صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







يقظة عقل أكمل

د/ خالد سعيد عبد القادر


كان يوماً عادياً من أيام شهر يناير من العام المائة بعد الألفية الثانية من الميلاد، ولم يكن الجو حاراً كغالب أيام السنة في كافة أنحاء العالم بينما كان الغبار الملوث يملأ الجو كسائر بقاع الكرة الأرضية منذ نهاية الحرب العالمية الثالثة رغم مرور أكثر من عشرين عاماً عليها.
ورغم مخلقات الأكسجين الصناعية التي تملأ الطرقات إلا أن البروفيسور الشاب كان يرتدي قناع التنفس ولم يستطع أن يخلعه قبل أن يدلف إلى مكان عمله اليومي بالجناح العلمي في الجهة الخلفية من القاعدة العسكرية العملاقة التابعة للإدارة المركزية للعالم الجديد.
كان الضجر يبدو عليه بوضوح بسبب إجراءات الأمن اليومية المحكمة، إلا أنه كان يشعر بالتفاؤل الشديد بسبب رطوبة الجو في هذا اليوم كحالة استثنائية وهي الظاهرة التي بدأت تتكرر كل بضعة أشهر في السنوات الأخيرة بما يبشر بالخير واحتمالية أن يبدأ مناخ الأرض بالعودة التدريجية إلى سابق عهده.
تذكر البروفيسور أجواء ما بعد الحرب الكونية الهائلة التي أدركها بعد نجاته و والدته من جحيمها بينما قضى فيها والده الذي كان عالماً في الكيمياء النووية في جيش البحرية، وربما كان أحد أبطال هذه الأحداث، وتذكر أيضاً كل ما درسوه له عن أحداث هذه الحرب.
كان يحدث نفسه كم أن البشرية أجرمت في حق نفسها وقضت على كل مكتسباتها عبر التاريخ، وكيف أن الاحتباس الحراري قد بلغ ذروته بعد هذه الأحداث بحيث أغرقت مياه المحيطات أغلب جزر العالم ومحتها من الوجود وكيف زالت دول بأكملها من على خارطة العالم وعمت الحياة البدائية كل أنحاء ما كان يعرف يوماً بالمعمورة.
وبينما هو غارق في أفكاره إذ ألقى عليه \"أكمل\" تحية الصباح بلكنة شرقية واضحة فتبسم ضاحكاً ليرد عليه التحية ويسأله عن سبب الحديث بلكنته الأصلية ولماذا لا يتحدث اللغة العالمية الموحدة في عصر ما بعد العولمة الإجبارية؟!
\"وأكمل\" هذا ـ لمن لا يعرف ـ ليس صديقاً للبروفيسور ولا موظفاً عنده وإنما هو \"الفريزينج إيست براين\" أو العقل الشرقي المجمد ؟!
وهو العقل الإلكتروني المركزي الذي يتحكم بجميع الدوائر والشبكات الإلكترونية في العالم، بدءاً من البث الفضائي والمراصد الأرضية والفضائية ، وانتهاءًً بالدوائر المغلقة والصنابير الإلكترونية ومصابيح الإنارة وغيرها، وباختصار هو العقل المركزي المسئول عن التحكم في كل مرافق الحياة الحيوية ، كما أنه العقل الحاوي لخلاصة العلوم البشرية التي أمكن اختزانها والحفاظ عليه أبان الأحداث العالمية المدمرة.
وتعجب البروفيسور من \"أكمل\" وكأنه يتعامل معه للمرة الأولى وبدت له فكرة السيطرة على هذا العقل البشري الشرقي مخيفة وعجيبة فبعد الحرب الكونية الكاسحة وضياع أغلب مقدرات البشرية اضطرت الدول العظمى إلى استخدام مشروعها السري الخطير و الطارئ!
ويعتمد هذا المشروع على تجميد عقل بشري ـ ذي مواصفات خاصة فائقة ـ بغسله وحقنه بمادة تعمل على الحفاظ على الخلايا العصبية ورفع كفاءتها آلاف المرات كما أنها تساعد على السريان الكهربي فيها بسرعة أعظم من أي موصلات صناعية إلى مراحل لا متناهية.
ومع أن المشروع يبدو في ظاهره غير أخلاقي إلا أنه كان الحل الوحيد للحفاظ على مكتسبات الحضارة الإنسانية أو هكذا تم تبريره في المقررات التي درسها البروفيسور.
ويبدو أيضاً أن المواصفات الفائقة المطلوبة في العقل المخلق بشرياً لم تتوافر إلا في عقل العالِم الشرقي \"أكمل\" الذي قيل أنه خضع اختيارياً للتجربة مع غيره من العقول إلا أنه كان الأكثر تميزاً، وقد اكتفت الإدارة العسكرية للعالم بتكريمه بعمل تمثال رمزي له في أحد الميادين، وقد تمت إزالته ـ للأسف ـ منذ عدة سنوات لأغراض إنشائية؟!
أعرض البروفيسور عن أفكاره التي اعتبرها متطرفة وبدأ إدارة عمله المعقد في محاولة صيانة العقل الإلكتروني المخلق بشرياً ولكن الشعور الغريب الذي يراوده كلما ابتدأ هذا العمل سيطر عليه بشكل كامل مرة أخرى كالعادة؟!
وتذكر كل التقارير التي كتبت من قبله والتي تحدثت عن أشياء مماثلة إلا أنها أكدت على الجودة الخارقة للعقل المجمد، ولكنه تساءل عن صحة الأبحاث الغريبة والسرية التي أكدت قدرة \"أكمل\" بث بعض الأفكار عبر الأثير والتي تحمل بعض أفكار صاحبه الأصلي ومعتقداته؟!
وعندما وصل إلى هذا الحد شعر بخوف شديد ورعدة تنتابه مما حدا به إلى نزع الوصلات التي كان قد وضعها على معصميه والخوذة المعقدة التي ارتداها فوق رأسه، وهي أدوات التواصل مع \"أكمل\".
ولكنه تذكر على الفور أن هذه الأبحاث لاقت معارضة شديدة من الإدارة المركزية حتى تم تجريمها بموجب قانون عسكري متشدد ، ألقي بسببه عشرات العلماء في غياهب السجون.
تلفت البروفيسور حوله خشية أن يكون أحد قد رآه، وشعر ببعض الحرج من نفسه فأعاد الوصلات سريعاً كما كانت وبدأ في ممارسة عمله ويديه تعمل بسرعة خبيرة على لوحة الأزرار العريضة أمامه وتذكر أن الأمر لا يحتمل العبث فهو وزملاؤه الآخرون يعملون بشكل يومي ودائب للحفاظ على كفاءة عمل \"أكمل\" وإلا تعرض أمن العالم وسلامته للخطر الشديد.
راقب البروفيسور كل المعطيات والبيانات التي تختزن أو تصدر إلى \"أكمل\" وشعر بالرضا التام، خاصة وهو يراقب معدلات البث المستهلك والتي تدل على أن الأولوية القصوى بنسب تزيد على الخمسين بالمائة هي للاستهلاك الإلكتروني للمواد ذات الطبيعة الإباحية الكاملة والتي تعبر عن روح المجتمع الحر وتمثل واقع الحياة الاجتماعية هذه الأيام!
فقد تجاوزت البشرية من وجهة نظره كل عوائق المطلق وانطلقت في فضاء النسبية الرحيب لتعبر عن ذاتها وتتحرر من أسر الغيبيات؟!
كما أكدت البيانات أن الأولوية الثانية كانت للمواد ذات الطبيعة الدامية والعنيفة على التوازي مع المواد الإلحادية والتي تتجاوز المقدس وخاصة مواد الأسترولوجي وعلوم السحر والنجوم؟!
كانت طقوس السحر الأسود تعجبه كثيراً، فهي تملأ الفراغ الروحي الذي يشعر به والذي أودى به مرات عديدة في دوامة الاكتئاب، شعر بتوتر شديد عندما وصل به التفكير إلى هذه النقطة وزادت قوة قبضته على مقبض المحول الاصطناعي للمواد المبثوثة.
كما و تعرقت جبهته بشده مع ارتفاع صوت ضربات قلبه حتى صار يسمعها، وكالعادة تدخل \"أكمل\" مرة أخرى ليهدئ من روعه بكلمات و همهمات غريبة وغير مفهومة؟!
وشعر البروفيسور بهدوء عجيب يغمر كل كيانه ، وتذكر فجأة أنه لم يسجل هذه الملحوظة في تقاريره من قبل قط عن \"أكمل\" وسأل نفسه لماذا فعل هذا ؟! وما الذي كان يدفعه ليحجب هذه الملحوظة الخطيرة عن المسئولين؟!
فهو تصرف فردي من \"أكمل\" يدل على قدر من التحكم الذاتي، وهو يعلم علم اليقين أنها مسألة خطيرة إلى الدرجة التي قد تودي بعمله بالكلية في مركز السيطرة الكوني الذي يعمل به؟! ولكن البروفيسور تجاهل أفكاره كالعادة وعاد لعمله الروتيني.
وفجأة ودون سابق إنذار بدأ البث الحي لمذابح دامية وعنيفة للغاية، ولا يدري البروفيسور لماذا ألح عليه بشدة أن منطقة المذابح هي الموطن الأصلي للعقل المجمد؟!
كانت الإحصائيات الإلكترونية التي يتحكم بها \"أكمل\" تدل أن البث موجه لكافة أنحاء العالم وكانت الشاشات أمامه تنقل الوقائع الدموية والتي يبدو أنها كانت مسلية جداً للجماهير المتعطشة والمعتادة عليها حول العالم ـ أو ما تبقى منه ـ فالصور الحية المنقولة للجماهير أظهرت مدى التشجيع المنقطع النظير ؟!
كما تخلل البث لقطات إباحية شيقة مما زاد من حماسة الجماهير وتصفيقها المدوي حتى أن البروفيسور اضطر إلى إعطاء أمر صوتي لـ \"أكمل\" بخفض الصوت للحد الأدنى؟!
وعلى الفور صدرت أوامر من القيادات العليا ببث عبارات ودعايات عقائدية تساعد على تقبل المحافظين من الجماهير للبث الدموي الحي ؟! وبدت الشعارات منطقية ومقنعة مما زاد من معدل التصويت الإلكتروني لصالح البث والدعاية وكان هذا يعني أموالاً طائلة تضاف للخزينة المركزية؟!
بدأ البروفيسور يتثائب و يتململ من البث المشاهد وكاد أن يسرح بفكرة إلا أن مؤشرات الصحة والسلامة لمسارات العمل العصبية المخلقة بشرياً بدأت تظهر خللاً ما ؟!
شعر البروفيسور بالدهشة الشديدة وفتح فمه تعجباً! إذ أنها المرة الأولى حقاً التي يلاحظ فيها شيئاً مماثلاً! بل هي الأولى من نوعها مطلقاً منذ بدأ العمل بنظام السيطرة المركزي عالمياً!
يا للهول مؤشرات البيانات الإلكترونية بدأت تتأثر هي أيضاً !
وفجأة ارتفع صوت صافرة إنذار ومعها دوى مكبر الصوت المركزي متسائلاً عن سبب الخلل بقلق واضح!
بدا الصوت الهادر للقائد الأعلى لسياسة العالم مهدداً متوعداً مما أشاع جواً من الارتباك والفوضى الهائلة في الإدارة المركزية!
وفجأة هدأ الضجيج وتوقف المكبر عن البث، وظهر على كل الشاشات الإلكترونية في المركز الرئيسي صورة ثابتة وواضحة وبدا جلياً من مؤشرات البيانات أن الصورة تبث عبر العالم في كافة وسائل البث المرئية بل وفي الشاشات الكبرى في الميادين؟!
كما تشير البيانات والمعلومات أمامه إلى الانتقال الكامل للتحكم الذاتي للعقل المجمد، حاول البروفيسور مرات عديدة إعادة النظام إلى سابق عهده ولكنه لم يستطع! وكذلك لم يستطع كل طاقم التحكم إنقاذ الموقف، وبدا الجميع مشلولاً!
يا إلهي إنها نهاية العالم ـ قال البروفيسور ـ وساد الصمت وبدت صورة الجماهير المشدوهة والمبهوتة مرعوبة وهي شاخصة بأبصارها نحو السماء؟!
نظر البروفيسور المشدوه لمعدلات البيانات فوجدها تشير إلى توقف المذبحة الدامية التي كان العالم يتابعها كما تشير مؤشرات الحرارة إلى اعتدال الأجواء عالمياً بصورة غير مسبوقة منذ ثلاثين عاماً؟!
ترافق مع صورة البث الثابتة صوت تفجيرات هائلة وأظهرت مراصد الزلازل والبراكين هدوءاً مفاجئاً !
وفجأة نطق صوت شرقي عميق ومدوي يعلن نهاية الحكم المركزي وكان في خلفية الصوت ترانيم شرقية حزينة ومؤثرة سحرت جموع الجماهير حتى بدأت ترددها مع عدم فهمها بالضرورة لما تقول؟!
نطق الصوت الشرقي يعلن أن الوعي قد عاد للبشرية
إنه صوت طالما تردد في الأعماق .. أعماق الضمير
إنه صوت يعرفه كل الناس في العالم
كما و يعرفه البروفيسور جيداً
إنه صوت \"أكمل\".
ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.ـ.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

قصص مؤثرة

  • قصص الرسول
  • قوافل العائدين
  • قصص نسائية
  • قصص منوعة
  • الحصاد المر
  • مذكرات ضابط أمن
  • كيف أسلموا
  • من آثار الدعاة
  • قصص الشهداء
  • الصفحة الرئيسية