اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/wahat/foudah/16.htm?print_it=1

قبس من نور النبوة

نعمتان

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
أيها الأحبة فى الله .. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. وأهلاً بكم ومرحباً فى حلقة جديدة من برنامجنا (قبس من نور النبوة)
أيها الإخوة المستمعون الكرام ..
يقول الشيخ محمد الغزالى رحمه الله:
"فى أحضان البطالة تولد آلاف الرذائل، وتَختمر جراثيمُ التلاشى والفناء وإذا كان العمل رسالة الأحياء، فإن العاطلين موتى .. وإذا كانت دنيانا هذه غراساً لحياةٍ أكبَر تعقُبها؛ فإن الفارغين أحرى الناس أن يُحشروا مفلسين لا حصاد لهم إلا البوار والخسران .. وقد نبه النبى صلى الله عليه وسلم إلى غفلة الألوف عما وُهبوا من نعمة العافية والوقت، فروى البخارى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال:
= قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
أجل فكم من سليم الجسم ممدود الوقت، يضطَرب فى هذه الحياة بلا أملٍ يحدوه، ولا عملٍ يشغله، ولا رسالةٍ يُخلص لها ويكرس عمره لإنجاحها.
 
ألهذا خلق الناس؟ كلا .. فالله تعالى يقول (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ..) [المؤمنون 115].
أخى المستمع الكريم .. لم يخلقِ اللهُ الناسَ عبثاً ، ولن يتركهم سدى، فهو سبحانه يقول (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) [المؤمنون 115 – 116] بل خلقهم الله لغاية عظمى ورسالة سامية تتطلب همة عاليه وقلوباً صافية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات 56]. والمرء لا قيمة له بغير أداء هذه المهمة:
إذا مر بى يوم ولم أقتبس هدًى *** ولم أستفد علماً فما ذاك من عمرى.
 
أخى الحبيب .. كم يخسر الإنسان حين يمر عليه وقت فراغ لا يملؤه بما ينفعه فى الدنيا والآخرة.
لقد هاج الفراغ علىَّ شغلاً    ***    وأسبابُ البلاء من الفراغ
وقد أحسن من قال:
إن الشباب والفراغ والجدة   ***   مفسدة للمرء أى مفسدة
 
معاشر الشباب .. كم امتُدح الشباب فى ديننا، وكم حمل العبءَ شبابٌ من خيرة الأمة، وكم نادى الحبيب صلى الله عليه وسلم الشباب فى سنته المطهرة، يدعوهم إلى كل خير، ويحذرهم من كل شر. فهل من مجيب نحو العُلا، واستثمار العمر فى النافع من أمور الدنيا والآخرة ؟
 
إن هناك رجالاً تظل وقدة الشباب حارة فى دمائهم، وإن نيّفوا على الستين والسبعين، لا تنطفئ لهم بشاشة، ولا يكبو لهم أمل، ولا تفترُ لهم همة. وهناك شباب يَحْبون حبوًا على أوائل الطريق، لا ترى فى عيونهم بريقا، ولا فى خطوهم عزما، شاخت أفئدتهم وهم فى مقتبل أعمارهم، وعاشوا ربيع حياتهم لا زَهْرٌ ولا ثمرُ ..
 
فمن علم أن الشباب ضيف لا يعود، وفرحة إذا مرت لا رجوع لها، شُغِل بطاعة الله، واستعان به على الصالح لدينه ودنياه. ومن أتبع نفسه هواها، وقاده الشيطان بزمام الشباب إلى الذنوب والمهالك ندم أشد الندم حين يشيخ، ولات ساعة مندم.
 
انظر أخى المستمع إلى شباب الإسلام فى عهوده الزاهرة، وتأمل ما كان يشغلهم من معالى الأمور، وتذكر معى أسامةَ بنَ زيد الذى يقود جيشاً يسير فى ركابه أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وتذكر على بن أبى طالب الذى كان يصول ويجول فى ساحات الوَغَى، يقاتل الأشداء من الكفار مبارزة، وتذكر ابن عباس الذى كان جامعة علمية، يعلم التفسير والفقه واللغة وغير ذلك وتذكر أنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، ومصعب بن عمير، وغيرهم وغيرهم كما تذكر معى محمد بن القاسم الذى فتح الهند عن طريق السند، وقال فيه القائل:
إن السماحة والمروءة والندى    ***    لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة    ***   يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
 
وتذكر الإمام الشافعى، والبخارى، وأحمد بن حنبل، ومحمد الفاتح، وصلاح الدين، وغير هؤلاء ممن أشرقت صفحات التاريخ بذكرهم ومآثرهم.
كرر علىّ حديثهم يا حادى   ***  فحديثهم يجلو الفؤاد الصادى
 
ثم قارن أخى الحبيب هؤلاء الشباب بشباب اليوم الذى انصرف أغلبه عن معالى الأمور إلى سفاسفها، وراح يجرى وراء شهواته وملذاته لا يعبأ فى حرام أو حلال، وما يدرى من دينه إلا النزر اليسير، وهذا ما حدا بأحد الشعراء إلى أن يقول:
سلوا الشباب شباب العصر كم حفظوا ***  من سورة العصر أو من سورة القلم
وكم حديثا لخير الخلق قد فهموا *** وهو المصدَّق بعد الوحى فى الكلم
والراشدون نسوا أسماءهم وهمُ *** كالشمس فى الغيم أو كالبدر فى الظلم
 
وهؤلاء هم الذين يستنزفون أعمارهم فى قوارع الطرق وعلى المقاهى
 وفى المقاهى جموع لا تصدقها ***  وفى المساجد لا تلقى سوى الهرم
 
أخى الحبيب .. لا تظن أنى بعدت بك عن حديث اليوم، فإن الوقت هو رأس مالنا فى هذه الحياة، وكثير منا من يتفلت الوقت من بين أيديهم، ولا يحسنون استثماره، ولذا وجب التذكير بأهميته وقد شبه النبى e الإنسان المكلّف بالتاجر، وشبه الصحة فى البدن والفراغ من الشواغل عن الطاعة برأس المال، لأنهما من أسباب الأرباح ومقدمات نيل النجاح ..
 
واعلم أخى الكريم أن الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر، فشمر عن ساعد الجد واستثمر الساعة التى تعيشها:
ما مضى فات، والمؤمَّل غيب    ***       ولك الساعة التى أنت فيها
 
واستمع معى إلى القائل:
مضى أمسك الماضى شهيداً معدَّلا   ***    وأعقبه يـوم عـليك جـديـدُ
فيومُك إن أغنيتـه عـاد نـفعُـه   ***   عليك، وما فى الأمس ليس يعود
فإن كنت بالأمس اقترفت إسـاءةً  ***     فَثَـنِّ بـإحسـان وأنت حميـد
فلا تُرجِ فعل الخير يومًا إلى غدٍ    ***    لـعل غـداً يأتـى وأنت فقـيدُ
 
فهيا بنا أخى المستمع نغتنم أوقاتنا لنلبى دعوة ابن القيم رحمه الله حين قال:
فحىّ على جنات عـدن فإنـها   ***   مـنازلك الأولى وفيها المخيّمُ
ولكننا سَبْى العدوّ فهـل تـرى   ***   نعود إلـى أوطاننـا ونُـسلَّمُ
وقد زعموا أن الغريب إذا نـأى   ***    وشطّت به أوطانُه فهو مُغرمُ
وأى اغترابٍ فوق غربتنا الـتى   ***    لها أضْحَت الأعداءُ فينا تحكَّمُ
 
أخى المستمع .. إن من عامل الله تعالى بامتثال أوامره وابتدر الصحة والفراغ يربح ويسعد فى جنات عدن، ومن أضاع رأس ماله ندم حيث لا ينفع الندم.
 
وللحديث بقية إن شاء الله فى حلقة قادمة،
وحتى ذلك الحين أستودعكم الله ..
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية