صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عن أبي حازم أحَدِثكم . . . !!

بندر فهد الايداء
@BandrALAyda


بسم الله الرحمن الرحيم


والصلاة والسلام على رسوله الأمين ... أما بعد :

لقد كانت اللحظات رهيبة وأنا ألقي عليه النظرة الأخيرة وأقبل جبينه وأدعو له، لقد أخذ منه المرض رونقه فاللهم اجعل ما أصابه كفارة له ورفعة في درجاته.

وتسعّرت عند الوداع أضالعي / ناراً خشيت بحرّها أن أحُرقا
ما زلتُ أخشى البين قبل وقوعه / حتى غدوت وليس لي أن أفرقا
أكبادنا خفّاقـــة وعيوننــــا / لا تستطــيع، من البكاء أن ترمــقا

روى مسلم في صحيحه من حديث سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» وأحسب أنّ أبا حازم منهم والله حسبه .
ليس من السهل الحديث عن شخص أحببته واستفدت منه علما وأدباً وكان بركة على الناس في سمته وعلمه ثم رحل إلى ربه، لقد ترك لي مرارة المراثي التي وسمت على قلبي كلوماً ما تلبث أن تندمل حتى تهيّجها الذكريات، ولولا اليقين بأن هناك لقاء قادم،لسالت العيون حزناً ،وذابت القلوب كمداً من الفراق وتباريحه.

أستودع الله قوماً ما ذكرتمهوا / إلا توقد جمر الشوق في خلدي
ولا تذكرت مغناهم وأرضهم / إلا كأن فؤادي طار من جسدي

عرفته عام 2016 حين جئت لدراسة الماجستير في جامعة Bangor في شمال ويلز في المملكة المتحدة، له دروس وخُطب في المركز الإسلامي ونشاط دعوي ظاهر سيما مع أهل الكتاب مع تمكّن وفصاحة في اللغة الإنجليزية سخرها في الدلالة على الله ووحدانيته ،كان مع علمه وورعه يعمل محاسباً (cashier) في مركز Tesco يقابل كل من يلتقيه بابتسامته التي يجللها وقار العلم وأثر الشيب.

تراه إذا ما طاش ذو الجهل والصّبا / حليما وقوراً ضائن النفس هاديا
له حلم كهل في صرامة حازم / وفي العين إن أبصرت أبصرت ساهيا

هو الشيخ الفاضل الحلبي أبو حازم عبد الله بن مصطفى الشيخ،ولد في سورية عام 1960 من عائلة بسيطة ونشأ في حلب كما ينشأ أترابه لكنه كان مختلفاً عنهم بشهادة من عاصروه فقد حُبب إليه العلم والقراءة وكأن الله أراد به خيرا وصرف الله عنه آفات مرحلة الشباب، وكانت له هيبة في الحق فما يجرأ أحد في مجلسه على فعل منكر أو إشاعته رغم حداثة سنه وقتها، ونحسبه ممن قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم في فيما رواه أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر ( إن الله ليعجب من الشاب ليست له صبوة) أي ميل إلى الهوى .

وجانب أسباب السفاهة والخنا / عفافاً وتنزيهاً فأصبح عاليا
وصان عن الفحشاء نفساً كريمة / أبت همةً إلا العلى والمعاليا

درس الأدب الإنجليزي في جامعة حلب، ثم يسّر الله له القدوم إلى المملكة المتحدة ليواصل تعليمه العالي عام 1987 ونال درجة الماجستير في علم اللغويات من جامعة Bangor ثم واصل الدكتوراة لكن وبسبب نشاطه الدعوي في مناقشة النصارى حصلت له بعض المعوقات لإكمال رسالته، ثم عاش حياة الكفاف واشتغل محاسبا في مركز Tesco قرابة ٢٠ سنة آكلاً من كسب يده متمثّلاً ما رواه البخاري في صحيحه من حديث المقدام قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أكَلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكُلُ من عمل يده) .

فَقَدناكَ فِقدانَ السَحابَةِ لَم يَزَل / لَها أَثَرٌ يُثني بِهِ السَهلُ وَالوَعرُ
مَساعيكَ حَليٌ لِلَّيالي مُرَصَّعٌ / وَذِكرُكَ في أَردانِ أَيّامِها عِطرُ

كان رسالتي في الماجستير عن قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم واستفدت منه كثيراً في بحثي وأذكر حين أردت الجلوس معه طلبت رقم هاتفه لأنسق موعداً فعجبت بأنه لا يملك هاتفاً جوالاً،وأنه تركه زهدا ورغبة عنه لإلهائه وإشغاله،ربما يكون هذا الأمر طبيعياً قبل عشرين سنة لكن في مثل زماننا هذا لا يطيقه إلا من وفقه الله.

فقلّص برديه وأفضى بقلبه / إلى البر والتقوى فنال الأمانيا
صبوراً على صرف الليالي ورزئها / كتوماً لأسرار الضمير مداريا
له همة تعلو على كل همة / كما قد علا البدرُ النجوم الدراريا

درس الشيخ رحمه الله كتب النصارى سيما أناجيلهم المحرفة حتى حذقها أكثر منهم، وخبرها بالجزء والصفحة ثم اجتهد في دعوتهم،وقبل 15 سنة اقتنى أول جهاز كمبويتر فكأنه ملك الدنيا حينها لأنه وجد بوابة للدعوة عبر برنامج (البالتوك) واستمر في دعوة النصارى والمنافحة عن دين الإسلام والنبي ﷺ ورسالته حتى قبيل وفاته وهو في المستشفى.
حدثني ابنه حازم أنه ربما نام أول الليل ووالده يناقش النصارى ويفنّد أباطيلهم ثم يستيقظ آخر الليل والشيخ مكانه لم يتزحزح وكأنه في رباط، واصل ليله بنهاره حارساً لثغر من ثغور الإسلام وكان يكتب باسم روح الحقيقة ( Spirit of truth ) ويبتعد عن الظهور مؤثرا خمول الذكر،متحرياً جادة الإخلاص.

يا غائبينَ وفي قلبي أشاهدهم / وكلّما انفَصَلوا عن ناظري اتّصَلوا
قد جدّدَ البُعدُ قرْباً في الفؤاد لهمْ / حتى كأنهمُ يومَ النوى وصلوا

كان عمله في Tesco مرهقا وطويلاً ومع هذا ما صرفه ذلك عن الدعوة حتى إن القساوسة الذين يدعون الناس في بيوتهم صاروا يتجنبّون بيت الشيخ عبد الله رحمه الله بسبب قوة حجته وتمكنه من دحض شبهاتهم.
صار اشتغاله بالدعوة يأخذ حيزاً كبيرا من حياته تقول أم حازم : منذ اشتغاله رحمه الله بالدعوة والتعليم لا أتذكر أني وإياه ذهبنا لمطعم أو لمقهى لقد كان همه الدعوة ويقول لي معزيا : لقاءنا يا أم حازم بالجنة وسيعوضنا الله خيرا ولا أذكر _ الكلام لأم حازم_ أنه ضايق أحداً من الناس وكان رحمه الله يتضايق كثيرا لما يمرّ عليه مسلم وفي أغراضه التي اشتراها خمر، ويحاول جاهداً نصحه بالحسنى، وكان يحرص في اجتماعاته مع الناس على إفادتهم حتى ولو كانت اجتماعات عابرة غير مرتبة.
كنت أحب أن أتسوق في Tesco لأسباب كان هو أحدها ،لأسلم عليه وأجدد به العهد، قلت له مرة يا أبا حازم حدثني عن بعض القصص التي مرت بك في الدعوة فقال : كان هناك نصراني يعمل معهم وانقطعت أخباره وفقدته ثم علمت أنه أصيب بمرض عضال تعذر معه العلاج وحين التقيته قلت له : الله قادر على شفائك فلا تيأس ، تأثر الرجل جداً ثم طلب مني أن أدعو له ورجوت إسلامه، ومرّة كانت عندنا موظفة ملحدة فحدثتها عن الله سبحانه فقالت أنا لست بحاجة إلى الله فصحّتي جيدة وعندي بيت جميل فاحترق بيتها بأكمله في اليوم التالي!

يارب هذا العصر ألحد عندما / سخّرت ياربي له دنياكا
واغتــــرّ حتى ظنّ أن الكون في / يمنى بني الإنسان لا يمناكا
أوما درى الإنسان أنّ جميع ما / وصلت إليه يداه من نعماكا ؟!

ومرة جئت ووجدته يشرب شراباً طبيعاً من الأعشاب وقال لي:إنه يشكو ألماً المرارة ثم تحدثنا عن الحجامة وفوائدها وذكرت له من يعملها في مانشستر،كانت هذه بدايته مع البلاء؛لقد أصيب رحمه الله بسرطان الكبد وانتشر ثم مكث في المستشفى أشهراً حتى اعتذر الأطباء عن علاجه وطلبوا منه أن يغادر المستشفى ليبقى عند أهله ومع هذا كان راضياً حامداً مثنياً على الله، وزاره قبل خروجه من المستشفى قسيس ومعه أتباعه فدعاهم إلى الله وناقشهم مع شدة مرضه.

وفي النفس روح لا تشيب بشيبهِ / ولو كان ما في الوجه من خرابُ

كنت على تواصل معه لما رجعت إلى السعودية عن طريق ابنه حازم ،وحين قدمت لدراسة الدكتوراة حرصت على زيارته،وزرته وحين التقيته رأيت وجهاً عليه مخاييل الموت، قرأت عليه شيئا من القرآن ثم دعوت له وقبّلت جبينه وقلت له يا شيخنا: إنّ من أعظم منازل العبودية الرضا عن الله فيما يقضيه وأبشر بأجر الصابرين والعقبى الحميدة فكان حامداً شاكرا لربه ويدعو لي قائلاً : الله يحنّ عليك، وكانت هذه الدعوة ملازمة له تقبله الله.
توفي رحمه الله فجر يوم السبت 14 من ربيع الثاني 1440هـ الموافق 22 ديسمبر 2018 عن 58 سنة وصُلي عليه في المركز الإسلامي في مدينة Bangor ودفن في مقابر المسلمين في شمال ويلز رحمه الله رحمة واسعة.

ذَهَب الشَّبابُ وسَوْفَ أذْهَبُ مِثْلَما / ذَهَبَ الشبابُ وما امرؤٌ بِمُخَلَّدِ
إنَّ الفَنَـاءَ لكــلِّ حَيٍّ غــايَةٌ / مَحْــتُومَـةٌ إنْ لَمْ يَكُـنْ فكأَنْ قَدِ

وأسأل الله له أجر الشهداء ومنازلهم فعنْ أبي هُرَيْرةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه متفقٌ عليهِ. وعنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَا تَعُدُّونَ الشهداءَ فِيكُم؟ قالُوا: يَا رسُولِ اللَّهِ مَنْ قُتِل في سَبيلِ اللَّه فَهُو شهيدٌ. قَالَ: إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقلِيلٌ،" قالُوا: فَمنْ يَا رسُول اللَّه؟ قَالَ: "منْ قُتِل في سبيلِ اللَّه فهُو شَهيدٌ، ومنْ ماتَ في سَبيلِ اللَّه فهُو شهيدٌ، ومنْ ماتَ في الطَّاعُون فَهُو شَهيدٌ، ومنْ ماتَ في البطنِ فَهُو شَهيدٌ، والغَريقُ شَهيدٌ" رواهُ مسلمٌ.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : والمبطون هو صاحب داء البطن ـ وهو الإسهال ـ قال القاضي: وقيل: هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن، وقيل: هو الذي تشتكي بطنه، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقاً. انتهى.
أسأل الله الرحيم الودود أن يرحمه ويتقبله في عليين ويلهم زوجه الفاضلة أم حازم وابنه حازم وبناته ديما وفاطمة الصبر والسلوان وأن يبارك في أعمارهم وأرزاقهم ويصرف عنهم السوء ويعقبهم العاقبة الحميدة في الدارين.

وقلتُ في رثاءه رحمه الله :

خطبٌ كوقعِ الصارم البتّارِ
دهمَ النفوسَ بلوعةٍ ومَـرَارِ
خطبٌ بكت (ويلزٌ) عليه وشامنا
جادتْ عليهِ بدمعها المِدْرارِ
لما ثَوى من ركْنِها وعِمَادها
شيخٌ كمثلِ الكوكبِ الدرّارِ
الشيخُ عبداللهِ والدُ حازمٌ
مطبوعــةٌ أخلاقــه بوقــارِ
رجلٌ بنى بالعلم دعوتهُ التي
كانت مشاعلها من المختارِ "ﷺ"
لا تحزني يا أم حازمَ واصبري
وتأمّلي لطفَ الرحيمِ الباري
ما كانتِ الدنّيا خلوداً دائمــاً
فهي التي طُبِعتْ على الأكدارِ
وتذَكَّري قولَ التهامي راثياً
إذْ قالَ بيتاً ذاعَ في الأمصارِ
"جاورت أعدائي وجاور رَبَّهُ
شتّانَ بين جوارهم وجواري"
مهما تطول بنا الحياة فإنها
تفنى كحُلم طافَ بالأسحــارِ
ما الموتُ إلا رحلــةٌ وولادةٌ
نحــو الخلـــودِ بجنّــة الأبـــرار


هذان رابطان نادران لبعض دروسه ومناظراته رحمه الله أتمنى نشرها براً به ووفاء له وصدقة عنه:


1. https://youtu.be/baw0Nv8UBtU

2. https://youtu.be/t5V08zcKS7w



كتبه
أبو عبد الإله / بندر فهد الايداء
المملكة المتحدة _ Glasgow
Bfe84@hotmail.com
Snap & Twitter : Bandralayda

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بندر الايداء
  • مقالات
  • كتب وبحوث
  • مع القرآن
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية