صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وما تخفي صدورهم أكبر

فريق المنبر العلمي

 
ملخص المادة العلمية
1- تمهيد. 2- فإنه يحبّ الله ورسوله. 3- ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى. 4- قل هو من عند أنفسكم. 5- وإنك لعلى خلق عظيم. 6- انظر كيف يفترون. 7- فهو منهم. 8- الخاتمة.

تمهيد:
إنّ العجائبَ في هذه الدنيا كثيرةٌ، وإنّ الغرائبَ فيها لعديدة، ومِن أعجب ذلك وأغربِه أن يَطعنَ الوضيعُ في الرّفيع، والخبيثُ في الطيّب، والسّخيفُ في الشّريف. إنّ هؤلاء الذين تجرّؤوا على الطعن في شخصِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلّم كان يكفِيهم ما فيهم؛ بطلانٌ في الدّين، وفَسادٌ في العقول، وانتهاك للأعراض، وإتلاف للأموال، واعتداء على الأنفس، جمعيات ومؤسسات وهيئات تدافع عن الشواذّ وتطالب بحقوقهم! وأخرى تتاجر بأجساد النساء! النسيب واللقيط عندهم سواء! الفاحشة عندهم مكرُمة! والشذوذ حرّية! كيف يجرؤ من نبَت لحمه ونشَز عظمه بِلبن الرذيلة، ونشأ في أوحال الخنا، وتعلّم في مدارس العُهر، وتسفّلَ في دركات الفواحش، كيف يجرؤ مثلُ هذا الدعيّ أن يسخَر بمن طبقَ طهرُه الآفاق، واشتهر عفافُه وعفّته حتى عند أهل الكفر والنفاق؟! كيف يجرؤ هذا الأفّاك الأثيم أن يطعن في رجلٍ جاءه بالنور من ربّه ليُنقذَه من ظلمات الكفر التي لا يهتدي فيها إلى سبيل؟! كيف يجرؤ هذا الهمّاز اللّمّاز أن يطعن في رجلٍ غيّر مجرى التاريخ وردّ الحقَّ إلى نصابه وأسّس أعظم حضارة عرفتها البشرية؛ حضارة المبادئ الصحيحة والقِيَم الفاضلة والأخلاق النبيلة؟!
لكن إذا عُرِف السبب بطَل العجب؛ إنه الحِقد الدَّفين والتّعصّب المَقيت والحسد الذي يسري في الجسد، { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم:51، 52]، ولقد نبّأنا ربّنا تعالى عن حالهم ومآلهم فقال: { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } [الجاثية:7-11].
ولنا مع هذا الحدث الذي يدلّ على خِسّة أصحابه ودَناءتهم وقِحتهم وحقارتهم ستُّ وقفات عَنوَنَّا لها بالتالي: الوقفة الأولى: فإنه يحبّ الله ورسوله، الوقفة الثانية: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى، الوقفة الثالثة: قل هو من عند أنفسكم، الوقفة الرابعة: وإنك لعلى خلق عظيم، الوقفة الخامسة: انظر كيف يفترون، الوقفة السادسة: فهو منهم.

وفيما يلي تفصيل هذه الوقفات:

الوقفة الأولى: فإنه يحبّ الله ورسوله:
قال أصدق القائلين: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [آل عمران:111]، ورُبَّ أذِيّةٍ نافعة؛ فإنّ ما وقع من الاستهزاء بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم في بعض الصّحف الدّانماركيّة والنّرويجيّة وتمادي سفهائِهم في غَيِّهم وتغافُلِ عُقَلائهم عن الأخذ على أيديهم أثار حميّةَ المسلمين للهِ ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأيقظهم من سباتهم، وبصّرهم بمكر أعدائهم؛ إنّها صفعة مؤلمة ولكنها موقظة.
إنّ حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم مغروس في قلب كلّ مؤمن، وإنّ فداءه بالمُهجِ والأموال شرفٌ يبتغيه كلّ مسلِم، يشترك في ذلك صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، حاكِمهم ومحكومُهم، أتقاهم إلى أضعفهم إيمانًا.
إنّ حُبَّ أبي القاسم قاسِمٌ مشترَك بين جميع المسلمين بكلّ توجّهاتهم وعلى اختلاف مراتبهم ومراكزهم، كلُّهم لا يفرّطون في حَبيبِهم صلى الله عليه وسلّم، قال صلى الله عليه وسلم في رجلٍ كثُر شربه للخمر: ((لا تلعنه؛ فإنه يحبّ الله ورسوله))، ولو رأى أبو سفيانَ رضي الله عنه اليومَ غيرةَ الأمّة لنبيها صلى الله عليه وسلم لقال إن شاء الله نحوَ ما قال: (ما رأيتُ في الناس أحدًا يحبّ أحدًا كحبّ أتباعِ محمّدٍ محمّدا).
إنَّ من فضائلِ هذا الحدثِ ـ لا جزاهم الله خيرًا ـ أن أثار الغيرةَ في نفوس المسلمين، وهي غيرةٌ شرعيّة محمودة مطلوبة، تدلّ على أنّ الأمّةَ لا تزال حيّةً، ولكنّنا نعتَرف ونقول بكلّ أسف: إنها تدلّ على حياةٍ وليس على الحياة؛ إذِ الحياة الكاملة هي في اتّباع نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والأخلاق والسياسة، الحياة الكاملة هي في التمسك بسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسنّة من أوصانا بالتمسّك بسنّتهم وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، الحياة الكاملة هي في نبذ كلِّ دخيل على الإسلام ممّا ليس منه من الشّركيّات والبدَع والخرافات والمفاهيم الخاطئة التي حاربها حبيبنا صلى الله عليه وسلم.
إنّ هذه الغيرةَ التي عمّت جميعَ المسلمين تحمِل رسالةَ إشعارٍ وإنذار للغَرب مُسالمِهم ومعادِيهم بأنّ الأمّة لا تزال بخير رغمَ ما أصابها من جراح وما نزف من جسدها من دماء، وأنّها تنشُد العزّة رغم ما تتخبّط فيه من ذلّ وهوان؛ لأنّها تعلم أنه لا يزال عزيزًا من طلب العزّةَ وإن لم تتحقّق له، وأن الذليل إنما هو من رضِيَ بالذل والهوان.
وجملةُ القول أنّ هذه الغيرةَ لا بدّ منها ولكنّها لا تكفي، وهي مطلوبةٌ ولكنّها لا تفي.

الوقفة الثانية: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى:
إنّ من المعلومِ لدَينا ـ نحن المسلمين ـ أنّ هذه الحملاتِ المسؤولةَ واللاَّمسؤولة ليست هي الأولى، ولن تكونَ هي الأخيرة، قال الله عز وجل: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة:120]، وقال: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا } [البقرة:217]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنفال:36].
هذه حقيقةٌ شرعيّة شهِد بصحّتها التاريخ، فلا يزال في الذين كفروا من اليهود والنصارى وغيرهم مَن يستهزئ برسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم وبالدِّين الذي جاء به، لم يخلُ عصر من العصور منذ بعثَته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من شانئٍ مستهزئٍ وساخرٍ مستهتِر ومفترٍ أثيم، إلاّ أنّ ظهورَهم واستكبارَهم في الأرض يختلف باختلاف حال المسلمين في القوّة والضّعف.
إذا تقرّر هذا تساءلنا: ماذا فَعلنَا تجاهَ هذه الاعتداءات الصّارخةِ غيرَ التأثّر والاستياء والتنديد والاستنكار؟! ما الحلُّ الجذريّ لمثل هذه الحملات المتتالية؟!
إنّ المسلمين على كثرتهم وتوافر العقول فيهم ووفرة مواردهم وخيراتهم وانبساطهم في الأرض، إنّهم رغم ذلك كلّه ليس عندهم ـ على سبيل المثال ـ قناةٌ فضائيّة واحدة تغزو بلدانَ العالم لتعرّف الناسَ بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وأخلاقِه وشمائله وكمال الدين الذي جاء به وصلاحِيتِه لكل زمان ومكان، ولتفنّد الشبهات التي يثيرها أعداءُ الإسلام بالأدلّة الواضحة والبراهين الساطعة، ينبغي أن توجد هذه القناة، بل وقنواتٌ دعويّة متعدِّدة وبِلغات العالم المتنوّعة.
وإذا نظرنا في الشبكة العنكبوتية العالمية التي تُعَدّ من أقوَى وسائلِ الاتصال والنّشر والإعلام وجَدنا أنّ المواقع التي تُعنى ببيانِ فضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم وشمائله وسيرتِه وسنّته وتدفع عنه شبهات المفتَرين لا تفِي بالغرض المطلوب والهدف المنشود.
يقول محمد البشير الإبراهيمي مبيّنًا أن الدعوة إلى الله تعالى هي الحلّ الجذريّ للحملات الغربيّة العدوانية: "لو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم وكانت لهم دعاية منظَّمة، يمدّها الأغنياء بالمال والعقلاء بالرأي والعلماءُ بالبرهان المثبِت للحقائق الإسلامية وبالتوجيه لغاية الغايات فيه وهي إسعاد الإنسانية وتحقيق السلام بين البشر والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم وإقامة العدل بين الناس ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك وحافظوا عليه في كلّ أطوار الزمن لكانوا اليوم حاجزًا حصينا بين البشرية وبين الكارثة المتوقَّعة التي لا تُبقي على برّ ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر.
بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام محسنون للإبانة عنها ولعَرضها على العقول لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر، الثائرةُ على أديانه وقوانينه وأوضاعه؛ لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية ولم تُقم الموازين القسطَ بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون متطلعون إلى حال تغيّر هذه الأحوال، وفي الإسلام ما يقوم بذلك كلّه ويرجع بالناس إليه وإلى اختياره حَكَمًا تُرضى حكومته لو وُجد من يدعو إليه على بصيرة ويبيّن حقائقه ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عهدٌ كهذا العهد في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم، والقضيتان متلازمان في الطباع البشرية الغالبة وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم، فمن سننه أن من لم يدافع دوفع، وأن من لم يهاجم هوجم، وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل. ولم يمض عليهم زمنٌ تألّبت فيه قوى الشرّ عليهم وتألّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات كما تألّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية والبوذية والوثنية بجميع ألوانها والمذاهب الاجتماعية المادية كلّها أصبحت ألبًا على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق، صادرة في ذلك عن عهد وميثاق، يسند بعضها بعضا، ويقرض بعضها بعضا العون والتأييدَ، وأن العقلاء من هذه الأمم المتعاونة على حرب الإسلام مسوقون بأيدي الساسة الطامعين والقساوسة المتعصّبين والملاحدة المستهترين، حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره وهو أنهم قوّة متحدة لحرب الإسلام، يشارك فيها ذو الدين بدينه، وذو المال بماله، وذو العقل بعقله، ويشارك فيها الساكت بسكوته.
لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرّون من عداوة الإسلام وما يعلنون، ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللّوم برادّهم على ما هم ماضون فيه بعد أن ابتَلَوا سرائرَنا وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عوراتٍ ومنافذَ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنّا، ومن المناعة التي يتوقّعونها منّا، فسدّدوا الغارةَ على ديارنا فاكتسَحوها، وشدّدوا الحملةَ على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثمّ شنّوا غارةً أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها؛ إذ بذلك وحدَه يضمنون التمتّع بخيراتنا والتلذّذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك؛ فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه وأحد أطوار تاريخه، فهو حاقد عليه يتخيّل في شبحه مفوِّتًا للعز والسلطان، ومقيِّدًا للشهوات في اتباع الشيطان، أو مانعًا من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيّد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلّط والشهوة، ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفقٍ أسمى، وهم بعد ذلك عَمون عمّا وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفعٍ، ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عزٍّ بالله وعدلٍ في أحكامه بين عباده رحمةً بهم وإحسانا، وإلى ما فيه من انطلاق ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة، وعلى إهمال الدعوة لدينهم والعرض لجماله ومحاسنه، وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألِّبة التكالبة عليهم وعلى دينهم، حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عونًا لها على هدم ديننا ومحو فضائلنا والقضاء على مقوّماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم، وكأنّ الأمر لا يعنيهم! وكأنّ الدين ليس دينَهم! وكأنهم لا يعلمون أنّ هذا التكالبَ إن استمرّ لا يبقي لهم عَرَضًا ولا مالا ولا متاعا! وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يعين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله، وكأنّه يقلّد عدوّه سلاحًا قتّالا يقتل به دينه وقومَه! ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوّه: اقتلني به.
إنّنا لا نكون مسلمين حقًّا ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوشَ المغيرة علينا وعلى ديننا تارة باسم العلم وتارة باسم الخير والإحسان وأخرى باسم الرحمة بالإنسان إلا إذا علمنا ما يُراد بنا وفقهنا الغايات لهذه الغارات وتحدّيناها بجميع قوانا المعنوية والمادية، وحشدها في ميدان واحد هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتمّ لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله وإلى دينه الإسلام على أساس قويٍّ من أحجار العالم الرباني والخطيب الذي يتكلّم بقلبه لا بلسانه والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضال قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين وأرجعتهم إلى ربهم فاتصلوا به فتمسكوا بكتابه وهدي نبيه وتمجّدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه كنّا قلّدناهم سلاحا لا يفلّ، وأسبغنا عليهم حصانة روحية لا تؤثّر عليها هذه الدعايات المضلّلة، وحصانة أخرى مادية لازمة لها لا تهزمها الجموع المجمعة ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية تهدي ضالهم وتصلح فاسدهم، تبتدئ من البيت، وتجاوزه إلى الجار والقرية، حتى تنتظم المجتمعَ كلّه، فإذا عمِرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة أعطت ثمراتها الصحيحة وجاء نصر الله والفتح ربطًا للوعد بالإنجاز ووصولاً إلى الحقيقة على المجاز"[1].

الوقفة الثالثة: قل هو من عند أنفسكم:
في معركة أحد قُتِل سبعون من الصحابة رضي الله عنهم، واعتُديَ على النبي صلى الله عليه وسلم، فكُسِرت رَبَاعِيّته، وهُشِّمت البَيْضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، ولمّا تساءلوا: أنَّى هذا؟! قال الله تعالى مبيِّنا السببَ الحقيقيّ: { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:165].
إنّ البعدَ عن شرع الله تعالى هو الذي يجرّئ العدوَّ علينا، ومن تأمّل حالَ المسلمين اليومَ وما آلت إليه أوضاعهم من التنكّر لدين الله تعالى والتفرّق شيَعًا وأحزابًا والتباغض والتناحُر فيما بينهم لا يستغرب أن يصدرَ من أعدائِهم استهزاءٌ وسخرية بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذِبٌ وافتراء وتشويه لدين الإسلام.
ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يزعزع ثوابتَنا ويشكّك في مسلَّمات ديننا؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يسبُّ الله تعالى في حال الغضب بل وفي حال الرضا؟! ألا يوجد بيننا ـ وهذا أدهى وأمرّ ـ من يزعم أنه يمكن أن يجتمعَ إيمانٌ بالله وسبٌّ لله؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يستهزئ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من طرفٍ خفيّ على أهل الغفلة جليٍّ عند ذوي البصائر؛ كالاستهزاء ببعض سنَنِه والسخرية ببعض تشريعاته؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من اتّخذ حكمَ المصطفى صلى الله عليه وسلم خلفَه ظِهريًّا وزعم أنّ التحاكمَ إليه تخلُّفٌ ورجعيّة؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يسعى في الأرض فسادًا بإفساد الشباب والفتيات وإلهاب غرائزهم عبر قنوات فضائيّة فاضحةٍ فاسقة فاسدة فاجرة؟! ألا يوجد بينَنا ـ نحن المسلمين ـ من يستبيحون دماءَ الأبرياء وأموالهم وأعراضهم باسم الإسلام؛ فكانوا فتنة للذين كفروا ونكبةً على الإسلام وأهله وجسرًا للأعداء؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يسبّ أحبَّ الناس إلى الخليلِ صلى الله عليه وسلم ويطعَن فيهم، وهم صحابته وزوجاته رضي الله عنهم؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يرى العزّةَ في تقليد أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم ويفرَحون في أفراحهم ويألمون لآلامهم؟! ولن تجدَ لقائمة "ألا يوجد بيننا" نهايةً، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
"إن أعداءنا الذين ملكوا رقابنا واحتلّوا أوطاننا وسامونا الذلة والهوان واستعبدونا شرَّ استعباد إنما استعانوا بنا علينا، فمتى طلبوا خائنًا لوطنه منّا وجدوا العشرات، ومتى التمسوا جاسوسًا يكشف لهم عن أسرارنا ويدلّهم على عوراتِنا وجدوا المئات، ومتى التَمسوا ناعقًا بالفرقة فينا أو ناشِرًا للخلاف بيننا وجدوا الآلاف... وما ذلك إلاّ لأن نفوسنا أنهكتها الرذائل وتَحيَّفتها النقائص"[2].
انظر لحالِ المسلمين مع سنّةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم يرجع إليك البصر خاسئا وهو حسير، ثم انظر إلى تأثّرهم واقتدائِهم ببعض الشخصيّات الغربيّة في الملبَس والكلام والهيئَة والشعر وغير ذلك ترَ العجَب العجاب، إذا دُعوا إلى سنّةٍ مِن سنَن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هذه عادةٌ وليست عِبادة، أولم يكفِهم أنّها عادة نبيِّهم؟! ثمّ لمّا وفّر بعضُ اللاعبين في الأندية الغربية لحيتَه على شكل خيطٍ رقيق انتشرَت هذه المُثلَةُ في أوساطِ الشباب!! وأقسِم بالله ـ إن شاء الله ـ غيرَ حانثٍ أنّه لو اتّخذ فنّان أفِن أو فنّانة عفِنة من الغربيّين سواكًا يتسوّك به لرأيتَ كثيرًا من شبابنا وفتياتِنا بمساويك يتسوّكون بها، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. أبَعدَ هذا نستغرِب تطاولَهم على نبيِّنا وتجرّؤهم على مقدّساتنا؟! فلا تلوموهم ولوموا أنفسكم، إنّهم لم يتجرّؤوا ولكن ـ وللأسَف ـ جرّأناهم.
وإذا أردتَ مثالا حيًّا ناطقًا صارخًا لإذلال المسلمين لأنفسهم أمام أعدائهم فارجع قرنًا إلى الوراء، وتأمّل هذه القصّةَ التي عايش الشيخ محمّد رشيد رضا أحداثها، وخلّدها في مجلّته المشهورة حيث قال: "ما أبعدَ الفرقَ بين الشيخ علّيش في تحمّسه الدينيّ وغيرته على الإسلام في مذاهبه وتقاليده، وبين أولاده وأحفاده الذين لم يرِثوا منه علمًا ولا خُلُقًا، فهم أوّل من مثَّل الإسلام أمام الإفرنج في معرض الهُزء والسّخرية؛ إذ جمعوا لهم بعض الزعانف المنتسبين إلى الطريق، وجعلوا يرقصون ويذكرون؛ ليصوّرَهم الإفرنج في تلك الحالة، ويثبِتون صوَرهم في الكتب مبيِّنين أنّ رقصَهم على تلك الصفة الشنيعة من عبادات الإسلام. ثم بلغنا في العام الماضي أنّ الشيخ عبد الرحمن علّيش قد وقف قطعةَ أرض بحارة الجوارِ القريبة من الأزهر، بنى فيها مسجدًا باسم "همبرتو الأوّل" ملِك إيطاليا؛ لتقام الصلوات فيه عن روح الملِك المتوفَّى، ويكون تِذكارًا له، وسلَّمه لحكومة إيطاليا، وهي بدعة غريبة لا يعرَف لها نظير في الإسلام"[3].
إنّها دعوة صادقة حارَّة لكلّ مسلمٍ ومسلمة يحبّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يراجعَ نفسَه وأن يصحِّح مسارَه وأن يرجع إلى دينه وأن يتمسّك بسنّة نبيّه وأن يعتزّ بشرع ربّه، وهي أيضا دعوة صادقة مخلِصة لمن آتاه الله تعالى من أمر هذه الأمّة شيئًا أن يعملوا على تنشِئة المسلمين على حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الحبَّ العمليَّ ومعرفة شمائله وفضائله وسيرته عبرَ مناهجَ دراسيّة متطوِّرةٍ تتابِع ما استحدثه الأعداء من شبُهات حول الإسلام ونبيّ الإسلام. وهذا برهانُ صِدق هذه الغيرةِ المحمودَة والحميّة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمّا ردود الأفعال بلا عمَلٍ ثابتٍ وفعلٍ دائم ومنهَج مستمرّ فإنّما هي كالطّبل يحدِث صوتًا عظيمًا وليس بداخله إلا الهواء.

الوقفة الرابعة: وإنك لعلى خلق عظيم:
إنّه مهما حاول أعداءُ الله النيلَ من النبي صلى الله عليه وسلم والطعنَ فيه وتشويه صورته فإنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً؛ قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة: 32]، ونبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم هو حاملُ نور الله، وقال عز اسمه: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف:9]، فإظهار دينه إظهارٌ له صلى الله عليه وسلم ولفضائله ومكارمه وسموّ أخلاقه وإحكام تشريعاته.
وإنّ هذه الحملات الشرسة على نبيّ الإسلام تساهم من حيث لا يشعر أصحابها في رفع ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآفاق ونشر فضائله ومحاسنه وتعريف الناس بدعوته وأخلاقه، وما كان هذا ليكون لولا أن استفزّ الشيطان هؤلاء السفهاء فأوحى إليهم زُخرُفَ القول والفعل، فتكلّموا في نبيّنا ما تكلّموا، وأجرموا في حقّه بما رسموا، وليس بين الإنسان العاقل المتجرّد للحقّ وبين أن يقتَنع بدعوةِ محمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ أن يطّلع عليها ويفهَمهَا على حقيقتها.
لقد ضرب رسول الإسلام والسلام محمّد صلى الله عليه وسلم لكلّ خلُقٍ حميدٍ أمثلةً ليس فوقَها مِثال، صبر على من آذاه، وحلم على من ظلمه، وعفا عمّن أخطأ في حقّه، وما انتقم لنفسه قطّ، تواضع بين دواعي العزّ والكبرياء، هو بحقٍّ أخٌ وابن أخٍ كريم، صلوات الله وسلامه عليه.
دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم ـ أي: الموت ـ، فقالت عائشة رضي الله عنها: فَفَهمتُها فقلتُ: وعَليكم السّام واللّعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهلا يا عائشة، إنّ الله يحبّ الرفقَ في الأمر كلِّه))، فقلتُ: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد قلتُ: وعليكم))[4].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتَى نفر من يهود، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفّ ـ اسم وادٍ بالمدينة ـ، فأتاهم في بيت المدارس، فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منّا زنى بامرأة، فاحكم بينهم، فوضَعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادةً، فجلس عليها ثم قال: ((ائتوني بالتوراة))، فأتِيَ بها، فنزع الوسادةَ من تحته، ووضع التوراةَ عليها، ثم قال: ((آمنتُ بك وبمن أنزَلَك))، ثم قال: ((ائتوني بأعلمكم))، فأتِيَ بفتًى شابّ، ثم ذكر قصّة الرّجم[5].
هذا احترامُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لكتابهم على مَا فيه من تحريفٍ وتبديل، فأين احترامُهم لديننا وكتابِنا ورسولنا ومقدّساتنا؟! وما تدنيسُهم للمصحف الشريف عنّا ببعيد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهوديّ يعرض سلعته أعطي بها شيئا كرِهَه فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجلٌ من الأنصارِ فقام فلطم وجهه وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إنّ لي ذمّةً وعهدا، فما بال فلان لطم وجهي؟! فقال: ((لِمَ لطمتَ وجهَه؟)) فذكَرَه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رئِي في وجهه ثم قال: ((لا تفضِّلوا بين أنبياءِ الله؛ فإنّه ينفَخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثمّ ينفخ فيه أخرى فأكون أوّل من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي، ولا أقول: إنّ أحدا أفضل من يونس بن متى)).

هكذا يعلِّم المصطفى صلى الله عليه وسلم بكلّ حزمٍ وصرامة مَن قد استقرّ في نفوسهم تعظيمُ الأنبياء وحبُّهم واحترامُهم، يعلّمهم ويرشدهم أن لا يتلفّظوا بكلمة حقٍّ قد لا تُفهَم على وجهِها الصحيح، فأين أولئك السفهاء من هذا الأدب الإسلاميّ الرفيع والخلق المحمّديّ السامي؟!
قال الأستاذ اللّورد هدلي[6] في معرض الردّ على مفتريات المبشّرين ومطاعنهم البذيئة في النبي الكريم: "كنت أطّلع من وقت إلى آخر على كتابات الإرساليّات المسيحية التي يطبعونها بشكل كرّاسات صغيرة، ويدَّعون فيها أنهم يُدْلُون للقرّاء بمعلومات قيّمة عن الدين الإسلاميّ وواضع أسسه، وإنني لأعترِف وأنا عظيم الأسَف بأنني أشعر بذلّة عظيمة وخجَل شديد عندما أجِد أن أحدَ رجال وطني يضطرّ إلى الأخذ بالرّياء والتمويه والتحريف لكي يعزّز آراءه نحو الدين، فإن الدين الحقّ يعلِّم الناس العَدل والآداب وعدمَ الافتراء والكذب؛ وإنه ليُذهِل أن يرى القارئ إلى أيّ مدَى تسير التعصبات الدينية المسيحية.
وانظر إلى وجه الصورة الآخر، ألا تدهشك رؤية مظاهر روح التسامح والحسنى التي يقرّرها القرآن، وذلك الهدوء الذي يلاقي به المجتمع الإسلامي الحملات القويّة العديمة القيمة التي تحمل عليه وعلى ديانته باسم عيسى الكريم أحد أنبيائه؟! إنني لا أجد أيّ جَور أو تحريف في أعمال هذه النبيّ الكريم، وإنه وإن كانت هناك كلمات شديدة يدفع بها المسلمون عن كرامتهم إلاّ أنهم لم يلجؤوا إلى مثل هذه التهم الملفَّقة كي يكون منها أهمّ أسلحتهم التي يهاجمون بها خصومهم.
وها أنا ذا ذاكر الآن بعض قطَع من كرّاسات وضِعت خصيصًا لتشويهِ أخلاق المصلح العربيّ العظيم، وسيرى كلّ شخص ذي عقل سليم مسيحيًّا كان أم مسلمًا أن طلبَ الانتقام هو السِّلاح الوحيد الذي يهاجمون به الإسلام، يريدون بذلك أن يطفئوا تلك الشمس النيِّرة، وأن يحجبوا أشعَّتها الوضّاءة، وليس في تلك الكراسات حجج ولا إشارات إلى الحقائق التاريخية، وإنما هي تقارير مثيرة متوالِية، تدل على عقلية كاتبيها السخيفة وذوقِهم السقيم.

ويرى القارئ هنا بعض أمثلة مقيتة، وإنني أعتذر إليه لذكر هذيانٍ كهذا يَمُجُّهُ الذوقُ السليم ويحمرُّ منه وجه الفضيلة، وعذري في ذلك أنه يجب على كل مسلم أن يعلم مقدار تعصّب هذه الشرذمة الضالة، وأن يرى هذه الهجمات المتتالية التي توجَّه منذ زمن بعيد ضدّ المسلمين الذين لا تسمَح لهم حسناتهم وصبرُهم وطول أناتهم وحسنُ ذوقهم بأن يقابِلوهم بمثل هذه السّفالة المنكَرة المبتَذَلة التي نهى عنها المسيح الذي يعتقِد هؤلاء المتديّنون الأسافلُ أنه ربهم ومولاهم".
وبعد أن ساق أباطيلهم وافتراءاتهم في حقّ الإسلام ونبيّ الإسلام وأتباع الإسلام قال: "أنا أفهم أن للقلم حرمة، وأفهم أنه مرآة حامله، فإذا أثم القلم فيما يسوّد من بياض القرطاس دلّ على أن لصاحبه نفسًا لا تسمو كثيرًا عن نفوس المجرمين، وكلّ ما في الأمر أنه طليق وأنهم سجناء، فالذي يحاول أن ينال من غيره ببذيء القول لا ينال إلا من نفسه، والذي يريد أن يطعنَ غيره بفُحْش الكلام لا يطعن إلا صدره.
فإذًا يُفهم من أقوال المبشّرين أنهم ضالّون مضلِّلون، وإذا كان هذا هو الأدب لديهم فماذا تركوا لأوباش الأحواش ـ المواخير ـ وأبناء الأزقّة؟!
إن تعاليم القرآن الكريم قد نفِّذت ومُورِسَتْ في حياة محمّد صلى الله عليه وسلم الذي أظهرَ من أشرف الصفات الخلُقِية ما لا يتسنّى لمخلوق آخرَ إظهارها، فكلّ صِفات الصبر والثبات والحلم والصدق كانت تُرَى في خلال الثلاثة عشرةَ سنةً أثناء جهاده في مكة، هذا، ولم تتزعزع ثقتُه بالله تعالى، وأتمَّ كلَّ واجباته بشمَمٍ وشهامة.
كان صلى الله عليه وسلم مثابرًا في عمله، لا يخشى لومةَ لائم؛ لأنه كان يدرس المسؤولية التي ألقاها الله تعالى على كاهله، وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا تعرف الجفول ـ تلك الشجاعة التي كانت حقًّا إحدى مميّزاته وأوصافه العظيمة ـ إعجابَ واحترام الكافرين، وأولئك الذين كانوا يحاولون قتلَه، ومع ذلك فقد انتبهت مشاعرنا وزاد إعجابنا له في حياته الأخيرة أيّام انتصاره بالمدينة، عندما كانت له القوّة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذَ بالثأر، ولم يفعل من ذلك شيئًا، بل عفا عن كلّ أعدائه.
إن العفو والإحسان والشجاعة والحِلم كلّ ذلك كان يُرى منه في خلال تلك المدّة، وإنّ عددًا عديدًا من الكافرين اهتَدَوا إلى الإسلام عند رؤيتهم ذلك. عفا بلا قيدٍ ولا شرط عن كلّ هؤلاء الذين اضطهدوه وعذَّبوه، آوى إليه كلّ الذين كانوا قد نَفوه من مكّة، وأغنى فقراءَهم، وعفا عن ألدِّ أعدائه عندما كانت حياتهم في قَبضة يده وتحت رحمته.
تلك الأخلاق اللاهوتية التي أظهرها النبيّ الكريم أقنَعَت العرب الكافرين بأنّ حائزَها لا يمكن إلا أن يكون مرسَلاً من عند الله، وأن يكون رجلاًَ هاديًا إلى الصراط المستقيم، وإنّ تلك الأخلاق المُضَرِيَّة الشريفة حوّلت كراهيَتهم المتأصِّلة في نفوسهم إلى محبّة وصداقة متينة.
فكل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المبشِّرون لتحقير شريعة النبيّ العظيم بالبذاءة آنًا وبالسّفاسف المتضمّنة كثيرًا من طمس الحقائق آنًا آخر لا تمسّه بأذًى، ولا تغيّر عقيدةَ تابعيه قيدَ أصبع. وليعلم هؤلاء الذين اتَّخذوا مثلَ هذه الأكاذيب ذريعةً وأحبولة ليقتنصوا المسلمين أنّ الكلام البذيء والكذب كانا أكرَه شيء في نظر أعظم معلِّمي الناصِرة.
لا أظنّ أبدًا أن المسلمين اجتهدوا في حين مِن الأحيان أن يحشروا أفكارهم ومعتقداتهم الدينيّة في حلوق الناس وصدورهم بالقوّة والفظاعة والتعذيب، وإذا كان هناك مِثلُ هذه الحالات فحينئذ يمكِننا أن نقول: إن مرتكبي هذه الآثام ليسوا بمسلمين مطلقًا؛ لأننا لا نستطيع أن نقرَّ بأن القرآن الشريفَ يصادق على أفعالهم.
إن محمدًا كان قانونيًّا ومحاربًا، وعندما امتشق الحسامَ هو وتابعوه لم يكن ذلك إلا للدفاع عن أنفسهم فقط، ولم يعتدوا قطّ على أحد، والسيرة النبوية تثبت لنا ذلك.
نحن نعتبر أن نبيّ بلاد العرب الكريم هو ذو أخلاقٍ متينة وشخصيّة بارزة حقيقيّة، وزنت واختبرت في كلّ خطوةٍ من خطى حياتِه، ولم ير فيها أقلُّ نقصٍ أبدًا.
وبما أننا باحتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في معترك هذه الحياة فحياة النبيّ المقدّس تسدّ تلك الحاجة. إنما حياة محمّد صلى الله عليه وسلم كمرآة أمامَنا تعكِس علينا التعقّل والسخاء والشجاعة والإقدام والصبر والحلم والوداعة والعفو وجميع الأخلاق الجوهرية التي تتكون منها الإنسانية، وترى ذلك فيها بألوانٍ وضّاءة وجلاء شديد.
خذ أيّ وجه من وجوه الآداب تجِده موضَّحًا في إحدى حوادث حياتِه، وقد وصل محمّد إلى أعظم قوّة، وأتى إليه مُقَاوِموه ووجدوا منه رحمةً لا تُجَارَى، وكان ذلك سببًا في هِدايتهم ونقائِهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
إنّ الهمّة العظيمة التي لا تَعْرِف الكلَل أو الوهَن التي كان يبذلها النبي الكريم لمنع عبادةِ الأصنام قد أثارت معارضة مريعة ضدَّه، فلم تكن هناك قبيلة من قبائل العرب بدون معبود صنميّ، وقد أشعلت كلّ قبيلة لظى الحرب كي تؤيّد أصنامها وتحميَها، حصل ذلك كلُّه حينما كان النبي بالمدينة، وفي الواقع فقد قضَى هنالك أيامًا أشدّ من تلك التي قضاها في مكة، ولما كان أعداؤه يشنّون الغارة عليه في كل آن ومن جميع الجهات أخذ في مقاتلتهم أو إرسال رجاله لصدِّهم عن سبيلهم، فكانوا طورًا ينتصرون وتارةً ينهزمون، وكانت كلّ حادثة تخلق فرصة مناسبة للنبي الكريم ليظهر مكنونات أخلاقه العظيمة التي لو جمعها الإنسان ونسّقها لوجد العالم منها لنفسه قوانين وشرائع تتّفق مع كلّ زمان ومكان.
لم يشهِر محمد صلى الله عليه وسلم السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية الحياة البشرية، ولربما يدّعي بعض المبشّرين أن الإسلام استعمل السيفَ في نشر الدين، ولكن لحسن الحظّ عجَز ألدّ أعداء الإسلام القادحين عن أن يأتوا بأقلّ دليل أو مثل من الأمثلة التي أثّرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخصٍ واحد.
إن هذه الوقائع كانت سببًا لإظهار كرَم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم الذي امتلك كلَّ قلوب مواطنيه، والذي كان أشدّ تأثيرًا في الهيئة من أيّ شكل من أشكال الإكراه، وقد أظهرت تلك المعاملة النبيلة السامية التي كان يعامل بها النبي المنهزمين عجائبَ وغرائب أدهشت العالم أجمع.
فهل آن لهؤلاء المبشِّرين أن يسكتوا بعد أن ظهر الحقّ وزهق الباطل؟! وهل آن لهم أن يكفّوا عن هذه المفتريات التي تسقط من قيمَتِهم في المجتمع الإنساني؟!
ولا عجب أن كذب المبشِّرون أو افتَروا على الله كذبًا، فكم تظاهر اللّصّ بالأمانة والداعر بالاستقامة والزنديق بالتديّن، ولكن لا عجب، فقد غاض من وجههم ماء الحياة، وقد قال النبي العربي: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). ولو كانوا يستحيون من أنفسهم أو على الأقل من الناس لما أقدموا على هذا الادِّعاء الباطل والافتراء الواضح، ولما باتوا مضرب المثل في الدّسّ والتدجيل وعلَمًا في التفريق والتضليل. ولكنّك ترى أشد الناس إلحادًا أكثرَهم تظاهرًا بالورع، وهم في الحقيقة أمهر في النصب والاحتيال من الضاربين بالرّمل واللاعبين بالوَدَع"[7].
وقال الأستاذ فارس بك الخوري[8] في إحدى الحفلات التي أقيمَت بدمشق لإحياء ذكرى المولد النبوي: "إنّ محمدًا أعظم عظماء العالم، ولم يَجُدْ الدهرُ بعدُ بمثله، والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمّها وأكملها، وإنّ محمدًا أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علميّة واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصِفون إلا الاعتراف بفضل الشريعة التي دعا الناس إليها باسم الله، وبأنها متفقة مع العلم، مطابقة لأرقى النظُم والحقائق العلمية... إن محمدًا الذي تحتفلون به وتكرِمون ذكراه أعظم عظماء الأرض، سابقهم ولاحقهم ، فلقد استطاع توحيدَ العرب بعد شتاتهم، وأنشأ منهم أمة موحَّدة فتحت العالم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عيّنت للناس حقوقهم وواجباتهم وأصول تعاملهم على أسسٍ تُعَدُّ من أرقى دساتير العالم وأكلمها"[9].
وقال العالم الفرنسي ساديو لويس: "لم يكن محمّد نبيّ العرب بالرجل البشير للعرب فحسب، بل للعالم لو أنصفه الناس؛ لأنه لم يأت بدين خاصّ بالعرب، وإنّ تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدلّ على أنه عظيم في دينه، عظيم في أخلاقه، عظيم في صفاته، وما أحوجَنا إلى رجال للعالَم أمثال محمد نبي المسلمين".
ويقول الإنجليزي إدوارد لين: "إنّ محمّدًا كان يتّصف بكثير من الخصال الحميدة، كاللُّطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثّر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، كيف لا وقد احتمل محمد عِدَاء أهله وعشيرته بصبر وجَلَد عظيمين؟! ومع ذلك فقد بلغ من نُبْله أنه لم يكن يسحب يده من يد من يصافحه حتى ولو كان يصافح طفلاً، وأنه لم يمرّ يوم من الأيام بجماعة رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يُقرئهم السلام وعلى شفتيه ابتسامة حلوة".
ويقول العالم الفرنسي لوزان: "رسول كهذا الرسول يُجْدر باتّباع رسالته والمبادرة إلى اعتناق دعوته؛ إذ إنها دعوة شريفة، قوامها معرفة الخالق والحث على الخير والردْع عن المنكر، بل كل ما جاء به يرمي إلى الصلاح والإصلاح، والصلاح أنشودة المؤمن، هذا هو الدين الذي أدعو إليه جميع النصارى".
ويقول الإيطالي إماري: "لقد جاء محمّد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكون دينًا لكل الأمم؛ لأنه دين كمال ورقيّ، دين دَعَة وثقافة، دين رعاية وعناية".
ويقول الألماني كارل بيكر: "لقد أخطأ من قال: إن نبي العرب دَجّال أو ساحر؛ لأنه لم يفهم مبدأه السامي، إن محمدًا جدير بالتقدير، ومبدؤه حريّ بالاتباع، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلَم، وإن محمدًا خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال".
ومع كلِّ تلك الشهادات التي أغنى الله عنها نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمدحه في قوله وهو أصدق القائلين: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4]، مع كل هذا فإن النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم يسلَم من الأذى والشّتم والتنقّص والاستهزاء والسخرية منذ أن بعثَه الله بالهدى ودين الحق إلى يوم النّاس هذا، "وإنّ مثل تلك الكلماتِ السّافلة والرسومات الهابطة توشك أن تحدث فتنةً البشرُ في غِنى عنها، وشرّ الفتن ما كان مصدره الغضَب للدين، وإنّنا لتمنَعُنا آدابنا الإسلامية وتعاليمُنا الراقية من أن ننحطّ لمثل هذا الميدان، فنشتم دينَ الذي يشتم ديننا، ونحقر اعتقاد الذي يحقر اعتقادنا، ونصف رسلَ الأمم الأخرى صلوات الله وسلامه عليهم بمثل ما يصف رجال الأمم الأخرى رسولنا.
فنحن نستلفتُ بكلِّ شدّة أنظار ولاة أمر أولئك السفهاء لمثل هذه الحادثة المزرية بالمروءة والمخلّة بالشرف، ونحتجّ بكلّ قوانا وبكل ما في أنفسنا من ألم وكدر وتقزّز واشمئزاز على هؤلاء الذين يغتنمون فرصةَ ضعفنا ورضوخنا، وأن لا حول ولا قوة بأيدينا، فيوغلون في احتقارنا وامتهان كرامتنا إلى درجة شتم رسولنا وسبّه ووصفه بأحقر الأوصاف.
اللهم إنك لتعلم كيف أمسينا وكيف أصبحنا، اللهمّ إنك لتعلم أن لا قدرةَ لنا على تغيير هذا المنكر بأكثر من هذا، اللهم انتقم لرسولك الذي بعثتَه هدى ورحمة للناس، وأنت المهيمن الجبار"[10].

الوقفة الخامسة: انظر كيف يفترون:
إنّ استخفافَ أعداءِ الإسلام من اليهود والنصارى بنبيِّنا صلى لله عليه وسلّم ليس بمستغرب إذا ما عرفنا منزلةَ الأنبياء عندهم، فقد وُصِف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كتابهم المقدّس بعهديه القديم والجديد بأبشع الأوصاف، ونسبوا إليهم أشنعَ الأعمال التي يربأ عنها من لَه أدنى مروءة، فضلاً عن كامِلها، فضلاً عن أكمل البشرِ وأطهرهم أنبياءِ الله عليهم الصلاة والسلام.
فقد وُصفوا بالكذب كما في سفر إرمياء الإصحاح 5 العدد 31: "الأنبياء يتنبّؤون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحبّ، وماذا تعملون في آخرتها"، وجاء في سفر إرمياء أيضًا الإصحاح 14 العدد 14: "فقال الرب لي: بالكذب يتنبّأ الأنبياء باسمي، لم أرسلهم، ولا أمرتهم، ولا كلّمتهم، برؤيا كاذِبة وعرافة وباطل ومكرِ قلوبهم هم يتنبّؤون لكم".
ووصِفوا باللّصوصيّة كما في إنجيل يوحنّا الإصحاح 10 العدد 8: "جميع الذين أَتوا قبلي هم سرّاق ولصوص، ولكن الخراف لم تسمع لهم".
ووُصفوا أجلّهم الله وأعزّهم بما جاء في سفر هوشع الإصحاح 1 العدد 2–3: "2. أول ما كلّم الرب هوشع قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زِنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الربّ. 3. فذهب وأخذ جومر بنت دبلايم، فحبلت وولدت له ابنا".
وفي سفر التكوين الإصحاح 19 العدد 32–36 فريةٌ عظيمة على نبيّ الله لوطٍ عليه السلام: "32. هلمّ نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا. 33. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. 34. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا. 35. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. 36. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما".
وصدق الله: { انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } [النساء:50].
بل وصفوا الطاهرِ المطهَّر نبيَّ الله عيسى عليه السلام أنه لعنةٌ والعياذ بالله تعالى، قال مقدّسهم بولس في رسالته إلى أهل غلاطية الإصحاح الثالث العدد (3: 13): "المسيح افتدانا من لعنةِ الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا؛ لأنه مكتوب: ملعون كلّ من علِّق على خشبة".
ومن المعلوم أنّ النصارى يعتقدون أنّ المسيح هو إلههم وربهم وخالقهم ومخلّصهم، وكتابهم المقدّس يلقّنهم أنه صار لعنة، واللعنة غايةُ المبالغة في الشّتم والازدراء، وليس بعدها زيادة لمستزيد، وأيّ شيء يمكن أن يؤتى به ويكون أشدّ قبحًا من قول مقدّسهم: "إنه صار لعنة"، أي: إنه نفس اللعنة. فما هذا الحبّ الذي قادهم إلى القول بألوهيّته من جهة، ثم قادَهم إلى القول بأنه صار لعنة من جهة أخرى؟![11].
بل طعنوا في نسبِه الشريف عليه الصلاة والسلام، فزعموا كذِبًا وزورًا أنّه من سِفاح مثلّث، ففي سفر التكوين الإصحاح 38 العدد 1–19: "2. ونظر يهوذا هناك ابنة رجل كنعاني اسمه شوع، فأخذها ودخل عليها. 3. فحبلت وولدت ابنًا ودعا اسمه عيرا... 8. فقال يهوذا لأونان: ادخل على امرأة أخيك وتزوّج بها وأقم نسلا لأخيك. 9. فعلم أونان أن النسل لا يكون له، فكان إذ دخل على امرأة أخيه أنه أفسد على الأرض لكيلا يعطي نسلا لأخيه... 11. فقال يهوذا لثامار كنته: اقعدي أرملة في بيت أبيك حتى يكبر شيلة ابني لأنه قال: لعله يموت هو أيضا كأخويه، فمضت ثامار وقعدت في بيت أبيها... 14. فخلعت عنها ثياب ترمُّلها وتغطّت ببرقع وتلفّفت وجلست في مدخل عينايم التي على طريق تمنة لأنها رأت أن شيلة قد كبر وهي لم تعط له زوجة. 15. فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها. 16. فمال إليها على الطريق وقال: هاتي أدخل عليك لأنه لم يعلم أنها كنته، فقالت: ماذا تعطيني لكي تدخل عليّ؟ 17. فقال: إني أرسل جدي معزى من الغنم، فقالت: هل تعطيني رهنا حتى ترسله. 18. فقال: ما الرهن الذي أعطيك؟ فقالت: خاتمك وعصابتك وعصاك التي في يدك، فأعطاها ودخل عليها فحبلت منه. 19. ثم قامت ومضت وخلعت عنها برقعها ولبست ثياب ترمّلها".
فهذه الرواية الإباحيةُ فيها بيان زِنا القديس (يهوذا) بكنَّته (ثامار) وحملِها منه، وأنها وضعت وَلَدين ذكرين سماهما (فارص) و(زارح)، والنصارى ومنهم الطاعنون في نبيِّنا صلى الله عليه سلم يقولون: إنّ فاديهم ومخلِّصَهم وخالقَهم (يسوع المسيح) من سلالة (فارص) المبارَكة.
وملخَّص هذه القصّة الخليعة أنّ يهوذا نزل عند رجلٍ عدلامي اسمه (حيرة)، فرأى ابنةَ رجل كنعاني اسمه (شوع)، فأخذها ودخل عليها وولدت له ثلاثةَ أولاد ذكور، اسم الكبير (عير)، والثاني (أوثان)، والثالث (شيلة). ولما كبر عير أخذ له زوجةً من بنات الكنعانيّين اسمها (ثامار)، فعمل الشرّ بعينيّ الرب فأهلكه، فأمر يهوذا ابنَه (أوثان) بأن يأخذَ زوجة أخيه ويقيم له نسلاً، فتزوجها (أوثان)، وبما أنّ النسل الذي يأتيه منها يعدّ نسلَ أخيه لا نسله صار إذا ضاجعها يفسِد على الأرض ـ أي: يعزل ماءه ـ لئلا تحمل منه، فأماته ربّ التوراة وأبقى أباه القدّيس لأنه لمّا زنى بها لم يفسِد على الأرض، ولما مات أمرَها يهوذا بأن تقعدَ أرملة ببيت أبيها، وأنه متى كبر ابنه (شيلة) يعطيها إيّاه زوجًا لها وقال في نفسه: ربما يعمل كما عمل أخواه فيميته الربّ مثلهما. فذهبت إلى بيت أبيها، ومضت الأيام وكبر (شيلة) ولم يعطه لها، وبلغها أنّ حماها المذكور (القديس يهوذا) ذاهب إلى (تمنة) مع صاحبه العدلاميّ ليقصّ صوف غنمه، فخلعت ثياب ترمُّلها وغطّت وجهها وجلست على طريق (تمنة)، فلما رآها ظنّها هذا القديس زانيةً وراودها عن نفسها فقالت له: ماذا تعطيني؟ فقال لها: أعطيك جَدْي معز أبعثه لك، فقالت له: أعطني رهنًا، فأعطاها عصابَته وخاتمه وعصاه وزنى بها. ولما وصل إلى (تمنة) أرسل لها الجَدي مع صديقه العدلامي لِيَفْتَكَّ الرهن، فلم يجدها فرجع وأخبر (يهوذا)، فقال له: لتذهب بما معها كي لا يلحقَنا عار، فحبلت منه ووضعت ولدَين ذكرين سمتهما (فارص) و(زارح)، ويسوع المسيح من نَسل (فارص) المبارك.
وجاء في سفر يشوع بن نون ما نصه (2:1): "فأرسل يشوع بن نون رجلين من شطين جاسوسين تحت الخفاء قائلاً: امضيا انظرا الأرض وأريحا، فانطلقا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها (راحاب)، وباتا عندها". وجاء في هذا السفر ذاته (6:17): "ولتكن المدينة بكل ما فيها مبسلة للرب، ولكن (راحاب) الزانية تحيا هي وجميع من معها في بيتها". وهذه (راحاب) الزانية زنى بها (سلمون)، وهو من سلالة (فارص) الذي هو الأصل الأول من أصول الزّنا المقدس، فحبلت ووضعت (بوعز) الذي من سلالته جاء (حمل الله الوديع).
وفي سفر الملوك الثاني (11: 2-5): "وكان عند المساء أنّ داود قام عن سريره، وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى عن السطح امرأة تستحمّ، وكانت المرأة جميلة جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل له: هذه (بتشابع بنت إليعام) امرأة (أوريا الحثي)، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت عليه فدخل بها، وتطهرت من نجاستها ورجعت إلى بيتها، وحملت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إنني حامل"، فوضعت ولدًا ومات، ثم زنى بها ثانية على زعمهم، فحبلت ووضعت سليمان، وهو الأصل الثالث من الثالوث الزاني.
فهذا ما عندهم في مُنقذِهم ومخلّصهم، وهذا ما يدعون الناسَ إلى الإيمان والاهتداء به، وأما ما عندنا وندعو إليه أهلَ الفضل والعقل بعد تبرئةِ أنبياءِ الله من الفسق والفجور فهو اعتقادُ المسلمين طهارةَ نسَب عيسى المسيح عليه السلام، قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران:33-37]، وقال الله تعالى بعدما ذكر إبراهيم عليه السلام: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [العنكبوت:27].
الله أكبر! فلينظر المنصفون من أهل الكتاب إلى اعتقاد المسلمين بطهارةِ نسَب عيسى المسيح عليه السلام، فإنهم إذا نظروه من جهةِ القرآن المجيد يرَونه من سلالة طيّبة طاهرة زكية مباركة، حماها الحيّ القيوم من التلطّخ بأقذار وأدران الزّنا والسّفاح، فلينظروا أيّ الوصفين أحبّ إليهم بحقّ هذه الذات الشّريفة، وليتمسَّكوا به[12].

الوقفة السادسة: فهو منهم:
والمقصود بهذه الوقفة هو إبداء بعض التنبيهات على قضيّة المقاطعة التي يتنادى لها كثير من المسلمين:
التنبيه الأول: إن تنادِي المسلمين بمقاطعة منتجات الدول التي صدر من بينهم استهزاءٌ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من غير استنكار منهم لهو في حدّ ذاته بشارةُ خير ودليلٌ على وعي الأمّة واستعدادِها للتضحية في سبيل دينها ومقدّساتها؛ إذ قيامُها بالقليل الذي لا تقدِر إلاّ عليه دليلٌ على استعدادها للقيام بما هو أعظم.
التنبيه الثاني: إن المقاطعة الشعبيّة من الأمور العامّة التي قال الله فيها: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء:83]؛ ولذا فينبغي أن تكونَ المقاطعةُ الشعبيّة صادرةً عن نَظرٍ عَميق ودراسة دقيقة، وأن تَكون مبنيّة على خطواتٍ مدروسةٍ معلومةِ النتائج مأمونةِ العواقب؛ هذا كلُّه حتى تُؤتي ثمارَها المرجوَّة التي من أهمّها الإضرارُ بهذه الدول التي سمحت بسبّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم والطعن في مقدّساتنا، وحتّى لا يقَع هذا الضررُ ـ المرجوُّ إلحاقُه بالعدوّ ـ على إخواننا المسلمين.
التنبيه الثالث: ينبغي للدّول الإسلاميّة أن تعملَ على ما يحقّق لها الاكتفاءَ الذاتيّ والاستغناءَ عن أعدائها في جميع المجالات، وبذلك تكون قد حقّقت المقاطعةَ الحقيقيّة، فالدول الإسلامية لا ينقصها ثروات الأرض وخيراتها وكنوزها، ولا ينقصها العقول المدبّرة والكوادر المبدعة، ولا ينقصها الموارد البشرية والطاقات العاملة، ولا تفتقد السداد في الرأي والرجاحة في العقل، فلماذا إذًا نرضى أن يطعمنا الغير، ويكسينا الغير، ويؤوينا الغير، ويطبّبنا الغير، ويجهّزنا الغير؟! خاصّةً إذا كان هذا الغير ممن يشتمنا ويشمت بنا ويحسدنا على ما آتانا الله من فضله ولا يرقب فينا إلاّ ولا ذمّة.
إنّ من آخر الإحصائيات العلميّة أنّ بلدَ السودان فقط لو استُغِلّت أراضيه وزُرِعَت لكَفتِ الشرق الأوسط بأكمَله، فما القولُ في بقيّة بلاد الإسلام؟!
إنّ بأيدي المسلِمين قوّةً عظيمة أهدروها ولم يغتَنموها، وأسلحةً فتّاكةً أغمَدوها ولم يشهروها، فما مثلهم ـ وللأسف الشديد ـ إلا
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والْماء فوق ظهورها مَحمول

خاتمة:
ونختم بهذا النظم في الردّ على افتراء مستشرق:


وهـل أتـاك نـبـأ المـغـرورِ *** ومـا أتـى من كـذبٍ وزورِ
معـلـولـة الآراء والأنـظـارِ *** عـاريـة السّـوءات للنُّظّارِ
لقـيـطـة لقيـهـا كفـاحـي *** مريبـة كالنسـل من سفـاحِ
جـانبت الْحقـائقَ الْملمـوسَـه *** وجـافتِ الوقـائع المَحسوسَه
ضمّنهـا أحكـامَه علـى الأمـمْ *** تبًّا لـه من حـاكمٍ وما حكم
مقـدّمـاتٌ بعـدهـا نتـائـجْ *** لكنّهـا مَحلولـة الوشـائجْ
عـدا علـى التاريـخ وهو أبلجُ *** لكن بيـان المفتريـن يحلـجُ
وأنكـر الخصـائـص المسلّمـه *** لمن غدَوا نورَ العصور المظلمه
وخـصّ بالـذمّ وبـالتنقـيـصِ *** سـامًا وابنيه على التخصيصِ
ومـن يكـن ذا نسـبٍ لصيـقِ *** أزرى بكـلِّ نسـبٍ عريـقِ
يـا غـرُّ مهما زدتَ فِي التسامي *** لن تدرك الأصل المنيف السامي
وهـل لِجنسكـم مـن النبـوّه *** ومن زكـاء النبـت والبنوّه
ومـن سمـوّ الريـح والضميـرِ *** ومـن رقيِّ الفكر والتفكيـرِ
بعض الـذي أورثنـا الخـليـلُ *** ونسلـه الْمبـارك الْجليـلُ
وهـل لكم مـا شـاد إسرائيـلُ *** ومـا بنَى للحـقّ إسماعيـلُ
يـا غـرُّ أو يـا هـرُّ إن الهـرّا *** ليس يُخيـف الليثَ أن أهرّا
يـا غرّ إن المجـد لا يُـجتلَـبْ *** بذمّـك الغيْرَ ولا يُستَلَـبْ
يـا غرّ لـو مجّدت قومـك بمـا *** فيـهم ولم تزد لكان أسلمـا
ولَم تَجـد مـن ينقُـد الكتـابا *** أو يقتضيـك اللوم والعتابـا
لـكن عدوتَ طـورك المحـدودا *** وقلـت قولاً مفترى مردودا
فـلا تـلُـم إذا انبـرت أقـلامُ *** للحرب والموتـورُ لا يـلامُ
ومن رمـى النـاس بغيـر حـقّ *** رموه بالْحـقّ وغيْر الْحـقّ
ومـن أصـاب منهـم أصيـبـا *** وكـان يوم الملتقى عصيبـا
ومـن يحطّ مـن يشـا ويصنـع *** كما يشا فالدهر ليس يَخضع
قد قلت فاسْمـع ما يقـال فيكا *** ردًّا ودحضـا والثّرى بفيكا
وإنّ كلـب السـوء قـد يَجـرّ *** لقومـه البلـوى بمـا يجـرّ
نغـار عن أحسابنـا أن تُمتهَـن *** والحرّ عن مَجد الجدود مؤتمَن
أنكرتَ فضل العرب فيما ابتكروا *** من صالحات شأنِهـا لا ينكرُ
أنكرتَ مـا شـادوه للحضـاره *** وما كسوها من حُلى النضاره [13]
 
وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد
وعلى إخوانه من الأنبياءِ والمرسلين
وأتباعه إلى يوم الدين،،،
 

--------------------------------
[1] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/285-287).
[2] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/307).
[3] مجلة المنار (10/398) سنة 1907م.
[4] رواه البخاري.
[5] رواه أبو داود (4449) وحسنه الألباني في الإرواء (5/94).
[6] اسمه بعدما أن أسلم: سيف الرحمن رحمة الله فاروق، وهو رئيس الجمعية البريطانية الإسلامية.
[7] مجلة المنار (29/344) ربيع الأول 1347هـ / سبتمبر 1928م.
[8] وزير سوريّ سابق، وكان من كبار نصارى سوريا.
[9] مجلة المنار (35/81).
[10] مجالس التذكير من حديث البشير النذير (ص282-283) لابن باديس بتصرف يسير، تاريخ المقال: 11 جمادى الثانية 1354هـ/ سبتمبر 1935م.
[11] انظر: مجلة المنار (17/142).
[12] انظر: مجلة المنار (17/142).
[13] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/41-414).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

أعظم إنسان

  • اعرف نبيك
  • إلا رسول الله
  • الدفاع عن السنة
  • اقتدي تهتدي
  • حقوق النبي
  • أقوال المنصفين
  • الكتب السماوية
  • نجاوى محمدية
  • دروس من السيرة
  • مقالات منوعة
  • شبهات وردود
  • أصحابه رضي الله عنهم
  • أعظم إنسان