صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







يا (هيييه)!!

حسين بن رشود العفنان

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أضاءَ وجهُ الأستاذِ (سالم) مدرسِ اللغةِ العربيةِ، حينَ هاتفَه المديرُ وطلبَه إلى مكتبِه، فأوقفَ درسَه وخرجَ من فصله وهو يقول لنفسِه في ثقةٍ :

من حقكَ أنْ تتباهى!!منْ في مرتبتك؟!
أنتَ تُدعى بلا واسطةٍ وتُخصصُ لكَ المكالماتُ، وغيركَ ترسلُ إليهِ قصاصةٌ معَ صغارِ الطلبة، لا عجبَ فأنتَ الوحيدُ الذي لم تتأخرْ مذْ فجرِ الفصلِ الدراسيِّ، ولم تحتجبْ ساعةً عن حصةٍ من حصصِه ، ولم تكنْ تتسربُ من الفصلِ لتتلذذَ بشربةِ قهوة أو شاي، والبطولةُ الرياضيةُ والمسابقةُ الثقافيةُ كانتا من تدبيري، أجهدتُ فيهما نفسي ،توقعتُ أن يذكر اسمي ويشكر! لم أشأ ـ والله ـ أنْ أُحدثَ تنغيصًا، كفايتي أنّه كان حفلا بهيجا ، وأنّ اسمَ المدرسةِ ظهرَ وتصدرَ.

وضعافُ الطلابِ أصبحوا يفرقونَ بين الاسمِ والفعلِ، ويعربونَ جُملا تقفُ عندها عقولُ بعضِ الكبار، حتى المسائلُ المشكلةُ في الإملاءِ بدأتْ تغيبُ عن أقلامِهم، وكم امتلأ وجهُ المشرفِ غرابةً! من وضوحِ قراءةِ الطلابِ وسرعتِها، ودقةِ خطوطِهم وجمالها، حتى أنّه استحلفَ أحدهم هل ساعدَه أحدٌ في الحلّ؟! فهو لم يصدقْ أنّ هذهِ خطوطُ طالبٍ في الخامسِ!

وكم كدتِ أطيرُ من المسرةِ حينَ رفعَ (نايف) ـ الذي أتعبَ المدرسينَ وأشقاهم ـ كتابَ الدّكتور حسين علي محمد (مذكرات فيل مغرور) ونحنُ وقوفٌ في الصباحِ ليخبرني أنّه ابتاعَه وقرأه كلَّه!
و(خالد) ـ وابتسمَ حينَ ذكرَ خالدًا ـ كم سحرني بخلقِه وحرصه، فقدْ فاجأني أنّه حفظَ أبياتَ ابنِ مالكٍ التي أستشهدُ بها في حصصِ القواعدِ!!

ياااه أصبحَ قلبي مرعًى لهذهِ المدرسةِ،أحببتُ أهلها..جدها..هزلها..صخبها..كلَّ شيء فيها ، لذا لم أرفضِ الإذاعةَ بل جددتُ فيها وأبدعتُ، حتى أصبحتْ أفكارها تُثار بينَ المدرسينَ والطلاب، وكم أخرجتُ منها خطباءَ بارعينَ، حصدوا جوائزَ جليلةً في مسابقةِ الإلقاءِ.

ربما سيعطيني مستندًا بكلّ مستحقاتي!!فقد أنفقتُ آلافَ الريالاتِ على المكتبةِ، وافقتُ حين طلبَ مني المديرُ أن أهتمَ بها، ماذا أفعل ؟! آلمني حالها،وهالني أمرها ،كأنّ قواعدَها رُفعتْ في قلبِ النفود ، تلالٌ من الأتربة ، وجبالٌ من القَذَر ، وكتبٌ بعضها فوقَ بعض ، فنفضتُ رهجَها وقذرها، وانتقيتُ لها عناوينَ جديدةً مسليةً ، وابتعتُ لها حاسوبًا صنفتُ كتبَها عليهِ ، ونسقتُ للفصولِ ساعاتِ الزيارةِ والاستعارةِ.

وساعةُ التكريم...؟!ربما سيخبرني بها! هل ستكونُ مقصورةً على المدرسةِ أم ستعممُ على جميعِ المدارسِ؟ ربما تكونُ عامةً ويحضرها الإعلامُ ، وينتشرُ اسمي بين جدرانِ الوزارةِ ، ويعرفني المسؤولونَ ، وأُصبحُ من أعلامِ المربينَ، نعم...نعم فقلبُ المديرُ لا ينبضُ إلا بحبي!

فوقفَ في منتصفِ السُّلم ثائرًا: لا..!!لا..!!
احذر أن تستخفَّكَ هذه المظاهرُ! فتسفل همتُك ويضعف عقلك! جدد نيتك، أ تريدُ أن يكونَ عملكَ هباءً منثورًا؟!

***

كانَ الأستاذُ (سالم) ـ وهو يشاهدُ هذه النجاحاتِ ـ كالشيخِ الهِم الذي يرى شبابه المنصرمَ، في وجه ابنه الفتيِّ ،فيزيدُه ذلكَ صلابةً وقوةً.

استمرَ في طريقه والآمالُ تُنعشُ كبدَه وقد امتلأتْ نفسُه ثقةً وأملا ومسرة وأخذَ يضاحكُ كلَّ وجه يقابله، حتى وقفَ على عتبةِ المديرِ، وطرقَ بابَه مبتسمًا...

لكنْ تلونتْ ابتسامتُه وتتشتتْ سعادتُه!!

فقدْ رأى جو الإدارةِ قاتما، ووجهَ المديرِ كالحًا، وزادتِ الطحينَ ماءً رؤيتُه للطالبِ المدللِ (فيصل) ووالدِه عابسينِ مقطبينِ، قالَ لنفسِه وهو يصافحُهما:اللهم اجعله صباحًا بهيجًا!!
فلما جلسَ قُبالتهما، التفتَ إليه المديرُ قائلا:هذا أبو(فيصل) يقول: إنّ ابنه لم ينمِ الليلةَ السالفةَ، فنفسُه ضاقتْ ، وصحتُه تهاوتْ!
ففزعَ(سالم)!وكانَ أبًا ودودًا لطلابِه :

ـ لا أراهُ اللهُ مكروهًا ـ واللهِ ـ لمْ أكنْ أعـ...!!

فقطعَه والدُ (فيصل) فائرًا: أنتَ سببُ ألمِه وضرِّه!

صُدمَ الأستاذ (سالم) وشخصَ بصرِه وارتدتْ ذاكرتُه مباشرةً إلى أحداثِ أمسِ يقلبها : لم آتهم إلا الحصةَ الرابعةَ وشرحتُ لهم (إعرابَ المفعولِ بهِ) ولمْ أراجعْ لهم ، ولم أطلبْ منهم الكشفَ عن الواجبِ، ولم أتأكدْ من حفظِهم...لم أحتكَ بهم...لم أحتك بهم..!!

ـ ثم قالَ بألمٍ : مني أنا؟!

فانتصبَ والدُ (فيصل) والغضبُ يملأ وجهَه : ابني يقولُ : إنك لا تعرفُ اسمَه!!

ـ..........!!

ـ تعجبتُ ـ واللهِ ـ وقلتُ: متى سيعرفُ هذا المدرسُ أسماءَ طلابِه والاختباراتُ قد قربتُ ساعتُها ؟!
لمَ قلتَ له : يا (هييه) انتبه للدرس؟!هذا التصرفُ الارتجاليُّ أحرجَه أمامَ زملائِه ، أرجوكَ ولدي اسمه (فيصل) ، وأتمنى ألا تتكرر (هييه) في قادمِ الأيامِ!

***

فبعثرتْ هذهِ الكلماتُ وقارَ الأستاذِ (سالم) واستشاطَ غضبًا، وارتعدت أطرافه، واحتقنتْ أوداجه، والتفتَ بعينينِ محمرتينِ إلى المديرِ، كأنه يستجديه أنْ ينطقَ...أنْ يدفعَ هذا السخفَ... لكنّه تشاغلَ بأزرارِ جوالهِ وانسلَ من الحادثةِ..!!
فهمَّ أنْ يصرخَ في هذا الأب الجاهلِ، أنْ يطبعَ على وجهِه القبيحِ صفعةً، لكنّه كظمَ غيظَه، وطوى ألمَه، حتى لا يُطلَّ دمُه، وتُهانَ كرامتُه، ويُجعلَ أحاديثَ للصحف ،فحملَ نفسَه بنفسِه وخرجَ...!!


حسين العفنان ـ حائل الطيبة

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
حسين العفنان
  • عَرف قصصي
  • عَرف نثري
  • عَرف نقدي
  • عَرف مختار
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية