صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







📝 *في الوداع*

د.مساعد بن عبدالرحمن آل جابر


بسم الله الرحمن الرحيم
 

 
قبل نحو ثمانية عشر عاماً ارتبطت بزوجتي أم باسل رحمها الله ، فكانت نعم الزوجة ، اجتمعت فيها خصال الخير ، وصفات البر والإحسان .
كانت قائمة بحقوق الزوج ، محسنة متفضلة ، لم ترفع صوتاً ، ولم تخالف رأياً ، ولم تقل سوءاً ، متحلية بالخلق الحسن ، والأدب الجم ، طيبة القلب ، سليمة الصدر ، لطيفة المعاملة ، تنتقي أعذب الألفاظ ، وأحسن الكلمات .
 
كانت من أقرب البنات إلى والدتها ، كل منهما يحمل تجاه الآخر مشاعر خاصة من الحب والحنان ، وكانت والدتها تشاركها همومها ، وتستشيرها في كثير من شؤونها .
 
كانت أول أهلها لحوقاً بوالدها رحمه الله وغفر له فقد توفي قبلها بحوالي ست سنوات كانت سنداً لأخواتها ، يرجعون إليها ، ويأخذون برأيها ، ويعتمدون عليها .
 
كانت محبة لأبنائها مشفقة عليهم ، ناصحة لهم ، معتنية بهم ، تؤمل فيهم الآمال الكبيرة ، وترجو لهم المستقبل الجميل ، حتى وهي في لحظاتها الأخيرة .
كانت مع والدتي لبقة في التعامل ، حريصة على راحتها ، تهتم بها ، وتعتني بأمرها ، ولا تذكرها إلا بالذكر الحسن .
 
كانت تحب الجميع ، أخواتي وقريباتي ، تحرص على الاجتماع ، وتبادر إليه ، وتحث الجميع عليه ، تساهم في الترتيب لاجتماعات العائلة ، وتُحرِّص الجميع على الحضور .
باختصار كان الجميع يحبها ، بنت حنون ، وزوجة مخلصة ، وأم مشفقة ، وأخت ناصحة ، وامرأة صالحة .
 
اهتمت في سنتيها الأخيرتين اهتماماً كبيراً بحفظ القرآن فانتظمت في دارين تتابع معهما ، وتحفظ باستمرار ، حتى أتمت حفظ أكثر من ستة عشر جزءاً من القرآن .
 
أصيبت ببلاء لم يمهلها ، تأثر به كبدها ثم باقي أعضائها حتى توفيت في يوم الإثنين الموافق  13 / 5 / 1442ه .
توفيت وهي بإذن الله في عداد الشهداء مبطونة بذات الجنب وفيها بعض ولدها ، وقد روى أحمد رحمه الله في مسنده برقم (23804) وأبو داود رحمه الله في سننه برقم (3111) والنسائي رحمه الله في سننه برقم 1846) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما تعدون الشهداء ؟ قالوا : القتل في سبيل الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله ، المطعون شهيد ، والغرق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمبطون شهيد ، وصاحب الحريق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجمع شهيدة ).
 
قدر الله أن تخرج من أبها لتموت في أشرف البقاع وأطهر الأماكن ، نصلي عليها في المسجد الحرام ، وندفنها في الحرم الآمن ، وقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه ملك الموت أنه سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر .
 
ماتت وأُشْهِد الله أني عنها راض ، وبإذن الله أنها ممن يشملهم حديث أم سلمة رضي االله عنها الذي رواه الترمذي وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ) ماتت وهي محافظة على صلاتها ، مطيعة لزوجها ، صائمة لشهرها ، محصنة لفرجها ، وبإذن الله أنها ممن يدخل الجنة من أي أبوابها شاءت كما جاء في الحديث عند أحمد رحمه الله وغيره .
 
يصدق عليها بإذن الله قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أخبركم بنسائكم في الجنة : كل ودود ولود ، إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت : هذه يدي في يدك ، لا أكتحل بغمض حتى ترضى ) .
 
قالوا عنها : كنا نأخذ منها الدروس  وهي لا تعلم ، بحسن نواياها ، وبحرصها على صلاتها وصلاة أبنائها ، وبمحافظتها على صلاة الوتر ، وبابتعادها عن الغناء ولبس العاري من الثياب ، بهدوئها وروعة أسلوبها .
 
قالوا عنها : منذ عرفتها ما رأيتها ذكرت أحداً بشر ، ولا جرحتنا ، وما ذكرت زوجها إلا بكل حب ، وعمرها ما ذمته .
 
قالوا عنها : عرفناها بأخلاقها ، ووجهها المبتسم ، وذكرها لكل الناس بالخير ، كانت لهم أم وصديقة وأخت ، وتأثيرها فيهم بالخير .
 
