اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/wahat/foudah/10.htm?print_it=1

قبس من نور النبوة

الــبر بالـوالـديـن

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد.
مستمعى الكرام .. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. وأهلاً بكم ومرحباً فى برنامجكم (قبس من نور النبوة)
أخي المستمع الكريم..
تحدثنا في لقاء سابق عن عقوق الوالدين, وكان لابد أن نتحدث عن بر الوالدين غير أننا قدمنا حديث العقوق من باب التخلية قبل التحلية, حتى نتجنب هذا الخلق الردئ والذي يبغضه الله عز وجل, وينفّر منه النبي صلى الله عليه وسلم أشد التنفير.
ولأن الأشياء بضدها تتميز, فيجدر بنا أن نتحدث عن البر وفضله...
بر الوالدين يأتي فى صلة الأرحام في الذروة, فهو من القربات التي أعدَّ الله سبحانه وتعالى لفاعلها الثواب العظيم, وهدد أولئك الذين يقطعونها بأشد العقوبات, فقال تعالى:
"فهل عسَيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها" [محمد 24:22].

بر الوالدين أيها المستمع الكريم يعدل الجهاد في سبيل الله, وهو سبب لكشف الضر وزوال البلاء، والوالدان أوسط أبواب الجنة فإن شاء العبد أن يحفظ ذلك الباب فليبر والديه/ والبارُّ بوالديه مجابُ الدعوة في الدنيا, وهو يوم القيامة من السعداء.

إخوتي الكرام... إن أعظم حقوق الإنسان على الإنسان هي حقوق الأبوين في عنق الولد, بهذا أوصانا الله عز وجل, وخاطب فينا فطرتنا, إذ قرن الله الوصية بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته سبحانه والنهي عن الإشراك به فقال تعالى ( وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)]الإسراء23[
وقال (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا)[النساء 36]
وما ذاك إلا لأن الله تعالى هو المتفضِّل الأول بنعمة الوجود والتربية والحفظ ثم جعل الله تعالى الوالدين متفضلين بما جعل فيهما من قوى التوالد وعاطفة الحب والتضحية بالراحة في سبيل تربية الولد وتنميته ورعايته حتى يصير رجلاً نافعًا في الحياة.

لذلك جاءت مَرْتبة الأمر بالوفاء بحقوق الوالدين في الإحسان والبر والطاعة بعد مرتبة الأمر بالإخلاص في العبادة لله وحده تذكيرًا وإرشاداً للعباد.

عزيزي المستمع... كما جاءت الوصية بالإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم مقترنة بعبادة الله فقد جاءت الوصية بالإحسان إلى الوالدين مستقلة في بعض سور القرآن الكريم قال تعالى ( ووصينا الإنسان بوالديه حُسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) [العنكبوت 8] فلا تطع والديك فيما فيه كفر بالله عز وجل أو معصية له؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, ولكن مع هذا صاحبهما في الدنيا بالمعروف واستمر في الإحسان إليهما, والرفق بهما ورعايتهما وطاعتهما فيما لا معصية فيه لله عز وجل.

وفي سورة لقمان( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُّه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلىّ المصير) [لقمان 14]
وفي الأحقاف( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا) [الأحقاف 15].
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو هريرة:
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟
قال أبوك.

ومن أجلى صور البر التي ذُكرت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم..
قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران, وكنت لا أَغْبِق قبلهما أهلاً ولا مالاً, فنأى بي طلبُ الشجر يوماً, فلم أُرح عليهما حتى ناما فحلبتُ لهما غبوقهما, فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أَغبق قبلهما أهلاً أو مالاً. فلبثت ـ والقدح على يدي ـ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبيةُ يتضاغـون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه إلى آخر الحديث.
انظر معي أخي المستمع إلى هذا الرجل الذي عاد إلى أهله, فوجد أبويه نائِميْن, والصبية يبكون من شدة الجوع.. وإنها للحظة حرج شديد يتنازع هذا الرجل فيها بر الوالدين والرأفة بالأولاد.
ماذا يصنع؟ هل يوقظ والديه فيزعجهما؟
هل يسقي الأولاد الذين لا يَقْوون على احتمال الجوع؟
..إنه آثر الوقوف لأجل أن يستيقظ أبواه في أية لحظة فيقدمَ لهما غبوقَهما, فما استيقظا إلا بعد أن بزغ الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما.....

وانظر إليه وهو يدعو الله تعالى( إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) فلابد إذًا من إخلاص يحرك هذا البارَّ بوالديه فيدعو الله تعالى ويتوسلُ إليه بما فعل من صالح العمل فيفرج الله كربه ومن معه ..ألا ما أجملَ البِرَّ يزينه الإخلاص لله تعالى.
ومن صور البر في تراثنا ما ذُكر عن علي بن الحسين حين قيل له: أنت من أبرّ الناس ولا نراك تؤاكل أمّك. قال: أخاف أن تسير يدى إلى ما قد سبقت عينهُا إليه فأكون قد عققتُها (1).
وقيل لعمر بن ذر كيف كان برُّ ابنك بك ؟ قال: ما مَشَيتُ نهارًا قط إلا مشى خلفى، ولا ليلاً إلا مشى أمامى، ولا يرقى لى سطحًا وأنا تحتَه (2).

وقال المأمون: لم أر أحدًا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه ، بلغ من برِّه به أن (يحيى) كان لا يتوضأ إلا بماءٍ مسخَّن وهما فى السجن، فمنعهما السجّان من إدخال الحطب فى ليلة باردة، فقام الفضلُ حين أخذ (يحيى) مضجعه إلى قُمْقُم كان يُسَخَّن فيه الماء، فملأه ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائمًا وهو فى يده حتى أصبح (3).

ألا فلْيَخفض كُلُّ منا جناحيه لوالديه, رحمةً بهما, واعترافًا بفضلهما وطاعةً لأمر الله عز وجل, وإخلاصًا لهما, فهو القائل:
( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) [الإسراء 24].

هذا وبالله التوفيق,
وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

----------------------
(1) عيون الأخبار 3/97
(2) عيون الأخبار 3/97
(3) عيون الأخبار 3/98
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية