صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







رأسُ أدواءِ القلوب

مُهنَّد بن حسين المعتبي


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


اللهمَّ املأ قلوبَنا إجلالاً وتعظيمًا ومحبةً لك، وأُنسًا وسُرورًا واطمئنانًا بك، وخشيةً وخوفًا ورهبةً منك، ورجاءً وطمعًا ورغبةً فيك.
وبعد:


فهذه خاطرةٌ عجلى، أكتبُها والقلبُ بكلِّ وادٍ منه شعبة.. اقتضاها نصٌّ صادقٌ لأبي حامدٍ الغزالي –رحمه الله– يأتي ذكرُه لاحقًا، وقد كشفَ لي حقيقةً لطالما حاولتُ سبرَ غورِها، ومعرفةَ سِرِّها؛ فوقعتْ على قلبي كالسلسبيل العذب على فمِ العطشان، وكالماء الزلال على كبد الظمآن، فللهِ أنت يا أبا حامد!

ومن نافلةِ القول أنَّنا نعلم يقينًا أنَّ القلبَ محلُّ نظر الربِّ، وأنَّ العنايةَ به، وإقامةَ نقاط التفتيش حولَ أسواره، وصيانتَه من كلِّ زغلٍ ودغلٍ= عُنوانُ فلاحِ العبدِ وسداده، وإهمالَه –ولو ساعاتٍ فضلاً عن الأيام والليالي- مُؤذِنٌ بكثرة الهوام والآفات والاستيحاش، وفي شأنه يقول أبو حامد [الإحياء (5/ 11)]: (فمعرفة القلبِ وحقيقةِ أوصافهِ= أصلُ الدين، وأساس طريق السالكين).


فالعلم بكون القلبِ تعتوِرُه الأمراض والأدواء؛ علْمٌ يشترك فيه النَّاس، لكنَّ معرفةَ دقائق الأمراضِ ومراتبها ودرجاتها مما اختصَّ به الأكياس.
وأمراض القلب متفاوتة كتفاوتِ أمراض الجسدِ، فإذا اشتدَّ مرضُ القلبِ –وهو المرض المخوف- لم يجد صاحبُه أُنسَه إلا في المعصية، ولا لذَّتَه إلا في المخالفة، فلا تُؤلمه جراحاتُ القبائح، ولا يُؤنِسُه العملُ الصالح!
وإن خفَّ المرضُ؛ فأقلُّ أعراضِهِ البئيسةِ تغافُلُ صاحبه عن الطاعات، وانشغالُه بالملهيات، وسَكْرَتُه عن المهمَّات.

لنَعُدْ إلى أصلِ حديثنا ومحوره.. فالحديثُ عن القلبِ وتفؤُّدِه حديثٌ يطول، كفانا فيه الربَّانيُّون معرَّة التكلُّف، ومغبَّة التصنُّع، وتقحُّم المباهاة، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله!

حينما تبحث عن أدواءِ القلوب لمن تنزَّه عن الفواحش والقاذورات –وما أكثر الأدواء لمن هذا حاله؛ لأنه نصيب الشيطان منه- فإنك ستجد أدواءً وغوائلَ لا تنحصر، كأدواء القلبِ المحضة؛ ومنها: الكبر، والعُجْب، وغَمط الناس، ومحبَّة الثناء، والكسل... ونحوها، أو الأدواء الخارجيَّة المؤثرة على استقامة القلب وتجرُّدِه للمراتب العليَّة، كالإفراطِ في الفضول والمباحات؛ ومنها: كثرة الأكلِ، والنومِ، والخُلطةِ.. فإنَّ لها تأثيرًا على قسوةِ القلبِ عجيبًا.

السؤال الآن: ما رأسُ أدواء القلوبِ التي تعيقُ سيرَ العبدِ الحثيثَ نحوَ الطاعات، والمسارعة في الخيرات؟
وإيضاحه: ما الداءُ الذي أقعدَ بمن صلَح ظاهرُه، واستقام باطنُه، لكنَّه جامدُ العين، قاسي القلب، ظامئ الروح، ضعيف الشوق، بطيء النهوض؛ فلا تكاد تنضبطُ له نفْسٌ، أو ترسخ له قدمٌ في طريق العبادة؛ مع ما يجد من نفسه من انقباضٍ عن المحرَّمات، وإقامةٍ للفرائض والواجبات، وحِرصٍ على النوافل والمستحبات، وحُبٍّ للعلم وأهله، ومعرفةٍ بشرفه وفضله، ومحاولةٍ دؤوبةٍ لمجاهدة النفسِ ومعرفةِ سرِّ هذا الصدود؟!

ومزيدُ إيضاحه: هل تجدُ –كما أجد- قعودًا عن الطاعاتِ مع رغبةٍ شديدةٍ في إتيانها؟

هل تستطيعُ –كما أستطيع- سردَ فضائلِ قيام الليل –مثلاً-، وما أعدَّه الله لأهله، وكيف كان حرصُ السلف والأئمةِ على ملازمته، ثم تعجزُ –كما أعجزُ- عن قيامٍ بركعتين يسيرتين لا تأخذُ نصفَ ساعة؟!!

فأيُّ أدواء القلبِ قد تكفَّل بهذا القعود؟!
هذا مربطُ الفرس، ورنَّة الجرس، ومحور الكلام، وشفاء الأوام.. وفي العلمِ بالداءِ نصفُ العلاج، عافاني الله وإيَّاك.

فاجأني أبو حامدٍ –رحمه الله- بذكر تجربته في هذا الأمر، بعد أن جرَّبَ حلولاً، وتلمَّسَ أدويةً [وأبو حامدٍ عارفٌ في هذا الفنِّ، بل واضعُ لبِناتٍ كثيرةٍ في هذا العلم بعدَ تجرُّدٍ وزُهدٍ وعُزلةٍ وهجرٍ لرسوم العلم وشكليَّاته التي اكتفى بها خلْقٌ عن حقيقته، وكثيرٌ ممن كتبَ في السلوك بعدَه عيالٌ عليه في أشياء كثيرة، وابنُ القيِّم -وهو أجلُّ علمًا بأحوال السلف، وأرسخ في الاعتقاد- تأثَّر به كثيرًا ألفاظًا وأفكارًا ومضامين في (فقه الوعظ)، بل ينقل الصفحات عنها كثيرًا دون عزو، ومَن قرأ أبا حامدٍ بعد ابن القيم أو العكسِ؛ علِمَ أيَّ أثرٍ له عليه، مع عدم ادِّعاء عصمة أبي حامد من الزلل البيِّن، أو البدعة الكلاميَّة، والله يغفر له، وللكلام عن أبي حامدٍ وعن نظريَّته العلميَّة والسلوكيَّة موضعٌ لاحقٌ بإذن الله].

الشاهدُ في مسألتنا أنه –رحمه الله- ذكر تجربةً عجيبةً في رياضتِه نفسَه، ومحاولته اكتشافَ السرِّ الغامض، والسبب الرئيس، والداء العُضال في عدم انضباطِ نفسه له..

أنقلُهُ لك بحروفه مع شيءٍ من الاختصار.. وهو نصٌّ ساقه الشريفُ محمد بن الحسن الواسطي في كتابه «المطالب العليَّة في مناقب الشافعيَّة»، وهو مخطوطٌ لم يُطبع، استلَّت منه (دار المنهاج) الحجازيَّة ما يتعلق بترجمة أبي حامد، فأثبتَتْه في مقدِّمة تحقيقها الفذِّ لـ «إحياء علوم الدين»، وهو أنَّه كتب لأحد إخوانه:

«.. والواعظ واعظانِ: ناطقٌ، وصامت، فالناطقُ القرآن، والصامتُ الموت، وفيهما كفايةٌ لكلِّ متَّعظ...
ولقد وعظتُ بهما نفسي؛ فصدَّقت وقبِلَتْ قولاً وعقدًا، وأبتْ وتمرَّدت تحقيقًا وفِعلاً.....
ثمَّ ما ارعوَتْ، بل أصرَّت على الميلِ إلى العاجلة واستمرَّت..
ثمَّ أقبلتُ عليها فوعظتُها بالواعظ الصامت... فقالت: صدقت.
فكان ذلك منها قولاً لا يحصلُ وراءَه عملٌ؛ إذْ لم تجتهدْ قطُّ في التزوُّدِ للآخرة، كاجتهادها في تدبير العاجلة، ولم تجتهدْ قطُّ في طلب رضا الله تعالى كاجتهادها في طلب رضا الخلق!..
ولمـَّا رأيتُها متماديةً في الطغيان، غيرَ مشفقةٍ بوعظِ الموتِ والقرآن= رأيتُ أهمَّ الأمورِ الفحصَ عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها، فإنَّ ذلك من العجائب العظيمة، فطال عنه فحصي حتى وقفتُ على سببِه، وهو طول الأمل!!..
وها أنا موصٍ نفسي وإيَّاه بالحذر منه؛ فإنه الداء العُضال، وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال، وهو اعتقاد تراخي الموت، واستبعاد هجومهِ على القُرْب..
فانكشفَ تحقيقًا أنَّ مَن أصبح وهو يأملُ أن يُمسي، أو امسى وهو يأملُ أن يصبح= لم يخْلُ من الفتورِ والتسويف، ولا يقدرُ إلاَّ على سيرٍ ضعيف!!..
فمن عَلَتْ على قلبه في كلِّ صلاةٍ أنها آخر صلاةٍ= حضرَ معه قلبُه في الصلاة، وتيسَّر له الاستعداد للموت، فيجِدُّ في أنواع الطاعات.
ومن عجَز عن ذلك؛ فلا يزال في غفلةٍ دائمةٍ، وفتورٍ مستمرٍّ، وتسويفٍ متتابع إلى أن يدركه الموت، وتهلكه حسرةُ الفوت!...» ا.هـ


فللهِ هذا الكلام ما أصدقَه وأنصعَه وأحسنَه!

وشهودُه العدولُ في القرآن والسنة لمن تطلَّبهم، فتأمَّل أبلغ عتابٍ نزل على الصحابة بعد إسلامهم بأربع سنواتٍ فقط في شأن الخشوع وقسوة القلب في آية سورة الحديد، وتدبَّر كيف قرن الله فيها طولَ الأمدِ بقسوةِ القلب! 

وعَضَّ على هذه الجملةِ بناجذك: (مَن أصبح وهو يأملُ أن يُمسي، أو امسى وهو يأملُ أن يصبح= لم يخْلُ من الفتورِ والتسويف، ولا يقدرُ إلاَّ على سيرٍ ضعيف) فإنها مُخرَّجةٌ على قولِ الصاحب العابد ابن عمر رضي الله عنه: (إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء)، وانظر أثرها الصادق على إقبالنا وإدبارنا.

فهذا الداءُ وهو طول الأمل والتطامن إلى الدنيا وكأنها دارُ بقاء؛ هو ما أقعدَ بالأرواح عن اللحوقِ بالصادقين!

وما زَرَعَ شيءٌ (طولَ الأملِ) في القلبِ وأنبتَه وسقاه؛ كالغفلةِ أو الذنوب.. فأمَّا الذنوبُ فإنها إذا (تراكمت؛ طُبِعَ على القلبِ، وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين، ويستهين بأمر الآخرة، ويستعظم أمرَ الدنيا، ويصير مقصورُ الهمِّ عليها.
وإذا قرع سمعَه أمرُ الآخرةِ وما فيها من الأخطار= دخل من أُذُنٍ وخرج من أُخرى، ولم يستقر في القلب، ولم يحرِّكه إلى التوبة والتدارك!
). [الإحياء (5/ 45)]


وأمَّا الغفلةُ؛ فإنها شرٌّ حذَّره الله نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم، فقال: (ولا تكن من الغافلين)، وما اجتثَّها من القلبِ شيءٌ كذكر الله، وتذكُّرِ الآخرة.. فإنَّ (مَن شاهد الآخرة بقلبه مشاهدةَ يقين= أصبح بالضرورة مُريدًا حرثَ الآخرة، مشتاقًا إليها، سالكًا سبلَها، مستهينًا بنعيم الدنيا ولذاتها، فإنَّ من كانت عنده خرزةٌ فرأى جوهرةً نفيسةً؛ لم يبق له رغبةٌ في الخرزة، وقويت إرادتُه في بيعها بالجوهرة). [الإحياء (5/ 263)]

}
 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }

وكتب
مُهنَّد بن حسين المعتبي
1 / 1 / 1435 هـ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية