ذلك ولخطورة ما عليه أهل النفاق زاوج القرآن كذلك بينهم وبين المشركين في قول الله تعالى: (ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الأحزاب/ 73) وقوله: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الفتح/ 6)، وفي ذلك من شديد غضب لله على هذا الصنف من الناس- كما لا يخفى- ما فيه.
كما شهدت آي الذكر الحكيم بفسادهم (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. البقرة/)، وكذبهم (والله يشهد إن المنافين لكاذبون .. المنافقون/1)، ووسمتهم بالفسق والخروج عن طاعة الله (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ..التوبة/ 67)، وقلة الفقه والعلم (ولكن المنافقين لا يفقهون.. لا يعلمون.. المنافقون/ 7، 8)، وبظنهم بفعالهم القبيحة أنهم (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون..البقرة/ 9)، وأنهم العون الوحيد للكفر والكافرين.. وبأن نفاقهم لا يظهر إلا في وجود قوتين متصارعتين يتذبذب بينهما على ما هو عليه الحال الآن خلافاً لعصر الخلفاء الذي خمدت فيه قوة الكفر .. وأوضحت أنهم لخفائهم أخطر في حربهم المسلمين من الأعداء الظاهرين وأن أخطر ما في حربهم للإسلام سهولة الاستحواز على عقول البسطاء من عامة المسلمين ثم نشر الفتنة بألوانها بينهم وأن شخصاً واحداً يستطيع أن يفسد الآلاف من هؤلاء السذج كما استطاع ابن سلول حين رجع بثلث الجيش في غزوة أحد على سبيل المثال، ومسيلمة الذي أفلح في إفساد عقيدة عشرات الألوف من أهل اليمامة، وابن سبأ الذي استطاع أن يصدع كيان الأمة بعد مقتل عثمان .. كما أفصحت آيات الذكر الحكيم عن تحالفاتهم مع جميع أطياف الكفر لكونهم- من الناحية المادية وحسب نظرتهم للأمور- الأكثر عدة وعتاداً ولكون صحبتهم- من وجهة نظرهم- أخف ضرراً وأيسر عبئاً.. ولم تعذرهم فيما أقدموا عليه من جرائم في حق دينهم وذويهم لا في الدنيا حيث الذلة والاستكانة ولا في الآخرة حيث العذاب المهين في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة.. ووصفتهم بالحرص على الدنيا والإرجاف والكبر والبخل والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والتكاسل عن الصلاة إشاعة الفاحشة في المؤمنين والخوف منهم وبكثرة الحلف.. وأظهرت مدى خطورتهم وعداوتهم لأهل الإيمان في عصر لم يجرئوا فيه على حمل السلاح في وجوههم، بل ونزل فيه قول الله تعالى: (هم العدو فاحذرهم) كذا بأسلوب القصر المفيد أنهم العدو البالغ العداء لا غيرهم، وبأنهم في الدنيا في قلق نفسي لا يستقرون على حال (يحسبون كل صيحة عليهم .. المنافقون/4)، الأمر الذي يعكس ما في بواطنهم من وساوس وتصورات لأنهم متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان فهم لذلك على حذر دائم، ومع احترافهم الكذب والحذر الشديد سرعان ما ينكشف بهتانهم (إن الله مخرج ما يحذرون ..التوبة/64)، ولا يهنأ لهم مقام (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورون فيها إلا قليلاً. التوبة/ 60).
وفي نور الذكر الحكيم وعلى ضوء ما أفادته آياته المحكمات وأشارت إليه السنة الصريحة والعقل الصحيح أفتى أهل العلم بجواز قتل المسلم الذي تترس به العدو إذا تحقق في قتله الخلوص إلى العدو فما بالك بمن قاتل من المنافقين دون العدو، وضحى بنفسه في سبيله، كما أفتوا بأن التحرج من قتال أهل النفاق إنما كان في حال عدم مساهمتهم في قتال وقتل أهل الإيمان واكتفائهم في معاداة المسلمين بحرب المؤامرات والدعايات "حتى لا يستغلوا ذلك- على حد ما ذكر د/ عبد الحليم حفني في كتابه (أسلوب القرآن في كشف النفاق ص71)- في الدعاية لمصلحتهم ضد المسلمين"، أما مع مواجتهم المسلمين وتعاونهم في ذلك مع العدو فلا فرق بينهم إذاً وبين أهل الكفر على ما أفاده ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) وكما أفاده إجماع المفسرين فيما سقناه لهم في آيات سورة المائدة سيما وقد جمع القرآن بين الفريقين وأمر الله نبيه بمجاهدتهما معاً، وقد حدا ما ذكرنا بـ 29عالماً من علماء السعودية يمثلون غيرهم من العلماء المخلصين الشرفاء وكذا بعلماء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالأزهر الشريف لأن يصدروا فتواهم التي تقضي بعدم جواز قتال رجال المقاومة الذين يقومون بواجبهم في صد وإخراج المحتل ولا الاعتداء عليهم وبعدم جواز التعاون مع أعداء الإنسانية أو تنفيذ مخططاتهم التي يدخل فيها بالطبع تنظيم الانتخابات التي تكرس احتلالهم أو تمكن لهم وبعدم جواز اتخاذهم أولياء أو مدهم بالمعلومات تحت أى ظرف من الظروف، وهو ما أفاده كلام الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة 3/ 75 حيث نص على "أن حكم القرآن في هؤلاء الذين يتعاونون مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين بيّن واضح، وأن ذلك خيانة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وأنهم لم يراعوا حق الإسلام ولا التاريخ، ولا حق الجوار ولا حق المظلومين، ولا حق حاضر هذه المنطقة ولا حق مستقبلها، وهؤلاء الخونة بتصرفهم هذا قد باعوا أنفسهم للشيطان، وسجلوا على أنفسهم خزي الدهر وعار الأبد".
إن هذه الفتنة التي أطلت برأسها وتمثلت في الاحتلال الأمريكي وتحالفه البغيض للعراق وما أحدثه أولئك المجرمون القتلة أعداء الحرية والديمقراطية والإنسانية في تلك البلد المسلم، من دمار وخراب طال الأرض والشجر والإنسان، ومن سفك دماء وحصد لا نقول لأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء بل لمئات الآلاف، وقتل جرحى واغتصاب نساء واعتداء على أطفال، وانتهاك حرمات وتدنيس مقدسات وهدم مساجد ونهب متاحف وسرقة آثار، وارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة دمار شامل وقنابل محرمة دولياً بلغت مئات الآلاف من الأطنان، واحتلال لأرض الغير بالقوة عن قصد وبعد تفادي أسباب ذلك والعلم به، واستعمال لأعمال أقل ما توصف به أنها أعمال بلطجة وهمجية، وعصف بما يدين هذه الأعمال البربرية من قرارات دولية، وإعلان بأن ما ذكر يأتي في إطار حرب صليبية، وفرض لعقيدة النصارى عن طريق مبشرين، واستحضار لليهود وإعطائهم الحق في حرب وقتل وتعذيب المسلمين وشراء أراضيهم في كركوك والموصل وأربيل تمهيداً لتطويق بلاد المسلمين ولتحقيق حلمهم من النيل إلى الفرات، وسماح لآلاف من جنودهم ولعشرات من حاخاماتهم للمشاركة في هذه الحرب القذرة، وعدم إخلاء الشوارع والمناطق الساخنة من جثث المسلمين وتركها تتعفن وتصبح مرتعاً لكلاب أتوا بها لهذا الغرض، وتقطيع أطباء أمريكيين لأوصال وأعضاء القتلى وبعض الجرحى العراقيين بقصد المتاجرة بها وبيعها للمرضى وللمراكز الطبية في أمريكا على ما أفادته تقارير أجهزة الاستخبارات الأوربية مؤخراً، وحرمان الجرحى من مواد الإغاثة الطبية سعياً إلى التخلص منهم، وتدمير العديد من المستشفيات والعيادات، ونهب محتوياتها أحيانا وضرب العاملين فيها حتى من الأطباء، وفرض أشخاص غير مرغوب فيهم ولا يمثلون هذا الشعب المقهور، وإكراه على اتباع نظم انتخابية تمهيداً لتعيينهم ولفرض أمر واقع على نمط ما جرى في تجربة أفغانستان، واصطناع ديمقراطيات مفصلة ومعدة سلفاً لتحقيق مصالح المحتل، وتداعي الأمم الكافرة من كل حدب وصوب، ومنع شباب المسلمين- في الوقت ذاته- من مناصرة إخوانهم في الدين، وتبجح بإمرار كل ذلك بحجج كاذبة ودعاوى مختلقة يقومون بأنفسهم بتفنيدها ويقرون- لكن بعد فوات الأوان وبعد تحقيق الهدف منها وبعد ارتكابها عن عمد- بخطئها .. ونضيف لما ذكرنا ما وقع من إدانةِ خبراء وعسكريين ومختصين من نفس دول الاحتلال، ومن اعترافات صريحة منهم ولأكثر من مرة بخطأ هذه الحرب، ومن تظاهرات اندلعت من جميع دول العالم وفي قلب الدول المشاركة، ومن سحب بعض هذه الدول لقواتها بعد أن أدركت خطأ هذه الحرب .. كل هذه الأمور جعلت ليس أبناء العراق فحسب بل المسلمين في كل بقاع الأرض في المحك وأمام اختبار صعب (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، فهل إلى خروج من هذا النفق المظلم وطريق النفاق المسدود من سبيل غير سبيل الجهاد؟ وهل من ملبٍ للنداء وتائب مقلع عن نفاقه معتصم بربه مشمر لرائحة الجنة مدافع عن دينه وأرضه وعرضه؟ هذا أملنا وليس لنا أمل سواه (إن المنافين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً.. النساء/ 145:147)، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.. آل عمران/ 126)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. يوسف/ 21).
 

بلاد الرافدين

  • الفلوجة
  • رسائل وبيانات
  • في عيون الشعراء
  • من أسباب النصر
  • فتاوى عراقية
  • مـقــالات
  • منوعات
  • الصفحة الرئيسية