اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/wahat/foudah/9.htm?print_it=1

قبس من نور النبوة

العقوق جريمة كبرى

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد،

مستمعى الكرام .. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. وأهلاً بكم ومرحباً فى برنامجكم (قبس من نور النبوة) حلقةُ اليوم عن أمرٍ يُبغضه الشرعُ الحنيف، ونحن لا نتحدث عنه لأنا نحبُّه، معاذ الله، ولكن من باب :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقِّيهِ *** ومن لا يعرفُ الخَير من الشر يقع فيه

إنه (عقوق الوالدين) الذى كثر وانتشر، وتعددت أشكالهُ وألوانه عافانا الله وإياكم من العقوق وشره ..

وقد وردت الأحاديث الكثيرة فى النهى عن العقوق كما فى قوله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا قلنا: بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، و كان متكئاً فجلس فقال : ألا وقولُ الوزر، وشهادةُ الوزر، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) وكما فى قوله صلى الله عليه وسلم (الكبائر : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس) رواه البخارى ومسلم من حديث أبى بكرة نفيع بن الحارث رضى الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة رضى الله عنه.

وخرج البخارى ومسلم فى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن رسول الله  قال : "من الكبائر شتمُ الرجلِ والديه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتمُ الرجلُ والديه؟ قال : "نعم ، يسبُّ أبا الرجل فيسُبُّ أباه، ويسبُّ أمَّه فيسُبُّ أمَّه".

أيها المستمع الكريم .. إن الذنوب لتتفاوتُ بحسب مفاسدها، وإن عقوق الوالدين من أعظم هذه الذنوب، إنه نكران للجميل، ونسيان لحق الوالدين، واحتقارٌ لأصالة الإنسان.

لقد أمر الله عز وجل فى كتابه سبحانه بتوحيده وعدم الإشراك به، وقرن هذا الأمر بالإحسان إلى الوالدين (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) [النساء 36] (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) [الإسراء 23] لقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين لا سيما عند الكبر، وذكّر الابن بأنهما أحسنا إليه وربياه صغيرا، فالصغرُ ضعف، وبحاجة إلى رعاية وتعهد، وقد قام الوالدان بهذا الواجب خير قيام.

والكبر ضعف، وبحاجة إلى عناية ورعاية فليقم الابنُ إذاً بالمطلوب وليحسن إلى والديه، ولا يتأفف عندهما ولا ينهرهما وإنما يقول لهما القول الكريم الطيب.

وفى هذه الأحاديث تحريمٌ للعقوق وتشديد على التنفير منه، وبيانُ حرمة سب الآباء والأمهات، أو تعريضهما للسب والإهانة، وأن الطبع السليم المستقيم يأبى أن يسب الرجلُ والديه أو أن يتسبب فى سبهما، وهى دعوة لترك السباب والشتائم خشية أن يعود السب على والدى الشاتم.

أفلا يستدعى كل هذا أن يكون المرء بارًا بأبويه، منتهياً عن عقوقهما.

إذاً فلنستمع إلى بيانٍ شافٍ يذكّرنا بحق الأبوين علينا، لا سيما الأم لعل الذين غلبت عليهم شقوتهم أن يرجعوا إلى رشدهم، ويحسنوا معاملة آبائهم وأمهاتهم، فالأم هى التى "أرضعتك من ثديها لبنا، وأطارت من أجلك وَسَنا، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغذا، وصيرت حَجرها لك مهدا، وأنالتك إحسانا ورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف حتى النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت أموالها للطبيب، ولو خيرت بين حياتك وموتها لاختارت حياتك بأعلى صوتها، هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارا، فدعت لك بالتوفيق سرًا وجهارا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، وشبعت وهى جائعة، ورويت وهى ضائعة، وقدّمت زوجتك عليها بالإحسان وقابلت أياديها بالنسيان، وصعب عليك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها ومالها سواك نصير، يا هذا نهاك الله عن التأفيف، وعاتبك فى حقها بعتاب لطيف،
ستعاقب فى دنياك بعقوق البنين، وفى أخراك بالبعد عن رب العالمين، وتُنادى بلسان التوبيخ والتهديد، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد.
ولا أريد أن أوذى أسماعكم أحبتى فى الله بصور من العقوق، غير أن أقسى صورة من صوره وأشدها إيلامًا صورة هذا العاق الذى يقتل أمه لحفنة من المال، والأكثر إيلاما هو توجع القلب المحزون قلب الأم الذى قتله ولدها . . استمع معى إلىهذه القصة الرمزية:

أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلاً بنقوده كـى ما ينـال بـه الوطـر
قال ائتنى بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهـر والـدراهـم والـدرر
فمضى وأغرز خنجرًا فى صدرها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى فتدحرج القلـب الـمقطـع إذ عثـر
ناداه قلب الأم وهو معفرولدى حبيبى هل أصابـك مـن ضـرر؟
فكأن هذا الصوت رغم حنوه غضب السماء عـلى الغلام قد انهمر
فدرى فظيع جناية لم يجنها ولـد سـواه منـذ تـاريـخ الـبشر
فارتد نحو القلب يغسلـه بمـا فـاضـت به عيناه من سيل العبر
ويقـول: يا قلـب انـتـقـم منـى ولا تغفر فإن جريمتى لا تغتفر
فـاستـل خنجـره ليطعـن قلبـه طعنـا فيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كف يداً ولا تطعـن فؤادى مـرتين علـى الأثـر.

... هذا هو قلب الأم .. وهذا هو حالُها معك .. ألا تتقى الله فيها .. وتحسنُ إليها .. وتدعو لأبويك معا (رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا) [الإسراء 24] جعلنا الله وإياكم من أهل البر والإحسان إلى الآباء والأمهات، وجنبنا وإياكم داء العقوق.

هذا وبالله التوفيق .. وإلى لقاء فى حلقة قادمة
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية