اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/wahat/foudah/18.htm?print_it=1

قبس من نور النبوة

الإفلاس

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد أهلاً بكم إخوتى الكرام فى حلقة جديدة من برنامج  "قبس من نور النبوة".
 
هناك كثير من الناس يعملون فى التجارة، فيربح أحدهم تارة ويخسر أخرى، وربما يشهر أحدُهم إفلاسه، وإن إفلاس الرجل التاجر فى الدنيا كبوة قد لا تطول، وبلاء ربما يزول، غير أن الضياع الحقيقى والهلاك اليقين هو يوم يقف المرء أمام رب العالمين، ولا يجد لنفسه حسنة، بل تتحول أعماله الصالحة إلى سيئات. روى الإمام مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يَقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار".
 
بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بسؤال الصحابة لإيقاظ الأفهام وإثارة الانتباه، فجاءته الإجابة على ظاهر الأمر (المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ..) فهذا مبلغ علمنا عن الإفلاس، ألاّ يجد المرء درهمًا ولا متاعًا .. ولكن النبى صلى الله عليه وسلم يحول الأبصار والقلوب إلى إفلاس من نوع خطير رهيب .. إنه الإفلاس فى الآخرة. وانظر أخى المستمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم
(إن المفلس من أمتى ..) فهو من أمتى .. ليس غريبا عنى ولا عنكم معشر المخاطبين، وكأنها إشارة إلى عدم ركون الناس وظنهم أن هذا الوصف بعيد عنهم .. وأيضا هى إشارة إلى عدم المحاباة، فليست هناك مجاملة بالباطل، لأن هذا الإنسان أساء أعظم الإساءة لنفسه ولمجتمعه.
إنه يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، وانظر إلى التعبير بهذه الألفاظ مُنَكَّرَة وليست معرّفة؛ ليوحى بأنها غير الصلاة المعهودة التى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وغير الصيام الذى يكون إيمانا واحتسابا، وغير الزكاة التى تطهر صاحبها وتزكيه.
 
ولعلك تلاحظ معى أخى المستمع الحبيب كلمة (زكاة) التى توحى أن هذا المفلس كان من أهل الثراء فى الدنيا، ولكن الثراء الدنيوى لم يمنع الإفلاس الأخروى.
 
وانظر إلى تكرار كلمة (هذا) فى قوله صلى الله عليه وسلم (ولكنه يأتى وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأكل مال هذا .. فيعطى هذا من حسناته .. فتكرارها يوحى أن نيرانَ أذى هذا الشخص لم تَكْوِ فرداً واحداً، وإنما هم أفراد كثيرون، والمدين فى الدنيا لرجل واحد قد يُنظره، أو يمهله، وقد يعفو عنه، لكن من كثُر دائنوه، إن عفا منهم واحد فربما يشكو آخر، فما بالُنا والجميع واقفون أمام الملك الجبار، منتظرين الحكم إما إلى جنة وإما إلى نار، وإن رغب أحد فى الفرار، فاسمع معى إلى أين يفر (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) [عبس 34:37] إنه يحاول الفرار لماذا ؟ حتى لا يأخذ أحد من هؤلاء شيئاً من حسناته، لكن من الله أين المفر ؟
 
أخى المستمع الكريم ..
لقد فنيت حسنات هذا المسكين، وانهارت الحصون التى كان بإمكانه الاحتماءُ بها، ليتقىَ العذاب، ولكن الأمر لم يقف عند هذا، فها هى قذائف السيئات تلقى عليه، لتثقل كاهله الواهن، وهو لا يستطيع لها دفعا، ولا منها فكاكا وهربا، ثم يكون المصير الذليل.
يأخذ هذا ويأخذ هذا .. استخدم المضارع وكرره، لتطول فترة الأخذ منه وتتجدد، فكلما فرغ واحد جاء آخر ليأخذ نصيبه منه، ولكن فى السيئات قال عليه السلام (فتطرح) عليه أى كلها تطرح مرة واحدة وقال (أُخذ من خطاياهم) أيضا كلهم مرة واحدة (فطرحت عليه) أى مرة واحدة، بهذه الفاء المفيدة للسرعة والتعقيب، ثم يطرح فى النار، استخدم (ثم) ليفيد أن هذا المسكين سيظل فترة فى الموقف يحمل هذه الأثقال من السيئات، ولكن لماذا يقف ؟
أليفتضحَ أمرُه بينَ الناس وعلى رءوس الأشهاد ؟
وهل ذلك لأن الأمر كان متعلقاً بالناس فى الدنيا ؟
انظر أخى إلى هذا المسكين وهو يحمل سيئاته يطوف بها فى أرض المحشر، ثم فى النهاية يطرح فى النار كما تطرح نفايات القُمامة بلا قيمة أو احترام.
 
وانظر مرة أخرى حين يُحذِّر النبى صلى الله عليه وسلم من جرائم اللسان قبل جرائم اليد، فيحذر الشتم والقذف قبل التحذير من سفك الدماء وأكل الأموال بالباطل، ذلك لأن جرح اللسان لا يندمل ويبقى محفوراً فى الذاكرة مكانُه. ولله در من قال:
جراحات السنان لها التئام   ***   وليس لما جرح اللسان التئامُ
 
أخى المستمع ..
إن للكلمة السيئة أثراً سيئا، ولذا فقد قال تعالى (وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم) [الإسراء 53] فالشيطان ينزغ بينهم بالكلمة الخشنة تفلت، وبالقول السيئ يتبعها، فلْيُحسنْ أحدنا اختيار الأحسن من الكلام مع خلق الله حتى لا يدع للشيطان عليه سبيلا.
وقد أسمع رجلٌ عمرَ بنَ عبدِ العزيز كلاماً مؤلماً فقال له : أردت أن يستفزنى الشيطانُ بعِزّ السلطان فأنالَ منك اليوم ما تنالُ منى غداً، انصرف رحمك الله. إذاّ ينبغى لنا أن نتحلى باللسان الطيب الذى يقول الخير ليغنم، ويسكت عن الشر ليسلم، ولا نكون كهذا المسكين الذى حاله يشبه حال من دخل السوق وجمع مالاً وخرج سعيداً ولكن عند باب السوق إذا بالدائنين، وما أكثرهم، فهذا يأخذ حقه، والآخر يكمل دَيْنه حتى إذا فنى ما مع المسكين من مال خرج خالى الوفاض، فيا لَشقائه وتعاسته، يقول الشيخ الغزالى رحمه الله:
"ذلك هو المفلس، إنه كتاجر يملك فى محله بضائع بألف، وعليه ديون قدرُها ألفان، وكيف يعد هذا المسكين غنيا ؟
 
والمتديّن الذى يباشرُ بعضَ العبادات ويبقى بعدَها بادىَ الشرِ كالحَ الوجه قريبَ العدوان ، كيف يُحسبُ امرءاً تقيا ؟
ألا فلنشمر عن ساعد الجد، لإرضاء الله تعالى؛ حتى نكون من الأغنياء فى يوم يفلس فيه كثيرون ممن نالوا من حقوق الناس  وأعراضهم.
 
هدانا الله وإياكم للتى هى أقوم
وإلى لقاء فى حلقة قادمة إن شاء الله
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية