بسم الله الرحمن الرحيم

تخريج أثر ابن مسعود : "ما خلق الله من سماء...أعظم من آية الكرسي"
وبيان معناه وفيه الرد على الإباضي.


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فقد رأيت بعض الإباضيين يحتج لما يذهب إليه من مذهب كفري وهو القول بخلق القرآن بأثر صحيح ورد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- موقوفاً فكتبت هذا المقال أبين فيه صحة أثر بن مسعود ، وبطلان ما ذكر من رفعه مع كلام العلماء على معناه .
والله أسأل التوفيق والسداد.

 لفظ الأثر:
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- : (ما من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي).
وفي لفظ: (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من آية في سورة البقرة: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ثم قرأها حتى أتمها) .

تخريجه:
روي مرفوعاً وموقوفاً .
* أما المرفوع فرواه أبو الحسين البصري في الغرر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ((ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي)).
ولا يعرف له إسناد في كتب الحديث .
* وأما الموقوف فروي من طرق عن ابن مسعود -رضي الله عنه- .

الطريق الأولى: من طريق عامر الشعبي عن شُتَيْر بن شكل ومسروق عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- به.
ورواه عن الشعبي : سعيد بن مسروق ، وجابر الجعفي وغيره ، ومنصور بن المعتمر ، وزكريا بن أبي زائدة .
* أما رواية سعيد بن مسروق فرواها سعيد بن منصور في سننه(ورقة47/أ-كما ذكر الشيخ الحميد) مطولاً و(3/953رقم426)مقتصراً على ما ورد في آية الكرسي ، والطبراني في المعجم الكبير(9/133رقم8659) وابن الضريس في فضائل القرآن(ص/91رقم187) مقتصرا على ما ورد في آية الكرسي ، والبيهقي في شعب الإيمان(2/458رقم2391) من طريق أبي الأحوص سلام بن سليم عن سعيد بن مسروق عن الشعبي قال:
جلس مسروق وشتير بن شكل في المسجد الأعظم ، فرآهما ناس فتحولوا إليهما ، فقال مسروق لشتير : إنما تحول إلينا هؤلاء لنحدثهم ، فإما أن تحدث وأصدقك ، وإما أن أحدث وتصدقني .
فقال مسروق: حدث أصدقك .
قال شتير: ثنا عبد الله بن مسعود : ( أن أعظم آية في كتاب الله :{الله لا إله إلا هو الحي القيوم} إلى آخر الآية) . فقال مسروق : صدقت .
وحدثنا عبد الله : (أن أجمع آية في كتاب الله : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخر الآية ) قال مسروق: صدقت .
وحدثنا : (أن أكثر -أو أكبر- آية في كتاب الله فرحاً : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} إلى آخر الآية) . فقال مسروق: صدقت .
وحدثنا : (أن أشد آية في كتاب الله تفويضاً: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} إلى آخر الآية) . فقال مسروق: صدقت .
* وأما رواية جابر الجعفي وغيره فرواها عبد الرزاق في مصنفه(3/370-371رقم6002) ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير(9/133رقم8660) من طريق سفيان الثوري عن جابر الجعفي وغيره عن الشعبي عن مسروق وشتير بن شكل العبسي قالا : جلسنا في المسجد فثاب إليهما الناس فقال أحدهما لصاحبه : إنهم لم يقوموا إلينا إلا لنحدثهم ، فإما أن أحدثهم وتصدقني وإما أن تحدثهم فأصدقك . فقال أحدهما : سمعت عبد الله يقول : (أعظم آية في القرآن آية الكرسي ) فقال الآخر: صدقت .
قال الآخر : سمعت عبد الله يقول: (أجمع آية في القرآن : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان }) قال: صدقت .
قال: وسمعته يقول: (أشد آية في القرآن تفويضاً : {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} قال : صدقت .
قال الآخر: وسمعته يقول: ( أكبر آية في القرآن فرحاً {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}) قال: صدقت.
* وأما رواية منصور بن المعتمر فرواها أبو عبيد في فضائل القرآن(ص/275-276) مطولاً و(ص/230) مقتصراً على موضع الشاهد.
من طريق عمر بن عبد الرحمن الأبار الحافظ عن منصور بن المعتمر عن الشعبي قال:
التقى مسروق وشتير بن شكل فقال شتير لمسروق : إما أن أحدثك عن عبد الله وتصدقني ، وإما أن تحدثني وأصدقك . فقال مسروق : حدث به وأصدقك فقال شتير: سمعت عبد الله يقول: (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من آية في سورة البقرة: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ثم قرأها حتى أتمها فقال مسروق: صدقت .
ثم ذكر مثل رواية أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق عن الشعبي .
ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره(14/163) والطبراني في المعجم الكبير(9/132رقم8658) والحاكم في المستدرك(2/356) والبيهقي في الشعب(2/473رقم2440) من طريق معتمر بن سليمان عن منصور بن المعتمر عن عامر الشعبي عن شتير ومسروق به ولم يذكروا موضع الشاهد ورواية بعضهم أطول من بعض.
* وأما رواية زكريا ابن أبي زائدة فرواها الجورقاني في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير(2/297رقم709) من طريق النضر بن شميل حدثنا زكريا عن الشعبي قال : قال شتير بن شكل ومسروق وهما في المسجد : إنما اجتمع هؤلاء لتحدثهم ، فحدثهم وأصدقك ،أو أحدثهم وتصدقني بما سمعنا من ابن مسعود -رضي الله عنه- .
فقال مسروق : حدثهم وأصدقك أنا .
فقال شتير: سمعت ابن مسعود يقول : (إن أعظم ما خلق الله من أرض أو سماء أو جنة أو نار الآية التي فيسورة البقرة: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } وإن أجمع آية في القرآن: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} وإن أكثر آية في القرآن رجاء قوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} ).

الطريق الثانية: من طريق أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق بن الأجدع و أبي الضحى عن شتير عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- .
* أما رواية أبي الضحى عن مسروق فرواها سعيد بن منصور في سننه(ورقة147/أ-كما قال الشيخ الحميد) مطولاً و(3/955رقم427) مقتصراً على موضع الشاهد والبيهقي في الأسماء والصفات(2/58رقم633) والجورقاني في الأباطيل(2/296رقم707) من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي الضحى عن مسروق قال: سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: (ما من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي).
ورواه البخاري في الأدب المفرد(1/246رقم489) وابن الضريس في فضائل القرآن(ص/92رقم193) والطبراني في الكبير(9/134رقم8661) من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي الضحى عن مسروق به مطولاً ولم يذكروا موضع الشاهد.
* وأما رواية أبي الضحى عن شتير فرواها البخاري في خلق أفعال العباد(ص/33) والجورقاني في الأباطيل(2/296رقم708) من طريق الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا حصين بن عبد الرحمن عن مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن عبد الله رضي الله عنه قال : (ما خلق الله من أرض ولا سماء ولا جنة ولا نار أعظم من: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
قال سفيان في تفسيره: إن كل شيء مخلوق والقرآن ليس بمخلوق وكلامه أعظم من خلقه لأنه يقول للشيء كن فيكون فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق والقرآن كلام الله .

الطريق الثالثة: من طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- .

رواه ابن الضريس في فضائل القرآن(ص/92رقم193) والجورقاني في الأباطيل(2/294-295رقم706) من طريق حماد بن زيد عن عاصم بن أبي النجود عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (إن لكل شيء سناماً ، وإن سنام القرآن البقرة ، وإن لكل شيء لباباً، ولباب القرآن المفصل ، وما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي، وإن الشيطان لا يدخل بيتاً تقرأ فيه سورة البقرة وإن أسرع البيوت للخراب الذي ليس فيه من كتاب الله شيء) .
ورواه الحاكم في المستدرك(1/561) مرفوعاً وموقوفاً والدارمي في سننه(2/539رقم3377) والطبراني(9/129رقم8643،8644) ومحمد بن نصر في فضائل القرآن(ص/72) والبيهقي في شعب الإيمان(2/452رقم2376،2377) من طرق عن عاصم بن أبي النجود عن أبي الأحوص الجشمي عن ابن مسعود به وليس فيه ما يتعلق بآية الكرسي .

الطريق الرابعة: من طريق أبي إسحاق السبيعي عن مسروق.
رواها ابن الضريس(ص/93رقم194) من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق قال: قال عبد الله: (ما خلق الله من شيء من أرض ولا سماء ولا إنس ولا جن أعظم من آية الكرسي) .
تنبيه: يلاحظ أن هذا الأثر مداره على ثلاثة من تلاميذ ابن مسعود -رضي الله عنه- وهم:
1/ شُتَيْر بن شَكَل وهو ثقة من رجال مسلم والأربعة.
2/ مسروق بن الأجدع وهو ثقة فقيه عابد من رجال الجماعة.
ومرة رواه مسروق وحده ، ومرة رواه شتير وحده ، ومرة رواه شتير وصدقه مسروق .
3/ أبو الأحوص : عوف بن مالك الجشمي وهو ثقة من رجال الجماعة .

الحكم عليه:
الحديث صحيح موقوفاً موضوع مرفوعاً .
أما المرفوع فلا يعرف له إسناد في كتب أهل الحديث .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى الكبرى(6/493) : [لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين -يعني هذا الحديث وحديث"يا رب طه وياسين"- كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الحديث يعلمون أن ذلك مفتر عليه بالضرورة كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه ويكفي أن نقل ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يوجد في شيء من كتب الحديث ولا في شيء من كتب المسلمين أصلا بإسناد معروف].
وسيأتي كلامه تاماً في آخر هذا البحث -إن شاء الله تعالى- .
وأما الموقوف فسنده ما بين حسن وصحيح على هذا التفصيل:
* أما طريق الشعبي فرواه عنه أربعة رواه : سعيد بن مسروق الثوري وجابر الجعفي ، ومنصور بن المعتمر ، وزكريا بن أبي زائدة.
ولفظ (ما خلق الله) لم يقع في رواية سعيد بن مسروق ولا رواية جابر الجعفي وغيره.
ووقعت في رواية منصور بن المعتمر وزكريا بن أبي زائدة .
وكلها طرق صحيحة إلا طريق جابر فهي لا بأس بها لأنها توبع في الإسناد نفسه وتوبع من الرواة الثلاثة الآخرين.
وسعيد بن مسروق ومنصور وزكريا ثقات من رجال الجماعة.
وجابر الجعفي: متروك الحديث.
وكلا اللفظين صحيح ويكون بعضهم رواه بالمعنى .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(6/323)" [رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح].
* وأما طريق أبي الضحى فقد رواه عنه راويان:
عاصم بن بهدلة وحصين بن عبد الرحمن ؛ وعاصم بن أبي النجود وإن كان من رجال الجماعة ولكن لم يرو له الشيخان إلا مقروناً وهو صدوق حسن الحديث ، وحصين بن عبد الرحمن السلمي ثقة من رجال الجماعة.
ورواية عاصم بن بهدلة حسنة وهي صحيحة بمتابعة حصين وبرواية الشعبي التي سبق الكلام عليها.
ورواية حصين صحيحة لذاتها.
وقد صحح الحافظ ابن حجر رواية عاصم في فتح الباري(10/479) وحسنها الشيخ الألباني -رحمه الله- .
والعجيب أن الجورقاني -رحمه الله- حكم على حديث بن مسعود بهذه الرواية وغيرها بعدم الصحة فقال في الأباطيل(2/297) : [هذا حديث لا يرجع إلى صحة وليس لإسناده نظام ولا لمتنه قوام .].
وهذا غير صحيح فسند الأثر صحيح ولمعناه توجيه كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- .
* وأما طريق أبي الأحوص وهو عوف بن مالك الجشمي فهي طريق حسنة لأن مدارها على عاصم بن أبي النجود عنه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- .
وقد حسن هذا الطريق الشيخ الألباني -رحمه الله- في الصحيحة(رقم587).
والعجيب أن الجورقاني -رحمه الله- حكم على هذه الحديث بالبطلان !
وهذا لا يصح لما سبق وما يأتي.
وهو حديث له شواهد ذكرها الشيخ الألباني -رحمه الله- في لموضع السابق والشيخ محمد رزق طرهوني في كتابه موسوعة فضائل سور وآيات القرآن(1/106-109).
تنبيه: رواية الحاكم المرفوعة –وإن لم يكن فيها ما يتعلق بآية الكرسي- فهي رواية باطلة وآفتها شيخ الحاكم أحمد بن يعقوب أو شيخ شيخه عبد الله بن أحمد الدشتكي والصواب الوقف . والله أعلم.
وأما طريق الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن مسروق فهي رواية صحيحة أيضاً .

ما يتعلق بمعنى هذا الأثر:
*
روى البخاري في خلق أفعال العباد(ص/33) عن سفيان بن عيينه أنه قال: [ إن كل شيء مخلوق ، والقرآن ليس بمخلوق ، وكلامه أعظم من خلقه لأنه يقول للشيء: كن فيكون . فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق ، والقرآن كلام الله ].
* وقال الترمذي(5/161رقم2884) حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال: (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي)
قال سفيان: لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض.
* ونقل الذهبي في السير(11/245-246) عن الإمام أحمد أنه قال –فيما وقع له من مناظرة الجهمية-: [واحتجوا بحديث ابن مسعود : (ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار ، والسماء والأرض ، ولم يقع على القرآن].
* وقال الذهبي في السير(10/578) : [قال أبو الحسن عبد الملك الميموني قال رجل لأبي عبد الله : ذهبت إلى خلف البزار أعظه بلغني أنه حدث بحديث عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: (ما خلق الله شيئا أعظم...) وذكر الحديث .
فقال أبو عبد الله : ما كان ينبغي له أن يحدث بهذا في هذه الأيام -يريد زمن المحنة-.
والمتن: (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي).
وقد قال أحمد بن حنبل -لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة-: إن الخلق واقع ها هنا على السماء والأرض وهذه الأشياء ، لا على القرآن .
قلت-القائل: الذهبي-: كذا ينبغي للمحدث أن لا يشهر الأحاديث التي يتشبث بظاهرها أعداء السنن من الجهمية وأهل الأهواء ، والأحاديث التي فيها صفات لم تثبت .
فإنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ، فلا تكتم العلم الذي هو علم ، ولا تبذله للجهلة الذين يشغبون عليك ، أو الذين يفهموم منه ما يضرهم ].
وانظر تاريخ الإسلام للذهبي "وفيات221-230"(ص/155-156) .
وأختم هذا البحث بقول جميل وبديع لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- .
قال -رحمه الله- في الفتاوى الكبرى(6/493) : [فقال : الحجة الرابعة لهم من السمعيات ما روى أبو الحسين البصري في الغرر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي))، وروى عنه -عليه السلام- أنه كان يقول في دعائه: (( يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم)) قال: ولا يقال: هذا معارض بمبالغة السلف من الامتناع عن القول بخلق القرآن ؛ لأنا نقول بحمل ذلك على الامتناع من إطلاق هذا اللفظ لأن لفظ "الخلق" قد يستعمل في الافتراء ضرورة التوفيق بين الروايات.]
قال شيخ الإسلام ابن تثيمية -رحمه الله- : [قلت : وجواب هذه الحجة سهل .
فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل الحديث يعلمون أن ذلك مفتر عليه بالضرورة ، كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه ،
ويكفي : أن نقل ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يوجد في شيء من كتب الحديث ، ولا في شيء من كتب المسلمين أصلاً بإسناد معروف .
بل الذي رووه في كتب أهل الحديث بالإسناد المعروف عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أنكر على من قال ذلك ، فروي من غير وجه عن عمران بن حدير عن عكرمة قال : صليت مع ابن عباس -رضي الله عنهما- على رجل فلما دفن قام رجل فقال: يا رب القرآن! اغفر له !!
فوثب إليه ابن عباس فقال: (مه! إن القرآن منه) .
وفي رواية: "القرآن كلام الله ، ليس بمربوب ، منه خرج ، وإليه يعود" .
فهذا الأثر المأثور عن ابن عباس هو ضد ما رووه .
وأما ما رووه فلا يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أصلا .
وكذلك الحديث الآخر وهو قوله: (ما خلق الله من سماء ولا أرض ...) فإن هذا لا يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلاً ، ولكن يؤثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- نفسه .
وقد ثبت عن ابن مسعود -رضي الله عنه- بنقل العدول أنه قال : "من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين ، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع" .
وقد اتفق المسلمون على أن الكفارة لا تجب بما يخلقه في الأجسام ، فعلم أن القرآن كان عند ابن مسعود صفة لله ، لا مخلوقاً له .
وإن معنى ذلك الأثر: أنه ليس في الموجودات المخلوقة ما هو أفضل من آية الكرسي لأنها هي مخلوقة كما يقال: الله أكبر من كل شيء ، وإن كان ذلك الكبير مخلوقاً ، و الله تعالى ليس بمخلوق .
وبذلك فسر الأئمة قول ابن مسعود . ذكر الخلال في كتاب السنة عن سفيان ابن عيينة أنه ذكر هذا الحديث الذي يروى : (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جبل أعظم من آية الكرسي) قال ابن عيينة : هو هكذا : (ما خلق الله من شيء إلا وآية الكرسي أعظم مما خلق) .
وروى الخلال عن أبي عبيد قال: وقد قال رجل : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي أفليس يدلك على أن هذا مخلوق؟
قال أبو عبيد: إنما قال : (ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) ، فأخبر الله : أن السماء والأرض أعظم من خلقه ، وأخبر أن آية الكرسي التي هي من صفاته أعظم من هذا العظيم المخلوق .
[يقول أبو عمر العتيبي: يعني أبو عبيد -رحمه الله- بقوله: فأخبر الله : أن السماء والأرض أعظم من خلقه. قوه تعالى : {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سورة غافر(آية/57) ]
وروى عن أحمد بن القاسم قال: قال أبو عبد الله: هذا الحديث : (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم) فقلت لهم: إن الخلق ههنا وقع على السماء والأرض وهذه الأشياء لا على القرآن لأنه قال : (ما خلق الله من سماء ولا أرض) فلم يذكر: خلق القرآن ههنا .
وقال البخاري في كتاب "خلق الأفعال" : وقال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن عبد الله قال: (ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من :{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}) ، قال سفيان : تفسيره : إن كل شيء مخلوق ، والقرآن ليس بمخلوق ، وكلامه أعظم من خلقه ن لأنه إنما يقول للشيء : {كن فيكون} ، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق ، والقرآن كلام الله .
وأما تأويلهم أن السلف امتنعوا من لفظ الخلق لدلالته على الافتراء ، فألفاظ السلف منقولة عنهم بالتواتر عن نحو خمسمائة من السلف ؛ كلها تصرح بأنهم أنكروا الخلق الذي تعنيه الجهمية ؛ من كونه مصنوعاً في بعض الأجسام ، كما أنهم سألوا جعفر بن محمد عن القرآن : هل هو خالق أو هو مخلوق ؟
فقال : (ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله) ،
ومثل قول علي -رضي الله عنه- لما قيل له: حكمت مخلوقاً فقال: (ماحكمت مخلوقاً وإنما حكمت القرآن) ، وأمثال ذلك مما يطول ذكره.
والمقصود هنا أن السلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهذا الذي أجمع عليه السلف ليس معناه ما قالته المعتزلة ، ولا ما قالته الكلابية ، وهذا الرازي : ادعى الإجماع ! وإجماع السلف ينافي ما ادعاه من الإجماع، فإن أحدا من السلف لم يقل هذا ، ولا هذا ، فضلاً عن أن يكون إجماعاً.
ويكفي أن يكون اعتصامه في هذا الأصل العظيم بدعوى إجماع ، والإجماع المحقق على خلافه ، فلو كان فيه خلاف لم تصح الحجة ، فكيف إذا كان الإجماع المحقق السلفي على خلافه؟!!].
انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد . .

كتبه : أبو عمر أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي الفلسطيني