قالوا عنها  : كانت السند الذي نتكيء عليه ، أخت وصديقة ، تشاركنا أحزاننا وأفراحنا ، كانت لنا ولكل أخواتها بمثابة الأم في حبها وحنانها ، في حرصها ووصاياها ، كانت معينة لنا بعد الله في أمور الدين قبل الدنيا، توصينا دائما ًبالطاعة وبرضا الوالدين ، وأن نمثلهم بخير صورة ، نأتي إليها في الأمور التي تقلقنا فتهون علينا بحكمتها وكلماتها اللطيفة ، حكيمة في اتخاذ القرارات ، لا تخشى في الحق لومة لائم ، تبغض المنكر أياً كان من لباس وغناء وذكر للناس بالغيبة ، لها هيبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بطريقة مقبولة لا تنفر أحداً .
 
وأنا أقول : وودت أن أكون شاعراً فأرثيها ببديع الأبيات ، ولكني أستعير أبيات أبي حيان الأندلسي في رثاء زوجته


وَحازَت لِحُسنِ الخَلقِ خُلقاً مُدَمَّثاً  ---  وَلينَ كَلامٍ طاهِرٍ لَيسَ بِالبَذي
 فَما دَنَّسَت فاها بِغيبَةِ غائِبٍ   ---   ولا مَنَعَت رفداً لِمَن جاءَ يَحتَذي
 قَضى اللَهُ أَن عاشَت وَماتَت سَعيدَةً    ---  وَلَيسَ امرؤٌ مِما قَضاهُ بِمنفَذِ
 مَضَت وَلَها ذكرٌ جَميلٌ مُخَلّدٌ   ---   ثَناء كَعَرف المسكِ وَالعَنبَرِ الشَذِي
 إِلى العالَمِ العُلويِّ راحُوا بِروحِها   ---   لِروح وَرَيحانٍ وَجَنَّةِ مغتَذِ
     مُطَهرةٌ لَفظاً وَقَلباً وَبَرَّةٌ    ---    مُبَرَّأةٌ عَن كُلِّ ما قادحٍ بذي

 
وأستعير لها من رثاء المتأخرين رثاء الجواهري زوجته حين قال

 
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ  ---  أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا      ---      عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا
تَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها     ---      رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد
عزَّتْ دموعيَ لو لمْ تَبعثي شَجَناً       ---       رَجعت مِنه لحرِّ الدمع أبترِد
خَلعتُ ثوبَ اصطِبارٍ كانَ يَستُرنُي      ---      وبانَ كِذبُ ادِعائي أنَّني جَلِد
بكَيتُ حتَّى بكا من ليسَ يعرِفُني      ---  ونُحتُ حتَّى حكاني طائرٌ غَرِد
كما تَفجَّرَ عَيناً ثرَّةً حجَرٌ   ---  قاسٍ تفَجَّرَ دمعاً قلبيَ الصَلد
إنّا إلى اللهِ ! قولٌ يَستريحُ بهِ      ---       ويَستوي فيهِ مَن دانوا ومَن جَحدوا
ناجيتُ قَبرَكِ استوحي غياهِبَهُ      ---       عن ْحالِ ضيفٍ عليهُ مُعجَلا يفد
وردَّدَتْ قفرةٌ في القلبِ قاحِلةٌ       ---      صَدى الذي يَبتغي وِرْداً فلا يجِد
لا يُوحشِ اللهُ رَبعاً تَنزِلينَ بهِ      ---  أظُنُ قبرَكِ رَوضاً نورُه يَقِد
غَّطى جناحاكِ أطفالي فكُنتِ لهُمْ    ---       ثغراً إذا استيقَظوا ، عيناً اذا رقَدوا
لم يَلْقَ في قلبِها غِلٌّ ولا دَنَسٌ      ---  لهُ محلاً ، ولا خُبْثٌ ولا حَسد
واللهِ لم يحلُ لي مغدىً ومُنْتَقَلٌ      ---   لما نُعيتِ ، ولا شخصٌ ، ولا بَلَد
أينَ المَفَرُّ وما فيها يُطاردُني    ---      والذِكرياتُ ، طرُّيا عُودُها جُدُد

 
اللهم إن والدي وزوجتي في ذمتك وحبل جوارك فقهما فتنة القبر وعذاب النار ، اللهم إنهما قد أصبحا في ودائعك فاعف عنهما واجعلهما من المكرمين في جناتك ، اللهم أنر عليهما قبريهما ، وافتح لهما باباً تهب منه نسائم الجنة لا يسد أبدا ، وأكرمهما بجنة عرضها السماوات والأرض ، اللهم وصب رحمتك ورضاك عليهما .
 
اللهم إنهما قد استوفيا آجالهما ، وأخذتهما من بين أحبابهم ، وأنت وحدك تعلم ألم فقدهم فارحمهما واغفر لهما واجمعنا بهما في جناتك .
 
د.مساعد بن عبدالرحمن آل جابر
٢٣ / ٥ /١٤٤٢
 

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية