صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إليك أمي قطرات من بحر حبك (5)

م. عبد اللطيف البريجاوي


القطرة الخامسة:
لا تَدْعوا على أولادِكم


ليس في الدنيا أهنأ من سماع دعوات الأم لأولادها؛ تتبتّل إلى الله ليوفقهم ويكرمَهم؛ فدعوات الأمّ لأولادها سياج متين يحميهم؛ وعناية ربّانية ترعاهم؛ ودرب مستقيم يسيرون عليه.
لكنّ بعض الأمهات يقلبن ظهر المجنّ؛ ويَنسينَ عاطفتهنّ الجياشة وحنانهنّ الكبير على أولادهنّ فيغضبْن لبعض تصرفاتهم؛ فإذا بها عالجت خطأه بخطأ أكبر, فتنهال بالدعاء عليه؛ وتوبيخه ولعنِه ؛ وهي لا تدري أن الذي بين يدها فلذة كبدها, تخاف عليه أن يصيبه مكروه, ولكنّها في لحظة واحدة تنسى كلّ شيء؛ تنس لياليها التي قضتها بقربه وهو صغير ؛ تنسى اللقيمات التي وضعتها في فمه؛ تنسى حين تغضب لتنفجر بالدعاء, عليه والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: « لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ, وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ, وَلا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ الله تبارك وتعالى سَاعَةَ نَيْلٍ فيهَا عَطَاءُ فَيَسْجِيبُ لَكُمْ»[أبو داود كتاب الوتر- باب النهي أن يدعوا المرء على أهله وولده].
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً}.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: « قوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَاءَهُ بِٱلْخَيْرِ} قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللَّهُمَّ أهلكه، ونحوه. {دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ} أي كدعائه ربَّه أن يَهَب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك» [ تفسير القرطبي سورة الإسراء الآية11].
وقد جاءت السيرة النبويّة الشريف بقصّة تبين أمثال هذه الحال, أمثال أمّ غضبت من ابنها, فحملها غضبه أن تدعو عليه وكانت لحظةُ استجابة وساعةٌ فتحت فيها أبواب السماء للدعاء, فقد روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « كان رجلٌ في بني إسرائيلَ يُقالُ لهُ جُرَيجٌ يُصلّي، فجاءتهُ أُمّهُ فدعَتهُ، فأبى أن يُجيبَها فقال: أُجيبُها أو أُصلّي ؟ ثمّ أتَتْهُ فقالت: اللهمّ لا تُمتهُ حتّى تُريَهُ وُجوهَ المومِساتِ. وكان جُرَيجٌ في صَومَعتهِ، فقالت امرأةٌ: لأَفْتِنَنّ جُرَيجاً. فتعَرّضَتْ لهُ فكلّمَتْهُ، فأبى. فأتَتْ راعياً فأمكَنَتْهُ من نفسِها، فوَلَدَتْ غُلاماً فقالت: هو من جُرَيجٍ. فأتوهُ وكَسروا صَومعتَهُ، وأنزلوهُ وسَبّوهُ، فتوضّأَ وصلّى، ثمّ أتى الغُلامَ فقال: مَن أبوكَ يا غُلامُ ؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صَومعتَكَ من ذهب ؟ قال: لا، إلاّ من طينٍ». [متفق عليه].
قال ابن حجر:« وفي الحديث إيثار إجابة الأمّ على صلاة التطوع لأنّ الاستمرارَ فيها نافلةٌ, وإجابةُ الأم وبرها واجب، قال النوويُّ وغيره: إنما دعت عليه فأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفّف ويجيبها، لكن لعله خشي أن تدعُوَه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا وتعلقاتها، كذا قال النووي، وفيه نظر لما تقدم من أنها كانت تأتيه فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ثم يجبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه، وعن يزيد بن حوشب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه أولى من عبادة ربه » أخرجه الحسن بن سفيان، وقال النووي: هذا محمول على أنه كان مباحاً في شرعهم، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلاً وعلم تأذي الوالد بالترك وجبت الإجابة وإلا فلا، وإن كانت فرضاً وضاق الوقت لم تجب الإجابة، وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين، وخالفه غيره لأنها تلزم بالشروع، وعند المالكية أنّ إجابة الوالد في النّافلة أفضل من التمادي فيها، وفي الحديث أيضاً عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذوراً »[ فتح الباري كتاب الأنبياء -باب قوله تعالى واذكر في الكتاب مريم].

لقد ارتكبت هذه الأمّ بحقّ ولدها خطأ كبيراً, بأن دعتْ عليه لأنّه لم يجبها؛ ووافق ذلك ساعة استجابة ولحظة قبول فقبل الله دعاءها.....
ولعمري لا نعرف ما هو شعور أمِّ جريج عندما عرفت بما أصاب ولدها بسبب دعائها ؛لم يذكر التاريخ لنا ماذا حلَّ بها وإني لأظنها جلست تعضّ أصابعها ندماً تبكي وتتضرع إلى الله أن ينقذ ابنها.
فهل تحبين أن تكوني سبباً في أذيّة ولدك؛ بدعاء تدعين به عليه في لحظة غضب, لخطأ ارتكبَه أو طيش شاب فكره؟
لا أظنَّ أمّاً ترضى بذلك ولو أنها فكرت لحظة واحدة بما تقول لبكت بكاء شديداً, ولجمت لسانها وضبطت عواطفها, ولربّما فعلت بنفسها شيئاً فكيف ترضى أن يُؤذى ولدها وتكون هي السبب...
دعاءُ المُغْضَب وليس دعاء الغضبان!
قد يرتكب بعض الأولاد حماقاتٍ فلا ينتبهون لبرَّ والدتهم, وسماع كلامها, وربما يزعجونها ببعض تصرفاته الصبيانية.

فما الحلّ إذا ً؟

الحلّ يكمن في جزأين:
أما جزؤه الأوّل فما ينبغي في مثل هذه الحال أن تستخدم الأم سلاح الدعاء وتصوبه على أولادها, ولكن تستخدم هذا الدعاء لتصوّب عمل أولادها وتبتهل إلى الله بالدعاء لهم وليس عليهم.
ويمكن أن يكون الدعاء بالهداية مصحوباً بالتذمّر من فعل الأولاد, فهذا لا مانع فيه فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم تبسّم المغْضَب, كناية عن حبٍّ ولكنْ فيه غضبٌ من بعض الأفعال, فعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلّفه عن غزوة تبوك قوله: « فلما سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تبسُّمَ المغضَبِ» [متفق عليه]. وكذلك الأم تستطيع أن تستخدم دعاء المغضَب وليس دعاء الغضبان, بأن تقول بنبرة صوتيّة تدل على الاستنكار: ( الله يهديك).

أما الجزء الثاني من الحلَّ هو عدم اليأس من استجابة الدعاء, فإنّ ذلك ليس مستحيلاً على الله سبحانه وتعالى؛ وفي ذلك ورد الحديث الشريف فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يُستَجابُ لأحدِكم ما لم يَعْجَل، يقول: دعوتُ فلم يُستجبْ لي».[ متفق عليه].
قال ابن حجر في الفتح:« قال ابن بطال: المعنى أنّه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمُبَخِّل للرَّب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء »[فتح الباري شرح البخاري كتاب الدعوات- باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَل].
هذا هو الحل لكن- والله - ما زلت لا أدري كيف يروق لأم أن تدعو على أولادها؟


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية