صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







يا أبناء بلادي

إبراهيم بن محمد الهلالي


الحمد لله المبدء المعيد ، الفعال لما يريد ، مجزل العطايا ، وواهب النعم له الحمد في الأولى والآخرة وهو الولي الحميد ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأكرم ، المصطفى الأعظم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .... أما بعد :

إن حضارات الأمم لا تبنى إلا بسواعد فتيانها ، وحكمة شيوخها ، واستثمار أوقاتها ، وقد منَّ الله الوهاب على هذه الأمة بفجر انبثق ضياؤه على يد الهادي الأمين محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي بأبي هو وأمي ونفسي عليه الصلاة والسلام ، فرفعها بعد ذُلٍّ ، وجمعها بعد فُرقة ، وقوَّاها بعد ضعف ، ثم استلم الراية من بعده رجالٌ أمناء ، وصادقون أوفياء ، وأعزة أقوياء بذلوا الغالي والرخيص في سبيل رفعة دينهم وأمتهم فرضي الله عنهم وأرضاهم ، ورفع الله مكانهم وأعلاهم رغم أنوف الحاقدين ، وعلى أشلاء المارقين بإذن الله ، ولا زال الخير في هذه الأمة يتدرج ينطفئ تارة ويضئ أخرى ، وينحدر طوراً ويعلوا آخر ، وحالهم كما وصفه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ".
ولا يزال الهداة والبُناة المخلصين في هذه الأمة يُذكرونها إذا حادت ، ويقودونها إذا عادت ، وحالهم كحال الراعي في مواشيه ، يرد من ندَّ ، ويسوس مَنْ ردَّ ، فما تزال الأمة بخير ما أنصتت لداعي الخير فيها ، وأعانته على أداء الأمانة فيها.

وقديماً قيل ( إذا أردت معرفة حضارة قومٍ فارقبهم عند الفرح ، وأبصرهم عند الفراغ ) ، وهي حكمة قد لا يراها إلا من أجال النظر في تواريخ الأمم ليعلم صدق حَدْسها ، وصِدْق جَرْسها ، وهاهو المجتمع لدينا قد استظلَّ في ظِلال عطلة صيفية قد تطول بعض الشئ ، وللناس في قضائها مذاهب شتى ، ونوايا مُبيتة ، وأخرى قد أصبحت قيد التنفيذ ، فمِنْ ناظر لهذه العطلة بأنها تعطيل لكل نافع مفيد ، وفَتْحٍ لكل مُرفِّـهٍ جديد ، ولسان حاله يقول إقطع الشديد ، وتحدَّ التليد ، فضاع وأضاع ، ولله المشتكى وعليه التكلان.

وآخر قد حزم حقائب سفره ، ووجه وجهه نحو بلاد بعيدة ، ولها في البلاء مُدد وعُدد ، ولسان حاله ومقاله نفِرُّ من حرِّ قد اشتد ، ونتأمل كل بناء وهدّ ، في أرض الله الفسيحة ، وأثار صنعته المليحة.

وفي سواد من عزم على مفارقة البلاد قوم من الرجال والنساء ، فارقوا ما تعلموه في بلادهم بلا حياء ، فتهمُل عينك بسخين الدمع ، ويتقرَّح فؤادك ويتقطع ، وأنت ترى بنت البلد بعد مفارقة عامر البنيان ، قد تخلت عن حجابٍ ألفته ، وتباعدت عن خُلقٍ تربتْه ، وأعجب من فعلها أنها فعلت ذلك أمام وليٍّ خان أمانته ، وباع حصانته ، ويرجع طرفُك خائباً حسيراً ، وجناحك مهيضاً كسيراً وأنت تُغالب كلماتٍ ضاق بها صدرك وتتمنى أن تقول لمثل هؤلاء أربَّـاً تعبدون في أوطانكم ، غير ذاك الذي تألهونه في ترحالكم ، إنها من مفارقات العصر المقيتة ، وحياة أهله البئيسة ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أين حضارتنا التي نريد أن نقول للعالم هذه حياتنا السعيدة ، ودنيانا البهية الكريمة ، في ظِلِّ دين كريم من ربٍ رحيم ، كيف نجرؤ أن نقول مثل ذلك ونحن نعلم إجابة المخالف وكأنه يقول لو كان حقاً ما تركتموه ، ولو كان خيراً ما هجرتموه ، أنهدم بنياننا بأيدينا ، ثم نقول للناس هاكم الظِلال الوارفة ، إني أقول ليعلم كلِّ أحدٍ من المسلمين أنه إن صدَّ عن دين الله بفعله ، باء بذنب مَنْ صُدَّ يوم القيامة ، فهل نتذكر : {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [غافر:16] وعندها يكون الحال كما قال الله : {فيومئذٍ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يُستعتبون} [الروم : 57]

هل استشعر أولئك تمثيل بلادهم ، ونقل حضارتهم ، أم أنَّ ذلك ينتهي على ورق الجرائد المحلية ، والصفحات الالكترونية التي ما فتئوا يُدندنون فيها كل صباح ومساء قائلين لا وطنيَّة إلا وطنيتهم ، ولا انتماء للبلاد إلا ممن هم على شاكلتهم ، ثم يَصِمُون كلَّ ناصح صادق ، وابنٍ للبلد بارٍّ بأنه يتقمَّص غير ثوبه ، ويُخفي وراء الأكمة الخفايا ، فإذا خرجوا هم من أجواء البلاد أظهروا برهان خيانتهم ، ودليل زللهم ، وانطلقوا يُرون الخلق تهتك فِعالهم ، وسقوط مروءتهم ، وكأنهم على ثرى بلادهم أسراء ، وهم في أعين الناس كبراء أبى الله إلا أن يكشف خفايا نفوسهم ، ومكنون أفئدتهم.
كم هو ثقيلٌ على النفس عندما تعلم أنه في دولة عربية _ لو شئتُ لأسميتُها _ يأبى أهلها وخاصة في أريافها أن يؤجروا دورهم من فتيان هذه البلاد مخافة طيشهم ، وتحرزاً من حيفهم ، وابتعاداً عن تهتكهم ، لله الأمر من قبل ومن بعد ألهذا الحد وصلنا ، ولبلادنا أهنَّا ، ولشريعة ربنا اتهمنا ، إنهم إن كانوا في بلادهم مكبوتين ، وعن الانفلات مكبلين ، فليسوا بقيد الأرض أوثقوا ، ولا بقوانين البشر عوملوا وإنما بشريعة الرب الرحيم ، والعالم القدير ، والسميع البصير فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إنها نفثات مصدورٍ يعِزُّ عليه أن توصم بلاده بعار ، أو أن يُنقل عن أهلها شنار ، فبلادي رايتها عليِّةٌ راقية ، تحمل أعلى وسام ، وأغلى كلام ، على ثراها درج أطهر البشر ، وعلى صعيدها رفرفت رايات الجهاد الحقِّ ، لا يُبغضها إلا مدخول النيَّة ، وخائب الطوية ، ضمَّت بين جنباتها أطهر البقاع ، مكة أم القرى ، وطيبة طاهرة الثرى ، وقبر سيِّد الورى ، فكيف لا تحترق نفسي لهفاً على أبنائها ، وحرقةً على سمعتها ، وخوفاً على تأريخها.

ألا هل من سامع من إخواني لمقالي ، ومصدق لإخباري ، وإلا فإن التأريخ لا يرحم أحداً ، ولا يُجامل جمعاً ولا فرداً ، وسيكتب بمداده ما يجري وإن عزَّ على سامعه سماعه ، أو طال من المحب عليه نياحه.

يا أبناء بلادي إياكم أن تُشمتوا بنا وببلادنا الأعداء المتربصون ، والخصوم الألداء القابعون ، بجريرتكم قد تتحول النعم إلى نقم ، وسيكتب التأريخ ما عليه تُملون ، فارعووا يا رعاكم الله فإننا في زمن الفضائع المنشورة ، والفضائح المشهورة ، ما يُفعل في أقصى البلاد يعلمه مَنْ هو في أدنى الوهاد ، في طرفة عينٍ أو انتباهتها ، فلا تسودوا ما ابيضَّ من صحائف المجد ، ولا تغيروا ما اعتلى وشُدَّ.
ولا أنسى أو أتناسى صِنفاً آخر من أبناء بلادي تحيتهم عليَّ واجبة ، هم والله فرحة المحزون ، وسلوة الكئيب المطعون ، قد شمَّروا عن ساعد الجدِّ في طلب العلياء ، وحفظ أوقات الهناء ، في جنبات بيوت الله يتعبدون ، وبلذيذ خطاب مولاهم يترنمون ، ولقيل نبيهم يرددون ، قد علت هممهم فهي في الجوزاء بل أعلى ، وتربت نفوسهم من الحق على مثل الشمس بل أجلى ، حياتهم غنيمة ، وفقدهم مصيبة ، هم أمان بلادهم ، ورمز حضارتها ، وعنوان مجدها ، قطعوا الفيافي والقفار ، طلباً لعلو سندٍ متصل ، أو بحثاً عن عالمٍ بزهده قد انعزل ، يفتضون أبكار المعاني ، ويروون أسرار المباني ، امتلأت منهم العين إجلالاً ، وأرجعوا لأمتهم أمثلة خشيَتْ من مثلهم إقلالاً ، فذاك شاب رياناً عوده ، قد حفظ القرآن والكتب التسعة ، ورام من كلِّ علمٍ منفعة ، فمالي بهم لا أفخر ، حفظ الله عليهم شبابهم ، ورفع الله قدرهم ، وعوضهم عما فاتهم مما فرح به الآخرون من حطام الدنيا جنات عدنٍ التي وعدهم الله بها إنْ هم صبروا وأخلصوا دينهم لله ووعدهم بما يشاءون من نعيم فقال :
{جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار ، لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين } [النحل : 31] وقال فيها أيضاً مذكراً أنها وعده الذي لا يتخلف عمَّن صدق وحقق : {جنات عدنٍ التي وعد الرحمن عباده بالغيب ، إنه كان وعده مأتياً } [مريم : 61] وذكرهم أنها لمن تزكَّى ليُلزموا أنفسهم الزكاة التي بها يستحقونها فقال : {جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكَّى } [طه : 76] ، وذكرهم بما فيها من تكريم ليجتهدوا في طلبها فقال : {جنات عدنٍ يدخلونها يُحلَّون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير } [غافر : 33] ، وتمام النعيم وكمال الحبور أن يكمل ذلك برضاء الله الرحيم الرحمن : {جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } [ البينة : 8]
اللهم اجعلنا من أهلها الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وجميع إخواننا المسلمين الأحياء منهم والميتين وأن يهدي ضال المسلمين ، ويُديم علينا نعمه الظاهرة والباطنة ، ويوزعنا شكرها إنه جوادٌ كريم وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

حرر ليلة الأحد 12 من رجب 1430هـ
 

وكتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
إبراهيم بن محمد آل عبده الهلالي
بمدينة البرك - عسير


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الهلالي
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية