صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تأملات في الصاحب

حمد بن صالح المري


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا أُطيل بالمقدّمات، ولا بتكرار الكلمات، وإنّما هي عبارات مختصرات واضحات، مقتصراً على المهمّات، وأجعلها في نقاط على فقرات؛ أدع القارئ يقلّبها بالتأمّلات. فأقول وبالله التوفيق:

- كلّما سمعْتُ هذا الحديث: (المرءُ على دين خليله، فلينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِل)؛ تواردت معانٍ جليلةٌ في خاطري، يصعبُ التعبيرُ عنها!

- فتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم : (على دين خليلِه)؛ إذن هناك خليلٌ للمسلم في حياته، يؤثّر فيه قهراً ولو كان على حذر!
قال أبو حاتم رحمه الله في (روضة العقلاء): "إنَّ من أعظم الدلائل على معرفة ما في المرء من تقلّبه وسكونه، هو الاعتبار بمَن يُحادثُه ويودّهُ؛ لأنَّ المرءَ على دين خليلهِ، وطير السماء على أشكالها تقع.
وما رأيْتُ شيئاً أدلَّ على شيءٍ، ولا الدخّان على النار= مثل الصاحب على الصاحب".اهـ.
ولهذا قِيْل:

عن المَرْءِ لا تسألْ وسَلْ عن قرينهِ***فكلُّ قرينٍ بالمقارن مقتدِي


ومما قيل في هذا المعنى:

ولا يصحب الإنسانُ إلاّ نظيرَه***وإن لم يكونوا مِن قبيل ولا بلَد

وقال الآخر:

يُزين الفتى في قومه ويُشينُه *** وفي غيرهم أخدانُه ومداخلُهْ
لكلّ امرئٍ شكلٌ من الناس مثلُهُ *** وكلُّ امرِئٍ يهوَى إلى مَن يُشاكلُهْ


- وتأمّل قولَه صلى الله عليه وسلم : (على دينِ)؛ فالصحبة لأجل الدين، لا لذاتها.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في التبصرة: "ومتى قَوِيَتْ محبّةُ الله سبحانه وتعالى في القلب؛ قويَتْ محبّةُ أوليائهِ والصالحين من عباده".اهـ.

- وتأمّل قولَه صلى الله عليه وسلم : (فلينظُر)؛ الأمر ليس سهلاً، الأمر يحتاج إلى بحثٍ ونظر؛ فلا تتعجّل!
قال الغزالي رحمه الله: "اعْلَم أنّه لا يصلُح للصحبةِ كلُّ إنسان...". ثم بيّن رحمه الله أنَّ الصحبةَ تُطلَبُ لفوائدَ دينيّة ودنيوية، وقال: الفوائد الدنيوية ليستْ من أغراضنا!

وذكر من الفوائد الدينيّة:
1- الاستفادة من العلم والعمل.
2- استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت. (هذا لابدّ أن يقيّد بقيود ليس هذا موضع ذكرِها)
3- الاستعانة في المهمّات؛ فيكون عدّة في المصائب، وقوّة في الأحوال.

- وتأمّل قولَه صلى الله عليه وسلم : (لا تصاحب إلا مؤمناً)؛ إشارةٌ إلى أنَّ الإنسان مجبولٌ على حبّ الصحبة؛ فمَن صاحبُك؟
قال أحد الحكماء في وصف الصاحب: "اصحَبْ مَن إن صحبْتَه زانك، وإنْ خدمْتَه صانَك، وإن أصابتْكَ خصاصةٌ مانَك، وإن رأى منك ثلمة –خللا- سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى منك سيئةً سترَها، وإن سألْتَهُ أعطاك، وإن تعفَّفْتَ عنه ابتداك، وإذا نزلَتْ بك نازلةٌ واساك، وإن عاتبْكَ لم يحرمك، وإن تباعدْتَ عنه لم يرفضْكَ، وإذا قلتَ صدّق قولَك، وإن تنازعتما في حقٍّ آثرك".

وهذه الصفات: يأخذ الإنسانُ فيها بالأمثل فالأمثل بقدر الطاقة والوسع؛ وأمّا الكمالُ فشحيح في هذا العصر! وهو موجودٌ كما سيأتي في آخر المقال.

وفي هذا قيل:

إنَّ أخاكَ الحقّ مَن كان معك***ومَن يضرّ نفسَه لينفعَك
ومَن إذا ريبُ الزمان صدعَك***شتّتَ فيك شملَه ليجمعَك


وهذه الصفات كما ترون، لا ترتبط بمدّة ولا بقدَم كما يتصوّره بعضهم؛ فمَن توفرَت فيه صفاتُ الصاحب= كان هو المقدّم.
وفي ذلك قيل:

كم صديق عرفتُه بصديقِ***صار أحظى من الصديق العتيقِ
ورفيق رأيْتُه في طريقِ***صار عندي هو الصديق الحقيقي


- وتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم : (فلْينظُرْ)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب). هذا فيه إشارةٌ إلى قلّة مَن يستحقّ الصحبة، وهم قليل!
يُنقَلُ عن سفيان الثوري رحمه الله: أقلِلْ مِن معرفةِ الناس.
وإنّما أراد بهذه العبارة بيانَ ندرة مَن يستحق الصحبة؛ وهذا يقتضي أن يكون أصحابُك قليلين.
وفي ذلك يقول الحميديُّ (شيخ البخاري) رحمه الله:

لقاءُ الناس ليس يفيد شيئاً***سوى الهذَيانِ من قِيْلٍ وقالِ
فأقْلِلْ مِن لقاء الناسِ إلاّ***لأخذِ العلم أو إصلاحِ حالِ


ونقَل السفاريني أبياتاً للسيوطي -رحمة الله على الجميع- يقول فيها:

إنّي عزمْتُ وما عزمي بمُنجَزمٍ *** ما لم تُساعدْهُ ألطافٌ من الباري
ألا أُصاحِبَ إلا مَن خبرتهم *** دهرا مديداً وأزمانا بأسفارِ
ولا أجالس إلا عالماً فطِناً *** أو صالحاً أو صديقا لا بإكثارِ
ولا أُسائل شخصاً حاجةً أبدا *** إلا استعارةَ أجزاءٍ وأسفارِ


- المتأمِّلُ في أحوال الناس في هذا الباب يجدهم قسمين:
الأول: مكثرٌ جدّاً من الأصحاب والأصدقاء، فمعْهُ الغثُّ والسَّمين!
الثاني: منعزلٌ عن جميع الناسِ في زاوية! وهذه لها مساوء في الدين والدنيا، ومما قيل: "لولا مخافة الوسواس، لم أجالس الناس".
وكلا الفريقين على طرفي نقيض.
- وأخيراً؛ ومن باب التحدّث بنعمة الله، ورفع همّة الإخوان بوجود من هو أهلٌ للصحبةِ:
عرفْتُ صاحباً يُقال له (محمد بن عبد الله)؛ أشيرُ إلى بعض صفاتِه بكلمات؛ فأقول:
- عرفتُه سمحاً، رفيقاً، سهلاً، مبتسماً.
- ما جالسْتُه قط إلا خرجْتُ بفائدة، وما رأيْتُه ولا سمعْتُ حديثَه إلا قرّبني من الآخرة.
- صافي السريرة، صادق العبارة.
- أمين على أمري، كاتم سرّي.
- إن قصّرْتُ في حقّه؛ اكتفى بالابتسامة، وإن نقطعْتُ عنه؛ باشرني بالاتصال والسؤالِ مع الحفاوة.
- قليل الكلام، كثير التأمّل، ذو عبادة وورع، وتنسّك وتألّه.
- ليّن القلب، سريع العبرة، صاحب تدبر للقرآن.
- إذا أخطأتُ نصحني نصيحة مخلصٍ برفقٍ في الخفاء، وإذا نسيتُ وعظني موعظة مشفقٍ صادق الإخاء.
- ما حلّت بي نائبةٌ إلا كان أوّل الحاضرين، وأوفى المعينين.
- هاتفتُه البارحة لكونه يدرس في بلادٍ أخرى؛ فقال لي في أثناء حديثه مع صدق لهجةٍ وبلا سببٍ ولا مناسبة: "جعلني وإياك من أهل العلم"؛فهزّتني!

وهو في سنّي، ومن أهل زماني.
فأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين.
 

كتبها على عجالة مع بال مشغول، وقلب معلول:
أخوكم/ حمد بن صالح المري غفر الله له
17/2/1434 هـ
31/12/2012 م


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مقالات الفوائد

  • المقـالات
  • الصفحة الرئيسية